تفسير القرآن العظيم - ج ٤

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٤

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤١

يوم الجمعة قال بلغني أن سفينة نوح أرست من هاهنا. وقال علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان مع نوح في السفينة ثمانون رجلا معهم أهلوهم وإنهم كانوا فيها مائة وخمسين يوما وإن الله وجه السفينة إلى مكة فطافت بالبيت أربعين يوما ثم وجهها الله إلى الجودي فاستقرت عليه فبعث نوح الغراب ليأتيه بخبر الأرض فذهب فوقع على الجيف فأبطأ عليه فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون فلطخت رجليها بالطين فعرف نوح عليه‌السلام أن الماء قد نضب فهبط إلى أسفل الجودي فابتنى قرية ، وسماها ثمانين فأصبحوا ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة أحدها اللسان العربي ، فكان بعضهم لا يفقه كلام بعض فكان نوح عليه‌السلام يعبر عنهم.

وقال كعب الأحبار : إن السفينة طافت ما بين المشرق والمغرب قبل أن تستقر على الجودي ، وقال قتادة وغيره : ركبوا في عاشر شهر رجب فساروا مائة وخمسين يوما واستقرت بهم على الجودي شهرا وكان خروجهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم ، وقد ورد نحو هذا في حديث مرفوع رواه ابن جرير (١) وأنهم صاموا يومهم ذلك والله أعلم.

وقال الإمام أحمد (٢) حدثنا أبو جعفر حدثنا عبد الصمد بن حبيب الأزدي عن أبيه حبيب بن عبد الله عن شبل عن أبي هريرة قال : مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأناس من اليهود وقد صاموا يوم عاشوراء فقال «ما هذا الصوم؟ قالوا هذا اليوم الذي نجى الله به موسى وبني إسرائيل من الغرق وغرق فيه فرعون وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي فصام نوح وموسى عليهما‌السلام شكرا لله عزوجل. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا أحق بموسى وأحق بصوم هذا اليوم» فصام وقال لأصحابه : «من كان أصبح منكم صائما فليتم صومه ، ومن كان أصاب من غذاء أهله فليتم بقية يومه» (٣) وهذا حديث غريب من هذا الوجه ولبعضه شاهد في الصحيح ، وقوله : (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي هلاكا وخسارا لهم وبعدا من رحمة الله فإنهم قد هلكوا عن آخرهم فلم يبق لهم بقية.

وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير (٤) والحبر أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيريهما من حديث موسى بن يعقوب الزمعي عن فائد مولى عبيد الله بن أبي رافع أن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة أخبره أن عائشة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبرته أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو رحم الله من قوم نوح أحدا لرحم أم الصبي» قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان نوح عليه‌السلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يعني وغرس مائة سنة الشجر فعظمت وذهبت كل مذهب ثم

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٤٨ ، ٤٩.

(٢) المسند ٢ / ٣٥٩ ، ٣٦٠.

(٣) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٠ ، باب ١ ، ومسلم في الصيام حديث ١٢٦.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ٤٨ ، ٤٩.

٢٨١

قطعها ثم جعلها سفينة ويمرون عليه ويسخرون منه ويقولون تعمل سفينة في البر فكيف تجري؟ قال سوف تعلمون فلما فرغ ونبع الماء وصار في السكك خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حبا شديدا فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه فلما بلغها الماء ارتفعت حتى بلغت ثلثيه فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها فغرقا ، فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي» وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، وقد روي عن كعب الأحبار ومجاهد بن جبير قصة هذا الصبي وأمه بنحو من هذا.

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ(٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٤٧)

هذا سؤال استعلام وكشف من نوح عليه‌السلام عن حال ولده الذي غرق قال (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) أي وقد وعدتني بنجاة أهلي ووعدك الحق الذي لا يخلف فكيف غرق وأنت أحكم الحاكمين (قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) أي الذين وعدت إنجاءهم لأني إنما وعدتك بنجاة من آمن من أهلك ، ولهذا قال : (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) فكان هذا الولد ممن سبق عليه القول بالغرق لكفره ومخالفته أباه نبي الله نوحا عليه‌السلام.

وقد نص غير واحد من الأئمة على تخطئة من ذهب في تفسير هذا إلى أنه ليس بابنه وإنما كان ابن زنية ، ويحكى القول بأنه ليس بابنه وإنما كان ابن امرأته عن مجاهد والحسن وعبيد بن عمير وأبي جعفر الباقر وابن جرير ، واحتج بعضهم بقوله : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) وبقوله : (فَخانَتاهُما) فممن قاله الحسن البصري احتج بهاتين الآيتين وبعضهم يقول ابن امرأته وهذا يحتمل أن يكون أراد ما أراد الحسن أو أراد أنه نسب إليه مجازا لكونه كان ربيبا عنده فالله أعلم. وقال ابن عباس وغير واحد من السلف : ما زنت امرأة نبي قط قال : وقوله : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) أي الذين وعدتك نجاتهم.

وقول ابن عباس في هذا هو الحق الذي لا محيد عنه فإن الله سبحانه أغير من أن يمكن امرأة نبي من الفاحشة ولهذا غضب الله على الذين رموا أم المؤمنين عائشة بنت الصديق زوج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنكر على المؤمنين الذين تكلموا بهذا وأشاعوه ولهذا قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ ـ إلى قوله ـ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) [النور : ١١ ـ ١٥].

وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة وغيره عن عكرمة عن ابن عباس قال : هو ابنه غير أنه خالفه في العمل والنية قال عكرمة في بعض الحروف إنه عمل عملا غير صالح ، والخيانة

٢٨٢

تكون على غير باب ، وقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ بذلك فقال الإمام أحمد (١) حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) وسمعته يقول : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) ولا يبالي (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وقال أحمد (٢) أيضا حدثنا وكيع حدثنا هارون النحوي عن ثابت البناني عن شهر بن حوشب عن أم سلمة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأها (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) أعاده أحمد (٣) أيضا في مسنده.

أم سلمة هي أم المؤمنين والظاهر والله أعلم أنها أسماء بنت يزيد فإنها تكنى بذلك أيضا (٤).

