تفسير القرآن العظيم - ج ٤

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٤

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤١

أصعر (١) ، فتجهز إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون معه ، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض من جهازي شيئا ، فأقول لنفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمّر بالناس الجد ، فأصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا وقلت أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه فغدوت بعد ما فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئا ، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فألحقهم وليت أني فعلت ، ثم لم يقدر ذلك لي فطفقت إذا خرجت في الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذره الله عزوجل ، ولم يذكرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بلغ تبوك ، فقال وهو جالس في القوم بتبوك : «ما فعل كعب بن مالك» فقال رجل من بني سلمة : حبسه يا رسول الله برداه والنظر في عطفيه.

فقال معاذ بن جبل : بئسما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا. فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال كعب بن مالك : فلما بلغني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد توجه قافلا من تبوك ، حضرني بثي وطفقت أتذكر الكذب ، وأقول بما ذا أخرج من سخطه غدا وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي ، فلما قيل إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أظل قادما ، زاح عني الباطل وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا ، فأجمعت صدقه فأصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين ثم جلس للناس ، فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا ، فيقبل منهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علانيتهم ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى ، حتى جئت فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ، ثم قال لي «تعال» فجئت أمشي حتى جلست بين يديه ، فقال لي : «ما خلفك ألم تكن قد اشتريت ظهرا» فقلت يا رسول الله إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر ، لقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي ، ولئن حدثتك بصدق تجد علي فيه إني لأرجو عقبى ذلك من الله عزوجل والله ما كان لي عذر ، والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك.

قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك» فقمت وقام إلى رجال من بني سلمة واتبعوني فقالوا لي : والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت إلا أن تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما اعتذر به المتخلفون ، فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لك ، قال : فو الله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي ،

__________________

(١) أصعر : أي أميل.

٢٠١

قال ثم قلت لهم هل لقي معي هذا أحد؟ قالوا نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت ، وقيل لهما مثل ما قيل لك ، فقلت فمن هما؟ قالوا مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي ، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهد بدرا لي فيهما أسوة.

قال : فمضيت حين ذكروهما لي قال ونهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه ، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان ، وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم ، فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد ، وآتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم وأقول في نفسي أحرك شفتيه برد السلام عليّ أم لا؟ ثم أصلّي قريبا منه وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ ، فإذا التفت نحوه أعرض عنّي ، حتّى إذا طال عليّ ذلك من هجر المسلمين مشيت حتّى تسوّرت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ ، فسلمت عليه فو الله ما رد علي السلام ، فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال فسكت ، قال فعدت له فنشدته فسكت ، فعدت له فنشدته فسكت ، فقال الله ورسوله أعلم.

قال ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار ، فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا أنا بنبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك ، قال فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاء فدفع إلى كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا ، فإذا فيه : أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك وإن الله لم يجعلك في دار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسيك ، قال : فقلت حين قرأته وهذا أيضا من البلاء ، قال : فتيممت به التنور فسجرته به حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين ، إذا برسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتيني يقول : يأمرك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تعتزل امرأتك ، قال فقلت أطلقها أم ماذا أفعل؟ فقال : بل اعتزلها ولا تقربها ، قال وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك ، قال فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما يشاء ، قال فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله إن هلالا شيخ ضعيف ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه ، قال «لا ولكن لا يقربنّك» قالت وإنه والله ما به من حركة إلى شيء ، وإنه والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا ، قال فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه ، قال فقلت والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أدري ما يقول فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا استأذنته وأنا رجل شاب.

قال : فلبثنا عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا ، قال : ثم صليت صلاة الصبح صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا ، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت ، سمعت صارخا أوفى

٢٠٢

على جبل سلع يقول بأعلى صوته : أبشر يا كعب بن مالك ، قال : فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء الفرج من الله عزوجل بالتوبة علينا ، فآذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر ، فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبيّ مبشرون ، وركض إلي رجل فرسا وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس.

فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ فكسوتهما إياه ببشارته ، والله ما أملك يومئذ غيرهما ، واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت أؤم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتلقاني الناس فوجا فوجا يهنوني بتوبة الله ، يقولون ليهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد ، فإذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس في المسجد والناس حوله ، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ، قال : فكان كعب لا ينساها لطلحة ، قال كعب : فلما سلمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك» قال : قلت أمن عندك رسول الله أم من عند الله؟ قال «لا بل من عند الله» قال وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر حتى يعرف ذلك منه ، فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله ، قال «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك».

قال : فقلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر وقلت يا رسول الله : إنما نجاني الله بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت ، قال : فو الله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى ، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يومي هذا ، وإني لأرجو أن يحفظني الله عزوجل فيما بقي.

(قال) وأنزل الله تعالى : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) إلى آخر الآيات. قال كعب : فو الله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ ، أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه ، فإن الله تعالى قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد ، فقال الله تعالى : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) [التوبة : ٩٦] قال : وكنا أيها الثلاثة الذين خلفنا عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين حلفوا فبايعهم واستغفر لهم ، وأرجأ رسول الله أمرنا

٢٠٣

حتى قضى الله فيه ، فلذلك قال عزوجل (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) وليس تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا الذي ذكر مما خلفنا بتخليفنا عن الغزو ، وإنما هو عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه (١).

