تفسير القرآن العظيم - ج ٤

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٤

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤١

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عجبا لأمر المؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له ، إن اصابته ضراء فصبر كان خيرا له وإن أصابته سراء فشكر كان خيرا له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن» (١).

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (١٤)

أخبر تعالى عما أحل بالقرون الماضية في تكذيبهم الرسل فيما جاءوهم به من البينات والحجج الواضحات ، ثم استخلف الله هؤلاء القوم من بعدهم وأرسل إليهم رسولا لينظر طاعتهم له ، واتباعهم رسوله وفي صحيح مسلم من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت من النساء» (٢).

وقال ابن جرير (٣) : حدثني المثنى حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة فهد أنبأنا حماد عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عوف بن مالك قال لأبي بكر رأيت فيما يرى النائم كأن سببا دلي من السماء فانتشط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أعيد فانتشط أبو بكر ثم ذرع الناس حول المنبر ففضل عمر بثلاثة أذرع حول المنبر فقال عمر : دعنا من رؤياك لا أرب لنا فيها فلما استخلف عمر قال : يا عوف رؤياك؟ قال وهل لك في رؤياي من حاجة أو لم تنتهرني؟ قال ويحك إني كرهت أن تنعي لخليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه فقص عليه الرؤيا حتى إذا بلغ ذرع الناس إلى المنبر بهذه الثلاث الأذرع قال : أما إحداهن فإنه كان خليفة. وأما الثانية فإنه لا يخاف في الله لومة لائم ، وأما الثلاثة فإنه شهيد ، قال : فقال يقول الله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) فقد استخلفت يا ابن أم عمر فانظر كيف تعمل؟ وأما قوله فإني لا أخاف في الله لومة لائم فيما شاء الله ، وأما قوله : شهيد فأنى لعمر الشهادة والمسلمون مطيفون به؟

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٦)

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٦٤ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٣٢ ، ٣٣٣ ، ٦ / ١٥ ، ١٦.

(٢) أخرجه مسلم في الذكر حديث ٩٩.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٥٣٩.

٢٢١

يخبر تعالى عن تعنت الكفار من مشركي قريش الجاحدين المعرضين عنه أنهم إذا قرأ عليهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتاب الله وحجته الواضحة قالوا له : ائت بقرآن غير هذا أي رد هذا وجئنا بغيره من نمط آخر أو بدله إلى وضع آخر قال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) أي ليس هذا إلي إنما أنا عبد مأمور ورسول مبلغ عن الله (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

ثم قال محتجا عليهم في صحة ما جاءهم به : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) أي هذا إنما جئتكم به عن إذن الله لي في ذلك ومشيئته وإرادته ، والدليل على أني لست أتقوله من عندي ولا افتريته أنكم عاجزون عن معارضته وأنكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأت بينكم إلى حين بعثني الله عزوجل لا تنتقدون عليّ شيئا تغمصوني (١) به ولهذا قال : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق من الباطل ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان ومن معه فيما سأله من صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال هرقل لأبي سفيان : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان فقلت لا ، وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين ومع هذا اعترف بالحق.

والفضل ما شهدت به الأعداء.

فقال له هرقل : فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة : بعث الله فينا رسولا نعرف صدقه ونسبه وأمانته ، وقد كانت مدة مقامه عليه‌السلام بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة ، وعن سعيد بن المسيب ثلاثا وأربعين سنة ، والصحيح المشهور الأول.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) (١٧)

يقول تعالى لا أحد أظلم ولا أعتى ولا أشد إجراما (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) وتقول على الله وزعم أن الله أرسله ولم يكن كذلك فليس أحد أكبر جرما ولا أعظم ظلما من هذا ، ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء فكيف يشتبه حال هذا بالأنبياء فإن من قال هذه المقالة صادقا أو كاذبا فلا بد أن الله ينصب عليه من الأدلة على بره أو فجوره ما هو أظهر من الشمس ، فإن الفرق بين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين مسيلمة الكذاب لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين وقت الضحى وبين نصف الليل في حندس الظلماء ، فمن شيم كل منهما وأفعاله وكلامه يستدل من له بصيرة على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذب مسيلمة الكذاب وسجاح والأسود العنسي.

__________________

(١) غمصه : احتقر وعابه.

٢٢٢

قال عبد الله بن سلام لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة انجفل الناس فكنت فيمن انجفل ، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب قال : فكان أول ما سمعته يقول : «يا أيها الناس أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلون الجنة بسلام» (١) ولما قدم وفد ضمام بن ثعلبة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قومه بني سعد بن بكر قال لرسول الله فيما قال له من رفع هذه السماء؟ قال : «الله» قال : ومن نصب هذه الجبال قال «الله» قال : ومن سطح هذه الأرض؟ قال : «الله» قال : فبالذي رفع السماء ونصب هذه الجبال وسطح هذه الأرض الله أرسلك إلى الناس كلهم؟ قال : «اللهم نعم» ثم سأله عن الصلاة والزكاة والحج والصيام ، ويحلف عند كل واحدة هذه اليمين ويحلف له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : صدقت ، والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا أنقص ، فاكتفى هذا الرجل بمجرد هذا ، وقد أيقن بصدقه صلوات الله وسلامه عليه بما رأى وشاهد من الدلائل الدالة عليه. وقال حسان بن ثابت : [الطويل]

لو لم تكن فيه آيات مبينة

كانت بديهته تأتيك بالخبر (٢)

وأما مسيلمة فمن شاهده من ذوي البصائر علم أمره لا محالة بأقواله الركيكة التي ليست بفصيحة ، وأفعاله غير الحسنة بل القبيحة ، وقرآنه الذي يخلد به في النار يوم الحسرة والفضيحة ، وكم من فرق بين قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) إلى آخرها. وبين قول مسيلمة قبحه الله ولعنه. يا ضفدع بنت ضفدعين ، نقي كم تنقين لا الماء تكدرين ، ولا الشارب تمنعين. وقوله قبحه الله لقد أنعم الله على الحبلى ، إذ أخرج منها نسمة تسعى ، من بين صفاق وحشي. وقوله خلده الله في نار جهنم. وقد فعل : الفيل وما أدراك ما الفيل ، له خرطوم طويل ، وقوله أبعده الله عن رحمته : والعاجنات عجنا ، والخابزات خبزا ، واللاقمات لقما ، إهالة وسمنا ، إن قريشا قوم يعتدون.

