تفسير القرآن العظيم - ج ٤

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٤

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤١

أخر صالحة خلطوا هذه بتلك فهؤلاء تحت عفو الله وغفرانه ، وهذه الآية وإن كانت نزلت في أناس معينين إلا أنها عامة في كل المذنبين الخطائين المخلطين المتلوثين ، وقد قال مجاهد : إنها نزلت في أبي لبابة لما قال لبني قريظة : إنه الذبح وأشار بيده إلى حلقه (١) ، وقال ابن عباس (وَآخَرُونَ) نزلت في أبي لبابة وجماعة من أصحابه تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، فقال بعضهم : أبو لبابة وخمسة معه ، وقيل وسبعة معه ، وقيل وتسعة معه ، فلما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوته ربطوا أنفسهم بسواري المسجد وحلفوا لا يحلهم إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما أنزل الله هذه الآية (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) أطلقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعفا عنهم.

وقال البخاري (٢) : حدثنا مؤمل بن هشام ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا عوف ، حدثنا أبو رجاء ، حدثنا سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنا «أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهيا بي إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء ، وشطر كأقبح ما أنت راء ، قالا لهم اذهبوا فقعوا في ذلك النهر فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة ، قالا لي هذه جنة عدن وهذا منزلك ، قالا وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح ، فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا تجاوز الله عنهم» هكذا رواه البخاري مختصرا في تفسير هذه الآية.

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١٠٤)

أمر تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم ويزكيهم بها وهذا عام وإن أعاد بعضهم الضمير في أموالهم إلى الذين اعترفوا بذنوبهم وخلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، ولهذا اعتقد بعض مانعي الزكاة من أحياء العرب أن دفع الزكاة إلى الإمام لا يكون ، وإنما كان هذا خاصا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذا احتجوا بقوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) الآية ، وقد رد عليهم هذا التأويل والفهم الفاسد ، أبو بكر الصديق وسائر الصحابة وقاتلوهم حتى أدوا الزكاة إلى الخليفة كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى قال الصديق : والله لو منعوني عناقا ـ وفي رواية عقالا ـ كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأقاتلنهم على منعه (٣).

وقوله (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) أي ادع لهم واستغفر لهم كما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن أبي أوفى قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أتي بصدقة قوم صلى عليهم فأتاه أبي بصدقته فقال : «اللهم

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٦٢.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٩ ، باب ١٠.

(٣) أخرجه البخاري في الاعتصام باب ٢ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٢.

١٨١

صل على آل أبي أوفى» (١) وفي الحديث الآخر أن امرأة قالت : يا رسول الله صل عليّ وعلى زوجي ، فقال «صلى الله عليك وعلى زوجك» (٢).

وقوله : (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) قرأ بعضهم صلواتك على الجمع وآخرون قرءوا إن صلاتك على الإفراد (سَكَنٌ لَهُمْ) قال ابن عباس : رحمة لهم ، وقال قتادة وقار ، وقوله : (وَاللهُ سَمِيعٌ) أي لدعائك (عَلِيمٌ) أي بمن يستحق ذلك منك ومن هو أهل له ، قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا وكيع ، حدثنا أبو العميس عن أبي بكر بن عمرو بن عتبة عن ابن حذيفة عن أبيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا دعا لرجل أصابته وأصابت ولده وولد ولده ، ثم رواه عن أبي نعيم عن مسعر عن أبي بكر بن عمرو بن عتبة عن ابن لحذيفة ، قال مسعر : وقد ذكره مرة عن حذيفة إن صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتدرك الرجل وولده وولد ولده (٤).

وقوله (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منهما يحط الذنوب ويمحصها ويمحقها ، وأخبر تعالى أن كل من تاب إليه تاب عليه ، ومن تصدق بصدقة من كسب حلال ، فإن الله تعالى يتقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها حتى تصير التمرة مثل أحد ، كما جاء بذلك الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال الثوري ووكيع كلاهما عن عباد بن منصور عن القاسم بن محمد ، أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره ، حتى أن اللقمة لتكون مثل أحد» وتصديق ذلك في كتاب الله عزوجل (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) وقوله : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) (٥) [البقرة : ٢٧٦].

وقال الثوري والأعمش ، كلاهما عن عبد الله بن السائب عن عبد الله بن أبي قتادة قال : قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، إن الصدقة تقع في يد الله عزوجل قبل أن تقع في يد السائل ، ثم قرأ هذه الآية (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) (٦).

وقد روى ابن عساكر في تاريخه في ترجمة عبد الله بن الشاعر السكسكي الدمشقي وأصله حمصي ، وكان أحد الفقهاء ، روى عن معاوية وغيره ، وحكى عنه حوشب بن سيف السكسكي الحمصي قال : غزا الناس في زمان معاوية رضي الله عنه وعليهم عبد الرحمن بن خالد بن

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ١٧٦.

(٢) أخرجه أبو داود في الوتر باب ٢٨.

(٣) المسند ٥ / ٣٨٥ ، ٣٨٦.

(٤) المسند ٥ / ٤٠٠.

(٥) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٦٦.

(٦) تفسير الطبري ٦ / ٤٦٦.

١٨٢

الوليد ، فغل رجل من المسلمين مائة دينار رومية. فلما قفل الجيش ندم وأتى الأمير فأبى أن يقبلها منه وقال : قد تفرق الناس ولن أقبلها منك حتى تأتي الله بها يوم القيامة ، فجعل الرجل يستقري الصحابة فيقولون له مثل ذلك ، فلما قدم دمشق ذهب إلى معاوية ليقبلها منه فأبى عليه ، فخرج من عنده وهو يبكي ويسترجع ، فمر بعبد الله بن الشاعر السكسكي فقال له ما يبكيك؟ فذكر له أمره ، فقال له : أو مطيعي أنت؟ فقال : نعم ، فقال اذهب إلى معاوية فقل له اقبل مني خمسك فادفع إليه عشرين دينارا وانظر إلى الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك الجيش ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم ، ففعل الرجل ، فقال معاوية رضي الله عنه : لأن أكون أفتيته بها أحب إلي من كل شيء أملكه ، أحسن الرجل.

