تفسير القرآن العظيم - ج ٤

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٤

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤١

ثم أخبر تعالى عن تمام علمه فقال : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) فأخبر بأنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، ولهذا قال تعالى : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) فأخبر عن حالهم كيف يكون لو خرجوا ومع هذا ما خرجوا كما قال تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الأنعام : ٢٨] وقال تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنفال : ٢٣] وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) [النساء : ٦٦ ـ ٦٨] والآيات في هذا كثيرة.

(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) (٤٨)

يقول تعالى محرضا لنبيه عليه‌السلام على المنافقين : (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) أي لقد أعملوا فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك وخذلان دينك وإخماده مدة طويلة ، وذلك أول مقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة رمته العرب عن قوس واحدة ، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها ، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته قال عبد الله بن أبي وأصحابه : هذا أمر قد توجه فدخلوا في الإسلام ظاهرا ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم ولهذا قال تعالى : (حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ).

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٤٩)

يقول تعالى ومن المنافقين من يقول لك : يا محمد (ائْذَنْ لِي) في القعود (وَلا تَفْتِنِّي) بالخروج معك بسبب الجواري من نساء الروم. قال الله تعالى : (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي قد سقطوا في الفتنة بقولهم هذا كما قال محمد بن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن قتادة وغيرهم قالوا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم وهو في جهازه للجد بن قيس أخي بني سلمة : «هل لك يا جد العام في جلاد بني الأصفر؟» فقال : يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني ، فو الله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجبا بالنساء مني ، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهن. فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «قد أذنت لك» ففي الجد بن قيس نزلت هذه : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) الآية ، أي إن كان إنما يخشى من نساء بني الأصفر وليس ذلك به فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن

١٤١

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه أعظم (١).

وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وغير واحد أنها نزلت في الجد بن قيس ، وقد كان الجد بن قيس هذا من أشراف بني سلمة. وفي الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم : «من سيدكم يا بني سلمة؟» قالوا : الجد بن قيس على أنا نبخله. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وأي داء أدوأ من البخل! ولكن سيدكم الفتى الجعد الأبيض بشر بن البراء بن معرور» وقوله تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) أي لا محيد لهم عنها ولا محيص ولا مهرب.

(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (٥١)

يعلم تبارك وتعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعداوة هؤلاء له لأنه مهما أصابه من حسنة أي فتح ونصر وظفر على الأعداء مما يسره ويسر أصحابه ساءهم ذلك (وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) أي قد احترزنا من متابعته من قبل هذا (وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) فأرشد الله تعالى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جوابهم في عداوتهم هذه التامة فقال : (قُلْ) أي لهم (لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) أي نحن تحت مشيئته وقدره (هُوَ مَوْلانا) أي سيدنا وملجؤنا (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي ونحن متوكلون عليه وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ) (٥٤)

يقول تعالى : (قُلْ) لهم يا محمد (هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا) أي تنتظرون بنا (إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) شهادة أو ظفر بكم قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ) أي ننتظر بكم (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا) أي ننتظر بكم هذا أو هذا إما (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا) بسبي أو بقتل (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) وقوله تعالى : (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) أي مهما أنفقتم من نفقة طائعين أو مكرهين (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ).

ثم أخبر تعالى عن سبب ذلك وهو أنهم لا يتقبل منهم لأنهم (كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) أي والأعمال إنما تصح بالإيمان (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) أي ليس لهم قصد صحيح

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٨٧.

١٤٢

ولا همة في العمل (وَلا يُنْفِقُونَ) نفقة (إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) وقد أخبر الصادق المصدوقصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله لا يمل حتى تملوا وأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا. فلهذا لا يقبل الله من هؤلاء نفقة ولا عملا لأنه إنما يتقبل من المتقين.

(فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) (٥٥)

يقول تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) كما قال تعالى : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) [طه : ١٣١] وقال (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون : ٥٥ ـ ٥٦].