وقال عبد الرزاق أيضا أنبأنا الثوري عن ابن عيينة عن موسى بن أبي عائشة عن سليمان بن قبة قال سمعت ابن عباس سئل وهو إلى جنب الكعبة عن قول الله : (فَخانَتاهُما) قال : أما إنه لم يكن بالزنا ولكن كانت هذه تخبر الناس أنه مجنون ، وكانت هذه تدل على الأضياف ثم قرأ (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) قال ابن عيينة وأخبرني عمار الدهني أنه سأل سعيد بن جبير عن ذلك فقال: كان ابن نوح إن الله لا يكذب. قال تعالى : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) قال وقال بعض العلماء : ما فجرت امرأة نبي قط. وكذا روي عن مجاهد أيضا وعكرمة والضحاك وميمون بن مهران وثابت بن الحجاج وهو اختيار أبي جعفر بن جرير وهو الصواب الذي لا شك فيه.

(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤٨)

يخبر تعالى عما قيل لنوح عليه‌السلام حين أرست السفينة على الجودي من السلام عليه وعلى من معه من المؤمنين وعلى كل مؤمن من ذريته إلى يوم القيامة كما قال محمد بن كعب : دخل في هذا السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة وكذلك في العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة (٥).

وقال محمد بن إسحاق : لما أراد الله أن يكف الطوفان أرسل ريحا على وجه الأرض فسكن الماء وانسدت ينابيع الأرض الغمر الأكبر وأبواب السماء يقول الله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) الآية فجعل الماء ينقص ويغيض ويدبر وكان استواء الفلك على الجودي

__________________

(١) المسند ٦ / ٤٥٤.

(٢) المسند ٦ / ٢٩٤.

(٣) المسند ٦ / ٣٢٢.

(٤) انظر تفسير الطبري ٧ / ٥٣.

(٥) انظر تفسير الطبري ٧ / ٥٥.

٢٨٣

فيما يزعم أهل التوراة في الشهر السابع لسبع عشرة ليلة مضت منه في أول يوم من الشهر العاشر رأى رؤوس الجبال فلما مضى بعد ذلك أربعون يوما فتح نوح كوة الفلك التي ركب فيها ثم أرسل الغراب لينظر له ما صنع الماء فلم يرجع إليه فأرسل الحمامة فرجع إليه لم تجد لرجليها موضعا فبسط يده للحمامة فأخذها فأدخلها ثم مضى سبعة أيام ثم أرسلها لتنظر له فرجعت حين أمست وفي فيها ورق زيتون فعلم نوح أن الماء قد قل عن وجه الأرض ثم مكث سبعة أيام ثم أرسلها فلم ترجع فعلم نوح أن الأرض قد برزت فلما كملت السنة فيما بين أن أرسل الله الطوفان إلى أن أرسل نوح الحمامة ودخل يوم واحد من الشهر الأول من سنة اثنتين برز وجه الأرض وظهر البر وكشف نوح غطاء الفلك وفي الشهر الثاني من سنة اثنتين في ست وعشرين ليلة منه (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا) (١) الآية.

(تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (٤٩)

يقول تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه القصة وأشباهها : (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) يعني من أخبار الغيوب السالفة نوحيها إليك على وجهها كأنك شاهدها نوحيها إليك أي نعلمك بها وحيا منا إليك (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) أي لم يكن عندك ولا عند أحد من قومك علم بها حتى يقول من يكذبك إنك تعلمتها منه بل أخبرك الله بها مطابقة لما كان عليه الأمر الصحيح كما تشهد به كتب الأنبياء قبلك فاصبر على تكذيب من كذبك من قومك وأذاهم لك فإنا سننصرك ونحوطك بعنايتنا ونجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة كما فعلنا بالمرسلين حيث نصرناهم على أعدائهم (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) [غافر : ٥١] الآية وقال تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) [الصافات : ١٧١ ـ ١٧٢] الآية وقال تعالى : (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [هود : ٤٩].

وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) (٥٢)

يقول تعالى (وَ) لقد أرسلنا (إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) آمرا لهم بعبادة الله وحده لا شريك له ناهيا لهم عن الأوثان التي افتروها واختلقوا لها أسماء الآلهة وأخبرهم أنه لا يريد منهم أجرة على هذا النصح والبلاغ من الله إنما يبغي ثوابه من الله الذي فطره أفلا تعقلون من يدعوكم إلى

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧.

٢٨٤

ما يصلحكم في الدنيا والآخرة من غير أجرة ثم أمرهم بالاستغفار الذي فيه تكفير الذنوب السالفة وبالتوبة عما يستقبلون ، ومن اتصف بهذه الصفة يسر الله عليه رزقه وسهل عليه أمره وحفظ شأنه ولهذا قال : (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) [هود : ٥٢ ونوح : ١١] وفي الحديث «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب»(١).

(قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ(٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥٦)

يخبر تعالى أنهم قالوا لنبيهم (ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) أي بحجة وبرهان على ما تدعيه (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ) أي بمجرد قولك اتركوهم نتركهم (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) بمصدقين (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) يقولون : ما نظن إلا أن بعض الآلهة أصابك بجنون وخبل في عقلك بسبب نهيك عن عبادتها وعيبك لها (قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ) يقول : إني بريء من جميع الأنداد والأصنام (فَكِيدُونِي جَمِيعاً) أي أنتم وآلهتكم إن كانت حقا (ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) أي طرفة عين وقوله : (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) أي تحت قهره وسلطانه وهو الحاكم العادل الذي لا يجور في حكمه فإنه على صراط مستقيم.

قال الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو عن أيفع بن عبد الكلاعي أنه قال في قوله تعالى: (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) قال : فيأخذ بنواصي عباده فيلقن المؤمن حتى يكون له أشفق من الوالد لولده ويقول : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) وقد تضمن هذا المقام حجة بالغة ودلالة قاطعة على صدق ما جاءهم به وبطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر بل هي جماد لا تسمع ولا تبصر ولا توالي ولا تعادي وإنما يستحق إخلاص العبادة الله وحده لا شريك له الذي بيده الملك وله التصرف وما من شيء إلا تحت ملكه وقهره وسلطانه فلا إله إلا هو ولا رب سواه.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) (٦٠)

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الوتر باب ٢٦ ، وابن ماجة في الأدب باب ٥٧ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٤٨.

