تفسير القرآن العظيم - ج ٤

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٤

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤١

الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم» (١) وقوله : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) أي فمن أهل الجمع شقي ومنهم سعيد كما قال (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى : ٧] وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا موسى بن حيّان حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا سليمان أبو سفيان حدثنا عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن عمر قال : لما نزلت (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت يا رسول الله : علام نعمل؟ على شيء قد فرغ منه أم على شيء لم يفرغ منه ، فقال : «على شيء قد فرغ منه يا عمر وجرت به الأقلام ، ولكن كل ميسر لما خلق له» ثم بيّن تعالى حال الأشقياء وحال السعداء فقال :

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١٠٧)

يقول تعالى (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) قال ابن عباس الزفير في الحلق والشهيق في الصدر أي تنفسهم زفير وأخذهم النفس شهيق ، لما هم فيه من العذاب عياذا بالله من ذلك (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) قال الإمام أبو جعفر بن جرير (٢) : من عادة العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدا قالت هذا دائم دوام السموات والأرض ، وكذلك يقولون هو باق ما اختلف الليل والنهار ، وما سمر أبناء سمير وما لألأت العير بأذنابها يعنون بذلك كله أبدا فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفونه بينهم فقال : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ).

(قلت) : ويحتمل أن المراد بما دامت السموات والأرض الجنس لأنه لا بد في عالم الآخرة من سموات وأرض كما قال تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [إبراهيم : ٤٨] ولهذا قال الحسن البصري في قوله : (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) قال : يقول : سماء غير هذه السماء وأرض غير هذه فما دامت تلك السماء وتلك الأرض.

وقال ابن أبي حاتم ذكر عن سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قوله : (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) قال : لكل جنة سماء وأرض ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما دامت الأرض أرضا والسماء سماء. وقوله (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) كقوله (النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) [الأنعام : ١٢٨].

وقد اختلف المفسرون في المراد من هذا الاستثناء على أقوال كثيرة حكاها الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في كتابه زاد المسير ، وغيره من علماء التفسير ، ونقل كثيرا منها الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه‌الله في كتابه واختار هو ما نقله عن خالد بن معدان والضحاك وقتادة وابن سنان ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن أيضا أن الاستثناء عائد على العصاة من أهل التوحيد ممن يخرجهم الله من

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأذان باب ١٢٩ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٩٩.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ١١٤.

٣٠١

النار بشفاعة الشافعين ، من الملائكة والنبيين والمؤمنين ، حتى يشفعون في أصحاب الكبائر ثم تأتي رحمة أرحم الراحمين فتخرج من النار من لم يعمل خيرا قط وقال يوما من الدهر لا إله إلا الله كما وردت بذلك الأخبار الصحيحة المستفيضة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمضمون ذلك من حديث أنس وجابر وأبي سعيد وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة ولا يبقى بعد ذلك في النار إلا من وجب عليه الخلود فيها ولا محيد له عنها ، وهذا الذي عليه كثير من العلماء قديما وحديثا في تفسير هذه الآية الكريمة.

وقد روي في تفسيرها عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وجابر وأبي سعيد من الصحابة ، وعن أبي مجلز والشعبي وغيرهما من التابعين ، وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وإسحاق بن راهويه وغيرهما من الأئمة في أقوال غريبة وورد حديث غريب في معجم الطبراني الكبير عن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي ولكن سنده ضعيف والله أعلم. وقال قتادة : الله أعلم بثنياه ، وقال السدي هي منسوخة بقوله (خالِدِينَ فِيها أَبَداً).

(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (١٠٨)

يقول تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) وهم أتباع الرسل (فَفِي الْجَنَّةِ) أي فمأواهم الجنة (خالِدِينَ فِيها) أي ماكثين فيها أبدا (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) معنى الاستثناء هاهنا أن دوامهم فيما هم فيه من النعيم ليس أمرا واجبا ذاته بل هو موكول إلى مشيئة الله تعالى فله المنة عليهم دائما ولهذا يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس.

وقال الضحاك والحسن البصري هي في حق عصاة الموحدين الذين كانوا في النار ثم أخرجوا منها وعقب ذلك بقوله (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي غير مقطوع قاله مجاهد وابن عباس وأبو العالية وغير واحد لئلا يتوهم متوهم بعد ذكره المشيئة أن ثم انقطاعا أو لبسا أو شيئا بل حتم له بالدوام وعدم الانقطاع كما بين هناك أن عذاب أهل النار في النار دائما مردود إلى مشيئته وأنه بعدله وحكمته عذبهم ولهذا قال (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) كما قال : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء : ٢٣] وهنا طيب القلوب وثبت المقصود بقوله : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) وقد جاء في الصحيحين «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت» (١) ، وفي الصحيح أيضا «فيقال يا أهل الجنة إن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا» (٢).

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٩ ، باب ١ ، ومسلم في الجنة حديث ٤٠.

(٢) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٢٢.

٣٠٢

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١١١)

يقول تعالى : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) المشركون إنه باطل وجهل وضلال فإنهم إنما يعبدون ما يعبد آباؤهم من قبل أي ليس لهم مستند فيما هم فيه إلا إتباع الآباء في الجهالات وسيجزيهم الله على ذلك أتم الجزاء فيعذب كافرهم عذابا لا يعذبه أحدا وإن كان لهم حسنات فقد وفاهم الله إياها في الدنيا قبل الآخرة. قال سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن مجاهد عن ابن عباس (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) قال ما وعدوا من خير أو شر (١).

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لموفوهم من العذاب نصيبهم غير منقوص ثم ذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب فاختلف الناس فيه فمن مؤمن به ومن كافر به فلك بمن سلف من الأنبياء قبلك يا محمد أسوة فلا يغيظنك تكذيبهم لك ولا يهمنك ذلك (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) قال ابن جرير لولا ما تقدم من تأجيله العذاب إلى أجل معلوم لقضى الله بينهم ويحتمل أن يكون المراد بالكلمة أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه وإرسال الرسول إليه كما قال : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] فإنه قد قال في الآية الأخرى : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) [طه : ١٢٩ ـ ١٣٠] ثم أخبر تعالى أنه سيجمع الأولين والآخرين من الأمم ويجزيهم بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر فقال : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي عليم بأعمالهم جميعها جليلها وحقيرها صغيرها وكبيرها وفي هذه الآية قراءات كثيرة يرجع معناها إلى هذا الذي ذكرناه كما في قوله تعالى : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) [يس : ٣٢].

