تفسير القرآن العظيم - ج ٤

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٤

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤١

تظهر بين أكتافهم حتى ينجم في صدورهم» ولهذا كان حذيفة يقال له صاحب السر الذي لا يعلمه غيره أي من تعيين جماعة من المنافقين وهم هؤلاء قد أطلعه عليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم دون غيره ، والله أعلم.

وقد ترجم الطبراني في مسند حذيفة تسمية أصحاب العقبة ، ثم روي عن علي بن عبد العزيز عن الزبير بن بكار أنه قال : هم معتب بن قشيرة ووديعة بن ثابت وجد بن عبد الله بن نبتل بن الحارث من بني عمرو بن عوف والحارث بن يزيد الطائي وأوس بن قيظي والحارث بن سويد وسعد بن زرارة وقيس بن فهد وسويد بن داعس من بني الحبلى وقيس بن عمرو بن سهل وزيد بن اللصيت وسلالة بن الحمام وهما من بني قينقاع أظهرا الإسلام.

وقوله تعالى : (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي وما للرسول عندهم ذنب إلا أن الله أغناهم ببركته ويمن سعادته ، ولو تمت عليه السعادة لهداهم الله لما جاء به كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأنصار : «ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ، وعالة فأغناكم الله بي» كلما قال شيئا قالوا الله ورسوله أمنّ (١). وهذه الصيغة تقال حيث لا ذنب ، كقوله : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ) [البروج : ٨] الآية. وقوله عليه‌السلام «ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرا فأغناه الله» (٢) ثم دعاهم الله تبارك وتعالى إلى التوبة فقال (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي وإن يستمروا على طريقهم يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا أي بالقتل والهم والغم ، والآخرة أي بالعذاب والنكال والهوان والصغار (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي وليس لهم أحد يسعدهم ولا ينجدهم لا يحصل لهم خيرا ولا يدفع عنهم شرا.

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) (٧٨)

يقول تعالى ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه لئن أغناه من فضله ليصدقن من ماله وليكونن من الصالحين ، فما وفي بما قال ولا صدق فيما ادعى ، فأعقبهم هذا الصنيع نفاقا سكن في قلوبهم إلى يوم يلقون الله عزوجل يوم القيامة عياذا بالله من ذلك ، وقد ذكر كثير من المفسرين منهم ابن عباس والحسن البصري أن سبب نزول هذه الآية الكريمة في ثعلبة بن حاطب الأنصاري.

__________________

(١) تقدم الحديث مع تخريج في تفسير الآية ٦٣ من سورة الأنفال.

(٢) أخرجه البخاري في الزكاة باب ٤٩ ، ومسلم في الزكاة حديث ١١.

١٦١

وقد ورد فيه حديث رواه ابن جرير (١) هاهنا ، وابن أبي حاتم من حديث معان بن رفاعة عن علي بن يزيد عن أبي عبد الرحمن القاسم بن عبد الرحمن مولى عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية عن أبي أمامة الباهلي عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري ، أنه قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ادع الله أن يرزقني مالا ، قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» قال : ثم قال مرة أخرى فقال : «أما ترضى أن تكون مثل نبي الله ـ فو الذي نفسي بيده لو شئت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت» قال : والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم ارزق ثعلبة مالا» قال فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما ، ثم نمت وكثرت فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة ، وهي تنمو كما ينمو الدود حتى ترك الجمعة ، فطفق يتلقى الركبان يوم الجمعة ليسألهم عن الأخبار فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما فعل ثعلبة؟» فقالوا : يا رسول الله اتخذ غنما فضاقت عليه المدينة ، فأخبروه بأمره ، فقال : «يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة».

وأنزل الله جل ثناؤه (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) [التوبة : ١٠٢] الآية ، ونزلت فرائض الصدقة فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلين على الصدقة من المسلمين رجلا من جهينة ورجلا من سليم وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين ، وقال لهما : «مرا بثعلبة وبفلان ـ رجل من بني سليم ـ فخذا صدقاتهما» فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية ما أدري ما هذا؟ انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليّ فانطلقا وسمع بهما السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بهما ، فلما رأوها قالوا ما يجب عليك هذا وما نريد أن نأخذ هذا منك ، فقال : بلى فخذوها فإن نفسي بذلك طيبة وإنما هي لله ، فأخذاها منه ومرا على الناس فأخذا الصدقات ثم رجعا إلى ثعلبة فقال : أروني كتابكما فقرأه فقال ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى أرى رأيي ، فانطلقا حتى أتيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما رآهما قال : «يا ويح ثعلبة» قبل أن يكلمهما ودعا للسلمي بالبركة فأخبراه بالذي صنع ثعلبة والذي صنع السلمي ، فأنزل الله عزوجل (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَ) [التوبة : ٧٥] الآية.

قال وعند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل من أقارب ثعلبة فسمع ذلك فخرج حتى أتاه فقال : ويحك يا ثعلبة قد أنزل الله فيك كذا وكذا ، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله أن يقبل منه صدقته ، فقال : ويحك إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك» فجعل يحثو على رأسه التراب ، فقال له

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٤٢٥.

١٦٢

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني» فلما أبى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقبل صدقته رجع إلى منزله ، فقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يقبل منه شيئا ، ثم أتى أبا بكر رضي الله عنه حين استخلف فقال قد علمت منزلتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وموضعي من الأنصار فاقبل صدقتي ، فقال أبو بكر لم يقبلها منك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبى أن يقبلها ، فقبض أبو بكر ولم يقبلها.

فلما ولي عمر رضي الله عنه أتاه فقال : يا أمير المؤمنين اقبل صدقتي فقال : لم يقبلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا أبو بكر وأنا أقبلها منك؟ فقبض ولم يقبلها ، فلما ولي عثمان رضي الله عنه أتاه فقال : اقبل صدقتي فقال لم يقبلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا أبو بكر ولا عمر وأنا أقبلها منك؟ فلم يقبلها منه فهلك ثعلبة في خلافة عثمان.