إلى غير ذلك من الخرافات والهذيانات التي يأنف الصبيان أن يلفظوا بها إلا على وجه السخرية والاستهزاء ، ولهذا أرغم الله أنفه ، وشرب يوم حديقة الموت حتفه ، ومزق شمله. ولعنه صحبه وأهله. وقدموا على الصديق تائبين ، وجاءوا في دين الله راغبين فسألهم الصديق خليفة الرسول صلوات الله وسلامه عليه ورضي عنه أن يقرءوا عليه شيئا من قرآن مسيلمة لعنه الله فسألوه أن يعفيهم من ذلك فأبى عليهم إلا أن يقرءوا شيئا منه ليسمعه من لم يسمعه من الناس فيعرفوا فضل ما هم عليه من الهدى والعلم فقرأوا عليه من هذا الذي ذكرناه وأشباهه ، فلما فرغوا قال لهم الصديق رضي الله عنه : ويحكم أين كان يذهب بعقولكم؟ والله إن هذا لم

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٤٥١.

(٢) البيت ليس في ديوان حسان بن ثابت.

٢٢٣

يخرج من إل.

وذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة وكان صديقا له في الجاهلية وكان عمرو لم يسلم بعد فقال له مسيلمة : ويحك يا عمرو ماذا أنزل على صاحبكم يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه المدة؟ فقال : لقد سمعت أصحابه يقرءون سورة عظيمة قصيرة فقال : وما هي؟ فقال (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر : ١ ـ ٢] إلى آخر السورة ففكر مسيلمة ساعة ثم قال وأنا قد أنزل عليّ مثله فقال وما هو فقال يا وبر يا وبر ، إنما أنت أذنان وصدر ، وسائرك حفر نقر. كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو : والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب. فإذا كان هذا من مشرك في حال شركه لم يشتبه عليه حال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدقه ، وحال مسيلمة لعنه الله وكذبه ، فكيف بأولي البصائر والنهى ، وأصحاب العقول السليمة المستقيمة والحجا ، ولهذا قال تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) [الأنعام : ٩٣] وقال في هذه الآية الكريمة (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) [الأنعام : ٢١] وكذلك من كذب بالحق الذي جاءت به الرسل. وقامت عليه الحجج ، لا أحد أظلم منه كما جاء في الحديث «أعتى الناس على الله رجل قتل نبيا أو قتله نبي» (١).

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٩)

ينكر تعالى على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره ظانين أن تلك الآلهة تنفعهم شفاعتها عند الله فأخبر تعالى أنها لا تضر ولا تنفع ولا تملك شيئا ، ولا يقع شيء مما يزعمون فيها ولا يكون هذا أبدا ولهذا قال تعالى : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ).

وقال ابن جرير (٢) : معناه أتخبرون الله بما لا يكون في السموات ولا في الأرض؟ ثم نزه نفسه الكريمة عن شركهم وكفرهم فقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ثم أخبر تعالى أن هذا الشرك حادث في الناس كائن بعد أن لم يكن وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد وهو الإسلام قال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام ثم وقع الاختلاف بين الناس وعبدت الأصنام والأنداد والأوثان فبعث الله الرسل بآياته وبيناته وحججه البالغة

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٤٠٧.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٥٤٢.

٢٢٤

وبراهينه الدامغة (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال : ٤٢] وقوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) الآية ، أي لو لا ما تقدم من الله تعالى أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه ، وأنه قد أجل الخلق إلى أجل معدود لقضى بينهم فيما اختلفوا فيه فأسعد المؤمنين وأعنت الكافرين.

(وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (٢٠)

أي ويقول هؤلاء الكفرة المكذبون المعاندون : لولا أنزل على محمد آية من ربه يعنون كما أعطى الله ثمود الناقة أو أن يحول لهم الصفا ذهبا أو يزيح عنهم جبال مكة ويجعل مكانها بساتين وأنهارا أو نحو ذلك مما الله عليه قادر ولكنه حكيم في أفعاله وأقواله كما قال تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) [الفرقان : ١٠ ـ ١١] وكقوله : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) [الإسراء : ٥٩] الآية ، يقول تعالى : إن سنتي في خلقي أني إذا آتيتهم ما سألوا ، فإن آمنوا وإلا عاجلتهم بالعقوبة. ولهذا لما خير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين إعطائهم ما سألوا فإن آمنوا وإلا عذبوا وبين إنظارهم اختار إنظارهم كما حلم عنهم غير مرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولهذا قال تعالى إرشادا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الجواب عما سألوا : (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) أي الأمر كله لله وهو يعلم العواقب في الأمور.

(فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) اي إن كنتم لا تؤمنون حتى تشاهدوا ما سألتم فانتظروا حكم الله فيّ وفيكم. هذا مع أنهم قد شاهدوا من آياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعظم مما سألوا حين أشار بحضرتهم إلى القمر ليلة إبداره فانشق اثنتين فرقة من وراء الجبل وفرقة من دونه. وهذا أعظم من سائر الآيات الأرضية مما سألوا وما لم يسألوا ، ولو علم الله منهم أنهم سألوا ذلك استرشادا وتثبيتا لأجابهم ، ولكن علم أنهم إنما يسألون عنادا وتعنتا فتركهم فيما رابهم وعلم أنهم لا يؤمن منهم أحد كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧] الآية. وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الأنعام : ١١١] الآية ، ولما فيهم من المكابرة كقوله تعالى : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ) [الحجر : ١٤] الآية ، وقوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) [الطور : ٤٤] الآية ، وقال تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الأنعام : ٧] فمثل هؤلاء أقل من أن يجابوا إلى ما سألوه لأنه لا فائدة في جوابهم لأنه دائر على تعنتهم وعنادهم لكثرة فجورهم وفسادهم ولهذا قال : (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ).

٢٢٥

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٣)

يخبر تعالى أنه إذا أذاق الناس رحمة من بعد ضراء مستهم كالرخاء بعد الشدة ، والخصب بعد الجدب ، والمطر بعد القحط ونحو ذلك (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) قال مجاهد : استهزاء وتكذيب كقوله : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) [يونس : ١٢] الآية ، وفي الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بهم الصبح على أثر سماء كانت من الليل أي مطر ثم قال : «هل تدرون ماذا قال ربكم الليلة؟» قالوا : الله ورسوله أعلم قال : «قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب» (١).

وقوله : (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) أي أشد استدراجا وإمهالا حتى يظن الظان من المجرمين أنه ليس بمعذب وإنما هو في مهلة ثم يؤخذ على غرة منه والكاتبون الكرام يكتبون عليه جميع ما يفعله ويحصونه عليه ثم يعرضونه على عالم الغيب والشهادة فيجازيه على الجليل والحقير والنقير والقطمير.

ثم أخبر تعالى أنه (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي يحفظكم ويكلؤكم بحراسته (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها) أي بسرعة سيرهم رافقين فبينما هم كذلك إذ (جاءَتْها) أي تلك السفن (رِيحٌ عاصِفٌ) أي شديدة (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أي اغتلم البحر عليهم (٢) (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أي هلكوا (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي لا يدعون معه صنما ولا وثنا بل يفردونه بالدعاء والابتهال كقوله تعالى : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) [الإسراء : ٦٧].

وقال هاهنا : (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ) أي هذه الحال (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي لا نشرك بك أحدا ولنفردنك بالعبادة هناك كما أفردناك بالدعاء هاهنا ، قال الله

__________________

(١) أخرجه البخاري في الاستسقاء باب ٢٨ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٢٥.

(٢) اغتلم البحر عليهم : أي اشتد وهاج واضطرب.

٢٢٦

تعالى : (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ) أي من تلك الورطة (إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي كان لم يكن من ذلك شيء (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) ثم قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي إنما يذوق وبال هذا البغي أنتم أنفسكم ولا تضرون به أحدا غيركم ، كما جاء في الحديث «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر الله لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» (١) وقوله : (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي إنما لكم متاع في الحياة الدنيا الدنيئة الحقيرة (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) أي مصيركم ومآلكم (فَنُنَبِّئُكُمْ) أي فنخبركم بجميع أعمالكم ونوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(٢٤) وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢٥)

ضرب تبارك وتعالى مثلا لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها ، بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض ، بماء أنزل من السماء ، مما يأكل الناس من زروع وثمار على اختلاف أنواعها وأصنافها ، وما تأكل الأنعام من أب وقضب وغير ذلك ، (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) أي زينتها الفانية (وَازَّيَّنَتْ) أي حسنت بما خرج من رباها من زهور نضرة مختلفة الأشكال والألوان (وَظَنَّ أَهْلُها) الذين زرعوها وغرسوها (أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) أي على جذاذها وحصادها ، فبينما هم كذلك إذ جاءتها صاعقة أو ريح شديدة باردة ، فأيبست أوراقها وأتلفت ثمارها ، ولهذا قال تعالى : (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً) أي يابسا بعد الخضرة والنضارة (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أي كأنها ما كانت حسناء قبل ذلك. وقال قتادة : كأن لم تغن كأن لم تنعم ، وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن.

ولهذا جاء في الحديث «يؤتى بأنعم أهل الدنيا فيغمس في النار غمسة فيقال له هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول : لا ، ويؤتى بأشد الناس عذابا في الدنيا فيغمس في النعيم غمسة ثم يقال له هل رأيت بؤسا قط؟ فيقول لا» (٢) وقال تعالى إخبارا عن المهلكين : (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) [هود : ٩٤ ـ ٩٥] ثم قال تعالى : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي نبين الحجج والأدلة (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فيعتبرون بهذا المثل في زوال الدنيا من أهلها سريعا مع اغترارهم بها ، وتمكنهم وثقتهم بمواعيدها وتفلتها عنهم ، فإن من طبعها الهرب ممن طلبها ، والطلب لمن هرب منها.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٤٣ ، وابن ماجة في الزهد باب ٢٣.

(٢) أخرجه ابن ماجة في الزهد باب ٣٨.

٢٢٧

وقد ضرب الله تعالى مثل الدنيا بنبات الأرض في غير ما آية من كتابه العزيز ، فقال في سورة الكهف : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) [الكهف : ٤٥] وكذا في سورة الزمر (١) والحديد (٢) ، يضرب الله بذلك مثل الحياة الدنيا. وقال ابن جرير (٣) : حدثني الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال : سمعت مروان يعني ابن الحكم ، يقرأ على المنبر : وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها ، وما كان الله ليهلكهم إلا بذنوب أهلها. قال قد قرأتها وليست في المصحف ، فقال عباس بن عبد الله بن عباس هكذا يقرؤها ابن عباس ، فأرسلوا إلى ابن عباس فقال هكذا أقرأني أبي بن كعب ، وهذه قراءة غريبة وكأنها زيدت للتفسير.