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (١١٣)

يأمر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة وذلك من أكبر العون على النصر على الأعداء ومخالفة الأضداد ونهى عن الطغيان وهو البغي فإنه مصرعة حتى ولو كان على مشرك وأعلم تعالى أنه بصير بأعمال العباد لا يغفل عن شيء ولا يخفى عليه شيء.

وقوله : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : لا تداهنوا (٢) وقال العوفي عن ابن عباس : هو الركون إلى الشرك وقال أبو العالية : لا ترضوا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ١٢٠.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ١٢٤.

٣٠٣

بأعمالهم وقال ابن جرير عن ابن عباس : ولا تميلوا إلى الذين ظلموا وهذا القول حسن أي لا تستعينوا بالظلمة فتكونوا كأنكم قد رضيتم بأعمالهم (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) أي ليس لكم من دونه من ولي ينقذكم ولا ناصر يخلصكم من عذابه.

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (١١٥)

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) قال يعني الصبح والمغرب (١) وكذا قال الحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقال الحسن في رواية وقتادة والضحاك وغيرهم هي الصبح والعصر وقال مجاهد : هي الصبح في أول النهار والظهر والعصر من آخره (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم يعني صلاة العشاء وقال الحسن في رواية ابن المبارك عن مبارك بن فضالة عنه (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) يعني المغرب والعشاء قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هما زلفتا الليل المغرب والعشاء» (٢) وكذا قال مجاهد ومحمد بن كعب وقتادة والضحاك إنها صلاة المغرب والعشاء ، وقد يحتمل أن تكون هذه الآية نزلت قبل فرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء فإنه إنما كان يجب من الصلاة صلاتان : صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها ، وفي أثناء الليل قيام عليه وعلى الأمة ثم نسخ في حق الأمة وثبت وجوبه عليه ثم نسخ عنه أيضا في قول والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) يقول إن فعل الخيرات يكفر الذنوب السالفة كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال: كنت إذا سمعت من رسول الله حديثا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه وإذا حدثني عنه أحد استحلفته فإذا حلف لي صدقته ، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أنه سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما من مسلم يذنب ذنبا فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غفر له» (٣).

وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان أنه توضأ لهم كوضوء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ وقال : «من توضأ وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه» (٤).

وروى الإمام أحمد (٥) وأبو جعفر بن جرير (٦) من حديث أبي عقيل زهرة بن معبد أنه سمع

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ١٢٥.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ١٢٧.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٢.

(٤) أخرجه البخاري في الوضوء باب ٢٤ ، ٢٨. ومسلم في الطهارة حديث ٣ ، ٤ ، ٨.

(٥) المسند ١ / ٧١.

(٦) تفسير الطبري ٧ / ١٣٠.

٣٠٤

الحارث مولى عثمان يقول : جلس عثمان يوما وجلسنا معه فجاءه المؤذن فدعا عثمان بماء في إناء أظنه سيكون فيه قدر مد فتوضأ ثم قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ وضوئي هذا ثم قال «من توضأ وضوئي هذا ثم قام فصلى صلاة الظهر غفر له ما بينه وبين صلاة الصبح ثم صلى العصر غفر له ما بينه وبين صلاة الظهر ثم صلى المغرب غفر له ما بينه وبين صلاة العصر ثم صلى العشاء غفر له ما بينه وبين صلاة المغرب ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته ثم إن قام فتوضأ وصلى الصبح غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء وهن الحسنات يذهبن السيئات».

وفي الصحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهرا غمرا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيئا؟ قالوا : لا يا رسول الله قال : «كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الذنوب والخطايا» (١).

وقال مسلم في صحيحه : حدثنا أبو الطاهر وهارون بن سعيد قالا : حدثنا ابن وهب عن أبي صخر أن عمر بن إسحاق مولى زائدة حدثه عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر» (٢) وقال الإمام أحمد (٣) حدثنا الحكم بن نافع حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد أن أبا رهم السمعي كان يحدث أن أبا أيوب الأنصاري حدثه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «إن كل صلاة تحط ما بين يديها من خطيئة».

وقال أبو جعفر بن جرير (٤) حدثنا محمد بن عوف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا أبي عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جعلت الصلوات كفارات لما بينهن» فإن الله قال (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ).

وقال البخاري : حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يزيد بن زريع عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره فأنزل الله (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) فقال الرجل يا رسول الله ألي هذا؟ قال : «لجميع أمتي كلهم» (٥) هكذا رواه في كتاب الصلاة وأخرجه في التفسير عن مسدد عن يزيد بن زريع بنحوه ورواه مسلم وأحمد وأهل السنن إلا أبا داود من طرق عن أبي عثمان النهدي واسمه عبد الرحمن بن مل به.

__________________

(١) أخرجه البخاري في المواقيت باب ٦ ، ومسلم في المساجد حديث ٢٨٤.

(٢) أخرجه مسلم في الطهارة حديث ١٦.

(٣) المسند ٥ / ٤١٣.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ١٣٠.

(٥) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١١ ، باب ٦ ، ومسلم في التوبة حديث ٣٩ ، والترمذي في تفسير سورة ١١ ، باب ٦ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٨٦ ، ٤٣٠.