وقوله تعالى : (بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ) الآية ، أي أعقبهم النفاق في قلوبهم بسبب إخلافهم الوعد وكذبهم كما في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان» (١) وله شواهد كثيرة ، والله أعلم.

وقوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) الآية ، يخبر تعالى أنه يعلم السر وأخفى ، وأنه أعلم بضمائرهم وإن أظهروا أنه إن حصل لهم أموال تصدقوا منها وشكروا عليها فإن الله أعلم بهم من أنفسهم ، لأنه تعالى علام الغيوب أي يعلم كل غيب وشهادة وكل سر ونجوى ويعلم ما ظهر وما بطن.

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧٩)

وهذا أيضا من صفات المنافقين لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم ، إن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا هذا مراء ، وإن جاء بشيء يسير قالوا : إن الله لغني عن صدقة هذا ، كما روى البخاري حدثنا عبيد الله بن سعيد ، حدثنا أبو النعمان البصري ، حدثنا شعبة عن سليمان عن أبي وائل عن أبي مسعود رضي الله عنه قال : لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل على ظهورنا ، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقالوا : مرائي ، وجاء رجل فتصدق بصاع : فقالوا إن الله لغني عن صدقة هذا. فنزلت (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ) (٢) الآية. وقد رواه مسلم أيضا في صحيحه من حديث شعبة به.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا يزيد حدثنا الجريري عن أبي السليل قال : وقف علينا رجل

__________________

(١) أخرجه البخاري في الشهادات باب ٢٨ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٠٧ ، ١٠٩.

(٢) أخرجه بلفظ «كنا نحامل» ، البخاري في الزكاة باب ١٠ ، ومسلم في الزكاة حديث ٧٤ ، وأخرجه بلفظ «كنا نتحامل» البخاري في تفسير سورة ٩ ، باب ١١.

(٣) المسند ٥ / ٣٤.

١٦٣

في مجلسنا بالبقيع فقال : حدثني أبي أو عمي أنه رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبقيع وهو يقول : «من يتصدق بصدقة أشهد له بها يوم القيامة» قال : فحللت من عمامتي لوثا أو لوثين وأنا أريد أن أتصدق بهما ، فأدركني ما يدرك ابن آدم فعقدت على عمامتي ، فجاء رجل لم أر بالبقيع رجلا أشد منه سوادا ولا أصغر منه ولا أدم ، ببعير ساقه لم أر بالبقيع ناقة أحسن منها فقال : يا رسول الله أصدقة؟ قال : «نعم» قال : دونك هذه الناقة ، قال فلمزه رجل فقال : هذا يتصدق بهذه فو الله لهي خير منه. قال : فسمعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «كذبت بل هو خير منك ومنها» ثلاث مرات ، ثم قال : «ويل لأصحاب المئين من الإبل» ثلاثا قالوا إلا من يا رسول الله؟ قال: «إلا من قال بالمال هكذا وهكذا» وجمع بين كفيه عن يمينه وعن شماله ثم قال : «قد أفلح المزهد المجهد» ثلاثا. المزهد في العيش ، المجهد في العبادة.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية قال : جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام ، فقال بعض المنافقين : والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء ، وقالوا : إن الله ورسوله لغنيان عن هذا الصاع (١).

وقال العوفي عن ابن عباس : إن رسول الله خرج إلى الناس يوما فنادى فيهم أن اجمعوا صدقاتكم ، فجمع الناس صدقاتهم ، ثم جاء رجل من آخرهم بصاع من تمر ، فقال : يا رسول الله هذا صاع من تمر بت ليلتي أجر بالجرير الماء حتى نلت صاعين من تمر فأمسكت أحدهما وأتيتك بالآخر ، فأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينثره في الصدقات ، فسخر منه رجال وقالوا : إن الله ورسوله لغنيان عن هذا وما يصنعون بصاعك من شيء ، ثم إن عبد الرحمن بن عوف قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل بقي أحد من أهل الصدقات؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم يبق أحد غيرك» فقال له عبد الرحمن بن عوف فإن عندي مائة أوقية من ذهب في الصدقات ، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمجنون أنت؟ قال ليس بي جنون ، قال أفعلت ما فعلت؟ قال : نعم مالي ثمانية آلاف أما أربعة آلاف فأقرضها ربي وأما أربعة آلاف فلي ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت» ولمزه المنافقون فقالوا والله ما أعطى عبد الرحمن عطيته إلا رياء وهم كاذبون إنما كان به متطوعا ، فأنزل الله عزوجل عذره وعذر صاحبه المسكين الذي جاء بالصاع من التمر فقال تعالى في كتابه : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ) (٢) الآية.

وهكذا روي عن مجاهد وغير واحد وقال ابن إسحاق : كان من المطوعين من المؤمنين في

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٣٠.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٣٠.

١٦٤

الصدقات عبد الرحمن بن عوف تصدق بأربعة آلاف درهم وعاصم بن عدي أخو بني العجلان ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رغب في الصدقة وحض عليها فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف وقام عاصم بن عدي وتصدق بمائة وسق من تمر فلمزوهما وقالوا : ما هذا إلا رياء ، وكان الذي تصدق بجهده أبو عقيل أخو بني أنيف الأراشي حليف بني عمرو بن عوف ، أتى بصاع من تمر فأفرغه في الصدقة فتضاحكوا به وقالوا : إن الله لغني عن صاع أبي عقيل (١).

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا طالوت بن عباد ، حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثا» قال فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال يا رسول الله : عندي أربعة آلاف ، ألفين أقرضهما ربي وألفين لعيالي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بارك الله لك فيما أعطيت وبارك لك فيما أمسكت» ، وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر فقال يا رسول الله : أصبت صاعين من تمر صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي ، قال فلمزه المنافقون وقالوا : ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياء ، وقالوا: ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا؟ فأنزل الله (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) الآية ، ثم رواه عن أبي كامل عن أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه مرسلا ، قال ولم يسنده أحد إلا طالوت.