وقوله (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) قال الحسن البصري بزكاتها والنفقة منها في سبيل الله (١) ، وقال قتادة : هذا من المقدم والمؤخر تقديره : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة (٢). واختار ابن جرير قول الحسن ، وهو القول القوي الحسن ، وقوله (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) أي ويريد أن يميتهم حين يميتهم على الكفر ليكون ذلك أنكى لهم وأشد لعذابهم. عياذا بالله من ذلك وهذا يكون من باب الاستدراج لهم فيما هم فيه.

(وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) (٥٧)

يخبر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن جزعهم وفزعهم وفرقهم وهلعهم أنهم (يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) يمينا مؤكدة (وَما هُمْ مِنْكُمْ) أي في نفس الأمر (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) أي فهو الذي حملهم على الحلف (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً) أي حصنا يتحصنون به وحرزا يتحرزون به (أَوْ مَغاراتٍ) وهي التي في الجبال (أَوْ مُدَّخَلاً) وهو السرب في الأرض والنفق قال ذلك في الثلاثة ابن عباس ومجاهد وقتادة (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) أي يسرعون في ذهابهم عنكم لأنهم إنما يخالطونكم كرها لا محبة وودوا أنهم لا يخالطونكم ولكن للضرورة أحكام ولهذا لا يزالون في هم وحزن وغم لأن الإسلام وأهله لا يزال في عز ونصر ورفعة ، فلهذا كلما سر المسلمون ساءهم ذلك فهم يودون أن لا يخالطوا المؤمنين ولهذا قال (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ).

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٩١.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٣٩١.

١٤٣

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) (٥٩)

يقول تعالى : (وَمِنْهُمْ) أي ومن المنافقين (مَنْ يَلْمِزُكَ) أي يعيب عليك (فِي) قسم (الصَّدَقاتِ) إذا فرقتها ويتهمك في ذلك وهم المتهمون المأبونون وهم مع هذا لا ينكرون للدين وإنما ينكرون لحظ أنفسهم ولهذا (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) أي يغضبون لأنفسهم ، قال ابن جريج : أخبرني داود بن أبي عاصم قال أتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بصدقة قسمها هاهنا وهاهنا حتى ذهبت قال ووراءه رجل من الأنصار فقال : ما هذا بالعدل فنزلت هذه الآية (١).

وقال قتادة في قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) يقول : ومنهم من يطعن عليك في الصدقات ، وذكر لنا أن رجلا من أهل البادية حديث عهد بأعرابية أتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقسم ذهبا وفضة فقال يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما عدلت فقال نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويلك فمن ذا الذي يعدل عليك بعدي؟» ثم قال نبي الله : «احذروا هذا وأشباهه فإن في أمتي أشباه هذا يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم فإذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم» وذكر لنا أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكموه إنما أنا خازن» (٢).

وهذا الذي ذكره قتادة يشبه ما رواه الشيخان من حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي سعيد في قصة ذي الخويصرة واسمه حرقوص لما اعترض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قسم غنائم حنين فقال له : اعدل فإنك لم تعدل فقال : «لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل» ثم قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد رآه مقفيا : «إنه يخرج من ضئضيء هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإنهم شر قتلى تحت أديم السماء» (٣) وذكر بقية الحديث.

ثم قال تعالى منبها لهم على ما هو خير لهم من ذلك فقال : (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) فتضمنت هذه الآية الكريمة أدبا عظيما وسرا شريفا حيث جعل الرضا بما آتاه الله ورسوله والتوكل على الله وحده وهو قوله : (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) ، وكذلك الرغبة إلى الله وحده في التوفيق لطاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٣٩٣.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٣٩٣ ، ٣٩٤.

(٣) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ١٤٨.

١٤٤

وامتثال أوامره وترك زواجره وتصديق أخباره والاقتفاء بآثاره.