وقوله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) الآية. لما ذكر تعالى الدنيا وسرعة زوالها ، رغب في الجنة ودعا إليها وسماها دار السلام أي من الآفات ، والنقائص والنكبات فقال : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) قال أيوب عن أبي قلابة : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قيل لي لتنم عينك وليعقل قلبك ولتسمع أذنك ، فنامت عيني وعقل قلبي وسمعت أذني ثم قيل لي : مثلي ومثل ما جئت كمثل سيد بني دارا ثم صنع مأدبة وأرسل داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ورضي عنه السيد ، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة ولو يرض عنه السيد ، والله السيد والدار والإسلام والمأدبة الجنة والداعي محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤)» وهذا الحديث مرسل.

وقد جاء متصلا من حديث الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما فقال «إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه اضرب له مثلا ، فقال اسمع سمعت أذنك ، واعقل عقل قلبك ، إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بيتا ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه ، فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه فالله الملك والدار الإسلام والبيت الجنة ، وأنت يا محمد الرسول فمن أجابك دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل منها» رواه ابن جرير (٥).

__________________

(١) الآية : ٢١.

(٢) الآية : ٢٠.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٥٤٧.

(٤) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٤٨.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ٥٤٩.

٢٢٨

وقال قتادة : حدثني خليد العصري عن أبي الدرداء مرفوعا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من يوم طلعت فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين : يا أيها الناس هلموا إلى ربكم إن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى» قال وأنزل في قوله يا أيها الناس هلموا إلى ربكم (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) الآية. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير (١).

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٦)

يخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح : الحسنى في الدار الآخرة كقوله تعالى : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) [الرحمن : ٦٠] وقوله : (وَزِيادَةٌ) هي تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وزيادة على ذلك أيضا ، ويشمل ما يعطيهم الله في الجنان من القصور والحور والرضا عنهم ، وما أخفاه لهم من قرة أعين وأفضل من ذلك وأعلاه النظر إلى وجهه الكريم فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه لا يستحقونها بعملهم بل بفضله ورحمته ، وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجهه الكريم عن أبي بكر الصديق وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس وسعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الرحمن بن سابط ومجاهد وعكرمة وعامر بن سعد وعطاء والضحاك والحسن وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق وغيرهم من السلف والخلف.

وقد وردت فيه أحاديث كثيرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد (٢) : حدثنا عفان ، أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) وقال : «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون : وما هو ألم يثقل موازيننا؟ ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار ـ قال ـ فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه فو الله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم» (٣) وهكذا رواه مسلم وجماعة من الأئمة من حديث حماد بن سلمة به.

وقال ابن جرير (٤) : حدثني يونس ، قال أخبرنا ابن وهب ، قال أخبرني شبيب عن أبان عن أبي تميمة الهجيمي ، أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي يا أهل الجنة ـ بصوت يسمع أولهم وآخرهم ـ إن الله وعدكم الحسنى

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٥٤٨.

(٢) المسند ٤ / ٣٣٣.

(٣) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ١٠ ، باب ١ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١٣.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٥٥٠.

٢٢٩

وزيادة ، فالحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الرحمن عزوجل» ورواه أيضا ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر الهذلي عن أبي تميمة الهجيمي به.

وقال ابن جرير (١) أيضا : حدثنا ابن حميد حدثنا إبراهيم بن المختار عن ابن جريج عن عطاء عن كعب بن عجرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) قال «النظر إلى وجه الرحمن عزوجل». وقال أيضا (٢) : حدثنا ابن عبد الرحيم حدثنا عمرو بن أبي سلمة سمعت زهيرا عمن سمع أبا العالية حدثنا أبي بن كعب أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول الله عزوجل (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) قال : «الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله عزوجل» ورواه ابن أبي حاتم أيضا من حديث زهير به.

وقوله تعالى : (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ) أي قتام وسواد في عرصات المحشر كما يعتري وجوه الكفرة الفجرة من القترة والغبرة (وَلا ذِلَّةٌ) أي هوان وصغار أي لا يحصل لهم إهانة في الباطن ولا في الظاهر بل هم كما قال تعالى في حقهم : (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) أي نضرة في وجوههم وسرورا في قلوبهم ، جعلنا الله منهم بفضله ورحمته آمين.

(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٧)

لما أخبر تعالى عن حال السعداء الذين يضاعف لهم الحسنات ويزدادون على ذلك عطف بذكر حال الأشقياء فذكر تعالى عدله فيهم وأنه يجازيهم على السيئة بمثلها لا يزيدهم على ذلك (وَتَرْهَقُهُمْ) أي تعتريهم وتعلوهم ذلة من معاصيهم وخوفهم منها كما قال : (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِ) [الشورى : ٤٥] الآية وقال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) [إبراهيم : ٤٢ ـ ٤٤] الآيات ، وقوله : (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أي مانع ولا واق يقيهم العذاب كقوله تعالى : (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) [القيامة : ١٠ ـ ١٢] وقوله : (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ) الآية إخبار عن سواد وجوههم في الدار الآخرة كقوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [آل عمران : ١٠٦ ـ ١٠٧] وقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) [عبس : ٣٨ ـ ٤٢] الآية.