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٠٥)

قال مجاهد : هذا وعيد يعني من الله تعالى للمخالفين أوامره بأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى وعلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى المؤمنين. وهذا كائن لا محالة يوم القيامة كما قال : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) [الحاقة : ١٨] وقال تعالى : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) [الطارق : ٩] وقال : (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) [العاديات : ١٠] وقد يظهر الله تعالى ذلك للناس في الدنيا ، كما قال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد مرفوعا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لأخرج الله عمله للناس كائنا ما كان» وقد ورد : أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ ، كما قال أبو داود الطيالسي : حدثنا الصلت بن دينار عن الحسن عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أعمالكم تعرض على أقربائكم وعشائركم في قبورهم ، فإن كان خيرا استبشروا به ، وإن كان غير ذلك قالوا : اللهم ألهمهم أن يعملوا بطاعتك» وقال الإمام أحمد (٢) : أنبأنا عبد الرزاق عن سفيان عمن سمع أنسا يقول : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات فإن كان خيرا استبشروا به وإن كان غير ذلك قالوا اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا».

وقال البخاري (٣) : قالت عائشة رضي الله عنها : إذا أعجبك حسن عمل امرئ مسلم فقل (اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) وقد ورد في الحديث شبيه بهذا ، قال الإمام

__________________

(١) المسند ٣ / ٢٨.

(٢) المسند ٣ / ١٦٤ ، ١٦٥.

(٣) كتاب الشهادات باب ٢٦.

١٨٣

أحمد (١) : حدثنا يزيد ، حدثنا حميد عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا عليكم أن تعجبوا بأحد حتى تنظروا بم يختم له ، فإن العامل يعمل زمانا من عمره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة ثم يتحول فيعمل عملا سيئا ، وإن العبد ليعمل البرهة من دهره بعمل سيئ لو مات عليه دخل النار ثم يتحول فيعمل عملا صالحا ، وإذا أراد الله بعبده خيرا استعمله قبل موته» قالوا : يا رسول الله وكيف يستعمله؟ قال : «يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه» تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه.

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٠٦)

قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وغير واحد : هم الثلاثة الذين خلفوا أي عن التوبة ، وهم مرارة بن الربيع وكعب بن مالك وهلال بن أمية ، قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد كسلا وميلا إلى الدعة والحفظ وطيب الثمار والظلال لا شكا ونفاقا ، فكانت منهم طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري كما فعل أبو لبابة وأصحابه ، وطائفة لم يفعلوا ذلك وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون ، فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء وأرجي هؤلاء عن التوبة ، حتى نزلت الآية الآتية وهي قوله (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) [التوبة : ١١٧] الآية ، (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) [التوبة : ١١٨] الآية ، كما سيأتي بيانه في حديث كعب بن مالك ، وقوله (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أي هم تحت عفو الله إن شاء فعل بهم هذا وإن شاء فعل بهم ذاك ، ولكن رحمته تغلب غضبه (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي عليم بمن يستحق العقوبة ممن يستحق العفو ، حكيم في أفعاله وأقواله لا إله إلا هو ولا رب سواه.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (١٠٨)

سبب نزول هذه الآيات الكريمات ، أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب ، وكان قد تنصر في الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب ، وكان فيه عبادة في الجاهلية وله شرف في الخزرج كبير ، فلما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهاجرا إلى المدينة واجتمع المسلمون عليه وصارت للإسلام كلمة عالية وأظهرهم الله يوم بدر ، شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها ، وخرج فارا إلى كفار مكة من مشركي قريش ، يمالئهم

__________________

(١) المسند ٣ / ١٢٠.

١٨٤

على حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب وقدموا عام أحد ، فكان من أمر المسلمين ما كان وامتحنهم الله عزوجل ، وكانت العاقبة للمتقين.

وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين ، فوقع في إحداهن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصيب ذلك اليوم فجرح وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى وشج رأسه صلوات الله وسلامه عليه ، وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته ، فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم الله بك عينا يا فاسق يا عدو الله ، ونالوا منه وسبوه فرجع وهو يقول : والله لقد أصاب قومي بعدي شر ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره وقرأ عليه من القرآن ، فأبى أن يسلم وتمرد ، فدعا عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يموت بعيدا طريدا فنالته هذه الدعوة ، وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد ، ورأى أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ارتفاع وظهور ، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوعده ومناه وأقام عنده ، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه ، وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك.

فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى تبوك ، وجاءوا فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته ، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية ، فعصمه الله من الصلاة فيه فقال : «إنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله» فلما قفل عليه‌السلام راجعا إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم ، نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء الذي أسس من أول يوم على التقوى. فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة ، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية ، هم أناس من الأنصار بنوا مسجدا.

فقال لهم أبو عامر : ابنوا مسجدا واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجنود من الروم وأخرج محمدا وأصحابه ، فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا له : قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة ، فأنزل الله عزوجل (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) إلى قوله : (الظَّالِمِينَ) وكذا روي عن سعيد بن جبير ومجاهد وعروة بن الزبير وقتادة وغير واحد من العلماء.

وقال محمد بن إسحاق بن يسار ، عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم ، قالوا : أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعني من تبوك حتى نزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار ، وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو

١٨٥

يتجهز إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية ، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه ، فقال : «إني على جناح سفر وحال شغل» أو كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ولو قد قدمنا إن شاء الله تعالى أتيناكم فصلينا لكم فيه».

فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ، ومعن بن عدي أو أخاه عامر بن عدي أخا بلعجلان فقال : «انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه» فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف ، وهم رهط مالك بن الدخشم. فقال مالك لمعن : أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي ، فدخل أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله ، فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه ، ونزل فيهم من القرآن ما نزل (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً) إلى آخر القصة.

وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا : خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ، ومن داره أخرج مسجد الشقاق ، وثعلبة بن حاطب من بني عبيد وموالي بني أمية بن زيد ، ومعتب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد ، وأبو حبيبة بن الأزعر من بني ضبيعة بن زيد ، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف من بني عمرو بن عوف ، وحارثة بن عامر وابناه مجمع بن حارثة وزيد بن حارثة ونبتل الحارث وهم من بني ضبيعة ومخرج ، وهم من بني ضبيعة ، وبجاد بن عثمان وهو من بني ضبيعة ، ووديعة بن ثابت ، وموالي بني أمية رهط أبي لبابة بن عبد المنذر.

وقوله (وَلَيَحْلِفُنَ) أي الذين بنوه (إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) أي ما أردنا ببنيانه إلا خيرا ورفقا بالناس ، قال الله تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي فيما قصدوا وفيما نووا ، وإنما بنوه ضرارا لمسجد قباء وكفرا بالله وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ، وهو أبو عامر الفاسق الذي يقال له الراهب لعنه الله.

وقوله (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) نهي له صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمة تبع له في ذلك عن أن يقوم فيه أي يصلي فيه أبدا. ثم حثه على الصلاة بمسجد قباء الذي أسس من أول يوم بنيانه على التقوى ، وهي طاعة الله وطاعة رسوله وجمعا لكلمة المؤمنين ومعقلا وموئلا للإسلام وأهله ، ولهذا قال تعالى : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) والسياق إنما هو في معرض مسجد قباء ، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صلاة في مسجد قباء كعمرة» (١) ، وفي الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يزور مسجد قباء راكبا وماشيا (٢) ، وفي

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في الصلاة باب ٣٠.

(٢) أخرجه مسلم في الحج حديث ٥١٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ٥.

١٨٦

الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بناه وأسسه أول قدومه ونزوله على بني عمرو بن عوف كان جبريل هو الذي عين له جهة القبلة ، فالله أعلم.

وقال أبو داود : حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا معاوية بن هشام عن يونس بن الحارث عن إبراهيم بن أبي ميمونة عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نزلت هذه الآية في أهل قباء (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) ـ قال ـ كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية» (١). ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث يونس بن الحارث وهو ضعيف ، وقال الترمذي غريب من هذا الوجه ، وقال الطبراني : حدثنا الحسن بن علي المعمري ، حدثنا محمد بن حميد الرازي ، حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عويم بن ساعدة فقال : «ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم؟» فقال : يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا وغسل فرجه أو قال مقعدته ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هو هذا».

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا أبو أويس ، حدثنا شرحبيل عن عويم بن ساعدة الأنصاري ، أنه حدثه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال : «إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم ، فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟» فقالوا : والله يا رسول الله ما نعلم شيئا ، إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا ، ورواه ابن خزيمة في صحيحه ، وقال هشيم عن عبد الحميد المدني عن إبراهيم بن إسماعيل الأنصاري : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعويم بن ساعدة : «ما هذا الذي أثنى الله عليكم (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا؟») الآية ، قالوا : يا رسول الله إنا نغسل الأدبار بالماء (٣) ، وقال ابن جرير (٤) : حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، حدثنا محمد بن سعد عن إبراهيم بن محمد عن شرحبيل بن سعد قال : سمعت خزيمة بن ثابت يقول : نزلت هذه الآية (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) قال كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط.

حديث آخر قال الإمام أحمد بن حنبل (٥) : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا مالك يعني ابن مغول ، سمعت سيارا أبا الحكم عن شهر بن حوشب عن محمد بن عبد الله بن سلام قال : لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعني قباء ، فقال «إن الله عزوجل قد أثنى عليكم في الطهور خيرا أفلا

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الطهارة باب ٢٣ ، والترمذي في تفسير سورة ٩ ، باب ١٥ ، وابن ماجة في الطهارة باب ٢٨.

(٢) المسند ٣ / ٤٢٢.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٧٧.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٤٧٦.

(٥) المسند ٦ / ٦.

١٨٧

تخبروني؟» يعني قوله (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) فقالوا يا رسول الله إنا نجده مكتوبا علينا في التوراة الاستنجاء بالماء.

وقد صرح بأنه مسجد قباء جماعة من السلف ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، ورواه عبد الرزاق عن معمر الزهري عن عروة بن الزبير ، وقال عطية العوفي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم والشعبي والحسن البصري ونقله البغوي عن سعيد بن جبير وقتادة ، وقد ورد في الحديث الصحيح أن مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي في جوف المدينة هو المسجد الذي أسس على التقوى ، وهذا صحيح. ولا منافاة بين الآية وبين هذا ، لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم ، فمسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق الأولى والأحرى ، ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا عبد الله بن عامر الأسلمي عن عمران بن أبي أنس ، عن سهل بن سعد عن أبي بن كعب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المسجد الذي أسس على التقوى مسجدي هذا» تفرد به أحمد (١).

حديث آخر قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا وكيع ، حدثنا ربيعة بن عثمان التيمي عن عمران بن أبي أنس عن سهل بن سعد الساعدي قال : اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى فقال أحدهما هو مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال الآخر هو مسجد قباء ، فأتيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألاه فقال : «هو مسجدي هذا» تفرد به أحمد أيضا.