هذا حديث صحيح ثابت متفق على صحته رواه صاحبا الصحيح البخاري ومسلم ، من حديث الزهري بنحوه ، فقد تضمن هذا الحديث تفسير هذه الآية الكريمة بأحسن الوجوه وأبسطها ، وكذا روي عن غير واحد من السلف في تفسيرها ، كما رواه الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله في قوله تعالى : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) قال : هم كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ، وكلهم من الأنصار ، وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد وكلهم قال مرارة بن ربيعة ، وكذا في مسلم بن ربيعة في بعض نسخه ، وفي بعضها مرارة بن الربيع ، وفي رواية عن الضحاك مرارة بن الربيع كما وقع في الصحيحين وهو الصواب ، وقوله فسموا رجلين شهدا بدرا قيل إنه خطأ من الزهري ، فإنه لا يعرف شهود واحد من هؤلاء الثلاثة بدرا ، والله أعلم.

ولما ذكر تعالى ما فرج به عن هؤلاء الثلاثة من الضيق والكرب من هجر المسلمين إياهم نحوا من خمسين ليلة بأيامها ، وضاقت عليهم أنفسهم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، أي مع سعتها فسدت عليهم المسالك والمذاهب فلا يهتدون ما يصنعون ، فصبروا لأمر الله واستكانوا لأمر الله وثبتوا حتى فرج الله عنهم بسبب صدقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تخلفهم ، وأنه كان عن غير عذر فعوقبوا على ذلك هذه المدة ثم تاب الله عليهم ، فكان عاقبة صدقهم خيرا لهم وتوبة عليهم ، ولهذا قال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أي اصدقوا والزموا الصدق تكونوا من أهله وتنجوا من المهالك ، ويجعل لكم فرجا من أموركم ومخرجا.

وقد قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن شقيق عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» (٣) أخرجاه في الصحيحين.

وقال شعبة عن عمرو بن مرة : سمع أبا عبيدة يحدث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ، اقرءوا إن شئتم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) هكذا قرأها ، ثم قال فهل تجدون لأحد فيه رخصة (٤) ، وعن عبد الله بن

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٩ ، باب ١٨ ، ومسلم في التوبة حديث ٥٣.

(٢) المسند ١ / ٣٨٤.

(٣) أخرجه البخاري في الأدب باب ٦٩ ، ومسلم في البر حديث ١٠٣ ، ١٠٤ ، ١٠٥.

(٤) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٠٩ ، ٥١٠.

٢٠٤

عمرو في قوله (اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) قال مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وقال الضحاك مع أبي بكر وعمر وأصحابهما (١) ، وقال الحسن البصري إن أردت أن تكون مع الصادقين فعليك بالزهد في الدنيا والكف عن أهل الملة.

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (١٢٠)

يعاتب تبارك وتعالى المتخلفين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك من أهل المدينة ومن حولها من أحياء العرب ، ورغبتهم بأنفسهم عن مواساته فيما حصل له من المشقة ، فإنهم نقصوا أنفسهم من الأجر لأنهم (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) وهو العطش (وَلا نَصَبٌ) وهو التعب (وَلا مَخْمَصَةٌ) وهي المجاعة (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ). أي ينزلون منزلا يرهب عدوهم (وَلا يَنالُونَ) منه ظفرا وغلبة عليه (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) بهذه الأعمال التي ليست داخلة تحت قدرهم وإنما هي ناشئة عن أفعالهم أعمالا صالحة وثوابا جزيلا (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) كقوله (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف : ٣٠].

(وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢١)

يقول تعالى : (وَلا يُنْفِقُونَ) هؤلاء الغزاة في سبيل الله (نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) أي قليلا ولا كثيرا (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) أي في السير إلى الأعداء (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) ولم يقل هاهنا به ، لأن هذه أفعال صادرة عنهم ، ولهذا قال : (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وقد حصل لأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه من هذه الآية الكريمة حظ وافر ونصيب عظيم ، وذلك أنه أنفق في هذه الغزوة النفقات الجليلة والأموال الجزيلة ، كما قال عبد الله ابن الإمام أحمد : حدثنا أبو موسى العنزي ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، حدثني سليمان بن المغيرة ، حدثني الوليد بن أبي هشام ، عن فرقد أبي طلحة ، عن عبد الرحمن بن خباب السلمي ، قال : خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحث على جيش العسرة فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه : عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها ، قال ثم حث ، فقال عثمان : عليّ مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها ، قال ثم نزل مرقاة من المنبر ثم حث ، فقال عثمان بن عفان : عليّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال : فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال بيده هكذا يحركها ، وأخرج عبد الصمد يده

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٠٩.

٢٠٥

كالمتعجب «ما على عثمان ما عمل بعد هذا» (١).

وقال عبد الله أيضا : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ضمرة ، حدثنا عبد الله بن شوذب ، عن عبد الله بن القاسم عن كثير مولى عبد الرحمن بن سمرة عن عبد الرحمن بن سمرة ، قال : جاء عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بألف دينار في ثوبه حتى جهز النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جيش العسرة ، قال : فصبها في حجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقلبها بيده ويقول : «ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم» يرددها مرارا (٢) ، وقال قتادة في قوله تعالى : (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) الآية. ما ازداد قوم في سبيل الله بعدا من أهليهم إلا ازدادوا قربا من الله.