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦٠)

لما ذكر تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولمزهم إياه في قسم الصدقات بين تعالى أنه هو الذي قسمها وبين حكمها وتولى أمرها بنفسه ولم يكل قسمها إلى أحد غيره فجزأها لهؤلاء المذكورين كما رواه الإمام أبو داود (١) في سننه من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وفيه ضعف عن زياد بن نعيم عن زياد بن الحارث الصدائي رضي الله عنه قال : أتيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فبايعته فأتى رجل فقال : أعطني من الصدقة فقال له : «إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أصناف فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك» وقد اختلف العلماء في هذه الأصناف الثمانية هل يجب استيعاب الدفع لها أو إلى ما أمكن منها؟ على قولين [أحدهما] أنه يجب ذلك وهو قول الشافعي وجماعة.

[والثاني] أنه لا يجب استيعابها بل يجوز الدفع إلى واحد منها ويعطي جميع الصدقة مع وجود الباقين وهو قول مالك وجماعة من السلف والخلف منهم عمر وحذيفة وابن عباس وأبو العالية وسعيد بن جبير وميمون بن مهران ، قال ابن جرير : وهو قول جماعة عامة من أهل العلم ، وعلى هذا فإنما ذكرت الأصناف هاهنا لبيان المصرف لا لوجوب استيعاب الإعطاء. ولوجوه الحجاج والمآخذ مكان غير هذا والله أعلم ، وإنما قدم الفقراء هاهنا على البقية لأنهم أحوج من غيرهم على المشهور ولشدة فاقتهم وحاجتهم ، وعند أبي حنيفة أن المسكين أسوأ حالا من الفقير وهو كما قال أحمد.

وقال ابن جرير (٢) : حدثني يعقوب حدثنا ابن علية أنبأنا ابن عون عن محمد قال : قال عمر رضي الله عنه : الفقير ليس بالذي لا مال له ، ولكن الفقير الأخلق الكسب قال ابن علية : الأخلق المحارف عندنا ، والجمهور على خلافه وروي عن ابن عباس ومجاهد والحسن البصري وابن زيد. واختار ابن جرير وغير واحد أن الفقير هو المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا والمسكين هو الذي يسأل ويطوف ويتبع الناس.

وقال قتادة : الفقير من به زمانة والمسكين الصحيح الجسم (٣) وقال الثوري عن منصور عن إبراهيم هم فقراء المهاجرين ، قال سفيان الثوري يعني ولا يعطى الأعراب منها شيئا وكذا روي عن سعيد بن جبير وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزى. وقال عكرمة : لا تقولوا لفقراء المسلمين

__________________

(١) كتاب الزكاة باب ٢٤.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٣٩٦.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٣٩٥.

١٤٥

مساكين إنما المساكين أهل الكتاب ولنذكر أحاديث تتعلق بكل من الأصناف الثمانية.

فأما الفقراء فعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي» (١) رواه أحمد وأبو داود والترمذي ، ولأحمد أيضا والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة مثله وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسألانه من الصدقة فقلب فيهما البصر فرآهما جلدين فقال : «إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» (٢) رواه أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد قوي.

وقال ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل : أبو بكر العبسي قال قرأ عمر رضي الله عنه (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) قال : هم أهل الكتاب روى عنه عمر بن نافع سمعت أبي يقول ذلك (قلت) وهذا قول غريب جدا بتقدير صحة الإسناد فإن أبا بكر هذا وإن لم ينص أبو حاتم على جهالته لكنه في حكم المجهول.

وأما المساكين فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان قالوا فمن المسكين يا رسول الله؟ قال «الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس شيئا» (٣) رواه الشيخان.