حديث آخر قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ليث عن عمران بن أبي أنس عن سعيد بن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم ، فقال أحدهما هو مسجد قباء ، وقال الآخر هو مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هو مسجدي هذا» تفرد به أحمد.

طريق أخرى قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا ليث حدثني عمران بن أبي أنس عن ابن أبي سعيد عن أبيه أنه قال : تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم ، فقال رجل هو مسجد قباء ، وقال الآخر هو مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هو مسجدي» (٥) وكذا رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة عن الليث وصححه الترمذي ورواه مسلم كما سيأتي.

__________________

(١) المسند ٥ / ١١٦.

(٢) المسند ٥ / ٣٣١.

(٣) المسند ٣ / ٨٩.

(٤) المسند ٣ / ٧.

(٥) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٩ ، باب ١٤ ، والنسائي في المساجد باب ٨.

١٨٨

طريق أخرى قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يحيى عن أنيس بن أبي يحيى ، حدثني أبي قال : سمعت أبا سعيد الخدري قال : اختلف رجلان رجل من بني خدرة ورجل من بني عمرو بن عوف ، في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال الخدري هو مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال العمري هو مسجد قباء ، فأتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألاه عن ذلك فقال : «هو هذا المسجد» لمسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال في ذلك يعني مسجد قباء.

طريق أخرى قال أبو جعفر بن جرير (٢) : حدثنا ابن بشار ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا حميد الخراط المدني سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن أبي سعيد فقلت كيف سمعت أباك يقول في المسجد الذي أسس على التقوى؟ فقال إني أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخلت عليه في بيت لبعض نسائه فقلت : يا رسول الله أين المسجد الذي أسس على التقوى؟ قال : فأخذ كفا من حصباء فضرب به الأرض ثم قال : «هو مسجدكم هذا» ثم قال سمعت أباك يذكره ، رواه مسلم (٣) منفردا به عن محمد بن حاتم عن يحيى بن سعيد به ، ورواه عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره عن حاتم بن إسماعيل عن حميد الخراط به ، وقد قال بأنه مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جماعة من السلف والخلف ، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب ، واختاره ابن جرير.

وقوله : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده لا شريك له ، وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء والتنزه عن ملابسة القاذورات.

وقد قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن عبد الملك بن عمير ، سمعت شبيبا أبا روح يحدث عن رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بهم الصبح فقرأ الروم فيها فأوهم فلما انصرف قال : «إنه يلبس علينا القرآن إن أقواما منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء ، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء» ثم رواه من طريقين آخرين عن عبد الملك بن عمير عن شبيب أبي روح من ذي الكلاع ، أنه صلى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره ، فدل هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة ويعين على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها.

وقال أبو العالية في قوله تعالى : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) إن الطهور بالماء لحسن ولكنهم

__________________

(١) المسند ٣ / ٢٣.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤٧٣ ، ٤٧٤.

(٣) كتاب الحج الحديث ٥١٤.

(٤) المسند ٣ / ٤٧١ ، ٤٧٢.

١٨٩

المطهرون من الذنوب. وقال الأعمش التوبة من الذنوب والتطهر من الشرك ، وقد ورد في الحديث المروي من طرق في السنن وغيرها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأهل قباء : «قد أثنى الله عليكم في الطهور فماذا تصنعون؟» فقالوا نستنجي بالماء ، وقد قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عبد الله بن شبيب ، حدثنا أحمد بن عبد العزيز قال : وجدته في كتاب أبي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال نزلت هذه الآية في أهل قباء (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) فسألهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا إنا نتبع الحجارة بالماء رواه البزار ، ثم قال : تفرد به محمد بن عبد العزيز عن الزهري ولم يرو عنه سوى ابنه ، (قلت) وإنما ذكرته بهذا اللفظ لأنه مشهور بين الفقهاء ولم يعرفه كثير من المحدثين المتأخرين أو كلهم ، والله أعلم.

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١١٠)

يقول تعالى لا يستوي من أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان ومن بنى مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين ، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ، فإنما يبني هؤلاء بنيانهم على شفا جرف هار ، أي طرف حفيرة ، مثاله (فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي لا يصلح عمل المفسدين. قال جابر بن عبد الله : رأيت المسجد الذي بني ضرارا يخرج منه الدخان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ، وقال ابن جريج : ذكر لنا أن رجالا حفروا فوجدوا الدخان يخرج منه (٢) ، وكذا قال قتادة ، وقال خلف بن ياسين الكوفي : رأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله تعالى في القرآن وفيه جحر يخرج منه الدخان وهو اليوم مزبلة ، رواه ابن جرير (٣) رحمه‌الله.

وقوله تعالى : (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي شكا ونفاقا ، بسبب إقدامهم على هذا الصنيع الشنيع أورثهم نفاقا في قلوبهم كما أشرب عابدو العجل حبه ، وقوله : (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) أي بموتهم ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وزيد بن أسلم والسدي وحبيب بن أبي ثابت والضحاك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد من علماء السلف ، (وَاللهُ عَلِيمٌ) أي بأعمال خلقه (حَكِيمٌ) في مجازاتهم عنها من خير وشر.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٧٩.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤٧٩.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٤٧٩.

١٩٠

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١١١)

يخبر تعالى أنه عاوض عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذ بذلوها في سبيله بالجنة ، وهذا من فضله وكرمه وإحسانه ، فإنه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عبيده المطيعين له. ولهذا قال الحسن البصري وقتادة : بايعهم والله فأغلى ثمنهم. وقال شمر بن عطية : ما من مسلم إلا ولله عزوجل في عنقه بيعة ، وفي بها أو مات عليها ثم تلا هذه الآية (١). ولهذا يقال من حمل في سبيل الله بايع الله أي قبل هذا العقد ووفى به. وقال محمد بن كعب القرظي وغيره ، قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعني ليلة العقبة : اشترط لربك ولنفسك ما شئت ، فقال «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا. وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم» قالوا فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال «الجنة» قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل ، فنزلت (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) (٢).