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١٢٢)

هذا بيان من الله تعالى لما أراد من نفير الأحياء مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، فإنه قد ذهبت طائفة من السلف إلى أنه كان يجب النفير على كل مسلم إذا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولهذا قال تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) [التوبة : ٤١] وقال (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) [التوبة : ١٢١] الآية ، قال فنسخ ذلك بهذه الآية. وقد يقال إن هذا بيان لمراده تعالى من نفير الأحياء كلها وشرذمة من كل قبيلة إن لم يخرجوا كلهم ، ليتفقه الخارجون مع الرسول بما ينزل من الوحي عليه وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بما كان من أمر العدو ، فيجتمع لهم الأمران في هذا النفير المعين ، وبعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكون الطائفة النافرة من الحي إما للتفقه وإما للجهاد ، فإنه فرض كفاية على الأحياء.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) يقول : ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) يعني عصبة يعني السرايا ولا يسيروا إلا بإذنه ، فإذا رجعت السرايا وقد أنزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا إن الله قد أنزل على نبيكم قرآنا وقد تعلمناه فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم ويبعث سرايا أخرى ، فذلك قوله : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) يقول : ليتعلموا ما أنزل الله على نبيهم وليعلموا السرايا إذا رجعت إليهم ، (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (٣).

وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في أناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خرجوا في البوادي فأصابوا من الناس معروفا ، ومن الخصب ما ينتفعون به ، ودعوا من وجدوا من الناس إلى

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ٧٥.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٦٣.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥١٤.

٢٠٦

الهدى ، فقال الناس لهم : ما نراكم إلا وقد تركتم أصحابكم وجئتمونا؟ فوجدوا في أنفسهم من ذلك تحرجا وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال الله عزوجل : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) يبغون الخير (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) وليستمعوا ما في الناس وما أنزل الله فعذرهم (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) الناس كلهم إذا رجعوا إليهم (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١).

وقال قتادة في الآية : هذا إذا بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجيوش أمرهم الله أن يغزوا بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقيم طائفة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تتفقه في الدين ، وتنطلق طائفة تدعو قومها وتحذرهم وقائع الله فيمن خلا قبلهم (٢).

وقال الضحاك : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا غزا بنفسه لم يحل لأحد من المسلمين أن يتخلف عنه إلا أهل الأعذار ، وكان إذا قام وأسرى السرايا لم يحل لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه ، وكان الرجل إذا أسرى فنزل بعده قرآن وتلاه نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه القاعدين معه ، فإذا رجعت السرية قال لهم الذين أقاموا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله أنزل بعدكم على نبيه قرآنا فيقرئونهم ويفقهونهم في الدين ، وهو قوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) يقول إذا أقام رسول الله (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) يعني بذلك أنه لا ينبغي للمسلمين أن ينفروا جميعا ونبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاعد ، ولكن إذا قعد نبي الله فسرت السرايا وقعد معه معظم الناس (٣).

وقال علي بن أبي طلحة أيضا عن ابن عباس في الآية ، قوله (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) إنها ليست في الجهاد ، ولكن لما دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مضر بالسنين ، أجدبت بلادهم وكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها ، حتى يحلوا بالمدينة من الجهد ويعتلوا بالإسلام وهم كاذبون ، فضيقوا على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأجهدوهم ، فأنزل الله تعالى يخبر رسوله أنهم ليسوا مؤمنين ، فردهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عشائرهم وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم ، فذلك قوله : (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) الآية (٤).

وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية : كان ينطلق من كل حي من العرب عصابة فيأتون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسألونه عما يريدون من أمر دينهم ويتفقهون في دينهم ، ويقولون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما تأمرنا أن نفعله؟ وأخبرنا بما نأمر به عشائرنا إذا قدمنا عليهم ، قال فيأمرهم نبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بطاعة الله ورسوله ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة ، وكانوا إذا أتوا قومهم قالوا : إن من أسلم فهو منا وينذرونهم ، حتى إن الرجل ليفارق أباه ، وأمه ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبرهم وينذرهم قومهم ، فإذا رجعوا إليهم يدعونهم إلى الإسلام وينذرونهم النار ويبشرونهم

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥١٣.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥١٤.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٥١٤.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٥١٤.

٢٠٧

بالجنة (١).

وقال عكرمة لما نزلت هذه الآية (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) [التوبة : ٣٩] و (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ) [التوبة : ١٢٠] الآية ، قال المنافقون : هلك أصحاب البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه ، وقد كان ناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرجوا إلى البدو إلى قومهم يفقهونهم فأنزل الله عزوجل (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) الآية ، ونزلت (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) (٢) [الشورى : ١٦] وقال الحسن البصري في الآية : ليتفقه الذين خرجوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين والنصرة ، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم (٣).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (١٢٣)

أمر الله تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولا ، فأولا الأقرب فالأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام ، ولهذا بدأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتال المشركين في جزيرة العرب ، فلما فرغ منهم وفتح الله عليه مكة والمدينة والطائف واليمن واليمامة وهجر وخيبر وحضر موت وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب ، ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجا ، شرع في قتال أهل الكتاب ، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب وأولى الناس بالدعوة إلى الإسلام لأنهم أهل الكتاب ، فبلغ تبوك ثم رجع لأجل جهد الناس وجدب البلاد وضيق الحال ، وذلك سنة تسع من هجرته عليه‌السلام ، ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجة الوداع ، ثم عاجلته المنية صلوات الله وسلامه عليه بعد حجته بأحد وثمانين يوما ، فاختاره الله لما عنده.