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير (٢) : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا زيد بن الحباب عن موسى بن عبيدة ، حدثني خالد بن يسار عن ابن أبي عقيل عن أبيه ، قال : بت أجر الجرير على ظهري على صاعين من تمر ، فانقلبت بأحدهما إلى أهلي يتبلغون به وجئت بالآخر أتقرب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتيته فأخبرته ، فقال : «انثره في الصدقة» قال فسخر القوم وقالوا لقد كان الله غنيا من صدقة هذا المسكين ، فأنزل الله (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ) الآيتين ، وكذا رواه الطبراني من حديث زيد بن حباب به ، وقال : اسم أبي عقيل حباب ويقال عبد الرحمن بن عبد الله بن ثعلبة.

وقوله : (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) هذا من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين ، لأن الجزاء من جنس العمل فعاملهم معاملة من سخر منهم انتصارا للمؤمنين في الدنيا ، وأعد للمنافقين في الآخرة عذابا أليما لأن الجزاء من جنس العمل.

(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٨٠)

يخبر تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن هؤلاء المنافقين ليسوا أهلا للاستغفار وأنه لو استغفر لهم سبعين

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٣١.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤٣٢.

١٦٥

مرة فلن يغفر الله لهم ، وقد قيل إن السبعين إنما ذكرت حسما لمادة الاستغفار لهم ، لأن العرب في أساليب كلاهما تذكر السبعين في مبالغة كلامها ، ولا تريد التحديد بها ولا أن يكون ما زاد عليها بخلافها ، وقيل بل لها مفهوم كما روى العوفي عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما نزلت هذه الآية أسمع ربي قد رخص لي فيهم فو الله لأستغفرن لهم أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم» فقال الله من شدة غضبه عليهم : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) الآية.

وقال الشعبي لما ثقل عبد الله بن أبي انطلق ابنه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن أبي قد احتضر فأحب أن تشهده وتصلي عليه فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما اسمك؟» قال : الحباب بن عبد الله قال : «بل أنت عبد الله بن عبد الله إن الحباب اسم شيطان» ، فانطلق معه حتى شهده وألبسه قميصه وهو عرق وصلى عليه فقيل له : أتصلي عليه وهو منافق؟ فقال : «إن الله قال (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) ولأستغفرن لهم سبعين وسبعين وسبعين» وكذا روي عن عروة بن الزبير ومجاهد بن جبير وقتادة بن دعامة ورواه ابن جرير (١) بأسانيده.

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٢)

يقول تعالى ذاما للمنافقين المتخلفين عن صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، وفرحوا بقعودهم بعد خروجه (وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا) معه (بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا) أي بعضهم لبعض (لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر عند طيب الظلال والثمار ، فلهذا قالوا (لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) قال الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ) لهم (نارُ جَهَنَّمَ) التي تصيرون إليها بمخالفتكم (أَشَدُّ حَرًّا) مما فررتم منه من الحر بل أشد حرا من النار ، كما قال الإمام مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نار بني آدم التي توقدونها جزء من سبعين جزءا من نار جهنم» فقالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية؟ فقال : «فضلت عليها بتسعة وستين جزءا» (٢) أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ، وضربت في البحر مرتين ولولا ذلك

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٤٣٤ ، ٤٣٥.

(٢) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ١٠ ، ومسلم في الجنة حديث ٣٠ ، ومالك في جهنم حديث ١.

(٣) المسند ٢ / ٢٤٤.

١٦٦

ما جعل الله فيها منفعة لأحد» وهذا أيضا إسناده صحيح ، وقد روى الإمام أبو عيسى الترمذي وابن ماجة عن عباس الدوري ، وعن يحيى بن أبي بكير عن شريك عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوقد الله على النار ألف سنة حتى احمرت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ، ثم أوقد عليها ألف سنة ، حتى اسودت ، فهي سوداء كالليل المظلم» (١) ثم قال الترمذي : لا أعلم أحدا رفعه غير يحيى ، كذا قال ، وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه ، عن إبراهيم بن محمد عن محمد بن الحسين بن مكرم عن عبيد الله بن سعد عن عمه عن شريك وهو ابن عبد الله النخعي به.

وروى أيضا ابن مردويه ، من رواية مبارك بن فضالة عن ثابت بن أنس قال : تلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [التحريم : ٦] قال : «أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت ، وألف عام حتى احمرت ، وألف عام حتى اسودت ، فهي سوداء كالليل لا يضيء لهبها ، وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث تمام بن نجيج ، وقد اختلف فيه عن الحسن عن أنس رفعه «لو أن شرارة بالمشرق ـ أي من نار جهنم ـ لوجد حرها من بالمغرب» وروى الحافظ أبو يعلى ، عن إسحاق بن أبي إسرائيل عن أبي عبيدة الحداد عن هشام بن حسان عن محمد بن شبيب عن جعفر بن أبي وحشية عن سعيد بن جبير عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون وفيهم رجل من أهل النار فتنفس فأصابهم نفسه لاحترق المسجد ومن فيه» غريب.

وقال الأعمش عن أبي إسحاق عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لمن له نعلان وشراكان من نار جهنم يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ، لا يرى أن أحدا من أهل النار أشد عذابا منه وإنه أهونهم عذابا» (٢) أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش ، وقال مسلم أيضا : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، حدثنا زهير بن محمد عن سهيل بن أبي صالح عن النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أدنى أهل النار عذابا يوم القيامة ينتعل بنعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعليه» (٣) ، وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا يحيى عن ابن عجلان ، سمعت أبي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن أدنى أهل النار عذابا رجل يجعل له نعلان يغلي منهما دماغه» وهذا إسناد جيد قوي رجاله على شرط مسلم والله أعلم ، والأحاديث والآثار النبوية في هذا كثيرة.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في جهنم باب ٨.

(٢) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٥١ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٦٤.

(٣) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٣٦١.

(٤) المسند ٢ / ٤٣٢ ، ٤٣٨ ، ٤٣٩.