الآية ، وقوله : (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) أي سواء قتلوا أو قتلوا ، أو اجتمع لهم هذا وهذا فقد وجبت لهم الجنة. ولهذا جاء في الصحيحين «وتكفل الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وتصديق برسلي بأن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى منزله الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة» (٣).

وقوله : (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) تأكيد لهذا الوعد وإخبار بأنه قد كتبه على نفسه الكريمة وأنزله على رسله في كتبه الكبار ، وهي التوراة المنزلة على موسى ، والإنجيل المنزل على عيسى ، والقرآن المنزل على محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وقوله : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) فإنه لا يخلف الميعاد. هذا كقوله : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) [النساء : ٨٧] (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) [النساء : ١٢٢] ولهذا قال (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي فليستبشر من قام بمقتضى هذا العقد ووفى بهذا العهد بالفوز العظيم والنعيم المقيم.

(التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١١٢)

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٨٢.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٨٢.

(٣) أخرجه البخاري في الخمس باب ٨ ، ومسلم في الإمارة حديث ١٠٤.

١٩١

هذا نعت المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بهذه الصفات الجميلة والخلال الجليلة (التَّائِبُونَ) من الذنوب كلها التاركون للفواحش (الْعابِدُونَ) أي القائمون بعبادة ربهم محافظين عليها وهي الأقوال والأفعال ، فمن أخص الأقوال الحمد ، فلهذا قال : (الْحامِدُونَ) ومن أفضل الأعمال الصيام وهو ترك الملاذ من الطعام والشراب والجماع ، وهو المراد بالسياحة هاهنا ، ولهذا قال : (السَّائِحُونَ) كما وصف أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك في قوله تعالى : (سائِحاتٍ) [التحريم : ٥] أي صائمات ، وكذا الركوع والسجود وهما عبارة عن الصلاة ، ولهذا قال : (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) وهم مع ذلك ينفعون خلق الله ويرشدونهم إلى طاعة الله بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر مع العلم بما ينبغي فعله ويجب تركه ، وهو حفظ حدود الله في تحليله وتحريمه علما وعملا ، فقاموا بعبادة الحق ونصح الخلق ، ولهذا قال : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) لأن الإيمان يشمل هذا كله ، والسعادة كل السعادة لمن اتصف به.

[بيان أن المراد بالسياحة الصيام] قال سفيان الثوري : عن عاصم عن زرّ عن عبد الله بن مسعود قال (السَّائِحُونَ) الصائمون (١) وكذا روي عن سعيد بن جبير والعوفي عن ابن عباس ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كل ما ذكر الله في القرآن السياحة هم الصائمون (٢) ، وكذا قال الضحاك رحمه‌الله ، وقال ابن جرير (٣) : حدثنا أحمد بن إسحاق ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا إبراهيم بن يزيد عن الوليد بن عبد الله عن عائشة رضي الله عنها قالت : سياحة هذه الأمة الصيام ، وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وأبو عبد الرحمن السلمي والضحاك بن مزاحم وسفيان بن عيينة وغيرهم ، أن المراد بالسائحين الصائمون ، وقال الحسن البصري : (السَّائِحُونَ) الصائمون شهر رمضان ، وقال أبو عمرو العبدي : (السَّائِحُونَ) الذين يديمون الصيام من المؤمنين.

وقد ورد في حديث مرفوع نحو هذا ، وقال ابن جرير (٤) : حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، حدثنا حكيم بن حزام ، حدثنا سليمان عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «السائحون هم الصائمون» وهذا الموقوف أصح ، وقال أيضا حدثني يونس عن ابن وهب عن عمر بن الحارث عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير ، قال : سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن السائحين ، فقال «هم الصائمون» وهذا مرسل جيد وهذا أصح الأقوال وأشهرها.

وجاء ما يدل على أن السياحة الجهاد وهو ما روى أبو داود في سننه من حديث أبي أمامة أن رجلا قال : يا رسول الله ائذن لي في السياحة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سياحة أمتي الجهاد في

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٨٤.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤٨٤.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٤٨٦.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٤٨٤.

١٩٢

سبيل الله» (١) وقال ابن المبارك عن ابن لهيعة ، أخبرني عمارة بن غزية أن السياحة ذكرت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبدلنا الله بذلك الجهاد في سبيل الله والتكبير على كل شرف» وعن عكرمة أنه قال : هم طلبة العلم ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم المهاجرون ، رواهما ابن أبي حاتم.

وليس المراد من السياحة ما قد يفهمه بعض من يتعبد بمجرد السياحة في الأرض والتفرد في شواهق الجبال والكهوف والبراري ، فإن هذا ليس بمشروع إلا في أيام الفتن والزلازل في الدين ، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن» (٢) وقال العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) قال القائمون بطاعة الله ، وكذا قال الحسن البصري وعنه رواية (الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) قال : لفرائض الله ، وفي رواية القائمون على أمر الله.

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (١١٤)

قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية ، فقال «أي عم ، قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله عزوجل» فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال : أنا على ملة عبد المطلب ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» فنزلت (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) قال ونزلت فيه (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٤) [القصص : ٥٦] أخرجاه.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ٦.

(٢) أخرجه البخاري في الإيمان باب ١٢ ، والفتن باب ١٤ ، والرقاق باب ٣٤ ، وأبو داود في الفتن باب ٤ ، والنسائي في الإيمان باب ٣٠ ، وابن ماجة في الفتن باب ١٣ ، ومالك في الاستئذان حديث ١٦ ، وأحمد في المسند ٣ / ٦ ، ٣٠ ، ٤٣ ، ٥٧.