٣٠٥

ورواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وهذا لفظه من طرق عن سماك بن حرب أنه سمع إبراهيم بن يزيد يحدث عن علقمة والأسود عن ابن مسعود قال جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إني وجدت امرأة في بستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها قبلتها ولزمتها ولم أفعل غير ذلك فافعل بي ما شئت فلم يقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا فذهب الرجل. فقال عمر : لقد ستر الله عليه لو ستر على نفسه ، فأتبعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصره ثم قال : «ردوه علي» فردوه عليه فقرأ عليه (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) فقال معاذ وفي رواية عمر يا رسول الله أله وحده أم للناس كافة؟ قال : «بل للناس كافة» (١).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن عبيد حدثنا أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد عن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا من أحب فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه» قال : قلنا : وما بوائقه يا نبي الله؟ قال : «غشه وظلمه ولا يكسب عبد مالا حراما فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار إن الله لا يمحو السيئ بالسيء ولكن يمحو السيئ بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث».

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا أبو السائب حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم قال : كان فلان ابن معتب رجلا من الأنصار فقال يا رسول الله دخلت عليّ امرأة فنلت منها ما ينال الرجل من أهله إلا أني لم أواقعها فلم يدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يجيبه حتى نزلت هذه الآية (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) فدعاه رسول الله فقرأها عليه وعن ابن عباس أنه عمرو بن غزية الأنصاري التمار وقال مقاتل هو أبو نفيل عامر بن قيس الأنصاري وذكر الخطيب البغدادي أنه أبو اليسر كعب بن عمرو.

وقال الإمام أحمد (٤) حدثنا يونس وعفان قالا : حدثنا حماد يعني ابن سلمة عن علي بن زيد قال عفان أنبأنا علي بن يزيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن رجلا أتى عمر فقال إن

__________________

(١) أخرجه مسلم في التوبة حديث ٤٢ ، وأبو داود في الحدود باب ٣١ ، والترمذي في تفسير سورة ١١ ، باب ٤ ، وأحمد في المسند ١ / ٤٤٩ ، والطبري في تفسيره ٧ / ١٣١.

(٢) المسند ١ / ٣٨٧.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ١٣٢.

(٤) المسند ١ / ٢٤٥ ، ٢٦٩ ، ٢٧٠.

٣٠٦

امرأة جاءت تبايعه فأدخلتها الدولج (١) فأصبت منها ما دون الجماع ، فقال ويحك لعلها مغيبة (٢) في سبيل الله؟ قال أجل ، قال فائت أبا بكر فسله. قال فأتاه فسأله فقال لعلها مغيبة في سبيل الله؟ فقال مثل قول عمر ثم أتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له مثل ذلك قال «فلعلها مغيبة في سبيل الله» ونزل القرآن (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) إلى آخر الآية ، فقال يا رسول الله لي خاصة أم للناس عامة؟ فضرب يعني عمر صدره بيده وقال لا ولا نعمة عين بل للناس عامة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صدق عمر».

وروى الإمام أبو جعفر بن جرير (٣) من حديث قيس بن الربيع عن عثمان بن موهب عن موسى بن طلحة عن أبي اليسر كعب بن عمرو الأنصاري قال أتتني امرأة تبتاع مني بدرهم تمرا فقلت إن في البيت تمرا أجود من هذا فدخلت فأهويت إليها فقبلتها فأتيت عمر فسألته فقال اتق الله واستر على نفسك ولا تخبرن أحدا فلم أصبر حتى أتيت أبا بكر فسألته فقال اتق الله واستر على نفسك ولا تخبرن أحدا قال فلم أصبر حتى أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته فقال «أخلفت رجلا غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا» حتى ظننت أني من أهل النار حتى تمنيت أني أسلمت ساعتئذ فأطرق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساعة فنزل جبريل فقال أبو اليسر فجئت فقرأ عليّ رسول الله (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) فقال إنسان : يا رسول الله له خاصة أم للناس عامة؟ قال «للناس عامة».

وقال الحافظ أبو الحسن الدار قطني حدثنا الحسين بن إسماعيل المحاملي حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل أنه كان قاعدا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء رجل فقال : يا رسول الله ما تقول في رجل أصاب من امرأة لا تحل له فلم يدع شيئا الرجل يصيبه من امرأته إلا قد أصاب منها غير أنه لم يجامعها؟ فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «توضأ وضوءا حسنا ثم قم فصلّ» فأنزل الله عزوجل هذه الآية يعني قوله : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) فقال معاذ أهي له خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال : «بل للمسلمين عامة» ورواه ابن جرير (٤) من طرق عن عبد الملك بن عمير به.

وقال عبد الرزاق حدثنا محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة أن رجلا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر امرأة وهو جالس مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستأذنه لحاجة فأذن له فذهب يطلبها فلم يجدها فأقبل الرجل يريد أن يبشر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمطر فوجد المرأة جالسة على غدير فدفع في صدرها وجلس بين رجليها فصار ذكره مثل الهدبة فقام نادما حتى أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره

__________________

(١) الدولج : المخدع ، وهو البيت الصغير داخل البيت.

(٢) المغيبة : التي غاب عنها زوجها.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ١٣٤.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ١٣٣.

٣٠٧

بما صنع فقال له : «استغفر ربك وصل أربع ركعات» قال : وتلا عليه (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) الآية (١).

وقال ابن جرير (٢) : حدثني عبد الله بن أحمد بن سيبويه حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثني عمرو بن الحارث حدثني عبد الله بن سالم عن الزبيدي عن سليم بن عامر أنه سمع أبا أمامة يقول إن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله أقم فيّ حد الله ـ مرة أو اثنتين ـ فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أقيمت الصلاة فلما فرغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصلاة قال : «أين هذا الرجل القائل أقم فيّ حد الله؟» قال : أنا ذا. قال : أتممت الوضوء وصليت معنا آنفا؟ قال : نعم. قال : «فإنك من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فلا تعد» وأنزل الله على رسول الله (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ).

وقال الإمام أحمد (٣) حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أنبأنا علي بن زيد عن أبي عثمان قال كنت : مع سلمان الفارسي تحت شجرة فأخذ منها غصنا يابسا فهزه حتى تحات ورقه ثم قال : يا أبا عثمان ألا تسألني لم أفعل هذا قلت ولم تفعله؟ قال هكذا فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى الصلوات الخمس تحاتت خطاياه كما يتحات هذا الورق. وقال : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ).