١٦٧

وقال الله تعالى في كتابه العزيز (كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى) [المعارج : ١٥ ـ ١٦] وقال تعالى : (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) [الحج : ١٩ ـ ٢٢] وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) [النساء : ٥٦] وقال تعالى في هذه الآية الكريمة (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) أي لو أنهم يفقهون ويفهمون لنفروا مع الرسول في سبيل الله في الحر ليتقوا به من حر جهنم الذي هو أضعاف أضعاف هذا ولكنهم كما قال الآخر: [البسيط] كالمستجير من الرمضاء بالنار (١) وقال الآخر : [البسيط]

عمرك بالحمية أفنيته

خوفا من البارد والحار

وكان أولى لك أن تتقي

من المعاصي حذر النار

ثم قال تعالى جل جلاله متوعدا هؤلاء المنافقين على صنيعهم هذا : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً) الآية ، قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاؤوا ، فإذا انقطعت الدنيا وصاروا إلى الله عزوجل استأنفوا بكاء لا ينقطع أبدا ، وكذا قال أبو رزين والحسن وقتادة والربيع بن خثيم وعون العقيلي وزيد بن أسلم ، وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا. عبد الله بن عبد الصمد بن أبي خداش ، حدثنا محمد بن جبير عن ابن المبارك عن عمران بن زيد ، حدثنا يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يا أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون ، فلو أن سفنا أزجيت فيها لجرت» (٢) ورواه ابن ماجة من حديث الأعمش عن يزيد الرقاشي به.

وقال الحافظ أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا : حدثنا محمد بن عباس ، حدثنا حماد الجزري عن زيد بن رفيع رفعه ، قال : إن أهل النار إذا دخلوا النار بكوا الدموع زمانا ثم بكوا القيح زمانا ، قال : فتقول لهم الخزنة يا معشر الأشقياء تركتم البكاء في الدار المرحوم فيها أهلها في الدنيا هل تجدون اليوم من تستغيثون به؟ قال : فيرفعون أصواتهم يا أهل الجنة يا معشر الآباء والأمهات والأولاد خرجنا من القبور عطاشا وكنا طول الموقف عطاشا ونحن

__________________

(١) يروى البيت بتمامه :

والمستجير بعمرو عند كربته

كالمستجير من الدعصاء بالنار

وهو لابن دريد في تاج العروس (دعص) ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في لسان العرب (دعص) ، وجمهرة اللغة ص ٦٥٣.

(٢) أخرجه ابن ماجة في الإقامة باب ١٧٦ ، والزهد باب ١٩.

١٦٨

اليوم عطاش ، فأفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ، فيدعون أربعين سنة لا يجيبهم ، ثم يجيبهم (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) فييأسون من كل خير».

(فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) (٨٣)

يقول تعالى آمرا لرسوله عليه الصلاة السلام (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ) أي ردك الله من غزوتك هذه (إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) قال قتادة : ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلا (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) أي معك إلى غزوة أخرى (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) أي تعزيرا لهم وعقوبة ، ثم علل ذلك بقوله : (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) وهذا كقوله تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام : ١١٠] الآية ، فإن جزاء السيئة السيئة بعدها كما أن ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، كقوله في عمرة الحديبية (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها) [الفتح : ١٥] الآية. وقوله تعالى : (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) قال ابن عباس : أي الرجال الذين تخلفوا عن الغزاة ، وقال قتادة (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) أي مع النساء قال ابن جرير وهذا لا يستقيم لأن جمع النساء لا يكون بالياء والنون ولو أريد النساء لقال فاقعدوا مع الخوالف أو الخالفات ، ورجح قول ابن عباس رضي الله عنهما.

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) (٨٤)

أمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبرأ من المنافقين وأن لا يصلي على أحد منهم إذا مات ، وأن لا يقوم على قبره ليستغفر له أو يدعو له لأنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا عليه وهذا حكم عام في كل من عرف نفاقه ، وإن كان سبب نزول الآية في عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين كما قال البخاري : حدثنا عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال : لما توفي عبد الله بن أبي «جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ، ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليصلي عليه ، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما خيرني الله فقال (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [التوبة : ٨٠] وسأزيده على السبعين» قال : إنه منافق. قال فصلى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله عزوجل آية (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) (١) ، وكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة حماد بن أسامة به ، ثم رواه

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٩ ، باب ١٢ ، ومسلم في المنافقين حديث ٤ ، وفضائل الصحابة حديث ٢٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٨.

١٦٩

البخاري عن إبراهيم بن المنذر عن أنس بن عياض عن عبيد الله وهو ابن عمر العمري به ، وقال فصلى عليه وصلينا معه وأنزل الله (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) الآية. وهكذا رواه الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله به.

وقد روي من حديث عمر بن الخطاب نفسه أيضا بنحو من هذا ، فقال الإمام أحمد (١) : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي عن ابن إسحاق ، حدثني الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس ، قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لما توفي عبد الله بن أبي ، دعي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للصلاة عليه ، فقام إليه فلما وقف عليه يريد الصلاة تحولت حتى قمت في صدره فقلت يا رسول الله أعلى عدو الله عبد الله بن أبي القائل يوم كذا وكذا وكذا يعدد أيامه ، قال ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يبتسم ، حتى إذا أكثرت عليه فقال : «أخر عني يا عمر ، إني خيرت فاخترت ، قد قيل لي (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ) الآية. لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت» قال ثم صلى عليه ومشى معه وقام على قبره حتى فرغ منه ، قال فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والله ورسوله أعلم. قال فو الله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) الآية. فما صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله عزوجل (٢). وهكذا رواه الترمذي في التفسير من حديث محمد بن إسحاق عن الزهري به ، وقال حسن صحيح ، ورواه البخاري عن يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل عن الزهري به فذكر مثله ، قال : «أخر عني يا عمر» فلما أكثرت عليه قال : «إني خيرت فاخترت ولو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها» قال فصلى عليه رسول الله ثم انصرف ، فلم يلبث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) الآية ، فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلم (٣).