٢٨٥

يقول لهم هود : فإن تولوا عما جئتكم به من عبادة الله ربكم وحده لا شريك له فقد قامت عليكم الحجة بإبلاغي إياكم رسالة الله التي بعثني بها (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) يعبدونه وحده لا يشركون به ولا يبالي بكم فإنكم لا تضرونه بكفركم بل يعود وبال ذلك عليكم (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) أي شاهد وحافظ لأقوال عباده وأفعالهم ويجزيهم عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) وهو الريح العقيم فأهلكهم الله عن آخرهم ونجى هودا وأتباعه من عذاب غليظ برحمته تعالى ولطفه.

(وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) كفروا بها وعصوا رسل الله وذلك أن من كفر بنبي فقد كفر بجميع الأنبياء لأنه لا فرق بين أحد منهم في وجوب الإيمان به فعاد كفروا بهود فنزل كفرهم منزلة من كفر بجميع الرسل (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) تركوا اتباع رسولهم الرشيد؟ واتبعوا أمر كل جبار عنيد ، فلهذا أتبعوا في الدنيا لعنة من الله ومن عباده المؤمنين كلما ذكروا وينادى عليهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) الآية قال السدي : ما بعث نبي بعد عاد إلا لعنوا على لسانه.

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) (٦١)

يقول تعالى : (وَ) لقد أرسلنا (إِلى ثَمُودَ) وهم الذين كانوا يسكنون مدائن الحجر بين تبوك والمدينة وكانوا بعد عاد فبعث الله منهم (أَخاهُمْ صالِحاً) فأمرهم بعبادة الله وحده ولهذا قال : (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي ابتدأ خلقكم منها خلق منها أباكم آدم (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) أي جعلكم عمارا تعمرونها وتستغلونها (فَاسْتَغْفِرُوهُ) لسالف ذنوبكم (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) فيما تستقبلونه (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) كما قال تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة : ١٨٦] الآية.

(قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) (٦٣)

يذكر تعالى ما كان من الكلام بين صالح عليه‌السلام وبين قومه وما كان من الجهل والعناد في قولهم (قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) أي كنا نرجوك في عقلك قبل أن تقول ما قلت (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) وما كان عليه أسلافنا (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) أي شك كثير (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) فيما أرسلني به إليكم على يقين وبرهان (وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ) وتركت دعوتكم إلى الحق

٢٨٦

وعبادة الله وحده ، فلو تركته لما نفعتموني ولما زدتموني (غَيْرَ تَخْسِيرٍ) أي خسارة.

(وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) (٦٨)

تقدم الكلام على هذه القصة مستوفى في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته هاهنا وبالله التوفيق.

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ(٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) (٧٣)

يقول تعالى : (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا) وهم الملائكة إبراهيم بالبشرى قيل تبشره بإسحاق وقيل بهلاك قوم لوط ويشهد للأول قوله تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٤] (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) أي عليكم قال علماء البيان : هذا أحسن مما حيوه به لأن الرفع يدل على الثبوت والدوام (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) أي ذهب سريعا فأتاهم بالضيافة وهو عجل فتى البقر ، حنيذ : مشوي على الرضف وهي الحجارة المحماة. هذا معنى ما روي عن ابن عباس وقتادة وغير واحد كما قال في الآية الأخرى (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ) [الذاريات : ٢٦ ـ ٢٧] وقد تضمنت هذه الآية آداب الضيافة من وجوه كثيرة.

وقوله : (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ) تنكرهم (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) وذلك أن الملائكة لا همة لهم إلى الطعام ولا يشتهونه ولا يأكلونه فلهذا رأى حالهم معرضين عما جاءهم به فارغين عنه بالكلية فعند ذلك نكرهم (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً).

قال السدي : لما بعث الله الملائكة لقوم لوط أقبلت تمشي في صور رجال شبان حتى نزلوا على إبراهيم فتضيفوه ، فلما رآهم أجلهم (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) فذبحه ثم شواه في الرضف وأتاهم به فقعد معهم وقامت سارة تخدمهم فذلك حين يقول ـ وامرأته قائمة وهو جالس ـ في قراءة ابن مسعود فلما فقربه (إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ) قالوا : يا إبراهيم إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن ، قال فإن لهذا ثمنا ، قالوا : وما ثمنه؟ قال تذكرون اسم الله على أوله

٢٨٧

وتحمدونه على آخره فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال حق لهذا أن يتخذه ربه خليلا (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ) يقول فلما رآهم لا يأكلون فزع منهم وأوجس منهم خيفة ، فلما نظرت سارة أنه قد أكرمهم وقامت هي تخدمهم ضحكت وقالت : عجبا لأضيافنا هؤلاء نخدمهم بأنفسنا كرامة لهم وهم لا يأكلون طعامنا (١).

وقال ابن حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا نصر بن علي حدثنا نوح بن قيس عن عثمان بن محصن في ضيف إبراهيم قال كانوا أربعة : جبريل وميكائيل وإسرافيل ورفائيل. قال نوح بن قيس فزعم نوح بن أبي شداد أنهم لما دخلوا على إبراهيم فقرب إليهم العجل مسحه جبريل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه وأم العجل في الدار ، وقوله تعالى إخبارا عن الملائكة : (قالُوا لا تَخَفْ) أي قالوا لا تخف منا إنا ملائكة أرسلنا إلى قوم لوط لنهلكهم ، فضحكت سارة استبشارا بهلاكهم لكثرة فسادهم وغلظ كفرهم فلهذا جوزيت. بالبشارة بالولد بعد الإياس ، وقال قتادة ضحكت وعجبت أن قوما يأتيهم العذاب وهم في غفلة (٢).

وقوله : (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) قال العوفي عن ابن عباس فضحكت أي حاضت ، وقول محمد بن قيس : إنها إنما ضحكت من أنها ظنت أنهم يريدون أن يعملوا كما يعمل قوم لوط. وقول الكلبي : إنها إنما ضحكت لما رأت من الروع بإبراهيم ضعيفان ووجدا وإن كان ابن جرير قد رواهما بسنده إليهما فلا يلتفت إلى ذلك والله أعلم.

وقال وهب بن منبه : إنما ضحكت لما بشرت بإسحاق وهذا مخالف لهذا السياق فإن البشارة صريحة مرتبة على ضحكها (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) أي بولد لها يكون له ولد وعقب ونسل فإن يعقوب ولد إسحاق كما قال في آية البقرة (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٣].