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : يا معاذ «أتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن».

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن حبيب عن ميمون بن أبي شبيب عن أبي ذر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن».

وقال أحمد (٦) حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن شمر بن عطية عن أشياخه عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله أوصني ، قال : «إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة تمحها» قال : قلت: يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله؟ قال : «هي أفضل الحسنات».

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ١٣٤.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ١٣٣ ، وفيه : عبد الله بن أحمد بن شبّويه ، بدل سيبويه.

(٣) المسند ٥ / ٤٣٧.

(٤) المسند ٥ / ٢٢٨.

(٥) المسند ٥ / ١٥٣ ، ١٥٨.

(٦) المسند ٥ / ١٦٩.

٣٠٨

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا هذيل بن إبراهيم الجماني حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الزهري عن ولد سعد بن أبي وقاص عن الزهري عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما قال عبد لا إله إلا الله في ساعة من ليل أو نهار إلا طلست (١) ما في الصحيفة من السيئات حتى تسكن إلى مثلها من الحسنات» عثمان بن عبد الرحمن يقال له الوقاصي فيه ضعف. وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا بشر بن آدم وزيد بن أخرم قالا حدثنا الضحاك بن مخلد حدثنا مستور بن عباد عن ثابت عن أنس أن رجلا قال : يا رسول الله ما تركت من حاجة ولا داجة (٢) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟» قال : بلى. قال «فإن هذا يأتي على ذلك» تفرد به من هذا الوجه مستور.

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) (١١٧)

يقول تعالى فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض ، وقوله : (إِلَّا قَلِيلاً) أي قد وجد منهم من هذا الضرب قليل لم يكونوا كثيرا وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غضبه وفجأة نقمته ولهذا أمر الله تعالى هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر كما قال تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران : ١٠٤] وفي الحديث «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب» (٣) ولهذا قال تعالى : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ).

وقوله : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ) أي استمروا على ما هم عليه من المعاصي والمنكرات ولم يلتفتوا إلى إنكار أولئك حتى فجأهم العذاب (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها ولم يأت قرية مصلحة بأسه وعذابه قط حتى يكونوا هم الظالمين كما قال تعالى : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [هود : ١٠١] وقال : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦].

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ

__________________

(١) طلست : أي محت.

(٢) الداجة : أخف من الحاجة.

(٣) أخرجه ابن ماجة في الفتن باب ٢٠ ، وأحمد في المسند ١ / ٢ ، ٥ ، ٩.

٣٠٩

كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١١٩)

يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كلهم أمة واحدة من إيمان أو كفر كما قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يوسف : ٩٩] وقوله : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) أي ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم ، وقال عكرمة : مختلفين في الهدى وقال الحسن البصري : مختلفين في الرزق يسخر بعضهم بعضا ، والمشهور الصحيح الأول.

وقوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) أي إلا المرحومين من أتباع الرسل الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين ، أخبرتهم به رسل الله إليهم ولم يزل ذلك دأبهم حتى كان النبي وخاتم الرسل والأنبياء فاتبعوه وصدقوه ووازروه ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة لأنهم الفرقة الناجية كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن من طرق يشد بعضها بعضا «إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن النصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة ، قالوا : ومن هم يا رسول الله؟ قال «ما أنا عليه وأصحابي» (١) رواه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة.

وقال عطاء : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) يعني اليهود والنصارى والمجوس (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) يعني الحنيفية وقال قتادة أهل رحمة الله أهل الجماعة وإن تفرقت ديارهم وأبدانهم وأهل معصيته أهل فرقة وإن اجتمعت ديارهم وأبدانهم ، وقوله : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) قال الحسن البصري في رواية عنه وللاختلاف خلقهم ، وقال مكي بن أبي طلحة عن ابن عباس : خلقهم فريقين كقوله : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) وقيل للرحمة خلقهم قال ابن وهب أخبرني مسلم بن خالد عن ابن أبي نجيح عن طاوس : أن رجلين اختصما إليه فأكثرا فقال طاوس اختلفتما وأكثرتما فقال أحد الرجلين : لذلك خلقنا فقال طاوس : كذبت فقال أليس الله يقول : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) قال لم يخلقهم ليختلفوا ولكن خلقهم للجماعة والرحمة كما قال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال : للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب ، وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة ويرجع معنى هذا القول إلى قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦].

وقيل بل المراد وللرحمة والاختلاف خلقهم كما قال الحسن البصري في رواية عنه في قوله : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) قال الناس مختلفون على أديان شتى (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) فمن رحم ربك غير مختلف فقيل له لذلك خلقهم قال خلق هؤلاء

__________________

(١) أخرجه أبو داود في السنة باب ١ ، والترمذي في الإيمان باب ١٨ ، وابن ماجة في الفتن باب ١٧ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٣٢ ، ٣ / ١٢٠ ، ١٤٥.

٣١٠

لجنته وخلق هؤلاء لناره وخلق لعذابه وكذا قال عطاء بن أبي رباح والأعمش ، وقال ابن وهب سألت مالكا عن قوله تعالى : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) قال فريق في الجنة وفريق في السعير.

وقد اختار هذا القول ابن جرير وأبو عبيد الفراء وعن مالك فيما روينا عنه من التفسير (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) قال للرحمة وقال قوم للاختلاف.

وقوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) يخبر تعالى أنه قد سبق في قضائه وقدره لعلمه التام وحكمته النافذة أن ممن خلقه من يستحق الجنة ومنهم من يستحق النار وأنه لا بد أن يملأ جهنم من هذين الثقلين الجن والإنس وله الحجة البالغة والحكمة التامة ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اختصمت الجنة والنار فقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين فقال الله عزوجل للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء وقال للنار أنت عذابي أنتقم بك ممن أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها فأما الجنة فلا يزال فيها فضل حتى ينشئ الله لها خلقا يسكن فضل الجنة وأما النار فلا تزال تقول هل من مزيد حتى يضع عليها رب العزة قدمه فتقول قط قط(١) وعزتك» (٢).