وأما العاملون عليها فهم الجباة والسعاة يستحقون منه قسطا على ذلك ولا يجوز أن يكونوا من أقرباء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين تحرم عليهم الصدقة لما ثبت في صحيح مسلم عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث ، أنه انطلق هو والفضل بن العباس يسألان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليستعملهما على الصدقة فقال : «إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ، إنما هي أوساخ الناس» (٤). وأما المؤلفة قلوبهم فأقسام منهم من يعطى ليسلم ، كما أعطى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صفوان بن أمية من غنائم حنين ، وقد كان شهدها مشركا ، قال : فلم يزل يعطيني حتى صار أحب الناس إلي بعد أن كان أبغض الناس إلي ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا زكريا بن عدي أنبأنا ابن المبارك ، عن يونس عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن صفوان بن أمية قال : أعطاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الناس إلي ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الزكاة باب ٢٤ ، والترمذي في الزكاة باب ٢٣ ، والنسائي في الزكاة باب ٩٠ ، وابن ماجة في الزكاة باب ٢٦ ، والدارمي في الزكاة باب ١٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٦٤ ، ٢٩٢ ، ٣٧٧ ، ٣٨٩ ، ٤ / ٦٢ ، ٥ / ٣٧٥.

(٢) أخرجه أبو داود في الزكاة باب ٢٤ ، والنسائي في الزكاة باب ٩١ ، وأحمد في المسند ٤ / ٢٢٤ ، ٥ / ٣٦٢.

(٣) أخرجه البخاري في الزكاة باب ٥٣ ، ومسلم في الزكاة حديث ١٠١.

(٤) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ١٦٧ ، ١٦٨.

١٤٦

إلي (١) ، ورواه مسلم والترمذي من حديث يونس عن الزهري به.

ومنهم من يعطى ليحسن إسلامه ويثبت قلبه ، كما أعطى يوم حنين أيضا جماعة من صناديد الطلقاء وأشرافهم مائة من الإبل ، وقال «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله على وجهه في نار جهنم» (٢). وفي الصحيحين عن أبي سعيد أن عليا بعث إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذهبية في تربتها من اليمن ، فقسمها بين أربعة نفر : الأقرع بن حابس ، وعيينة بن بدر ، وعلقمة بن علاثة ، وزيد الخير ، وقال «أتألفهم» (٣) ومنهم من يعطى لما يرجى من إسلام نظرائه ، ومنهم من يعطى ليجبي الصدقات ممن يليه ، أو ليدفع عن حوزة المسلمين الضرر من أطراف البلاد ، ومحل تفصيل هذا في كتب الفروع ، والله أعلم.

وهل تعطى المؤلفة على الإسلام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فيه خلاف ، فروي عن عمر وعامر والشعبي وجماعة : أنهم لا يعطون بعده لأن الله قد أعز الإسلام وأهله ومكن لهم في البلاد ، وأذل لهم رقاب العباد ، وقال آخرون : بل يعطون لأنه عليه الصلاة والسلام قد أعطاهم بعد فتح مكة وكسر هوازن ، وهذا أمر قد يحتاج إليه فيصرف إليهم. وأما الرقاب فروي عن الحسن البصري ومقاتل بن حيان وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير والنخعي والزهري وابن زيد أنهم المكاتبون ، وروي عن أبي موسى الأشعري نحوه ، وهو قول الشافعي والليث رضي الله عنهما.

وقال ابن عباس والحسن : لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة ، وهو مذهب أحمد ومالك وإسحاق ، أي أن الرقاب أعم من أن يعطي المكاتب أو يشتري رقبة فيعتقها استقلالا ، وقد ورد في ثواب الإعتاق وفك الرقبة أحاديث كثيرة ، وأن الله يعتق بكل عضو منها عضوا من معتقها حتى الفرج بالفرج ، وما ذاك إلا لأن الجزاء من جنس العمل (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثلاثة حق على الله عونهم : الغازي في سبيل الله ، والمكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح الذي يريد العفاف» (٤) رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا أبا داود.