ومن هاهنا استدل من استدل بهذه الآية على أن الذبيح إنما هو إسماعيل ، وأنه يمتنع أن يكون هو إسحاق لأنه وقعت البشارة به وأنه سيولد له يعقوب فكيف يؤمر إبراهيم بذبحه وهو طفل صغير ولم يولد له بعد يعقوب الموعود بوجوده ووعد الله حق لا خلف فيه فيمتنع أن يؤمر بذبح هذا والحالة هذه ، فتعين أن يكون إسماعيل وهذا من أحسن الاستدلال وأصحه وأبينه ولله الحمد (قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) الآية حكي قولها في هذه الآية كما حكي فعلها في الآية الأخرى فإنها (قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) وفي الذاريات (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) [الذاريات : ٢٩] كما جرت به

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٧٠ ، ٧١.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٧١.

٢٨٨

عادة النساء في أقوالهن وأفعالهن عند التعجب (قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي قالت الملائكة لها لا تعجبي من أمر الله فإنه إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. فلا تعجبي من هذا وإن كنت عجوزا عقيما وبعلك شيخا كبيرا فإن الله على ما يشاء قدير.

(رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) أي هو الحميد في جميع أفعاله وأقواله محمود ممجد في صفاته وذاته ، ولهذا ثبت في الصحيحين أنهم قالوا : قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك يا رسول الله؟ «قال قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد» (١).

(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (٧٦)

يخبر تعالى عن إبراهيم عليه‌السلام أنه لما ذهب عنه الروع وهو ما أوجس من الملائكة خيفة حين لم يأكلوا وبشروه بعد ذلك بالولد وأخبروه بهلاك قوم لوط أخذ يقول كما قال سعيد بن جبير في الآية قال : لما جاءه جبريل ومن معه قالوا له : (إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) قال لهم : أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن؟ قالوا : لا ، قال : أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن؟ قالوا : لا ، قال أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنا؟ قالوا : لا ، قال ثلاثون؟ قالوا : لا ، حتى بلغ خمسة قالوا: لا ، قال : أرأيتكم إن كان فيها رجل مسلم واحد أتهلكونها؟ قالوا : لا ، فقال إبراهيمعليه‌السلام عند ذلك : (إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ) [العنكبوت : ٣٢] الآية. فسكت عنهم واطمأنت نفسه (٢).

وقال قتادة وغيره قريبا من هذا زاد ابن إسحاق أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد؟ قالوا : لا ، قال : فإن كان فيها لوط يدفع به عنهم العذاب قالوا : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) [العنكبوت: ٣٢] الآية ، وقوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) مدح لإبراهيم بهذه الصفات الجميلة ، وقد تقدم تفسيرها ، وقوله تعالى : (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) الآية ، أي أنه قد نفذ فيهم القضاء وحقت عليهم الكلمة بالهلاك وحلول البأس الذي لا يرد عن القوم المجرمين.

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) (٧٩)

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ١٠ ، ومسلم في الصلاة حديث ٦٥ ، ٦٦ ، ٦٩.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٧٧.

٢٨٩

يخبر تعالى عن قدوم رسله من الملائكة بعد ما أعلموا إبراهيم بهلاكهم وفارقوه وأخبروه بإهلاك الله قوم لوط هذه الليلة فانطلقوا من عنده فأتوا لوطا عليه‌السلام وهو على ما قيل في أرض له وقيل في منزله ووردوا عليه وهم في أجمل صورة تكون على هيئة شبان حسان الوجوه ابتلاء من الله وله الحكمة والحجة البالغة فساءه شأنهم وضاقت نفسه بسببهم وخشي إن لم يضيفهم أن يضيفهم أحد من قومه فينالهم بسوء (وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) قال ابن عباس وغير واحد : شديد بلاؤه (١) وذلك أنه علم أنه سيدافع عنهم ويشق عليه ذلك.

وذكر قتادة أنهم أتوه وهو في أرض له فتضيفوه فاستحيا منهم فانطلق أمامهم وقال لهم في أثناء الطريق كالمعرض لهم بأن ينصرفوا عنه : إنه والله يا هؤلاء ما أعلم على وجه الأرض أهل بلد أخبث من هؤلاء. ثم مشى قليلا ثم أعاد ذلك عليهم حتى كرره أربع مرات ، قال قتادة وقد كانوا أمروا أن لا يهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيهم بذلك (٢).

وقال السدي خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط فبلغوا نهر سدوم نصف النهار ولقوا بنت لوط تستقي فقالوا يا جارية هل من منزل؟ فقالت مكانكم حتى آتيكم وفرقت (٣) عليهم من قومها فأتت أباها فقالت يا أبتاه أدرك فتيانا على باب المدينة ما رأيت وجوه قوم أحسن منهم لا يأخذهم قومك وكان قومه نهوه أن يضيف رجلا فقالوا خل عنا فلنضيف الرجال فجاء بهم فلم يعلم بهم أحد إلا أهل بيته فخرجت امرأته فأخبرت قومها فجاؤوا يهرعون إليه (٤).

وقوله : (يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) أي يسرعون ويهرولون من فرحهم بذلك وقوله : (وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أي لم يزل هذا من سجيتهم حتى أخذوا وهم على ذلك الحال وقوله : (قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) يرشدهم إلى نسائهم فإن النبي للأمة بمنزلة الوالد فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم في الدنيا والآخرة كما قال لهم في الآية الأخرى : (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) [الشعراء : ١٦٥ ـ ١٦٦] وقوله في الآية الأخرى : (قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) أي ألم ننهك عن ضيافة الرجال (قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الحجر : ٧١ ـ ٧٢] وقال في هذه الآية الكريمة : (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) قال مجاهد لم يكن بناته ولكن كن من أمته وكل نبي أبو أمته (٥) وكذا روي عن قتادة وغير واحد.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٨١.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٨٠.

(٣) فرقت عليهم : أي خافت عليهم.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ٨٠.

(٥) تفسير الطبري ٧ / ٨٢.

٢٩٠

وقال ابن جريج : أمرهم أن يتزوجوا النساء ولم يعرض عليهم سفاحا (١) ، وقال سعيد بن جبير : يعني نساءهم هن بناته وهو أب لهم ويقال في بعض القراءات النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم [الأحزاب : ٦] وكذا روي عن الربيع بن أنس وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق وغيرهم وقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) أي اقبلوا ما آمركم به من الاقتصار على نسائكم (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) أي فيه خير يقبل ما آمره به ويترك ما أنهاه عنه (قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) أي إنك لتعلم أن نساءنا لا أرب لنا فيهن ولا نشتهيهن (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) أي ليس لنا غرض إلا في الذكور وأنت تعلم ذلك فأي حاجة في تكرار القول علينا في ذلك؟ قال السدي (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) إنما نريد الرجال (٢).

(قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) (٨١)

يقول تعالى مخبرا عن نبيه لوط عليه‌السلام إن لوطا توعدهم بقوله : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) الآية أي لكنت نكلت بكم وفعلت بكم الأفاعيل بنفسي وعشيرتي ، ولهذا ورد في الحديث من طريق محمد بن عمرو بن علقمة بن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد ـ يعني الله عزوجل ـ فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة (٣) من قومه» (٤) فعند ذلك أخبرته الملائكة أنهم رسل الله إليهم وأنهم لا وصول لهم إليه.

(قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) وأمروه أن يسري بأهله من آخر الليل وأن يتبع أدبارهم أي يكون ساقة لأهله (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) أي إذا سمعت ما نزل بهم ولا تهولنكم تلك الأصوات المزعجة ولكن استمروا ذاهبين (إِلَّا امْرَأَتَكَ) قال الأكثرون هو استثناء من المثبت وهو قوله : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) تقديره (إِلَّا امْرَأَتَكَ) وكذلك قرأها ابن مسعود ، ونصب هؤلاء امرأتك لأنه من مثبت فوجب نصبه عندهم ، وقال آخرون من القراء والنحاة هو استثناء من قوله (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ) فجوزوا الرفع والنصب.

وذكر هؤلاء أنها خرجت معهم وأنها لما سمعت الوجبة (٥) التفتت وقالت : وا قوماه فجاءها

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٨٣.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٨٤.

(٣) في ثروة من قومه : أي في عدد كثير من قومه.

(٤) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ١٢ ، باب ٢ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٣٢ ، ٣٨٤.

(٥) الوجبة : الرجفة.

٢٩١

حجر من السماء فقتلها ثم قربوا له هلاك قومه تبشيرا له لأنه قال لهم أهلكوهم الساعة فقالوا (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) هذا وقوم لوط وقوف على الباب عكوف قد جاءوا يهرعون إليه من كل جانب ولوط واقف على الباب يدافعهم ويردعهم وينهاهم عما هم فيه وهم لا يقبلون منه بل يتوعدونه ويتهددونه فعند ذلك خرج عليهم جبريل عليه‌السلام فضرب وجوههم بجناحه فطمس أعينهم فرجعوا وهم لا يهتدون الطريق كما قال تعالى : (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) [القمر : ٣٧] الآية.

وقال معمر عن قتادة عن حذيفة بن اليمان قال : كان إبراهيم عليه‌السلام يأتي قوم لوط فيقول أنهاكم الله أن تعرضوا لعقوبته فلم يطيعوه حتى إذا بلغ الكتاب أجله انتهت الملائكة إلى لوط وهو يعمل في أرض له فدعاهم إلى الضيافة فقالوا إنا ضيوفك الليلة وكان الله قد عهد إلى جبريل ألا يعذبهم حتى يشهد عليهم لوط ثلاث شهادات فلما توجه بهم لوط إلى الضيافة ذكر ما يعمل قومه من الشر فمشى معهم ساعة ثم التفت إليهم فقال أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ ما أعلم على وجه الأرض شرا منهم أين أذهب بكم؟ إلى قومي وهم أشر خلق الله ، فالتفت جبريل إلى الملائكة فقال احفظوها هذه واحدة ثم مشى معهم ساعة فلما توسط القرية. وأشفق عليهم واستحيا منهم قال أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ ما أعلم على وجه الأرض أشر منهم إن قومي أشر خلق الله فالتفت جبريل إلى الملائكة فقال احفظوها هاتان اثنتان ، فلما انتهى إلى باب الدار بكى حياء منهم وشفقة عليهم فقال : إن قومي أشر خلق الله؟ أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ ما أعلم على وجه الأرض أهل قرية شرا منهم.

فقال جبريل للملائكة احفظوا هذه ثلاث قد حق العذاب فلما دخلوا ذهبت عجوز السوء فصعدت فلوحت بثوبها فأتاها الفساق يهرعون سراعا قالوا ما عندك؟ قالت ضيف لوط قوما ما رأيت قط أحسن وجوها منهم ولا أطيب ريحا منهم فهرعوا يسارعون إلى الباب فعالجهم لوط على الباب فدافعوه طويلا وهو داخل وهم خارج يناشدهم الله ويقول : (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) فقام الملك فلز بالباب ـ يقول فشده ـ واستأذن جبريل في عقوبتهم فأذن الله له فقام في الصورة التي يكون فيها في السماء ، فنشر جناحه ـ ولجبريل جناحان ـ وعليه وشاح من در منظوم وهو براق الثنايا أجلى الجبين ورأسه حبك حبك مثل المرجان (١) وهو اللؤلؤ كأنه الثلج ورجلاه إلى الخضرة فقال : يا لوط (إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) امض يا لوط عن الباب ودعني وإياهم ، فتنحى لوط عن الباب فخرج إليهم فنشر جناحه فضرب به وجوههم شدخ أعينهم فصاروا عميا لا يعرفون الطريق ، ثم أمر لوطا فاحتمل بأهله في ليلته قال : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) (٢) وروي عن محمد بن كعب وقتادة والسدي نحو هذا.

__________________

(١) أي شعرة جعد متكسر.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٩٠.