وقام بالأمر بعده وزيره وصديقه وخليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وقد مال الدين ميلة كاد أن ينجفل فثبته الله تعالى به ، فوطد القواعد وثبت الدعائم ، ورد شارد الدين وهو راغم ، ورد أهل الردة إلى الإسلام ، وأخذ الزكاة ممن منعها من الطغام (٤) ، وبين الحق لمن جهله ، وأدى عن الرسول ما حمله ، ثم شرع في تجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم عبدة الصلبان ، وإلى الفرس عبدة النيران ، ففتح الله ببركة سفارته البلاد ، وأرغم أنف كسرى وقيصر ومن أطاعهما من العباد. وأنفق كنوزهما في سبيل الله كما أخبر بذلك رسول الله وكان تمام الأمر على يدي وصيه من بعده ، وولي عهده الفاروق الأواب ، شهيد المحراب ، أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فأرغم الله به أنوف الكفرة الملحدين ، وقمع الطغاة والمنافقين

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥١٤ ، ٥١٥.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥١٥.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥١٦.

(٤) الطغام : أوغاد الناس.

٢٠٨

واستولى على الممالك شرقا وغربا.

وحملت إليه خزائن الأموال من سائر الأقاليم بعدا وقربا : ففرقها على الوجه الشرعي. والسبيل المرضي. ثم لما مات شهيدا وقد عاش حميدا. أجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار على خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه شهيد الدار.

فكسى الإسلام رئاسته حلة سابغة. وامتدت في سائر الأقاليم على رقاب العباد حجة الله البالغة. فظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. وعلت كلمة الله وظهر دينه. وبلغت الملة الحنيفية من أعداء الله غاية مآربها. وكلما علوا أمة انتقلوا إلى من بعدهم ثم الذين يلونهم من العتاة الفجار ، امتثالا لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) [التوبة : ١٢٣] وقوله تعالى : (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) أي وليجد الكفار منكم غلظة في قتالكم لهم ، فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقا لأخيه المؤمن غليظا على عدوه الكافر.

كقوله تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة : ٥٤] وقوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩] وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ٧٣ والتحريم : ٩] وفي الحديث : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنا الضحوك القتال» يعني أنه ضحوك في وجه وليه قتال لهامة عدوه ، وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أي قاتلوا الكفار وتوكلوا على الله واعلموا أن الله معكم إذا اتقيتموه وأطعتموه ، وهكذا الأمر لما كانت القرون الثلاثة الذين هم خير هذه الأمة في غاية الاستقامة والقيام بطاعة الله تعالى لم يزالوا ظاهرين على عدوهم. ولم تزل الفتوحات كثيرة ولم تزل الأعداء في سفال وخسار.

ثم لما وقعت الفتن والأهواء والاختلافات بين الملوك طمع الأعداء في أطراف البلاد وتقدموا إليها ، فلم يمانعوا لشغل الملوك بعضهم ببعض ، ثم تقدموا إلى حوزة الإسلام فأخذوا من الأطراف بلدانا كثيرة ، ثم لم يزالوا حتى استحوذوا على كثير من بلاد الإسلام ولله لأمر من قبل ومن بعد ، فكلما قام ملك من ملوك الإسلام وأطاع أوامر الله وتوكل على الله فتح الله عليه من البلاد واسترجع من الأعداء بحسبه وبقدر ما فيه من ولاية الله. والله المسؤول المأمول أن يمكن المسلمين من نواصي أعدائه الكافرين وأن يعلي كلمتهم في سائر الأقاليم إنه جواد كريم.

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) (١٢٥)

يقول تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) فمن المنافقين (مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) أي يقول بعضهم لبعض أيكم زادته هذه السورة إيمانا قال الله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ

٢٠٩

إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) وهذه الآية من أكبر الدلائل على أن الإيمان يزيد وينقص ، كما هو مذهب أكثر السلف والخلف من أئمة العلماء. بل قد حكى غير واحد الإجماع على ذلك. وقد بسط الكلام على هذه المسألة في أول شرح البخاري رحمه‌الله (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) أي زادتهم شكا إلى شكهم وريبا إلى ريبهم كما قال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ) الآية ، وقوله تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [فصلت : ٤٤] وهذا من جملة شقائهم أن ما يهدي القلوب يكون سببا لضلالهم ودمارهم كما أن سيئ المزاج لو غذي به لا يزيده إلا خبالا ونقصا.

(أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ(١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (١٢٧)

يقول : تعالى أو لا يرى هؤلاء المنافقون (أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ) أي يختبرون (فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي لا يتوبون من ذنوبهم السالفة ولا هم يذكرون فيما يستقبل من أحوالهم ، قال مجاهد يختبرون بالسنة والجوع وقال قتادة بالغزو في السنة مرة أو مرتين ، وقال شريك عن جابر : هو الجعفي عن أبي الضحى عن حذيفة في قوله : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) قال : كنا نسمع في كل عام كذبة أو كذبتين فيضل بها فئام من الناس كثير رواه ابن جرير (١) وفي الحديث عن أنس : لا يزداد الأمر إلا شدة ولا يزداد الناس إلا شحا وما من عام إلا والذي بعده شر منه ، سمعته من نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

وقوله : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) هذا أيضا إخبار عن المنافقين أنهم إذا أنزلت سورة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) أي تلفتوا (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا) أي تولوا عن الحق وانصرفوا عنه وهذا حالهم في الدين لا يثبتون عند الحق ولا يقبلونه ولا يفهمونه كقوله تعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) [المدثر : ٤٩ ـ ٤١] وقوله تعالى : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) [المعارج : ٣٦ ـ ٣٧] أي ما لهؤلاء القوم يتفللون عنك يمينا وشمالا هروبا من الحق وذهابا إلى الباطل وقوله : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) كقوله : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) [الصف : ٥] أي لا يفهمون عن الله خطابه ولا يقصدون لفهمه

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٥٢٠.