(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (١٢٠)

يقول تعالى وكل أخبار نقصها عليك من أنباء الرسل المتقدمين من قبلك مع أممهم وكيف جرى لهم من المحاجات والخصومات وما احتمله الأنبياء من التكذيب والأذى وكيف نصر الله حزبه المؤمنين وخذل أعداءه الكافرين. كل هذا مما نثبت به فؤادك أي قلبك يا محمد ليكون لك بمن مضى من إخوانك من المرسلين أسوة.

وقوله : (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُ) أي هذه السورة قال ابن عباس ومجاهد وجماعة من السلف ، وعن الحسن في رواية عنه وقتادة في هذه الدنيا والصحيح في هذه السورة المشتملة على قصص الأنبياء وكيف أنجاهم الله والمؤمنين بهم وأهلك الكافرين جاءك فيها قصص حق ونبأ صدق وموعظة يرتدع بها الكافرون وذكرى يتذكر بها المؤمنون.

(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (١٢٢)

__________________

(١) قط قط : أي حسبي.

(٢) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢٥ ، وتفسير سورة ٥٠ ، باب ١ ، ومسلم في الجنة حديث ٣٥ ، ٣٦ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣١٤.

٣١١

يقول تعالى آمرا رسوله أن يقول للذين لا يؤمنون بما جاء به من ربه على وجه التهديد (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي على طريقتكم ومنهجكم (إِنَّا عامِلُونَ) أي على طريقتنا ومنهجنا (وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) أي فستعلمون (مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) وقد أنجز الله لرسوله وعده ونصره وأيده وجعل كلمته هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى والله عزيز حكيم.

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١٢٣)

يخبر تعالى أنه عالم غيب السموات والأرض وأنه إليه المرجع والمآب ، وسيؤتي كل عامل عمله يوم الحساب ، فله الخلق والأمر ، فأمر تعالى بعبادته والتوكل عليه. فإنه كاف من توكل عليه وأناب إليه ، وقوله : (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي ليس يخفى عليه ما عليه مكذبوك يا محمد بل هو عليم بأحوالهم وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء في الدنيا والآخرة وسينصرك وحزبك عليهم في الدارين ، وقال ابن جرير (١) حدثنا ابن وكيع حدثنا زيد بن الحباب عن جعفر بن سليمان عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن رباح عن كعب قال : خاتمة التوراة خاتمة هود. آخر تفسير سور هود عليه‌السلام ولله الحمد والمنة.

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ١٤٥.

٣١٢

سورة يوسف

وهي مكية

روى الثعلبي وغيره من طريق سلام بن سلم ، ويقال : سليم المدائني ، وهو متروك عن هارون بن كثير ، وقد نص على جهالته أبو حاتم ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أبي أمامة ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «علموا أرقاكم سورة يوسف ، فإنه أيما مسلم تلاها أو علمها أهله أو ما ملكت يمينه ، هون الله عليه سكرات الموت وأعطاه من القوة أن لا يحسد مسلما» ، وهذا من هذا الوجه لا يصح لضعف إسناده بالكلية.

وقد ساقه الحافظ ابن عساكر متابعا من طريق القاسم بن الحكم ، عن هارون بن كثير به ، ومن طريق شبابة عن محمد بن عبد الواحد النضري ، عن علي بن زيد بن جدعان ، وعن عطاء بن أبي ميمونة ، عن زر بن حبيش ، عن أبي بن كعب ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكر نحوه ، وهو منكر من سائر طرقه ، وروى البيهقي في الدلائل أن طائفة من اليهود حين سمعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلو هذه السورة أسلموا لموافقتها ما عندهم ، وهو من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) (٣)

أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة. وقوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) أي هذه آيات الكتاب ، وهو القرآن المبين ، أي الواضح الجلي الذي يفصح عن الأشياء المبهمة ، ويفسرها ويبينها (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس ، فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات ، على أشرف الرسل بسفارة أشرف الملائكة ، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض ، وابتدئ إنزاله في أشرف شهور السنة ، وهو رمضان ، فكمل من كل الوجوه ، ولهذا قال تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) بسبب إيحائنا إليك هذا القرآن.

٣١٣

وقد ورد في سبب نزول هذه الآية ما رواه ابن جرير (١) : حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، حدثنا حكام الرازي عن أيوب ، عن عمرو هو ابن قيس الملائي ، عن ابن عباس قال : قالوا : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو قصصت علينا؟ فنزلت (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) ، ورواه من وجه آخر عن عمرو بن قيس مرسلا. وقال أيضا (٢) : حدثنا محمد بن سعيد القطان ، حدثنا عمرو بن محمد ، أنبأنا خالد الصفار عن عمرو بن قيس ، عن عمرو بن مرة ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه قال : أنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن. قال : فتلاه عليهم زمانا ، فقالوا : يا رسول الله لو قصصت علينا؟ فأنزل الله عزوجل (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) إلى قوله : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ثم تلاه عليهم زمانا ، فقالوا : يا رسول الله لو حدثتنا ، فأنزل الله عزوجل (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) الآية ، وذكر الحديث ، ورواه الحاكم من حديث إسحاق بن راهويه عن عمرو بن محمد القرشي المنقري به.

وروى ابن جرير (٣) بسنده عن المسعودي ، عن عون بن عبد الله قال : مل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملة فقالوا : يا رسول الله حدثنا ، فأنزل الله (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) ثم ملوا ملة أخرى ، فقالوا : يا رسول الله حدثنا فوق الحديث ، ودون القرآن يعنون القصص ، فأنزل الله عزوجل (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) الآية ، فأرادوا الحديث ، فدلهم على أحسن الحديث ، وأرادوا القصص فدلهم على أحسن القصص.

ومما يناسب ذكره عند هذه الآية الكريمة المشتملة على مدح القرآن ، وأنه كاف عن كل ما سواه من الكتب ما رواه الإمام أحمد (٤) : حدثنا سريج بن النعمان ، أنبأنا هشيم ، أنبأنا مجالد عن الشعبي ، عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب ، فقرأه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : فغضب وقال «أمتهوّكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده ، لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبونه ، أو بباطل فتصدقونه ، والذي نفسي بيده ، لو أن موسى كان حيّا ما وسعه إلا أن يتبعني».