(٣) المسند ٥ / ٥٣٣.

(٤) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٩ ، باب ١٦ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٩.

١٩٣

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا يحيى بن آدم ، أخبرنا سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الخليل عن علي رضي الله عنه قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان ، فقلت : أيستغفر الرجل لأبويه وهما مشركان؟ فقال : أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ فذكرت ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) الآية ، قال لما مات فلا أدري ، قاله سفيان أو قاله إسرائيل أو هو في الحديث لما مات ، (قلت) : هذا ثابت عن مجاهد أنه قال لما مات.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا زهير ، حدثنا زبيد بن الحارث اليامي عن محارب بن دثار عن ابن بريدة عن أبيه قال كنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن في سفر ، فنزل بنا ونحن قريب من ألف راكب ، فصلى ركعتين ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان ، فقام إليه عمر بن الخطاب وفداه بالأب والأم وقال : يا رسول الله ما لك؟ قال «إني سألت ربي عزوجل في الاستغفار لأمي فلم يأذن لي فدمعت عيناي رحمة لها من النار ، وإني كنت نهيتكم عن ثلاث : نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها لتذكركم زيارتها خيرا. ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث فكلوا وأمسكوا ما شئتم ، ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية فاشربوا في أي وعاء شئتم ولا تشربوا مسكرا».

وروى ابن جرير (٣) من حديث علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم مكة ، أتى رسم قبر فجلس إليه فجعل يخاطب ثم قام مستعبرا ، فقلنا يا رسول الله إنا رأينا ما صنعت. قال : «إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي» فما رئي باكيا أكثر من يومئذ.

وقال ابن أبي حاتم في تفسيره : حدثنا أبي ، حدثنا خالد بن خداش ، حدثنا عبد الله بن وهب عن ابن جريج عن أيوب بن هانئ عن مسروق عن عبد الله بن مسعود ، قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما إلى المقابر فاتبعناه فجاء حتى جلس إلى قبر منها ، فناجاه طويلا ثم بكى فب كينا لبكائه ، ثم قام فقام إليه عمر بن الخطاب فدعاه ثم دعانا ، فقال «ما أبكاكم؟» فقلنا بكينا لبكائك. قال : «إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة ، وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي» (٤) ثم أورده من وجه آخر ، ثم ذكر من حديث ابن مسعود قريبا منه ، وفيه «وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي وأنزل علي (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية ، فأخذني ما يأخذ الولد للوالد ، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها فإنها تذكر الآخرة».

__________________

(١) المسند ١ / ٩٩.

(٢) المسند ٥ / ٣٥٥.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٤٨٩.

(٤) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٣ / ٥٠٧.

١٩٤

حديث آخر في معناه. قال الطبراني : حدثنا محمد بن علي المروزي ، حدثنا أبو الدرداء عبد العزيز بن منيب ، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن كيسان ، عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أقبل من غزوة تبوك واعتمر ، فلما هبط من ثنية عسفان أمر أصحابه أن استندوا إلى العقبة حتى أرجع إليكم ، فذهب فنزل على قبر أمه فناجى ربه طويلا ، ثم إنه بكى فاشتد بكاؤه وبكى هؤلاء لبكائه ، وقالوا ما بكى نبي الله بهذا المكان إلا وقد أحدث الله في أمته شيئا لا تطيقه ، فلما بكى هؤلاء قام فرجع إليهم فقال : «ما يبكيكم؟» قالوا يا نبي الله بكينا لبكائك ، فقلنا لعله أحدث في أمتك شيء لا تطيقه ، قال : «لا ، وقد كان بعضه ، ولكن نزلت على قبر أمي فسألت الله أن يأذن لي في شفاعتها يوم القيامة فأبى الله أن يأذن لي فرحمتها وهي أمي فبكيت ، ثم جاءني جبريل فقال : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) فتبرأ أنت من أمك كما تبرأ إبراهيم من أبيه ، فرحمتها وهي أمي ودعوت ربي أن يرفع عن أمتي أربعا فرفع عنهم اثنتين وأبي أن يرفع عنهم اثنتين ، ودعوت ربي أن يرفع عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض وأن لا يلبسهم شيعا وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض ، فرفع الله عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض وأبى الله أن يرفع عنهم القتل والهرج» وإنما عدل إلى قبر أمه لأنها كانت مدفونة تحت كداء وكانت عسفان لهم (١) ، وهذا حديث غريب وسياق عجيب.

وأغرب منه وأشد نكارة ما رواه الخطيب البغدادي في كتاب السابق واللاحق بسند مجهول عن عائشة في حديث فيه قصة ، أن الله أحيا أمه فآمنت ثم عادت ، وكذلك ما رواه السهيلي في الروض بسند فيه جماعة مجهولون : إن الله أحيا له أباه وأمه فآمنا به. وقد قال الحافظ ابن دحية في هذا الاستدلال ، بما حاصله أن هذه حياة جديدة كما رجعت الشمس بعد غيبوبتها ، فصلى علي العصر ، قال الطحاوي : وهو حديث ثابت يعني حديث الشمس ، قال القرطبي : فليس إحياؤهما يمتنع عقلا ولا شرعا ، قال وقد سمعت أن الله أحيا عمه أبا طالب فآمن به ، (قلت) وهذا كله متوقف على صحة الحديث فإذا صح فلا مانع منه ، والله أعلم.

وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) الآية ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد أن يستغفر لأمه فنهاه الله عزوجل عن ذلك ، فقال «إن إبراهيم خليل الله قد استغفر لأبيه» فأنزل الله (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) (٢) الآية ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية ، كانوا يستغفرون لهم حتى نزلت هذه الآية ، فأمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ولم ينهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ، ثم

__________________

(١) انظر الدر المنثور ٣ / ٥٠٦ ، ٥٠٧ ، وأضاف : وبها ولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٨٩.