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا محمد بن أبي عبيد ، حدثنا عبد الملك عن أبي الزبير عن جابر قال : لما مات عبد الله بن أبي أتى ابنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إنك إن لم تأته لم نزل نعير بهذا ، فأتاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجده قد أدخل في حفرته فقال : «أفلا قبل أن تدخلوه» فأخرج من حفرته وتفل عليه من ريقه من قرنه إلى قدمه وألبسه قميصه ، ورواه النسائي عن أبي داود الحراني عن يعلى بن عبيد عن عبد الملك وهو ابن أبي سليمان به ، وقال البخاري : حدثنا عبد الله بن عثمان ، أخبرنا ابن عيينة عن عمرو سمع جابر بن عبد الله قال : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن أبي بعد ما أدخل في قبره فأمر به فأخرج ووضع على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه والله

__________________

(١) المسند ١ / ١٦.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٩ ، باب ١٢ ، والترمذي في تفسير سورة ٩ باب ١٢ ، ١٣.

(٣) راجع الحاشية السابقة.

(٤) المسند ٣ / ٣٧١.

١٧٠

أعلم (١).

وقد رواه أيضا في غير موضع مسلم والنسائي من غير وجه ، عن سفيان بن عيينة به. وقال الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا يحيى ، حدثنا مجالد ، حدثنا عامر ، حدثنا جابر «ح» وحدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء الدوسي ، حدثنا مجالد عن الشعبي عن جابر قال : لما مات رأس المنافقين قال يحيى بن سعيد بالمدينة فأوصى أن يصلي عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء ابنه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن أبي أوصى أن يكفن بقميصك وهذا الكلام في حديث عبد الرحمن بن مغراء ، قال يحيى في حديثه : فصلى عليه وألبسه قميصه فأنزل الله تعالى : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) وزاد عبد الرحمن : وخلع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قميصه فأعطاه إياه ومشى فصلى عليه وقام على قبره ، فأتاه جبريل عليه‌السلام لما ولى قال (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) وإسناده لا بأس به وما قبله شاهد له.

وقال الإمام أبو جعفر الطبري (٢) : حدثنا أحمد بن إسحاق ، حدثنا أحمد ، حدثنا حماد بن سلمة عن يزيد الرقاشي عن أنس ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد أن يصلي على عبد الله بن أبي فأخذ جبريل بثوبه وقال (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) ورواه الحافظ أبو يعلى في مسنده من حديث يزيد الرقاشي وهو ضعيف. وقال قتادة أرسل عبد الله بن أبي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مريض فلما دخل عليه قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أهلكك حب يهود» قال : يا رسول الله إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتؤنبني ، ثم سأله عبد الله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه إياه وصلى عليه وقام على قبره ، فأنزل الله عزوجل (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) (٣) الآية.

وقد ذكر بعض السلف أنه إنما كساه قميصه لأن عبد الله بن أبي لما قدم العباس طلب له قميص فلم يوجد على تفصيله إلا ثوب عبد الله بن أبي لأنه كان ضخما طويلا ففعل ذلك به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكافأة له فالله أعلم. ولهذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزول هذه الآية الكريمة عليه لا يصلي على أحد من المنافقين ولا يقوم على قبره ، كما قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي عن أبيه ، حدثني عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دعي إلى جنازة سأل عنها ، فإن أثنى عليها خيرا قام فصلى عليها ، وإن كان غير ذلك قال لأهلها «شأنكم

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٢٢ ، واللباس باب ٨ ، ومسلم في المنافقين حديث ٢ ، والنسائي في الجنائز باب ٤٠.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤٣٩ ، ٤٤٠.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٤٠ ، ٤٤١.

(٤) المسند ٥ / ٢٩٩ ، ٣٠٠.

١٧١

بها» ولم يصل عليها ، وكان عمر بن الخطاب لا يصلي على جنازة من جهل حاله حتى يصلي عليها حذيفة بن اليمان لأنه كان يعلم أعيان المنافقين ، قد أخبره بهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذا كان يقال له صاحب السر الذي لا يعلمه غيره أي من الصحابة.

وقال أبو عبيد في كتاب الغريب في حديث عمر ، أنه أراد أن يصلي على جنازة رجل فمرزه حذيفة كأنه أراد أن يصده عن الصلاة عليها. ثم حكي عن بعضهم أن المرز بلغة أهل اليمامة هو القرص بأطراف الأصابع ، ولما نهى الله عزوجل عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم للاستغفار لهم ، كان هذه الصنيع من أكبر القربات في حق المؤمنين فشرع ذلك ، وفي فعله الأجر الجزيل كما ثبت في الصحاح وغيرها من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط ، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان» قيل وما القيراطان؟ قال «أصغرهما مثل أحد» (١) وأما القيام عند قبر المؤمن إذا مات ، فروى أبو داود : حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي ، أخبرنا هشام عن عبد الله بن بحير عن هانئ ، وهو أبو سعيد البربري مولى عثمان بن عفان عن عثمان رضي الله عنه قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال : «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل» انفرد بإخراجه أبو داود (٢) رحمه‌الله.

(وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) (٨٥)

قد تقدم تفسير نظير هذه الآية الكريمة ولله الحمد والمنة (٣).

(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) (٨٧)

يقول تعالى منكرا وذاما للمتخلفين عن الجهاد الناكلين عنه مع القدرة عليه ووجود السعة والطول. واستأذنوا الرسول في القعود وقالوا (ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) ورضوا لأنفسهم بالعار والقعود في البلد مع النساء ، وهن الخوالف بعد خروج الجيش ، فإذا وقع الحرب كانوا أجبن الناس ، وإذا كان أمن كانوا أكثر الناس كلاما ، كما قال تعالى عنهم في الآية الأخرى : (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) [الأحزاب : ١٩] أي علت ألسنتهم بالكلام الحاد القوي في الأمن ، وفي الحرب أجبن شيء ، وكما قال الشاعر : [الطويل]

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٥٩ ، ومسلم في الجنائز حديث ٥٢.

(٢) كتاب الجنائز باب ٦٩.

(٣) انظر تفسير الآية ٥٥ من هذه السورة.