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا سفيان عن جابر ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن ثابت قال : جاء عمر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إني مررت بأخ لي من قريظة ، فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال : فتغير وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ١٤٧.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ١٤٨.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ١٤٧ ، ١٤٨.

(٤) المسند ٣ / ٣٧٨.

(٥) المسند ٣ / ٣٦٥ ، ٣٦٦.

٣١٤

عبد الله بن ثابت : فقلت له : ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال عمر : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا. قال : فسري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «والذي نفس محمد بيده ، لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ، إنكم حظي من الأمم ، وأنا حظكم من النبيين».

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عبد الغفار بن عبد الله بن الزبير ، حدثنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن خليفة بن قيس ، عن خالد بن عرفطة قال : كنت جالسا عند عمر إذ أتي برجل من عبد القيس مسكنه بالسوس ، فقال له عمر : أنت فلان بن فلان العبدي؟ قال : نعم. قال : وأنت النازل بالسوس (١)؟ قال : نعم ، فضربه بقناة معه ، قال : فقال الرجل : ما لي يا أمير المؤمنين؟ فقال له عمر : اجلس فجلس ، فقرأ عليه (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ـ إلى قوله ـ لَمِنَ الْغافِلِينَ) فقرأها عليه ثلاثا ، وضربه ثلاثا ، فقال له الرجل : ما لي يا أمير المؤمنين؟ فقال : أنت الذي نسخت كتاب دانيال. قال : مرني بأمرك أتبعه ، قال : انطلق فامحه بالحميم (٢) والصوف الأبيض ثم لا تقرأه ولا تقرئه أحدا من الناس فلئن بلغني عنك أنك قرأته أو أقرأته أحدا من الناس لأنهكنك عقوبة (٣).

ثم قال ، له اجلس فجلس بين يديه ، فقال : انطلقت أنا فانتسخت كتابا من أهل الكتاب ، ثم جئت به في أديم ، فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما هذا في يدك يا عمر؟» قال : قلت : يا رسول الله كتاب نسخته لنزداد به علما إلى علمنا ، فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى احمرت وجنتاه ، ثم نودي بالصلاة جامعة ، فقالت الأنصار : أغضب نبيكم الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ السلاح السلاح ، فجاؤوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه ، واختصر لي اختصارا ، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية ، فلا تتهوكوا ولا يغرنكم المتهوكون».

قال عمر : فقمت فقلت : رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا ، وبك رسولا ، ثم نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد رواه ابن أبي حاتم في تفسيره مختصرا من حديث عبد الرحمن بن إسحاق به وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، وعبد الرحمن بن إسحاق هو أبو شيبة الواسطي ، وقد ضعفوه وشيخه. قال البخاري : لا يصح حديثه.

قلت : وقد روي له شاهد من وجه آخر ، فقال الحافظ أبو بكر أحمد بن إبراهيم

__________________

(١) السوس : بلدة بخوزستان ، وجد فيها دانيال ، فدفن في نهرها تحت الماء ، وغمر قبره ، وموضعه ظاهر يزار.

(٢) الحميم : الماء الحار.

(٣) أنهكه عقوبة : أي بالغ في عقوبته.

٣١٥

الإسماعيلي : أخبرني الحسن بن سفيان ، حدثنا يعقوب بن سفيان ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي ، حدثني عمرو بن الحارث ، حدثنا عبد الله بن سالم الأشعري عن الزبيدي ، حدثنا سليم بن عامر أن جبير بن نفير حدثهم أن رجلين كانا بحمص في خلافة عمر رضي الله عنه ، فأرسل إليهما فيمن أرسل من أهل حمص ، وكانا قد اكتتبا من اليهود ملء صفنة فأخذاها معهما يستفتيان فيها أمير المؤمنين يقولون : إن رضيها لنا أمير المؤمنين ازددنا فيها رغبة ، وإن نهانا عنها رفضناها ، فلما قدما عليه قالا : إنا بأرض أهل الكتاب ، وإنا نسمع منهم كلاما تقشعر منه جلودنا ، أفنأخذ منه أو نترك؟ فقال : لعلكما كتبتما منه شيئا؟ فقالا : لا ، قال سأحدثكما : انطلقت في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أتيت خيبر ، فوجدت يهوديا يقول قولا أعجبني ، فقلت : هل أنت مكتبي مما تقول؟ قال : نعم فأتيت بأديم ، فأخذ يملي علي حتى كتبت في الأكرع ، فلما رجعت قلت : يا نبي الله وأخبرته.

قال «ائتني به» فانطلقت أرغب عن الشيء رجاء أن أكون جئت رسول الله ببعض ما يحب ، فلما أتيت به قال : «اجلس اقرأ علي» فقرأت ساعة ، ثم نظرت إلى وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا هو يتلون ، فتحيرت من الفرق ، فما استطعت أن أجيز منه حرفا ، فلما رأى الذي بي رفعه ثم جعل يتبعه رسما رسما فيمحوه بريقه ، وهو يقول : «لا تتبعوا هؤلاء فإنهم قد هوكوا وتهوكوا» حتى محا آخره حرفا حرفا. قال عمر رضي الله عنه : فلو علمت أنكما كتبتما منه شيئا جعلتكما نكالا لهذه الأمة ، قالا : والله ما نكتب منه شيئا أبدا ، فخرجا بصفنتهما ، فحفرا لها ، فلم يألوا أن يعمقا ودفناها ، فكان آخر العهد منها ، وهكذا روى الثوري عن جابر بن يزيد الجعفي عن الشعبي عن عبد الله بن ثابت الأنصاري عن عمر بن الخطاب بنحوه ، وروى أبو داود في المراسيل من حديث أبي قلابة عن عمر نحوه ، والله أعلم.