(٢) أخرجه ابن ماجة في الفتن باب ٢٤.

٢١٠

ولا يريدونه بل هم في شغل عنه ونفور منه فلهذا صاروا إلى ما صاروا إليه.

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (١٢٩)

يقول تعالى ممتنا على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولا من أنفسهم أي من جنسهم وعلى لغتهم كما قال إبراهيم عليه‌السلام : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة : ١٢٩] وقال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [آل عمران : ١٦٤] وقال تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي منكم وبلغتكم كما قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي والمغيرة بن شعبة لرسول كسرى : إن الله بعث فينا رسولا منا نعرف نسبه وصفته ومدخله ومخرجه وصدقه وأمانته وذكر الحديث وقال سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه في قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) قال : لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح» (١).

وقد وصل هذا من وجه آخر كما قال الحافظ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي في كتابه الفاصل بين الراوي والواعي : حدثنا أبو أحمد يوسف بن هارون بن زياد حدثنا ابن أبي عمر حدثنا محمد بن جعفر بن محمد قال : أشهد على أبي لحدثني عن أبيه عن جده عن علي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي لم يمسني من سفاح الجاهلية شيء».

وقوله تعالى : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها ولهذا جاء في الحديث المروي من طرق عنه أنه قال : «بعثت بالحنيفية السمحة» (٢) وفي الصحيح «إن هذا الدين يسر وشريعته كلها سهلة سمحة كاملة يسيرة على من يسرها الله تعالى عليه» (٣) (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم ، وقال الطبراني حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا سفيان بن عيينة عن فطن عن أبي الطفيل عن أبي ذر قال : تركنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علما قال : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم» وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا قطن حدثنا المسعودي عن

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٢٢.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٢٦٦ ، ٦ / ٢٣٣.

(٣) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٢٩ ، وأحمد في المسند ٥ / ٦٩.

(٤) المسند ١ / ٣٩٠.

٢١١

الحسن بن سعد عن عبدة الهذلي عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لم يحرم حرمة إلا وقد علم أنه سيطلعها منكم مطلع ألا وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار كتهافت الفراش أو الذباب».

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه ملكان فيما يرى النائم فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه. فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : اضرب مثل هذا ومثل أمته فقال : إن مثله ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة ولم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة فقال : أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء تتبعوني؟ فقالوا : نعم قال : فانطلق بهم فأوردهم رياضا معشبة وحياضا رواء فأكلوا وشربوا وسمنوا فقال لهم : ألم ألفكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أن تتبعوني؟ فقالوا بلى فقال : فإن بين أيديكم رياضا هي أعشب من هذه وحياضا هي أروى من هذه فاتبعوني فقالت طائفة صدق والله لنتبعه ، وقالت طائفة قد رضينا بهذا نقيم عليه.

وقال البزار : حدثنا سلمة بن شبيب وأحمد بن منصور قالا حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان حدثنا أبي عن عكرمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا جاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يستعينه في شيء قال عكرمة : أراه قال في دم فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا ثم قال : «أحسنت إليك» قال الأعرابي لا ولا أجملت فغضب بعض المسلمين وهموا أن يقوموا إليه فأشار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم أن كفوا فلما قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبلغ إلى منزله دعا الأعرابي إلى البيت فقال : «إنك إنما جئتنا تسألنا فأعطيناك فقلت ما قلت» فزاده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا وقال : «أحسنت إليك؟» فقال الأعرابي نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت. وفي أنفس أصحابي عليك من ذلك شيء فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب عن صدورهم» فقال : نعم فلما جاء الأعرابي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن صاحبكم كان جاء فسألنا فأعطيناه فقال ما قال ، وإنا قد دعوناه فأعطيناه فزعم أنه قد رضي ، كذلك يا أعرابي؟» فقال الأعرابي : نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورا. فقال لهم صاحب الناقة خلوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها وأنا أعلم بها فتوجه إليها وأخذ لها من قتام الأرض ودعاها حتى جاءت واستجابت وشد عليها

__________________

(١) المسند ١ / ٢٦٧.

٢١٢

رحلها وإني لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل النار» رواه البزار ثم قال لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه.

(قلت) وهو ضعيف بحال إبراهيم بن الحكم بن أبان والله أعلم ، وقوله : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) كقوله (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) [الشعراء : ٢١٥ ـ ٢١٧] وهكذا أمره تعالى في هذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي تولوا عما جئتم به من الشريعة العظيمة المطهرة الكاملة الشاملة (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي الله كافي لا إله إلا هو عليه توكلت كما قال تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) [المزمل : ٩].

(وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي هو مالك كل شيء وخالقه ، لأنه رب العرش العظيم الذي هو سقف المخلوقات وجميع الخلائق من السموات والأرضين وما فيهما وما بينهما تحت العرش مقهورون بقدرة الله تعالى ، وعلمه محيط بكل شيء وقدره نافذ في كل شيء وهو على كل شيء وكيل.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا بشر بن عمر حدثنا شعبة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما عن أبي بن كعب قال : آخر آية نزلت من القرآن هذه الآية (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إلى آخر السورة ، وقال عبد الله ابن الإمام أحمد حدثنا روح بن عبد المؤمن حدثنا عمر بن شقيق حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنهم أنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر رضي الله عنه فكان رجال يكتبون ويملي عليهم أبي بن كعب فلما انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [التوبة : ١٢٧] الآية فظنوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن فقال لهم أبي بن كعب إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرأني بعدها آيتين (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إلى آخر السورة قال هذا آخر ما نزل من القرآن فختم بما فتح به بالله الذي لا إله إلا هو وهو قول الله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (٢) [الأنبياء : ٢٥] وهذا غريب أيضا.

وقال أحمد (٣) : حدثنا علي بن بحر حدثنا علي بن محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر براءة (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إلى عمر بن الخطاب فقال : من

__________________

(١) المسند ٥ / ١١٧.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ١٣٤.

(٣) المسند ١ / ١٩٩.

٢١٣

معك على هذا؟ قال : لا أدري والله إني لأشهد لسمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووعيتها وحفظتها فقال عمر : وأنا أشهد لسمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا سورة من القرآن فضعوها فيها ، فوضعوها في آخر براءة.

وقد تقدم الكلام أن عمر بن الخطاب هو الذي أشار علي أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بجمع القرآن فأمر زيد بن ثابت فجمعه وكان عمر يحضرهم وهم يكتبون ذلك ، وفي الصحيح أن زيدا قال : فوجدت آخر سورة براءة مع خزيمة بن ثابت أو أبي خزيمة (١) ، وقد قدمنا أن جماعة من الصحابة تذكروا ذلك عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال خزيمة بن ثابت حين ابتدأهم بها والله أعلم.

وقد روى أبو داود (٢) عن يزيد بن محمد عن عبد الرزاق بن عمر ـ وقال : كان من ثقات المسلمين من المتعبدين عن مدرك بن سعد قال يزيد شيخ ثقة عن يونس بن ميسرة عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال : من قال إذا أصبح وإذا أمسى : حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم. سبع مرات إلا كفاه الله ما أهمه.

وقد رواه ابن عساكر في ترجمة عبد الرزاق عن عمر ، هذا من رواية أبي زرعة الدمشقي عنه عن أبي سعد مدرك بن أبي سعد الفزاري عن يونس بن ميسرة بن حليس عن أم الدرداء سمعت أبا الدرداء يقول : ما من عبد يقول : حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات صادقا كان بها أو كاذبا إلا كفاه الله ما أهمه. وهذه زيادة غريبة ، ثم رواه في ترجمة عبد الرزاق أبي محمد عن أحمد بن عبد الله بن عبد الرزاق عن جده عبد الرزاق بن عمر بسنده فرفعه فذكر مثله بالزيادة وهذا منكر ، والله أعلم.

آخر سورة براءة ولله الحمد والمنة

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٩ ، باب ٢٠.

(٢) أخرجه أبو داود في الأدب باب ١٠١.

٢١٤

سورة يونس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) (٢)

أما الحروف المقطعة في أوائل السور فقد تقدم الكلام عليها في أوائل سورة البقرة ، وقال أبو الضحى عن ابن عباس في قوله تعالى : (الر) أي أنا الله أرى (١). وكذلك قال الضحاك. وغيره (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) أي هذه آيات القرآن المحكم المبين وقال مجاهد (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ). وقال الحسن : التوراة والزبور ، وقال قتادة : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) قال الكتب التي كانت قبل القرآن ، وهذا القول لا أعرف وجهه ولا معناه.

وقوله (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) الآية. يقول تعالى منكرا على من تعجب من الكفار من إرسال المرسلين من البشر كما أخبر تعالى عن القرون الماضين من قولهم : (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) [التغابن : ٦] وقال هود وصالح لقومهما : (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) [الأعراف : ٦٣ ـ ٦٩] وقال تعالى مخبرا عن كفار قريش أنهم قالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص : ٥] وقال الضحاك عن ابن عباس : لما بعث الله تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم فقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد قال فأنزل الله عزوجل (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) (٢) الآية.

وقوله : (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) اختلفوا فيه فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ) يقول سبقت لهم السعادة في الذكر الأول (٣) وقال العوفي عن ابن عباس (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يقول : أجرا حسنا بما قدموا (٤) وكذا قال الضحاك والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهذا كقوله تعالى : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً) [الكهف : ٢] الآية ، وقال مجاهد (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) قال الأعمال الصالحة صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم قال : ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشفع لهم ، وكذا قال

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٢٥.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٢٧.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٢٨.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٥٢٨.