١٧٢

أفي السلم أعيارا جفاء وغلظة

وفي الحرب أشباه النساء العوارك؟ (١)

وقال تعالى في الآية الأخرى (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) [محمد : ٢٠ ـ ٢١] الآية ، وقوله (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي بسبب نكولهم عن الجهاد والخروج مع الرسول في سبيل الله (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أي لا يفهمون ما فيه صلاح لهم فيفعلوه ولا ما فيه مضرة لهم فيجتنبوه.

(لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٨٩)

لما ذكر تعالى ذنب المنافقين وبين ثناءه على المؤمنين ومالهم في آخرتهم ، فقال (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا) إلى آخر الآيتين من بيان حالهم ومآلهم ، وقوله : (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) أي في الدار الآخرة في جنات الفردوس والدرجات العلى.

(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٩٠)

ثم بين تعالى حال ذوي الأعذار في ترك الجهاد الذين جاءوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتذرون إليه ويبينون له ما هم فيه من الضعف وعدم القدرة على الخروج وهم من أحياء العرب ممن حول المدينة. قال الضحاك عن ابن عباس ، إنه كان يقرأ (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ) بالتخفيف ويقول : هم أهل العذر. وكذا روى ابن عيينة عن حميد عن مجاهد سواء ، قال ابن إسحاق : وبلغني أنهم نفر من بني غفار خفاف بن إيماء بن رحضة (٢).

وهذا القول هو الأظهر في معنى الآية ، لأنه قال بعد هذا (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي لم يأتوا فيعتذروا ، وقال ابن جريج عن مجاهد (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) قال : نفر من بني غفار جاءوا فاعتذروا فلم يعذرهم الله ، وكذا قال الحسن وقتادة ومحمد بن إسحاق والقول الأول أظهر والله أعلم ، لما قدمنا من قوله بعده (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي وقعد آخرون من الأعراب عن المجيء للاعتذار ثم أوعدهم بالعذاب الأليم فقال : (سَيُصِيبُ

__________________

(١) البيت لهند بنت عتبة في خزانة الأدب ٣ / ٢٦٣ ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٤٢ ، وبلا نسبة في شرح أبيات سيبويه ١ / ٣٨٢ ، والكتاب ١ / ٣٤٤ ، ولسان العرب (عور) ، (عير) ، (عرك) ، والمقتضب ٣ / ٢٦٥ ، والمقرب ١ / ٢٥٨ ، وتاج العروس (عرك) ، وسيرة ابن هشام ١ / ٦٥٦.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٤٤ ، ٤٤٥.

١٧٣

الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٩٣)

ثم بين تعالى الأعذار التي لا حرج على من قعد معها عن القتال ، فذكر منها ما هو لازم للشخص لا ينفك عنه وهو الضعف في التركيب الذي لا يستطيع معه الجلاد في الجهاد ، ومنه العمى والعرج ونحوهما ، ولهذا بدأ به ومنه ما هو عارض بسبب مرض عنّ له في بدنه شغله عن الخروج في سبيل الله أو بسبب فقره لا يقدر على التجهيز للحرب ، فليس على هؤلاء حرج إذا قعدوا ونصحوا في حال قعودهم ولم يرجفوا بالناس ولم يثبطوهم وهم محسنون في حالهم هذا ، ولهذا قال : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقال سفيان الثوري عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي ثمامة رضي الله عنه قال : قال الحواريون يا روح الله أخبرنا عن الناصح لله؟ قال الذي يؤثر حق الله على حق الناس ، وإذا حدث له أمران أو بدا له أمر الدنيا وأمر الآخرة ، بدأ بالذي للآخرة ثم تفرغ للذي للدنيا.

وقال الأوزاعي : خرج الناس إلى الاستسقاء فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ، يا معشر من حضر ألستم مقرين بالإساءة؟ قالوا اللهم نعم ، فقال اللهم إنا نسمعك تقول : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) اللهم وقد أقررنا بالإساءة فاغفر لنا وارحمنا واسقنا ، ورفع يديه ورفعوا أيديهم فسقوا ، وقال قتادة نزلت هذه الآية في عائذ بن عمرو المزني ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عبيد الله الرازي ، حدثنا ابن جابر عن ابن فروة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن زيد بن ثابت قال : كنت أكتب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكنت أكتب براءة ، فإني لواضع القلم على أذني إذ أمرنا بالقتال ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينظر ما ينزل عليه ، إذ جاء أعمى فقال : كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى؟ فنزلت (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) الآية.

وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه ، فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل بن مقرن المزني فقالوا : يا رسول الله احملنا فقال لهم : والله لا أجد ما أحملكم عليه» فتولوا وهم يبكون وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملا. فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله أنزل عذرهم في كتابه فقال (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) إلى قوله (فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١).

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٤٥ ، ٤٤٦.

١٧٤

وقال مجاهد في قوله : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) نزلت في بني مقرن من مزينة (١) ، وقال محمد بن كعب : كانوا سبعة نفر من بني عمرو بن عوف سالم بن عمير ، ومن بني واقف حرمي بن عمرو ، ومن بني مازن بن النجار عبد الرحمن بن كعب ويكنى أبا ليلى ، ومن بني المعلى سلمان بن صخر ، ومن بني سلمة عمرو بن غنمة وعبد الله بن عمرو المزني (٢).