١٩٥

أنزل الله (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) الآية.

وقال قتادة في الآية : ذكر لنا أن رجالا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قالوا : يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفك العاني ويوفي بالذمم أفلا نستغفر لهم؟ قال : فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بلى والله إني لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه» فأنزل الله (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) حتى بلغ قوله (الْجَحِيمِ) ثم عذر الله تعالى إبراهيم عليه‌السلام ، فقال : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) الآية ، قال : وذكر لنا أن نبي الله قال : «قد أوحى الله إليّ كلمات فدخلن في أذني ووقرن في قلبي : أمرت أن لا أستغفر لمن مات مشركا ، ومن أعطى فضل ماله فهو خير له ، ومن أمسك فهو شر له ، ولا يلوم الله على كفاف»(١).

وقال الثوري عن الشيباني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : مات رجل يهودي وله ابن مسلم فلم يخرج معه ، فذكر ذلك لابن عباس فقال : فكان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه ويدعو له بالصلاح ما دام حيا ، فإذا مات وكله إلى شأنه ، ثم قال : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ ـ إلى قوله ـ تَبَرَّأَ مِنْهُ) لم يدع (٢). ويشهد له بالصحة ما رواه أبو داود وغيره عن علي رضي الله عنه ، لما مات أبو طالب قلت : يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات ، قال : «اذهب فواره ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني» (٣) فذكر تمام الحديث ، وروي أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما مرت به جنازة عمه أبي طالب قال : «وصلتك رحمة يا عم» وقال عطاء بن أبي رباح: ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة ، ولو كانت حبشية حبلى من الزنا ، لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا عن المشركين ، يقول الله عزوجل : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) الآية.

وروى ابن جرير (٤) ، عن ابن وكيع عن أبيه عن عصمة بن زامل عن أبيه ، قال : سمعت أبا هريرة يقول رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمه ، قلت ولأبيه. قال لا. قال إن أبي مات مشركا ، وقوله : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) قال ابن عباس : ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ، وفي رواية لما مات تبين له أنه عدو لله ، وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة وغيرهم رحمهم‌الله ، وقال عبيد بن عمير وسعيد بن جبير : إنه يتبرأ منه يوم القيامة حتى يلقى أباه ، وعلى وجه أبيه القترة والغبرة ، فيقول : يا إبراهيم إني كنت أعصيك وإني اليوم لا أعصيك ، فيقول أي رب ألم تعدني أن لا تخزني يوم يبعثون ، فأي خزي

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٨٩.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٩٠ ، ٤٩١.

(٣) أخرجه أبو داود في الجنائز باب ٦٦ ، والنسائي في الطهارة باب ١٢٧ ، والجنائز باب ٨٤ ، وأحمد في المسند ١ / ٩٧ ، ١٠٣ ، ١٣٠ ، ١٣١.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٤٩١.

١٩٦

أخزى من أبي الأبعد ، فيقال انظر إلى ما وراءك فإذا هو بذيخ متلطخ (١) ، أي قد مسخ ضبعا ثم يسحب بقوائمه ويلقى في النار.

وقوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) قال سفيان الثوري وغير واحد : عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود ، أنه قال الأواه الدعاء ، وكذا روي من غير وجه : عن ابن مسعود ، وقال ابن جرير (٢) : حدثني المثنى ، حدثنا الحجاج بن منهال ، حدثني عبد الحميد بن بهرام ، حدثنا شهر بن حوشب عن عبد الله بن شداد بن الهاد ، قال : بينما النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس قال : رجل يا رسول الله ما الأواه؟ قال : «المتضرع» قال : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) ورواه ابن أبي حاتم : من حديث ابن المبارك عن عبد الحميد بن بهرام به ، ولفظه قال الأواه المتضرع الدعاء. وقال الثوري عن سلمة بن كهيل عن مسلم البطين عن أبي الغدير ، أنه سأل ابن مسعود عن الأواه فقال هو الرحيم ، وبه قال مجاهد وأبو ميسرة عمر بن شرحبيل والحسن البصري وقتادة وغيرهما أي الرحيم أي بعباد الله.

وقال ابن المبارك عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : الأواه الموقن بلسان الحبشة ، وكذا قال العوفي عن ابن عباس أنه الموقن ، وكذا قال مجاهد والضحاك ، وقال علي بن أبي طلحة ومجاهد عن ابن عباس : الأواه المؤمن ، زاد علي بن أبي طلحة عنه : هو المؤمن التواب ، وقال العوفي عنه هو المؤمن بلسان الحبشة. وكذا قال ابن جريج هو المؤمن بلسان الحبشة.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا موسى ، حدثنا ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لرجل يقال له ذو البجادين «إنه أواه» وذلك أنه رجل كان إذا ذكر الله في القرآن رفع صوته بالدعاء ، ورواه ابن جرير (٤). وقال سعيد بن جبير والشعبي : الأواه المسبح ، وقال ابن وهب عن معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : لا يحافظ على سبحة الضحى إلا الأواه ، وقال شفي بن مانع عن أبي أيوب ، الأواه الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها ، وعن مجاهد الأواه الحفيظ الوجل يذنب الذنب سرا ثم يتوب منه سرا ، ذكر ذلك كله ابن أبي حاتم رحمه‌الله. وقال ابن جرير (٥) : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا المحاربي عن حجاج عن الحكم عن الحسن بن مسلم بن بيان ، أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبح ، فذكر ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «إنه أواه».

__________________

(١) الذيخ ، بكسر الذال : ذكر الضباع ، وذيخ متلطخ : أي متلطخ برجيعه أو بالطين.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤٩٨.