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٥٥١.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٥٥١ ، وفيه : حدثنا ابن البرقي ، بدل : حدثنا ابن عبد الرحيم.

٢٣٠

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٣٠)

يقول تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) أي أهل الأرض كلهم من جن وإنس وبر وفاجر كقوله: (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) [الكهف : ٤٧] (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) الآية أي الزموا أنتم وهم مكانا معينا امتازوا فيه عن مقام المؤمنين كقوله تعالى : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) [يس : ٥٩] وقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) [الروم : ١٤] وفي الآية الأخرى (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) [الروم : ٤٣] أي يصيرون صدعين وهذا يكون إذا جاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء ولهذا قيل ذلك (١) يستشفع المؤمنون إلى الله تعالى أن يأتي لفصل القضاء ويريحنا من مقامنا هذا ، وفي الحديث الآخر «نحن يوم القيامة على كوم فوق الناس» (٢).

وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة إخبارا عما يأمر به المشركين وأوثانهم يوم القيامة (مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) الآية أنهم أنكروا عبادتهم وتبرؤوا منهم كقوله : (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) [مريم : ٨٢] الآية وقوله : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) وقوله : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً) [الأحقاف : ٥ ـ ٦] الآية وقوله في هذه الآية إخبارا عن قول الشركاء فيما راجعوا فيه عابديهم عند ادعائهم عبادتهم : (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) الآية أي ما كنا نشعر بها ولا نعلم بها ، وإنما كنتم تعبدوننا من حيث لا ندري بكم والله شهيد بيننا وبينكم أنا ما دعوناكم إلى عبادتنا ولا أمرناكم بها ولا رضينا منكم بذلك.

وفي هذا تبكيت عظيم للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره ممن لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئا ، ولم يأمرهم بذلك ولا رضي به ولا أراده بل تبرأ منهم وقت أحوج ما يكونون إليه وقد تركوا عبادة الحي القيوم السميع البصير القادر على كل شيء العليم بكل شيء ، وقد أرسل رسله وأنزل كتبه آمرا بعبادته وحده لا شريك له ناهيا عن عبادة ما سواه كما قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) [النحل : ٣٦] وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥] وقال : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) [الزخرف : ٤٥].

__________________

(١) بعده بياض بالأصل.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٣٤٥.

٢٣١

والمشركون أنواع وأقسام كثيرون قد ذكرهم الله في كتابه وبين أحوالهم وأقوالهم ورد عليهم فيما هم فيه أتم رد ، وقال تعالى : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) أي في موقف الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتعلم ما سلف من عملها من خير وشر كقوله تعالى : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) [الطارق : ٩] وقال تعالى : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة : ١٣] وقال تعالى : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء : ١٣ ـ ١٤] وقد قرأ بعضهم (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) وفسرها بعضهم بالقراءة ، وفسرها بعضهم بمعنى تتبع ما قدمت من خير وشر وفسرها بعضهم بحديث «لتتبع كل أمة ما كانت تعبد ، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت» (١) الحديث ، وقوله : (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) أي ورجعت الأمور كلها إلى الله الحكم العدل ففصلها وأدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أي ذهب عن المشركين (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي ما كانوا يعبدون من دون الله افتراء عليه.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣٣)

يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانيته وربوبيته على وحدانية الآلهة فقال تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي من ذا الذي ينزل من السماء ماء المطر فيشق الأرض شقا بقدرته ومشيئته فيخرج منها (حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا) [عبس : ٢٧ ـ ٣١] أإله مع الله؟ فسيقولون الله (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) [الملك : ٢١] وقوله : (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) [يونس : ٣١] أي الذي وهبكم هذه القوة السامعة ، والقوة الباصرة ، ولو شاء لذهب بها ولسلبكم إياها كقوله تعالى: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) [الملك : ٢٣] الآية.

وقال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ) [الأنعام : ٤٦] الآية وقوله : (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) أي بقدرته العظيمة ومنته العميمة ، وقد تقدم ذكر الخلاف في ذلك وأن الآية عامة لذلك كله وقوله : (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه وهو المتصرف الحاكم الذي لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن : ٢٩]

__________________

(١) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢٤ ، والرقاق باب ٥٢ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٩٩.

٢٣٢

فالملك كله العلوي والسفلي وما فيهما من ملائكة وإنس وجان فقيرون إليه عبيد له خاضعون لديه (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) أي وهم يعلمون ذلك ويعترفون به.

(فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) أي أفلا تخافون منه أن تعبدوا معه غيره بآرائكم وجهلكم وقوله : (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ) الآية أي فهذا الذي اعترفتم بأنه فاعل ذلك كله هو ربكم وإلهكم الحق الذي يستحق أن يفرد بالعبادة (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) أي فكل معبود سواه باطل لا إله إلا هو واحد لا شريك له (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أي فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة ما سواه وأنتم تعلمون أنه الرب الذي خلق كل شيء والمتصرف في كل شيء ، وقوله : (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) الآية أي كما كفر هؤلاء المشركون واستمروا على شركهم وعبادتهم مع الله غيره مع أنهم يعترفون بأنه الخالق المتصرف في الملك وحده الذي بعث رسله بتوحيده ، فلهذا حقت عليهم كلمة الله أنهم أشقياء من ساكني النار كقوله : (قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) [الزمر : ٧١].