٢٩٢

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (٨٣)

يقول تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) وكان ذلك عند طلوع الشمس (جَعَلْنا عالِيَها) وهي سدوم (سافِلَها) كقوله : (فَغَشَّاها ما غَشَّى) [النجم : ٥٤] أي أمطرنا عليها حجارة من سجيل وهي بالفارسية حجارة من طين قاله ابن عباس وغيره وقال بعضهم أي من سنك وهو الحجر وكل وهو الطين وقد قال في الآية الأخرى (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) [الذاريات : ٢٣] أي مستحجرة قوية شديدة ، وقال بعضهم مشوية ، وقال البخاري (١) سجيل : الشديد الكبير ، سجيل وسجين اللام والنون أختان ، وقال تميم بن مقبل : [البسيط]

ورجلة يضربون البيض صاحبة

ضربا تواصت به الأبطال سجّينا (٢)

وقوله : (مَنْضُودٍ) قال بعضهم : في السماء أي معدة لذلك وقال آخرون : (مَنْضُودٍ) أي يتبع بعضها بعضا في نزولها عليهم وقوله : (مُسَوَّمَةً) أي معلمة مختومة عليها أسماء أصحابها كل حجر مكتوب عليه اسم الذي ينزل عليه وقال قتادة وعكرمة : (مُسَوَّمَةً) مطوقة بها نضح من حمرة وذكروا أنها نزلت على أهل البلد وعلى المتفرقين في القرى مما حولها فبينا أحدهم يكون عند الناس يتحدث إذ جاءه حجر من السماء فسقط عليه من بين الناس فدمره فتتبعهم الحجارة من سائر البلاد حتى أهلكتهم عن آخرهم فلم يبق منهم أحد.

وقال مجاهد : أخذ جبريل قوم لوط من سرحهم ودورهم حملهم بمواشيهم وأمتعتهم ورفعهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ثم أكفأهم ، وكان حملهم على حوافي جناحه الأيمن قال ولما قلبها كان أول ما سقط منها شرفاتها ، وقال قتادة بلغنا أن جبريل أخذ بعروة القرية الوسطى ثم ألوى (٣) بها إلى جو السماء حتى سمع أهل السماء ضواغي كلابهم (٤) ثم دمر بعضهم على بعض ثم أتبع شذاذ القوم صخرا قال وذكر لنا أنهم كانوا أربع قرى في كل قرية مائة ألف وفي رواية ثلاث قرى الكبرى منها سدوم ، قال وبلغنا أن إبراهيم عليه‌السلام كان يشرف

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١١ ، باب ٢.

(٢) يروى صدر البيت :

ورجلة يضربون البيض عن عرض

وهو لابن مقبل في ديوانه ص ٣٣٣ ، ولسان العرب (رجل) ، (سجل) ، (سجن) ، (سخن) ، وتهذيب اللغة ١٠ / ٥٨٦ ، ٥٩٥ ، ١١ / ٢٩ ، وجمهرة اللغة ص ٤٦٤ ، ١١٩٢ ، ومقاييس اللغة ٣ / ١٣٧ ، ومجمل اللغة ٣ / ١٢٢ ، وتاج العروس (رجل) ، (سجل) ، (سجن) ، وبلا نسبة في ديوان الأدب ١ / ٣٤١ ، وتفسير الطبري ٧ / ٩٢ (الشطر الثاني فقط)

(٣) ألوى بها إلى جو السماء : أي أخذها وطار بها.

(٤) ضواغي كلابهم : أي صوت كلابهم ، أو نباح كلابهم.

٢٩٣

على سدوم ويقول : سدوم يوم هالك (١).

وفي رواية عن قتادة وغيره قال وبلغنا أن جبريل عليه‌السلام لما أصبح نشر جناحه فانتسف بها أرضهم بما فيها من قصورها ودوابها وحجارتها وشجرها وجميع ما فيها فضمها في جناحه فحواها وطواها في جوف جناحه ثم صعد بها إلى السماء الدنيا حتى سمع سكان السماء أصوات الناس والكلاب وكانوا أربعة آلاف ثم قلبها فأرسلها إلى الأرض منكوسة ودمدم بعضها على بعض فجعل عاليها سافلها ثم أتبعها حجارة من سجيل (٢).

وقال محمد بن كعب القرظي : كانت قرى قوم لوط خمس قريات سدوم وهي العظمى وصعبة وصعود وغمة ودوما احتملها جبريل بجناحه ثم صعد بها حتى إن أهل السماء الدنيا ليسمعون نابحة كلابها وأصوات دجاجها ثم كفأها على وجهها ثم أتبعها الله بالحجارة ، يقول الله تعالى : (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) فأهلكها الله وما حولها من المؤتفكات ، وقال السدي : لما أصبح قوم لوط نزل جبريل فاقتلع الأرض من سبع أرضين فحملها حتى بلغ بها السماء حتى سمع أهل السماء الدنيا نباح كلابهم وأصوات ديوكهم ثم قلبها فقتلهم فذلك قوله : (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) ومن لم يمت حتى سقط للأرض أمطر الله عليه وهو تحت الأرض الحجارة ومن كان منهم شاذا في الأرض يتبعهم في القرى فكان الرجل يتحدث فيأتيه الحجر فيقتله فذلك قوله عزوجل : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ) أي في القرى حجارة من سجيل هكذا قال السدي.

وقوله : (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) أي وما هذه النقمة ممن تشبه بهم في ظلمهم ببعيد عنه ، وقد ورد في الحديث المروي في السنن عن ابن عباس مرفوعا «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (٣).

وذهب الإمام الشافعي في قول عنه وجماعة من العلماء إلى أن اللائط يقتل سواء كان محصنا أو غير محصن عملا بهذا الحديث ، وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه يلقى من شاهق ويتبع بالحجارة كما فعل الله بقوم لوط والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) (٨٤)

يقول تعالى ولقد أرسلنا إلى مدين وهم قبيلة من العرب كانوا يسكنون بين الحجاز والشام قريبا من معان. بلادا تعرف بهم يقال لها مدين فأرسل الله إليهم شعيبا وكان من أشرفهم نسبا ،

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٩٦ ، وفيه : سدوم ـ يوم مالك ، بدل : سدوم يوم هالك.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٩٦.

(٣) أخرجه الترمذي في الحدود باب ٢٤ ، وابن ماجة في الحدود باب ١٢.

٢٩٤

ولهذا قال : (أَخاهُمْ شُعَيْباً) يأمرهم بعبادة الله تعالى وحده لا شريك له وينهاهم عن التطفيف في المكيال والميزان (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) أي في معيشتكم ورزقكم وإني أخاف أن تسلبوا ما أنتم فيه بانتهاككم محارم الله (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) أي في الدار الآخرة.

(وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (٨٦)

ينهاهم أولا عن نقص المكيال والميزان إذا أعطوا الناس ، ثم أمرهم بوفاء الكيل والوزن بالقسط آخذين ومعطين ونهاهم عن العثو في الأرض بالفساد وقد كانوا يقطعون الطريق ، وقوله : (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ) قال ابن عباس : رزق الله خير لكم وقال الحسن رزق الله خير لكم من بخسكم الناس ، وقال الربيع بن أنس وصية الله خير لكم ، وقال مجاهد : طاعة الله وقال : قتادة حظكم من الله خير لكم ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الهلاك في العذاب والبقية في الرحمة.