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٤)

يقول تعالى : اذكر لقومك يا محمد في قصصك عليهم من قصة يوسف إذ قال لأبيه ، وأبوه هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم‌السلام ، كما قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الصمد حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن أبيه عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» انفرد بإخراجه البخاري (٢) ، فرواه عن عبد الله بن محمد عن عبد الصمد به ، وقال البخاري أيضا : حدثنا محمد ، أنبأنا عبدة عن عبيد الله عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة قال : سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي الناس أكرم؟ قال : «أكرمهم عند الله أتقاهم» قالوا : ليس عن هذا نسألك.

__________________

(١) المسند ٢ / ٩٦.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٢ ، باب ١.

٣١٦

قال : «فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله» قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : «فعن معادن العرب تسألوني؟» قالوا : نعم. قال «فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا» ثم قال : تابعه أبو أسامة عن عبيد الله.

وقال ابن عباس رؤيا الأنبياء وحي ، وقد تكلم المفسرون على تعبير هذا المنام أن الأحد عشر كوكبا عبارة عن إخوته ، وكانوا أحد عشر رجلا سواه ، والشمس والقمر عبارة عن أمه وأبيه. روي هذا عن ابن عباس والضحاك وقتادة وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقد وقع تفسيرها بعد أربعين سنة ، وقيل : ثمانين سنة ، وذلك حين رفع أبويه على العرش وهو سريره وإخوته بين يديه (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) [يوسف : ١٠٠].

وقد جاء في حديث تسمية هذه الأحد عشر كوكبا ، فقال الإمام أبو جعفر بن جرير (١) : حدثني علي بن سعيد الكندي ، حدثنا الحكم بن ظهير عن السدي عن عبد الرحمن بن سابط ، عن جابر قال : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل من يهود يقال له بستانة اليهودي ، فقال له : يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف أنها ساجدة له ، ما أسماؤها؟ قال : فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساعة فلم يجبه بشيء. ونزل عليه جبريل عليه‌السلام فأخبره بأسمائها ، قال : فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه فقال : «هل أنت مؤمن إذا أخبرتك بأسمائها؟» فقال : نعم. قال «جريان ، والطارق ، والذيال ، وذو الكنفات ، وقابس ، ووثاب ، وعمودان ، والفيلق ، والمصبح ، والضروح ، وذو الفرغ ، والضياء ، والنور» فقال اليهودي : إي والله إنها لأسماؤها.

ورواه البيهقي في الدلائل من حديث سعيد بن منصور عن الحكم بن ظهير. وقد روى هذا الحديث الحافظان أبو يعلى الموصلي وأبو بكر البزار في مسنديهما ، وابن أبي حاتم في تفسيره ، أما أبو يعلى فرواه عن أربعة من شيوخه عن الحكم بن ظهير به ، وزاد : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما رآها يوسف قصها على أبيه يعقوب فقال له أبوه : هذا أمر متشتت يجمعه الله من بعد ، ـ قال ـ والشمس أبوه والقمر أمّه» تفرد به الحكم بن ظهير الفزاري وقد ضعفه الأئمة وتركه الأكثرون ، وقال الجوزجاني : ساقط وهو صاحب حديث حسن ، ثم ذكر الحديث المروي عن جابر أن يهوديا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكواكب التي رآها يوسف ، ما أسماؤها؟ وأنه أجابه ، ثم قال : تفرد به الحكم بن ظهير ، وقد ضعفه الأربعة.

(قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٥)

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ١٤٨.

٣١٧

يقول تعالى مخبرا عن قول يعقوب لابنه يوسف حين قص عليه ما رأى من هذه الرؤيا التي تعبيرها خضوع إخوته له ، وتعظيمهم إياه تعظيما زائدا بحيث يخرون له ساجدين إجلالا واحتراما وإكراما ، فخشي يعقوب عليه‌السلام أن يحدث بهذا المنام ، أحدا من إخوته فيحسدونه على ذلك ، فيبغون له الغوائل حسدا منهم له ، ولهذا قال له : (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) أي يحتالوا لك حيلة يردونك فيها.

ولهذا ثبتت السنة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا رأى أحدكم ما يحب فليحدث به ، وإذا رأى ما يكره فليتحول إلى جنبه الآخر ، وليتفل عن يساره ثلاثا ، وليستعذ بالله من شرها ، ولا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره» (١) وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد وبعض أهل السنن من رواية معاوية بن حيدة ، القشيري أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر ، فإذا عبرت وقعت» (٢) ومن هذا يؤخذ الأمر بكتمان النعمة حتى توجد وتظهر ، كما ورد في حديث «استعينوا على قضاء الحوائج بكتمانها ، فإن كل ذي نعمة محسود».

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦)

يقول تعالى مخبرا عن قول يعقوب لولده يوسف : إنه كما اختارك ربك وأراك هذه الكواكب مع الشمس والقمر ساجدة لك (كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي يختارك ويصطفيك لنبوته (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) قال مجاهد وغير واحد : يعني تعبير الرؤيا (٣) (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) أي بإرسالك والإيحاء إليك ، ولهذا قال : (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ) وهو الخليل (وَإِسْحاقَ) ولده وهو الذبيح في قول ، وليس بالرجيح (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي هو أعلم حيث يجعل رسالته ، كما قال في الآية الأخرى.

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (١٠)

يقول تعالى : لقد كان في قصة يوسف وخبره مع إخوته آيات ، أي عبرة ومواعظ للسائلين

__________________

(١) أخرجه أبو داود في السنة باب ١٨ ، والأدب باب ٨٨ ، وابن ماجة في الرؤيا باب ٤ ، والدارمي في الرؤيا باب ٥ ، وأحمد في المسند ٥ / ٢٩٦ ، ٣٠٣ ، ٣٠٩.

(٢) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٨٨ ، وابن ماجة في الرؤيا باب ٦ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٠.

(٣) انظر تفسير الطبري ٧ / ١٥١.