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) (٣٦)

وهذا إبطال لدعواهم فيما أشركوا بالله غيره ، وعبدوا من الأصنام والأنداد (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي من بدأ خلق هذه السموات والأرض ثم ينشئ ما فيهما من الخلائق ، ويفرق أجرام السموات والأرض ويبدلهما بفناء ما فيهما ثم يعيد الخلق خلقا جديدا (قُلِ اللهُ) هو الذي يفعل هذا ويستقل به وحده لا شريك له (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي فكيف تصرفون عن طريق الرشد إلى الباطل (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ) أي أنتم تعلمون أن شركاءكم لا تقدر على هداية ضال ، وإنما يهدي الحيارى والضلال ويقلب القلوب من الغي إلى الرشد الله الذي لا إله إلا هو.

(أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) أي أفيتبع العبد الذي يهدي إلى الحق ويبصر بعد العمى أم الذي لا يهدي إلى شيء إلا أن يهدى لعماه وبكمه كما قال تعالى إخبارا عن إبراهيم أنه قال : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم : ٤٢] وقال لقومه : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٥ ـ ٩٦] إلى غير ذلك من الآيات وقوله : (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) أي فما بالكم أن يذهب بعقولكم كيف سويتم بين الله وبين خلقه وعدلتم هذا بهذا وعبدتم هذا وهذا ، وهلا أفردتم الرب جل جلاله المالك الحاكم الهادي من الضلالة بالعبادة وحده وأخلصتم إليه الدعوة والإنابة ، ثم بين تعالى

٢٣٣

أنهم لا يتبعون في دينهم هذا دليلا ولا برهانا وإنما هو ظن منهم أي توهم وتخيل ، وذلك لا يغني عنهم شيئا (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) تهديد لهم ووعيد شديد لأنه تعالى أخبر أنه سيجازيهم على ذلك أتم الجزاء.

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) (٤٠)

هذا بيان لإعجاز القرآن وأنه لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله ولا بعشر سور ولا بسورة من مثله لأنه بفصاحته وبلاغته ووجازته وحلاوته واشتماله على المعاني العزيزة النافعة في الدنيا والآخرة لا تكون إلا من عند الله الذي لا يشبهه شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وأقواله فكلامه لا يشبه كلام المخلوقين ولهذا قال تعالى : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) أي مثل هذا القرآن لا يكون إلا من عند الله ولا يشبه هذا كلام البشر (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي من الكتب المتقدمة ومهيمنا عليه ومبينا لما وقع فيها من التحريف والتأويل والتبديل.

وقوله : (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي وبيان الأحكام والحلال والحرام بيانا شافيا كافيا حقا لا مرية فيه من الله رب العالمين كما تقدم في حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وفصل ما بينكم أي خبر عما سلف وعما سيأتي وحكم فيما بين الناس بالشرع الذي يحبه الله ويرضاه. وقوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن ادعيتم وافتريتم وشككتم في أن هذا من عند الله وقلتم كذبا ومينا إن هذا من عند محمد فمحمد بشر مثلكم وقد جاء فيما زعمتم بهذا القرآن فأتوا أنتم بسورة مثله ، أي من جنس هذا القرآن واستعينوا على ذلك بكل من قدرتم عليه من إنس وجان.

وهذا هو المقام الثالث في التحدي فإنه تعالى تحداهم ودعاهم إن كانوا صادقين في دعواهم أنه من عند محمد فليعارضوه بنظير ما جاء به وحده وليستعينوا بمن شاؤوا وأخبر أنهم لا يقدرون على ذلك ولا سبيل لهم إليه فقال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨] ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه فقال في أول سورة هود : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [هود : ١٣] ثم تنازل إلى سورة فقال في هذه السورة : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ

٢٣٤

صادِقِينَ) وكذا في سورة البقرة وهي مدنية تحداهم بسورة منه وأخبر أنهم لا يستطيعون ذلك أبدا فقال : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) [البقرة : ٢٤] الآية.

هذا وقد كانت الفصاحة من سجاياهم ، وأشعارهم ومعلقاتهم إليها المنتهى في هذا الباب ، ولكن جاءهم من الله ما لا قبل لأحد به ، ولهذا آمن من آمن منهم بما عرف من بلاغة هذا الكلام وحلاوته وجزالته وطلاوته وإفادته وبراعته فكانوا أعلم الناس به وأفهمهم له وأتبعهم له وأشدّهم له انقيادا كما عرف السحرة لعلمهم بفنون السحر أن هذا الذي فعله موسى عليه‌السلام لا يصدر إلا عن مؤيد مسدد مرسل من الله وأن هذا لا يستطاع لبشر إلا بإذن الله. وكذلك عيسىعليه‌السلام بعث في زمان علماء الطب ومعالجة المرضى فكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ، ومثل هذا لا مدخل للعلاج والدواء فيه فعرف من عرف منهم أنه عبد الله ورسوله.

ولهذا جاء في الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا» (١).

وقوله : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) يقول بل كذب هؤلاء بالقرآن ولم يفهموه ولا عرفوه (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) أي ولم يحصلوا ما فيه من الهدى ودين الحق إلى حين تكذيبهم به جهلا وسفها (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من الأمم السالفة (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) أي فانظر كيف أهلكناهم بتكذيبهم رسلنا ظلما وعلوا وكفرا وعنادا وجهلا فاحذروا أيها المكذبون أن يصيبكم ما أصابهم.

وقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) الآية ، أي ومن هؤلاء الذين بعثت إليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرآن ويتبعك وينتفع بما أرسلت به (وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) بل يموت على ذلك ويبعث عليه (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) أي وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه؟ ومن يستحق الضلالة فيضله ، وهو العادل الذي لا يجور ، بل يعطي كلا ما يستحقه تبارك وتعالى وتقدس وتنزه لا إله إلا هو.

(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ(٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤٤)

يقول تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كذبك هؤلاء المشركون فتبرأ منهم ومن عملهم (فَقُلْ لِي عَمَلِي

__________________

(١) أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب ١ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٣٩.