وقال محمد بن إسحاق في سياق غزوة تبوك : ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم البكاؤون وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم ، من بني عمرو بن عوف سالم بن عمير وعلية بن زيد أخو بني حارثة ، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن بن النجار ، وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة وعبد الله بن المغفل المزني ، وبعض الناس يقول بل هو عبد الله بن عمرو المزني ، وحرمي بن عبد الله أخو بني واقف وعياض بن سارية الفزاري ، فاستحملوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانوا أهل حاجة فقال (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) (٣).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمر بن الأودي ، حدثنا وكيع عن الربيع عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما أنفقتم من نفقة ولا قطعتم واديا ولا نلتم من عدو نيلا إلا وقد شركوكم في الأجر» ثم قرأ (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) الآية ، وأصل الحديث في الصحيحين من حديث أنس ، أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا ولا سرتم سيرا إلا وهم معكم» قالوا وهم بالمدينة؟ قال : «نعم حبسهم العذر» (٤) ، وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد خلفتم بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا ولا سلكتم طريقا إلا شركوكم في الأجر ، حبسهم المرض» (٦) ورواه مسلم وابن ماجة من طرق عن الأعمش به ثم رد تعالى الملامة على الذين يستأذنون في القعود وهم أغنياء ، وأنبهم في رضاهم بأن يكونوا مع النساء الخوالف في الرحال (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٤٤٦.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤٤٧.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ / ٥١٨.

(٤) أخرجه البخاري في الجهاد باب ٣٥ ، والمغازي باب ٨١.

(٥) المسند ٣ / ٣٠٠.

(٦) أخرجه مسلم في الإمارة حديث ١٥٩ ، وابن ماجة في الجهاد باب ٦.

١٧٥

وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (٩٦)

أخبر تعالى عن المنافقين بأنهم إذا رجعوا إلى المدينة أنهم يعتذرون إليهم (قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) أي لن نصدقكم (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) أي قد أعلمنا الله أحوالكم (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) أي سيظهر أعمالكم للناس في الدنيا (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي فيخبركم بأعمالكم خيرها وشرها ويجزيكم عليها ، ثم أخبر عنهم أنهم سيحلفون لكم معتذرين لتعرضوا عنهم فلا تؤنبوهم فأعرضوا عنهم احتقارا لهم إنهم رجس أي خبث نجس بواطنهم واعتقاداتهم ، ومأواهم في آخرتهم جهنم (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي من الآثام والخطايا ، وأخبر أنهم إن رضوا عنهم بحلفهم لهم (فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي الخارجين عن طاعة الله وطاعة رسوله ، فإن الفسق هو الخروج ، ومنه سميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها للإفساد ، ويقال فسقت الرطبة إذا خرجت من أكمامها

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٩٩)

أخبر تعالى أن في الأعراب كفارا ومنافقين ومؤمنين ، وأن كفرهم ونفاقهم أعظم من غيرهم وأشد وأجدر ، أي أحرى أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله كما قال الأعمش عن إبراهيم قال : جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان وهو يحدث أصحابه وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند ، فقال الأعرابي : والله إن حديثك ليعجبني ، وإن يدك لتريبني. فقال زيد : ما يريبك من يدي إنها الشمال؟ فقال الأعرابي : والله ما أدري اليمين يقطعون أو الشمال؟ فقال زيد بن صوحان : صدق الله (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ).

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان عن أبي موسى عن وهب بن منبه عن ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سكن البادية جفا ، ومن اتبع الصيد

__________________

(١) المسند ١ / ٣٥٧.

١٧٦

غفل ، ومن أتى السلطان افتتن» (١) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن سفيان الثوري به ، وقال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الثوري.

ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي لم يبعث الله منهم رسولا ، وإنما كانت البعثة من أهل القرى كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) [يوسف : ١٠٩] ولما أهدى ذلك الأعرابي تلك الهدية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرد عليه أضعافها حتى رضي ، قال : «لقد هممت أن لا أقبل هدية إلا من قرشي أو ثقفي أو أنصاري أو دوسي» لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن مكة والطائف والمدينة واليمن ، فهم ألطف أخلاقا من الأعراب لما في طباع الأعراب من الجفاء.

[حديث الأعرابي في تقبيل الولد] قال مسلم : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا : حدثنا أبو أسامة وابن نمير عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت : قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : أتقبلون صبيانكم؟ قالوا نعم ، قالوا لكنا والله ما نقبل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأملك إن كان الله نزع منكم الرحمة» وقال ابن نمير : «من قلبك الرحمة» (٢).

وقوله (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي عليم بمن يستحق أن يعلمه الإيمان والعلم ، حكيم فيما قسم بين عباده من العلم والجهل والإيمان والكفر والنفاق ، لا يسأل عما يفعل لعلمه وحكمته ، وأخبر تعالى أن منهم (مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ) أي في سبيل الله (مَغْرَماً) أي غرامة وخسارة (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) أي ينتظر بكم الحوادث والآفات (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) أي هي منعكسة عليهم والسوء دائر عليهم (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي سميع لدعاء عباده عليم بمن يستحق النصر ممن يستحق الخذلان.

وقوله : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) هذا هو القسم الممدوح من الأعراب ، وهم الذين يتخذون ما ينفقون في سبيل الله قربة يتقربون بها عند الله ويبتغون بذلك دعاء الرسول لهم (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) أي ألا إن ذلك حاصل لهم (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٠٠)

يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ، ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم والنعيم المقيم ، قال الشعبي : السابقون الأولون من

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الأضاحي باب ٢٤ ، والترمذي في الفتن باب ٦٩ ، والنسائي في الصيد باب ٢٤.

(٢) أخرجه البخاري في الأدب باب ١٨ ، ومسلم في الفضائل حديث ٦٤.

١٧٧

المهاجرين والأنصار من أدرك بيعة الرضوان عام الحديبية (١) ، وقال أبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين والحسن وقتادة ، هم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) ، وقال محمد بن كعب القرظي : مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ هذه الآية ، (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) فأخذ عمر بيده فقال : من أقرأك هذا؟ فقال: أبي بن كعب ، فقال : لا تفارقني حتى أذهب بك إليه ، فلما جاءه قال عمر أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال : نعم. قال : وسمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : نعم. قال : لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا ، فقال أبي تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الجمعة : ٣] وفي سورة الحشر وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) [الحشر : ١٠] الآية ، وفي الأنفال (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ) [الأنفال : ٧٥] الآية ، ورواه ابن جرير (٣).