٣١٨

عن ذلك المستخبرين عنه ، فإنه خبر عجيب يستحق أن يخبر عنه (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) أي حلفوا فيما يظنون والله ليوسف وأخوه ، يعنون بنيامين وكان شقيقه لأمه (أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي جماعة ، فكيف أحب ذينك الاثنين أكثر من الجماعة (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يعنون في تقديمهما علينا ، ومحبته إياهما أكثر منا.

واعلم أنه لم يقم دليل على نبوة إخوة يوسف ، وظاهر هذا السياق يدل على خلاف ذلك ، ومن الناس من يزعم أنهم أوحي إليهم بعد ذلك ، وفي هذا نظر ، ويحتاج مدعي ذلك إلى دليل ، ولم يذكروا سوى قوله تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) وهذا فيه احتمال لأن بطون بني إسرائيل يقال لهم الأسباط ، كما يقال للعرب قبائل وللعجم شعوب ، يذكر تعالى أنه أوحى إلى الأنبياء من أسباط بني إسرائيل فذكرهم إجمالا لأنهم كثيرون ، ولكن كل سبط من نسل رجل من إخوة يوسف ، ولم يقم دليل على أعيان هؤلاء أنهم أوحي إليهم ، والله أعلم.

(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) يقولون : هذا الذي يزاحمكم في محبة أبيكم لكم أعدموه من وجه أبيكم ، ليخلو لكم وحدكم ، إما بأن تقتلوه أو تلقوه في أرض من الأراضي تستريحوا منه ، وتخلوا أنتم بأبيكم (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) فأضمروا التوبة قبل الذنب (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) قال قتادة ومحمد بن إسحاق : وكان أكبرهم واسمه روبيل.

وقال السدي : الذي قال ذلك ، يهوذا. وقال مجاهد هو شمعون الصفا.

(لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) أي لا تصلوا في عداوته وبغضه إلى قتله ، ولم يكن لهم سبيل إلى قتله لأن الله تعالى كان يريد منه أمرا لا بد من إمضائه وإتمامه من الإيحاء إليه بالنبوة ، ومن التمكين له ببلاد مصر والحكم بها ، فصرفهم الله عنه بمقالة روبيل فيه وإشارته عليهم بأن يلقوه في غيابة الجب وهو أسفله. قال قتادة : وهي بئر بيت المقدس (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) أي المارة من المسافرين فتستريحوا منه بهذا ولا حاجة إلى قتله (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي إن كنتم عازمين على ما تقولون. قال محمد بن إسحاق بن يسار : لقد اجتمعوا على أمر عظيم من قطيعة الرحم ، وعقوق الوالد ، وقلة الرأفة بالصغير الضرع الذي لا ذنب له ، وبالكبير الفاني ذي الحق والحرمة والفضل ، وخطره عند الله مع حق الوالد على ولده ، ليفرقوا بينه وبين أبيه وحبيبه على كبر سنه ورقة عظمه ، مع مكانه من الله فيمن أحبه طفلا صغيرا ، وبين ابنه على ضعف قوته وصغر سنه وحاجته إلى لطف والده وسكونه إليه ، يغفر الله لهم وهو أرحم الراحمين ، فقد احتملوا أمرا عظيما رواه ابن أبي حاتم من طريق سلمة بن الفضل عنه.

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١٢)

٣١٩

لما تواطأوا على أخذه وطرحه في البئر كما أشار به عليهم أخوهم الكبير روبيل ، جاءوا أباهم يعقوب عليه‌السلام فقالوا : ما بالك (لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) وهذه توطئة ودعوى ، وهم يريدون خلاف ذلك لما له في قلوبهم من الحسد لحب أبيه له (أَرْسِلْهُ مَعَنا) أي ابعثه معنا غدا نرتع ونلعب وقرأ بعضهم بالياء (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) قال ابن عباس : يسعى وينشط(١) ، وكذا قال قتادة والضحاك والسدي وغيرهم (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) يقولون : ونحن نحفظه ونحوطه من أجلك.

(قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) (١٤)

يقول تعالى مخبرا عن نبيه يعقوب أنه قال لبنيه في جواب ما سألوا من إرسال يوسف معهم إلى الرعي في الصحراء (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) أي يشق علي مفارقته مدة ذهابكم به إلى أن يرجع ، وذلك لفرط محبته له لما يتوسم فيه من الخير العظيم وشمائل النبوة والكمال في الخلق والخلق صلوات الله وسلامه عليه. وقوله : (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) يقول : وأخشى أن تشتغلوا عنه برميكم ورعيكم فيأتيه ذئب فيأكله وأنتم لا تشعرون ، فأخذوا من فمه هذه الكلمة ، وجعلوها عذرهم فيما فعلوه ، وقالوا مجيبين له عنها في الساعة الراهنة (لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) يقولون : لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا ونحن جماعة إنا إذا لهالكون عاجزون.

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١٥)

يقول تعالى : فلما ذهب به إخوته من عند أبيه بعد مراجعتهم له في ذلك (وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) هذا فيه تعظيم لما فعلوه ، أنهم اتفقوا كلهم على إلقائه في أسفل ذلك الجب وقد أخذوه من عند أبيه فيما يظهرونه له إكراما له ، وبسطا وشرحا لصدره ، وإدخالا للسرور عليه ، فيقال إن يعقوب عليه‌السلام لما بعثه معهم ضمه إليه وقبله ودعا له ، وذكر السدي وغيره أنه لم يكن بين إكرامهم له وبين إظهار الأذى له إلا أن غابوا عن عين أبيه وتواروا عنه ، ثم شرعوا يؤذونه بالقول من شتم ونحوه ، والفعل من ضرب ونحوه ، ثم جاءوا به إلى ذلك الجب الذي اتفقوا على رميه فيه ، فربطوه بحبل ودلوه فيه ، فكان إذا لجأ إلى واحد منهم لطمه وشتمه ، وإذا تشبث بحافات البئر ضربوا على يديه ، ثم قطعوا به الحبل من نصف المسافة ، فسقط في الماء فغمره ، فصعد إلى صخرة تكون في وسطه يقال لها الراغوفة ، فقام فوقها.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ١٥٥.

٣٢٠