(٣) المسند ٤ / ١٥٩.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٤٩٩.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ٤٩٧.

١٩٧

وقال أيضا : حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن هانئ ، حدثنا المنهال بن خليفة عن حجاج بن أرطاة عن عطاء عن ابن عباس ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دفن ميتا فقال : «رحمك الله إن كنت لأواها» يعني تلاء للقرآن ، وقال شعبة عن أبي يونس الباهلي ، قال سمعت رجلا بمكة وكان أصله روميا وكان قاصا يحدث عن أبي ذر ، قال : كان رجل يطوف بالبيت الحرام ويقول في دعائه : أوه أوه فذكر ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «إنه أواه» قال : فخرجت ذات ليلة فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح ، هذا حديث غريب رواه ابن جرير (١).

وروي عن كعب الأحبار أنه قال : سمعت (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ) قال كان إذا ذكر النار قال : أوه من النار ، وقال ابن جريج عن ابن عباس (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ) قال : فقيه. قال الإمام أبو جعفر بن جرير (٢) : وأولى الأقوال قول من قال إنه الدعاء وهو المناسب للسياق ، وذلك أن الله تعالى لما ذكر أن إبراهيم إنما استغفر لأبيه عن موعدة وعدها إياه ، وقد كان إبراهيم كثير الدعاء حليما عمن ظلمه وأناله مكروها ، ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه له في قوله (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) [مريم : ٤٦] فحلم عنه مع أذاه له ودعا له واستغفر ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ).

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (١١٦)

يقول تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة وحكمه العادل : إنه لا يضل قوما بعد إبلاغ الرسالة إليهم ، حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجة ، كما قال تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) [فصلت: ١٧] الآية ، وقال مجاهد في قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) الآية ، قال بيان الله عزوجل للمؤمنين في ترك الاستغفار للمشركين خاصة ، وفي بيانه لهم من معصيته وطاعته عامة ، فافعلوا أو ذروا (٣).

وقال ابن جرير (٤) : يقول الله تعالى وما كان الله ليقضي عليكم في استغفاركم لموتاكم المشركين بالضلال بعد إذ رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله ، حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه فتتركوا ، فأما قبل أن يبين لكم كراهة ذلك بالنهي عنه فلم تضيعوا نهيه إلى ما نهاكم

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٤٩٨.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤٩٩.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٠٠.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٥٠٠.

١٩٨

عنه فإنه لا يحكم عليه بالضلال ، فإن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهي ، وأما من لم يؤمر ولم ينه فغير كائن مطيعا أو عاصيا فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه.

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) قال ابن جرير ، هذا تحريض من الله تعالى لعباده المؤمنين في قتال المشركين وملوك الكفر ، وأن يثقوا بنصر الله مالك السموات والأرض ولا يرهبوا من أعدائه ، فإنه لا ولي لهم من دون الله ولا نصير لهم سواه ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن أبي دلامة البغدادي ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، حدثنا سعيد عن قتادة عن صفوان بن محرز عن حكيم بن حزام قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أصحابه إذ قال لهم : «هل تسمعون ما أسمع؟» قالوا ما نسمع من شيء ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لأسمع أطيط السماء وما تلام أن تئط وما فيها من موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم» وقال كعب الأحبار : ما من موضع خرم إبرة من الأرض إلا وملك موكل بها يرفع علم ذلك إلى الله ، وإن ملائكة السماء لأكثر من عدد التراب ، وإن حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى مخه مسيرة مائة عام.

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١١٧)

قال مجاهد وغير واحد : نزلت هذه الآية في غزوة تبوك ، وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر في سنة مجدبة وحر شديد وعسر من الزاد والماء ، قال قتادة : خرجوا إلى الشام عام تبوك في لهبان الحر على ما يعلم الله من الجهد ، أصابهم فيها جهد شديد حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما ، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها ، فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوتهم.

وقال ابن جرير (١) : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن عتبة بن أبي عتبة عن نافع بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عباس ، أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة ، فقال عمر بن الخطاب : خرجنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى تبوك في قيظ شديد ، فنزلنا منزلا فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع ، وحتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع ، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده ، فقال أبو بكر الصديق : يا رسول الله إن الله عزوجل قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا ، فقال «تحب ذلك؟» قال نعم ، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى سالت السماء فأهطلت ثم سكنت ، فملؤوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٥٠٢.

١٩٩

وقال ابن جرير (١) في قوله (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) أي من النفقة والطهر والزاد والماء (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) أي عن الحق ، ويشك في دين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويرتاب للذي نالهم من المشقة والشدة في سفرهم وغزوهم (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) يقول : ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم والرجوع إلى الثبات على دينه (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ).

(وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (١١٩)

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن أخي الزهري محمد بن عبد الله ، عن عمه محمد بن مسلم الزهري أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، أن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عمي ، قال : سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، فقال كعب بن مالك : لم أتخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزاة تبوك ، غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر ولم يعاتب أحد تخلف عنها ، وإنما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ، ولقد شهدت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام ، وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر.

وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة ، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورّى (٣) بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفاوز (٤) ، واستقبل عدوا كثيرا فخلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم ، فأخبرهم وجهه الذي يريد ، والمسلمون مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كثير ، لا يجمعهم كتاب حافظ ـ يريد الديوان ـ.

قال كعب : فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ما لم ينزل فيه وحي من الله عزوجل ، وغزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظلال وأنا إليها

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٥٠٢.

(٢) المسند ٣ / ٤٥٦ ـ ٤٥٩.

(٣) ورّى بغيرها : أي سترها ، وأوهم أنه يريد غيرها.

(٤) المفاوز : بريه وصحراء قليلة الماء.

٢٠٠