قال : وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤها برفع الأنصار عطفا على والسابقون الأولون ، فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم ، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه ، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم. عياذا بالله من ذلك. وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة وقلوبهم منكوسة ، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم؟ وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه ويسبون من سبه الله ورسوله ، ويوالون من يوالي الله ويعادون من يعادي الله وهم متبعون لا مبتدعون ويقتدون ولا يبتدئون ، ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون.

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) (١٠١)

يخبر تعالى رسوله صلوات الله وسلامه عليه أن في أحياء العرب ممن حول المدينة منافقون ، وفي أهل المدينة أيضا منافقون (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) أي مرنوا واستمروا عليه ، ومنه يقال شيطان مريد ، ومارد ويقال تمرد فلان على الله أي عتا وتجبر ، وقوله : (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) لا ينافي قوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٥٣.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤٥٤.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٤٥٥.

١٧٨

الْقَوْلِ) [محمد : ٣٠] لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها ، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين ، وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا وإن كان يراه صباحا ومساء.

وشاهد هذا بالصحة ما رواه الإمام أحمد (١) في مسنده حيث قال : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن النعمان بن سالم عن رجل عن جبير بن مطعم رضي الله عنه ، قال قلت : يا رسول الله إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر بمكة فقال : «لتأتينكم أجوركم ولو كنتم في جحر ثعلب» وأصغى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم برأسه فقال «إن في أصحابي منافقين» ومعناه أنه قد يبوح بعض المنافقين والمرجفين من الكلام بما لا صحة له ومن مثلهم صدر هذا الكلام الذي سمعه جبير بن مطعم ، وتقدم في تفسير قوله (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلم حذيفة بأعيان أربعة عشر أو خمسة عشر منافقا ، وهذا تخصيص لا يقتضي أنه اطلع على أسمائهم وأعيانهم كلهم ، والله أعلم.

وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عمر البيروتي من طريق هشام بن عمار : حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا ابن جابر ، حدثني شيخ ببيروت يكنى أبا عمر ، أظنه حدثني عن أبي الدرداء أن رجلا يقال له حرملة أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : الإيمان هاهنا وأشار بيده إلى لسانه ، والنفاق هاهنا وأشار بيده إلى قلبه ، ولم يذكر الله إلا قليلا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اجعل له لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا ، وارزقه حبي وحب من يحبني ، وصير أمره إلى خير» فقال : يا رسول الله إنه كان لي أصحاب من المنافقين وكنت رأسا فيهم أفلا آتيك بهم؟ قال : «من أتانا استغفرنا له ، ومن أصر فالله أولى به ، ولا تخرقن على أحد سترا» ، قال وكذا رواه أبو أحمد الحاكم عن أبي بكر الباغندي عن هشام بن عمار به.

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة في هذه الآية أنه قال : ما بال أقوام يتكلفون علم الناس ، فلان في الجنة وفلان في النار ، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال لا أدري لعمري أنت بنفسك أعلم منك بأحوال الناس ، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه الأنبياء قبلك ، قال نبي الله نوح عليه‌السلام (وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) وقال نبي الله شعيب عليه‌السلام (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) وقال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) (٢).

وقال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس في هذه الآية قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال : «اخرج يا فلان فإنك منافق ، واخرج يا فلان إنك منافق» فأخرج من المسجد

__________________

(١) المسند ٤ / ٨٢ ، ٨٣ ، ٨٤.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤٥٦.

١٧٩

ناسا منهم فضحهم ، فجاء عمر وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم حياء أنه لم يشهد الجمعة وظن أن الناس قد انصرفوا ، واختبئوا هم من عمر ظنوا أنه قد علم بأمرهم ، فجاء عمر فدخل المسجد فإذا الناس لم يصلوا ، فقال له رجل من المسلمين : أبشر يا عمر قد فضح الله المنافقين اليوم ، قال ابن عباس : فهذا العذاب الأول حين أخرجهم من المسجد ، والعذاب الثاني عذاب القبر (١) ، وكذا قال الثوري عن السدي عن أبي مالك نحو هذا.

وقال مجاهد في قوله (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) يعني القتل والسبي ، وقال في رواية بالجوع وعذاب القبر ، ثم يردون إلى عذاب عظيم (٢) ، وقال ابن جريج عذاب الدنيا وعذاب القبر ثم يردون إلى عذاب عظيم النار (٣) ، وقال الحسن البصري : عذاب في الدنيا وعذاب في القبر (٤) ، وقال عبد الرحمن بن زيد : أما عذاب في الدنيا فالأموال والأولاد ، وقرأ قوله تعالى (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فهذه المصائب لهم عذاب وهي للمؤمنين أجر ، وعذاب في الآخرة في النار (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) قال النار (٥) ، وقال محمد بن إسحاق (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) قال : هو فيما بلغني ما هم فيه من أمر الإسلام وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة ، ثم عذابهم في القبور إذا صاروا إليها ، ثم العذاب العظيم الذي يردون إليه عذاب الآخرة والخلد فيه (٦) ، وقال سعيد عن قتادة في قوله : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) عذاب الدنيا وعذاب القبر (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) وذكر لنا أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسر إلى حذيفة باثني عشر رجلا من المنافقين ، فقال ستة منهم تكفيهم الدبيلة سراج من نار جهنم يأخذ في كتف أحدهم حتى يفضي إلى صدره ، وستة يموتون موتا ، وذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا مات رجل ممن يرى أنه منهم ، نظر إلى حذيفة فإن صلى عليه وإلا تركه ، وذكر لنا أن عمر قال لحذيفة أنشدك الله أمنهم أنا؟ قال لا ولا أومن منها أحدا بعدك.

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٠٢)

لما بيّن تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الغزاة رغبة عنها وتكذيبا وشكا ، شرع في بيان حال المذنبين الذين تأخروا عن الجهاد كسلا وميلا إلى الراحة مع إيمانهم وتصديقهم بالحق ، فقال (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) أي أقروا بها واعترفوا فيما بينهم وبين ربهم ، ولهم أعمال

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٤٥٧.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤٥٧.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٤٥٨.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٤٥٨.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ٤٥٨.

(٦) تفسير الطبري ٦ / ٤٥٨.

١٨٠