وقال أبو جعفر بن جرير (١) (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ) أي ما يفضل لكم من الريح بعد وفاء الكيل والميزان خير لكم من أخذ أموال الناس قال وقد روي هذا عن ابن عباس قلت ويشبه قوله تعالى : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) [المائدة : ١٠٠] الآية ، وقوله : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي برقيب ولا حفيظ أي افعلوا ذلك لله عزوجل لا تفعلوه ليراكم الناس بل لله عزوجل.

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) (٨٧)

يقولون له على سبيل التهكم قبحهم الله (أَصَلاتُكَ) قال الأعمش أي قراءتك (تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) أي الأوثان والأصنام (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) فنترك التطفيف على قولك وهي أموالنا نفعل فيها ما نريد ، قال الحسن في قوله : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) أي والله إن صلاته لتأمرهم أن يتركوا ما كان يعبد آباؤهم ، وقال الثوري في قوله : (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) يعنون الزكاة (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) قال ابن عباس وميمون بن مهران وابن جريج وابن أسلم وابن جرير يقولون ذلك أعداء الله على سبيل الاستهزاء قبحهم الله ولعنهم عن رحمته وقد فعل.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٩٨ ، ٩٩.

٢٩٥

أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (٨٨)

يقول لهم هل رأيتم يا قوم إن كنت (عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي على بصيرة فيما أدعو إليه (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) قيل أراد النبوة وقيل أراد الرزق الحلال ويحتمل الأمرين ، وقال الثوري (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) أي لا أنهاكم عن الشيء وأخالف أنا في السر فأفعله خفية عنكم كما قال قتادة في قوله (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) يقول : لم أكن أنهاكم عن أمر وأرتكبه (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) أي فيما آمركم وأنهاكم إنما أريد إصلاحكم جهدي وطاقتي (وَما تَوْفِيقِي) أي في إصابة الحق فيما أريده (إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في جميع أموري (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي أرجع قاله مجاهد وغيره.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة حدثنا أبو قزعة سويد بن حجير الباهلي عن حكيم بن معاوية عن أبيه أن أخاه مالكا : قال يا معاوية إن محمدا أخذ جيراني فانطلق إليه فإنه قد كلمك وعرفك فانطلقت معه فقال : دع لي جيراني فقد كانوا أسلموا فأعرض عنه فقام مغضبا فقال : أما والله لئن فعلت إن الناس يزعمون أنك لتأمرنا بالأمر وتخالف إلى غيره وجعلت أجره وهو يتكلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما تقول؟» فقال : إنك والله لئن فعلت ذلك إن الناس ليزعمون أنك لتأمر بالأمر وتخالف إلى غيره. قال : فقال «أو قد قالوها ـ أي قائلهم ـ ولئن فعلت ما ذاك إلا عليّ وما عليهم من ذلك من شيء أرسلوا له جيرانه».

وقال أيضا (٢) : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : أخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناسا من قومي في تهمة فحبسهم فجاء رجل من قومي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يخطب فقال : يا محمد علام تحبس جيراني؟ فصمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن ناسا ليقولون إنك تنهى عن الشيء وتستخلي به فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما تقول؟» قال : فجعلت أعرض بينهما كلاما مخافة أن يسمعها فيدعو على قومي دعوة لا يفلحون بعدها أبدا فلم يزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى فهمها فقال : «قد قالوها أو قائلها منهم والله لو فعلت لكان عليّ وما كان عليهم خلوا عن جيرانه».

ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الإمام أحمد (٣) حدثنا أبو عامر حدثنا سليمان بن بلال عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاري قال سمعت أبا حميد وأبا أسيد يقولون عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه قال : «إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم ، وتلين له أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به ، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه» إسناده صحيح.

__________________

(١) المسند ٤ / ٤٤٧.

(٢) المسند ٥ / ٢.

(٣) المسند ٣ / ٤٩٧ ، ٥ / ٤٢٥.

٢٩٦

وقد أخرج مسلم بهذا السند حديث «إذا دخل أحدكم المسجد فليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج فليقل اللهم إني أسألك من فضلك» (١) ومعناه والله أعلم مهما بلغكم عني من خير فأنا أولاكم به. ومهما يكن من مكروه فأنا أبعدكم منه (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) وقال قتادة عن عزرة عن الحسن العرني عن يحيى بن الجزار عن مسروق قال : جاءت امرأة إلى ابن مسعود فقالت أتنهى عن الواصلة (٢)؟ قال نعم ، قالت : فعله بعض نسائك ، فقال ما حفظت وصية العبد الصالح إذا (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) وقال عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن أبي سليمان العتبي قال : كانت تجيئنا كتب عمر بن عبد العزيز فيها الأمر والنهي فيكتب في آخرها وما كنت من ذلك إلا كما قال العبد الصالح : (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).

(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) (٩٠)

يقول لهم (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي) أي لا تحملنكم عداوتي وبغضي على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر والفساد فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط من النقمة والعذاب وقال قتادة (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي) يقول : لا يحملنكم فراقي ، وقال السدي عداوتي ، على أن تمادوا في الضلال والكفر فيصيبكم من العذاب ما أصابهم.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف الحمصي حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج حدثنا ابن أبي غنية حدثني عبد الملك بن أبي سليمان عن ابن أبي ليلى الكندي قال : كنت مع مولاي أمسك دابته وقد أحاط الناس بعثمان بن عفان إذ أشرف علينا من داره فقال : (يا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) يا قوم لا تقتلوني إنكم إن قتلتموني كنتم هكذا وشبك بين أصابعه ، وقوله : (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) قيل المراد في الزمان ، قال قتادة : يعني إنما هلكوا بين أيديكم بالأمس ، وقيل في المكان ويحتمل الأمران (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) من سالف الذنوب (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) فيما تستقبلونه من الأعمال السيئة وقوله : (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) أي لمن تاب وأناب.

(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي

__________________

(١) أخرجه مسلم في المسافرين حديث ٦٨.

(٢) الواصلة : التي تصل شعرها بشعر آخر زور.