٢٣٥

وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) كقوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) [الكافرون : ١ ـ ٢] إلى آخرها ، وقال إبراهيم الخليل وأتباعه لقومهم المشركين (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [الممتحنة : ٤] الآية ، وقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) أي يسمعون كلامك الحسن والقرآن العظيم والأحاديث الصحيحة الفصيحة النافعة في القلوب والأديان والأبدان وفي هذا كفاية عظيمة ، ولكن ليس ذلك إليك ولا إليهم فإنك لا تقدر على إسماع الأصم وهو الأطرش فكذلك لا تقدر على هداية هؤلاء إلا أن يشاء الله (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) أي ينظرون إليك وإلى ما أعطاك الله من التؤدة والسمت الحسن والخلق العظيم ، والدلالة الظاهرة على نبوتك لأولي البصائر والنهي. وهؤلاء ينظرون كما ينظر غيرهم ولا يحصل لهم من الهداية شيء كما يحصل لغيرهم ، بل المؤمنون ينظرون إليك بعين الوقار ، وهؤلاء الكفار ينظرون إليك بعين الاحتقار (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) [الفرقان : ٤١] الآية.

ثم أخبر تعالى أنه لا يظلم أحدا شيئا وإن كان قد هدى به من هدى وبصر به من العمى ، وفتح به أعينا عميا وآذانا صما ، وقلوبا غلفا ، وأضل به عن الإيمان آخرين ، فهو الحاكم المتصرف في ملكه بما يشاء الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون لعلمه وحكمته وعدله ، ولهذا قال تعالى: (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) وفي الحديث عن أبي ذر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرويه عن ربه عزوجل «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ـ إلى أن قال في آخره ـ يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» رواه مسلم (١) بطوله.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (٤٥)

يقول تعالى مذكرا للناس قيام الساعة وحشرهم من أجداثهم إلى عرصات القيامة : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) الآية. كقوله : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) وكقوله: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) [النازعات : ٤٦] وقال تعالى : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) [طه : ١٠٢ ـ ١٠٤] وقال تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) [الروم : ٥٥] الآيتين ، وهذا كله دليل على استقصار الحياة الدنيا في الدار الآخرة كقوله : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [المؤمنون : ١١٢ ـ ١١٤].

__________________

(١) كتاب البر حديث ٥٥.

٢٣٦

وقوله : (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) أي يعرف الأبناء الآباء والقرابات بعضهم لبعض كما كانوا في الدنيا ولكن كل مشغول بنفسه (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) [المؤمنون : ١٥١] الآية ، وقال تعالى : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) [المعارج : ١١] الآيات ، وقوله : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) كقوله تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [المرسلات : ١٥] لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين ولا خسارة أعظم من خسارة من فرق بينه وبين أحبته يوم الحسرة والندامة.

(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٤٧)

يقول تعالى مخاطبا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) أي ننتقم منهم في حياتك لتقر عينك منهم (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) أي مصيرهم ومنقلبهم والله شهيد على أفعالهم بعدك وقد قال الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا داود بن الجارود عن أبي السليل عن حذيفة بن أسيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «عرضت عليّ أمتي البارحة لدى هذه الحجرة أولها وآخرها» فقال رجل : يا رسول الله عرض عليك من خلق فكيف من لم يخلق؟ فقال : «صوروا لي في الطين حتى أني لأعرف بالإنسان منهم من أحدكم بصاحبه» ورواه عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن عقبة بن مكرم عن يونس بن بكير عن زياد بن المنذر عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد به نحوه.

وقوله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ) قال مجاهد : يعني يوم القيامة (١) (قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) الآية ، كقوله تعالى : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) [الزمر : ٦٩] الآية ، فكل أمة تعرض على الله بحضرة رسولها وكتاب أعمالها من خير وشر موضوع شاهد عليهم وحفظتهم من الملائكة شهود أيضا أمة بعد أمة وهذه الأمة الشريفة وإن كانت آخر الأمم في الخلق إلا أنها أول الأمم يوم القيامة يفصل بينهم ويقضي لهم كما جاء في الصحيحين عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، المقضي يفصل لهم قبل الخلائق» (٢) فأمته إنما حازت قصب السبق بشرف رسولها صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٦٥.

(٢) أخرجه مسلم في الجمعة حديث ٢٢.

٢٣٧

يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (٥٢)

يقول تعالى مخبرا عن كفر هؤلاء المشركين في استعجالهم العذاب وسؤالهم عن وقته قبل التعيين مما لا فائدة لهم فيه كقوله : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) [الشورى : ١٨] أي كائنة لا محالة وواقعة وإن لم يعلموا وقتها عينا ، ولهذا أرشد تعالى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جوابهم فقال : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً) الآية ، أي لا أقول إلا ما علمني ولا أقدر على شيء مما استأثر به إلا أن يطلعني الله عليه فأنا عبده ورسوله إليكم وقد أخبرتكم بمجيء الساعة وأنها كائنة ولم يطلعني على وقتها ولكن (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) أي لكل قرن مدة من العمر مقدرة فإذا انقضى أجلهم (فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) كقوله : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) [المنافقون : ١١] الآية.

ثم أخبر أن عذاب الله سيأتيهم بغتة فقال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً) أي ليلا أو نهارا (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) يعني أنهم إذا جاءهم العذاب قالوا (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) [السجدة : ١٢] الآية ، وقال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) [غافر : ٨٤ ـ ٨٥] (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) أي يوم القيامة يقال لهم هذا تبكيتا وتقريعا كقوله : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور : ١٣ ـ ١٦].