٢١٥

زيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقال قتادة سلف صدق عند ربهم واختار ابن جرير قول مجاهد أن الأعمال الصالحة التي قدموها كما يقال له قدم في الإسلام ، كقول حسان : [الطويل]

لنا القدم العليا إليك وخلفنا

لأوّلنا في طاعة الله تابع (١)

وقول ذي الرمة : [الطويل]

لكم قدم لا ينكر الناس أنها

مع الحسب العادي طمت على البحر (٢)

وقوله تعالى : (قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) أي مع أنا بعثنا إليهم رسولا منهم رجلا من جنسهم بشيرا ونذيرا (قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) أي ظاهر وهم الكاذبون في ذلك.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٣)

يخبر تعالى أنه رب العالم جميعه ، وأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام قيل كهذه الأيام وقيل كل يوم كألف سنة مما تعدون كما سيأتي بيانه ثم على استوى العرش والعرش أعظم المخلوقات وسقفها. قال ابن أبي حاتم حدثنا حجاج بن حمزة حدثنا أبو أسامة حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال سمعت سعدا الطائي يقول : العرش ياقوتة حمراء ، وقال وهب بن منبه خلقه الله من نوره وهذا غريب. وقوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي يدبر أمر الخلائق (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) [سبأ : ٣] ولا يشغله شأن عن شأن ولا تغلطه المسائل ولا يتبرم بإلحاح الملحين ولا يلهيه تدبير الكبير عن الصغير في الجبال والبحار والعمران والقفار (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود : ٦] الآية.

(وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٥٩] وقال الدراوردي عن سعد بن إسحاق بن كعب أنه قال حين نزلت هذه الآية (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآية ، لقيهم ركب عظيم لا يرون إلا أنهم من العرب فقالوا لهم : من أنتم؟ قالوا : من الجن خرجنا من المدينة أخرجتنا هذه الآية رواه ابن أبي حاتم. وقوله : (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) كقوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥] وكقوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) [النجم : ٢٦] وقوله : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ

__________________

(١) البيت لحسان بن ثابت الأنصاري في ديوانه ص ٢٤١ ، ولسان العرب (خلف) ، والمخصص ١٦ / ١٨٩ ، وتاج العروس (خلف) ، والمذكر والمؤنث للأنباري ص ١٩٧ ، والمستقصى ٢ / ٣٠١. وتفسير الطبري ٦ / ٥٢٩.

(٢) البيت الذي الرمة في تفسير البحر المحيط ٥ / ١٢٧ ، وتفسير الطبري ٦ / ٥٢٩.

٢١٦

إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبأ : ٢٣] وقوله (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أفردوه بالعبادة وحده لا شريك له (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أيها المشركون في أمركم تعبدون مع الله إلها غيره وأنتم تعلمون أنه المتفرد بالخلق كقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف : ٨٧] وقوله : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) [المؤمنون : ٨٦ ـ ٨٧] وكذا الآية التي قبلها والتي بعدها.

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٤)

يخبر تعالى أن إليه مرجع الخلائق يوم القيامة لا يترك منهم أحدا حتى يعيده كما بدأه ، ثم ذكر تعالى أنه كما بدأ الخلق كذلك يعيده (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل والجزاء الأوفى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي بسبب كفرهم يعذبون يوم القيامة بأنواع العذاب. من (سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) [الواقعة : ٤٢ ـ ٤٣] (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) [ص : ٥٧ ـ ٥٨] (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن : ٤٣ ـ ٤٤].

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) (٦)

يخبر تعالى عما خلق من الآيات الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه أنه جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء وجعل شعاع القمر نورا ، هذا فن وهذا فن آخر ، ففاوت بينهما لئلا يشتبها ، وجعل سلطان الشمس بالنهار وسلطان القمر بالليل ، وقدر القمر منازل ، فأول ما يبدو صغيرا ثم يتزايد نوره وجرمه حتى يستوسق ويكمل إبداره ، ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حالته الأولى في تمام شهر كقوله تعالى : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس : ٤٠] وقوله تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) [الأنعام : ٩٦] الآية ، وقوله في هذه الآية الكريمة : (وَقَدَّرَهُ) أي القمر (مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) فبالشمس تعرف الأيام وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام.

(ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) أي لم يخلقه عبثا بل له حكمة عظيمة في ذلك وحجة بالغة كقوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ

٢١٧

كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ص : ٢٧] وقال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [المؤمنون : ١١٥ ـ ١١٦] وقوله : نفصل الآيات أي نبين الحجج والأدلة (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) وقوله : (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي تعاقبهما إذا جاء هذا ذهب هذا وإذا ذهب هذا جاء هذا لا يتأخر عنه شيئا كقوله تعالى : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) [الأعراف : ٥] وقال : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) [يس : ٤٠] الآية.

وقال تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) [الأنعام : ٩٦] الآية ، وقوله : (وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي من الآيات الدالة على عظمته تعالى كما قال : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [يوسف : ١٠٥] الآية ، وقوله : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ١٠١] وقال : (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [سبأ : ٩٥] وقال : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) [آل عمران : ١٩٠] أي العقول ، وقال هاهنا (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) أي عقاب الله وسخطه وعذابه.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨)

يقول تعالى مخبرا عن حال الأشقياء الذين كفروا بلقاء الله يوم القيامة ولا يرجون في لقائه شيئا ورضوا بهذه الحياة الدنيا واطمأنت إليها نفوسهم. قال الحسن : والله ما زينوها ولا رفعوها حتى رضوا بها وهم غافلون عن آيات الله الكونية فلا يتفكرون فيها والشرعية فلا يأتمرون بها فإن مأواهم يوم معادهم النار جزاء على ما كانوا يكسبون في دنياهم من الآثام والخطايا والإجرام مع ما هم فيه من الكفر بالله ورسوله واليوم الآخر.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٠)