٢٩٧

بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (٩٢)

يقولون (يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ) ما نفهم (كَثِيراً) من قولك (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) قال سعيد بن جبير والثوري وكان ضرير البصر ، وقال الثوري كان يقال له خطيب الأنبياء ، قال السدي (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) قال : أنت واحد ، وقال أبو روق : يعنون ذليلا لأن عشيرتك ليسوا على دينك (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) أي قومك لولا معزتهم علينا لرجمناك قيل بالحجارة وقيل لسببناك (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) أي ليس عندنا لك معزة (قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) يقول : أتتركوني لأجل قومي ولا تتركوني إعظاما لجناب الرب تبارك وتعالى أن تنالوا نبيه بمساءة وقد اتخذتم كتاب الله (وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) أي نبذتموه خلفكم لا تطيعونه ولا تعظمونه (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي هو يعلم جميع أعمالكم وسيجزيكم بها.

(وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) (٩٥)

لما يئس نبي الله شعيب من استجابتهم له قال يا قوم (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي طريقتكم وهذا تهديد شديد (إِنِّي عامِلٌ) على طريقتي (سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) أي مني ومنكم (وَارْتَقِبُوا) أي انتظروا (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) قال الله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) وقوله جاثمين أي هامدين لا حراك بهم. وذكر هاهنا أنه أتتهم صيحة ، وفي الأعراف رجفة وفي الشعراء عذاب يوم الظلة وهم أمة واحدة اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقم كلها ، وإنما ذكر في كل سياق ما يناسبه ففي الأعراف لما قالوا (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) [الأعراف : ٨٨] ناسب أن يذكر الرجفة الرجفة فرجفت بهم الأرض التي ظلموا بها وأرادوا إخراج نبيهم منها.

وهاهنا لما أساؤوا الأدب في مقالتهم على نبيهم ذكر الصيحة التي استلبثتهم وأخمدتهم ، وفي الشعراء لما قالوا (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الشعراء : ١٨٧] قال (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الشعراء : ١٨٩] وهذا من الأسرار الدقيقة ولله الحمد والمنة كثيرا دائما ، وقوله : (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) أي يعيشوا في دارهم قبل ذلك (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) وكانوا جيرانهم قريبا منهم في الدار وشبيها بهم في الكفر وقطع الطريق وكانوا عربا مثلهم.

٢٩٨

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) (٩٩)

يقول تعالى مخبرا عن إرسال موسى بآياته ودلالاته الباهرة إلى فرعون ملك القبط وملئه (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) أي منهجه ومسلكه وطريقته في الغي (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) أي ليس فيه رشد ولا هدى. وإنما هو جهل وضلال وكفر وعناد ، وكما أنهم اتبعوه في الدنيا وكان مقدمهم ورئيسهم كذلك هو يقدمهم يوم القيامة إلى نار جهنم فأوردهم إياها وشربوا من حياض رداها ، وله في ذلك الحظ الأوفر ، من العذاب الأكبر ، كما قال تعالى : (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) [المزمل : ١٦] وقال تعالى : (فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) [النازعات : ٢١ ـ ٢٦].

وقال تعالى : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) وكذلك شأن المتبوعين يكونون موفورين في العذاب يوم القيامة كما قال تعالى : (لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٣٨] وقال تعالى إخبارا عن الكفرة أنهم يقولون في النار : (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) [الأحزاب : ٦٧] الآية.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا هشيم حدثنا أبو الجهم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «امرؤ القيس حامل لواء شعراء الجاهلية إلى النار» وقوله : (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) الآية ، أي أتبعناهم زيادة على عذاب النار لعنة في الدنيا (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) قال مجاهد : زيدوا لعنة يوم القيامة فتلك لعنتان ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) قال : لعنة الدنيا والآخرة وكذا قال الضحاك وقتادة وهو كقوله (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) [القصص : ٤٢] وقال تعالى (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر : ٤٦].

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) (١٠١)

لما ذكر تعالى خبر الأنبياء وما جرى لهم مع أممهم وكيف أهلك الكافرين ونجى المؤمنين قال: (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى) أي أخبارهم (نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ) أي عامر (وَحَصِيدٌ) أي

__________________

(١) المسند ٢ / ٢٢٨.

٢٩٩

هالك (وَما ظَلَمْناهُمْ) أي إذ أهلكناهم (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بتكذيبهم رسلنا وكفرهم بهم (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ) أوثانهم التي يعبدونها ويدعونها (مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) ما نفعوهم ولا أنقذوهم لما جاء أمر الله بإهلاكهم (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) قال مجاهد وقتادة وغيرهما : أي غير تخسير (١) وذلك أن سبب هلاكهم ودمارهم إنما كان باتباعهم تلك الآلهة فلهذا خسروا في الدنيا والآخرة.

(وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (١٠٢)

يقول تعالى وكما أهلكنا أولئك القرون الظالمة المكذبة لرسلنا كذلك نفعل بأشباههم (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) وفي الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) (٢) الآية.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (١٠٥)

يقول تعالى إن في إهلاكنا الكافرين وإنجائنا المؤمنين (لَآيَةً) أي عظة واعتبارا على صدق موعودنا في الآخرة (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) [غافر : ٥١] وقال تعالى (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) [إبراهيم : ١٣] الآية. وقوله : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) أي أولهم وآخرهم كقوله : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) [الكهف : ٤٧] (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) أي عظيم تحضره الملائكة ويجتمع فيه الرسل وتحشر الخلائق بأسرهم من الإنس والجن والطير والوحوش والدواب ويحكم فيه العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها.

وقوله (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) أي ما نؤخر إقامة القيامة إلا لأنه قد سبقت كلمة الله في وجود أناس معدودين من ذرية آدم وضرب مدة معينة إذا انقطعت وتكامل وجود أولئك المقدر خروجهم قامت الساعة ولهذا قال : (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) أي لمدة مؤقتة لا يزاد عليها ولا ينتقص منها.

(يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي يوم يأتي يوم القيامة لا يتكلم أحد إلا بإذن الله كقوله : (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) [النبأ : ٣٨] وقال : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) [طه : ١٠٨] الآية. وفي الصحيحين من حديث الشفاعة «ولا يتكلم يومئذ إلا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ١١١.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١١ ، باب ٥ ، ومسلم في البر حديث ٦٢.

٣٠٠