(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٥٤)

يقول تعالى ويستخبرونك (أَحَقٌّ هُوَ) أي المعاد والقيامة من الأجداث بعد صيرورة الأجسام ترابا (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي ليس صيرورتكم ترابا بمعجز الله عن إعادتكم كما بدأكم من العدم ف (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] وهذه الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد في سورة سبأ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) [سبأ : ٣] وفي التغابن (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) [التغابن : ٧] ثم أخبر تعالى أنه إذا قامت القيامة يود الكافر لو افتدى من عذاب الله بملء الأرض ذهبا (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي بالحق (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

٢٣٨

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ(٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٥٦)

يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض وأن وعده حق كائن لا محالة وأنه يحيي ويميت وإليه مرجعهم ، وأنه القادر على ذلك العليم بما تفرق من الأجسام وتمزق في سائر أقطار الأرض والبحار والقفار.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٥٨)

يقول تعالى ممتنا على خلقه بما أنزله من القرآن العظيم على رسوله الكريم : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي زاجر عن الفواحش (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) أي من الشبه والشكوك وهو إزالة ما فيها من رجس ودنس ، وهدى ورحمة أي يحصل به الهداية والرحمة من الله تعالى ، وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين بما فيه ، كقوله تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [الإسراء : ٨٢] وقوله : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) [فصلت : ٤٤] الآية.

وقوله تعالى : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) أي بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق فليفرحوا ، فإنه أولى ما يفرحون به (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية الذاهبة لا محالة ، كما قال ابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية ، وذكر بسنده عن بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو ، سمعت أيفع بن عبد الكلاعي يقول : لما قدم خراج العراق إلى عمر رضي الله عنه ، خرج عمر ومولى له فجعل عمر يعد الإبل فإذا هي أكثر من ذلك ، فجعل عمر يقول الحمد لله تعالى ، ويقول مولاه هذا والله من فضل الله ورحمته ، فقال عمر : كذبت ليس هذا ، هو الذي يقول الله تعالى : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) الآية ، وهذا مما يجمعون ، وقد أسنده الحافظ أبو القاسم الطبراني ، فرواه عن أبي زرعة الدمشقي عن حيوة بن شريح عن بقية فذكره.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) (٦٠)

قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم : نزلت إنكارا على المشركين فيما كانوا يحللون ويحرمون من البحائر والسوائب والوصايل ، كقوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) [الأنعام : ١٣٦] الآيات ، وقال الإمام

٢٣٩

أحمد (١) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق ، سمعت أبا الأحوص ، وهو عوف بن مالك بن نضلة ، يحدث عن أبيه قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا رث الهيئة فقال : «هل لك مال؟ قلت نعم. قال من أي المال؟ قال قلت من كل المال من الإبل والرقيق والخيل والغنم ، فقال : «إذا آتاك الله مالا فلير عليك ـ وقال! هل تنتج إبلك صحاحا آذانها فتعمد إلى موسى فتقطع آذانها فتقول هذه بحر ، وتشق جلودها وتقول هذه صرم وتحرمها عليك وعلى أهلك» قال نعم قال «فإن ما آتاك الله لك حل ، ساعد الله أشد من ساعدك وموسى الله أحدّ من موساك» وذكر تمام الحديث.

ثم رواه عن سفيان بن عيينة عن أبي الزهراء عمرو بن عمرو عن عمه أبي الأحوص ، وعن بهز بن أسد عن حماد بن سلمة عن عبد الملك بن عمير عن أبي الأحوص به ، وهذا حديث جيد قوي الإسناد ، وقد أنكر الله تعالى على من حرم ما أحل الله أو أحل ما حرم بمجرد الآراء والأهواء التي لا مستند لها ولا دليل عليها ، ثم توعدهم على ذلك يوم القيامة فقال : (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي ما ظنهم أن يصنع بهم يوم مرجعهم إلينا يوم القيامة.

وقوله : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) قال ابن جرير (٢) : في تركه معاجلتهم بالعقوبة في الدنيا (قلت) ويحتمل أن يكون المراد لذو فضل على الناس فيما أباح لهم مما خلقه من المنافع في الدنيا ولم يحرم عليهم إلا ما هو ضار لهم في دنياهم أو دينهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) بل يحرمون ما أنعم الله به عليهم ، ويضيقون على أنفسهم فيجعلون بعضا حلالا وبعضا حراما. وهذا قد وقع فيه المشركون فيما شرعوه لأنفسهم ، وأهل الكتاب فيما ابتدعوه في دينهم.

وقال ابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية حدثنا أبي حدثنا أحمد بن أبي الحواري حدثنا رباح حدثنا عبد الله بن سليمان حدثنا موسى بن الصباح في قوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) قال إذا كان يوم القيامة يؤتى بأهل ولاية الله عزوجل فيقومون بين يدي الله عزوجل ثلاثة أصناف قال فيؤتى برجل من الصنف الأول فيقول : عبدي لما ذا عملت؟ فيقول يا رب خلقت الجنة وأشجارها وثمارها وأنهارها وحورها ونعيمها وما أعددت لأهل طاعتك فيها فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري شوقا إليها.

ـ قال! فيقول الله تعالى : عبدي إنما عملت للجنة هذه الجنة فادخلها ومن فضلي عليك قد أعتقتك من النار ومن فضلي عليك أن أدخلك جنتي فيدخل هو ومن معه الجنة ـ قال ـ ثم يؤتى برجل من الصنف الثاني فيقول عبدي لما ذا عملت فيقول يا رب خلقت نارا وخلقت أغلالها

__________________

(١) المسند ٣ / ٤٧٣ ، ٤٧٤ ، ٤ / ١٣٦ ، ١٣٧.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٥٧٢.

٢٤٠