هذا إخبار عن حال السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين وامتثلوا ما أمروا به فعملوا الصالحات بأنه سيهديهم بإيمانهم ، يحتمل أن تكون الباء هاهنا سببية فتقديره بسبب إيمانهم في الدنيا يهديهم الله يوم القيامة على الصراط المستقيم حتى يجوزوه ويخلصوا إلى الجنة ، ويحتمل أن تكون للاستعانة كما قال مجاهد في قوله : (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) قال : يكون

٢١٨

لهم نورا يمشون به (١) ، وقال ابن جريج في الآية : يمثل له عمله في صورة حسنة وريح طيبة إذا قام من قبره يعارض صاحبه ويبشره بكل خير فيقول له : من أنت؟ فيقول : أنا عملك فيجعل له نورا من بين يديه حتى يدخله الجنة فذلك قوله تعالى : (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) والكافر يمثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة فيلزم صاحبه ويلازّه (٢) حتى يقذفه في النار (٣) ، وروي نحوه عن قتادة مرسلا فالله أعلم.

وقوله : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي هذا حال أهل الجنة. قال ابن جريج أخبرت بأن قوله : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ) قال : إذا مرّ بهم الطير يشتهونه قالوا سبحانك اللهم وذلك دعواهم فيأتيهم الملك بما يشتهونه فيسلم عليهم فيردون عليه فذلك قوله : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) قال فإذا أكلوا حمدوا الله فذلك قوله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

وقال مقاتل بن حيان : إذا أراد أهل الجنة أن يدعوا بالطعام قال أحدهم (سُبْحانَكَ اللهُمَ) قال فيقوم على أحدهم عشرة آلاف خادم مع كل خادم صحفة من ذهب فيها طعام ليس في الأخرى قال فيأكل منهن كلهن ، وقال سفيان الثوري : إذا أراد أحدهم أن يدعو بشيء قال (سُبْحانَكَ اللهُمَ) وهذه الآية فيها شبه من قوله : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) [الأحزاب : ٤٤] الآية.

وقوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) [الواقعة : ٢٥ ـ ٢٦] وقوله : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨] وقوله : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣ ـ ٢٤] الآية ، وقوله (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) هذا فيه دلالة على أنه تعالى هو المحمود أبدا ، المعبود على طول المدى ، ولهذا حمد نفسه عند ابتداء خلقه واستمراره وفي ابتداء كتابه وعند ابتداء تنزيله حيث يقول تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) [الكهف : ١] (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ١] إلى غير ذلك من الأحوال التي يطول بسطها وأنه المحمود في الأولى والآخرة في الحياة الدنيا وفي الآخرة وفي جميع الأحوال ولهذا جاء في الحديث : «إن أهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس» (٤). وإنما يكون ذلك كذلك لما يرون من تزايد نعم الله عليهم فتكرر وتعاد وتزداد فليس لها انقضاء ولا أمد فلا إله إلا هو ولا رب سواه.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٣٤.

(٢) يلازّه : يقارنه ويلازمه ويلصق به.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٣٤.

(٤) أخرجه مسلم في الجنة حديث ١٨ ، ١٩ ، والدارمي في الرقاق باب ١٠٤ ، وأحمد في المسند ٣ / ٣٤٩ ، ٣٥٤ ، ٣٨٤.

٢١٩

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١١)

يخبر تعالى عن حلمه ولطفه بعباده أنه لا يستجيب له إذا دعوا على أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم في حال ضجرهم وغضبهم وأنه يعلم منهم عدم القصد بالشر إلى إرادة ذلك فلهذا لا يستجيب لهم والحالة هذه لطفا ورحمة كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو لأموالهم أو لأولادهم بالخير والبركة والنماء ولهذا قال : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) الآية ، أي لو استجاب لهم كلما دعوه به في ذلك لأهلكهم ولكن لا ينبغي الإكثار من ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا محمد بن معمر حدثنا يعقوب بن محمد حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا يعقوب بن مجاهد أبو حزرة عن عبادة بن الوليد حدثنا جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تدعوا على أنفسكم ، لا تدعوا على أولادكم لا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم» (١) ورواه أبو داود من حديث حاتم بن إسماعيل به.

وقال البزار وتفرد به عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاري لم يشاركه أحد فيه وهذا كقوله تعالى : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) [الإسراء : ١١] الآية ، وقال مجاهد في تفسير هذه الآية ، (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) الآية ، هو قول الإنسان لولده أو ماله إذا غضب عليه : اللهم لا تبارك فيه والعنه. فلو يعجل لهم بالاستجابة في ذلك ما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم (٢).

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢)

يخبر تعالى عن الإنسان وضجره وقلقه إذا مسه الشر كقوله : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) [فصلت : ٥١] أي كثير وهما في معنى واحد وذلك لأنه إذا أصابته شدة قلق لها وجزع منها وأكثر الدعاء عند ذلك فدعا الله في كشفها ورفعها عنه في حال اضطجاعه وقعوده وقيامه وفي جميع أحواله فإذا فرج الله شدته وكشف كربته أعرض ونأى بجانبه وذهب كأنه ما كان به من ذلك شيء (مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) ثم ذم تعالى من هذه صفته وطريقته فقال: (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فأما من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد فإنه مستثنى من ذلك كقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [هود : ١١] وكقول

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٧٤ ، وأبو داود في الوتر باب ٢٧.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٣٧.

٢٢٠