وفي المسند عن البراء بن عازب قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار؟ فقال : «أعتق النسمة وفك الرقبة» فقال : يا رسول الله أو ليسا

__________________

(١) أخرجه مسلم في الفضائل حديث ٥٩ ، والترمذي في الزكاة باب ٣٠ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤٠١ ، ٤٠٨ ، ٦ / ٤٦٥.

(٢) أخرجه البخاري في الزكاة باب ٥٣ ، ومسلم في الزكاة حديث ١٣١.

(٣) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٦ ، ومسلم في الزكاة حديث ١٣٢ ، ١٣٣ ، ١٤٣ ..

(٤) أخرجه الترمذي في فضائل الجهاد باب ٢٠ ، والنسائي في النكاح باب ٥ ، وابن ماجة في العتق باب ٣ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٥١ ، ٤٣٧.

١٤٧

واحدا؟ قال : «لا ، عتق النسمة أن تفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها» (١).

وأما الغارمون فهم أقسام فمنهم : من تحمل حمالة أو ضمن دينا فلزمه فأجحف بماله أو غرم في أداء دينه أو في معصية ثم تاب فهؤلاء يدفع إليهم ، والأصل في هذا الباب حديث قبيصة بن مخارق الهلالي قال : تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسأله فيها ، فقال «أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها» قال : ثم قال : «يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ، ورجل أصابته جائحة (٢) اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش (٣) ـ أو قال سدادا من عيش (٤) ـ ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قرابة قومه فيقولون لقد أصابت فلانا فاقة (٥) فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ـ أو قال سدادا من عيش ـ فما سواهن من المسألة سحت (٦) يأكلها صاحبها سحتا» رواه مسلم (٧).

وعن أبي سعيد قال : أصيب رجل في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تصدقوا عليه» فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لغرمائه : «خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك» رواه مسلم (٨).

وقال الإمام أحمد (٩) : حدثنا عبد الصمد ، أنبأنا صدقة بن موسى عن أبي عمران الجوني عن قيس بن يزيد عن قاضي المصرين (١٠) عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يدعو الله بصاحب الدين يوم القيامة حتى يوقف بين يديه فيقول : يا ابن آدم فيم أخذت هذا الدين وفيم ضيعت حقوق الناس؟ فيقول : يا رب إنك تعلم أني أخذته فلم آكل ولم أشرب ولم أضيع ولكن أتى على يدي إما حرق وإما سرق وإما وضيعة. فيقول الله صدق عبدي أنا أحق من قضى عنك اليوم ، فيدعو الله بشيء فيضعه في كفة ميزانه فترجح حسناته على سيئاته ، فيدخل الجنة بفضل الله ورحمته» وأما في سبيل الله فمنهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان ، وعند الإمام أحمد والحسن وإسحاق والحج من سبيل الله الحديث.

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ٢٩٩.

(٢) الجائحة : كل مصيبة عظيمة ، والآفة التي تهلك الثمار والأموال.

(٣) قوام من عيش : أي يجد ما تقوم به حاجته.

(٤) سداد من عيش : ما يسد به حاجته.

(٥) أي : حتى يقوموا على رؤوس الأشهاد قائلين : إن فلانا أصابته فاقة. وذوو الحجا : أي ذوو العقل.

(٦) السحت : الحرام.

(٧) كتاب الزكاة ١٠٩.

(٨) كتاب المساقاة حديث ١٩.

(٩) المسند ١ / ١٩٧ ، ١٩٨.

(١٠) قاضي المصرين : هو شريج. والمصران هما البصرة والكوفة.

١٤٨

وكذلك ابن السبيل وهو المسافر المجتاز في بلد ليس معه شيء يستعين به على سفره ، فيعطى من الصدقات ما يكفيه إلى بلده وإن كان له مال ، وهكذا الحكم فيمن أراد إنشاء سفر من بلده وليس معه شيء ، فيعطى من مال الزكاة كفايته في ذهابه وإيابه. والدليل على ذلك الآية وما رواه الإمام أبو داود وابن ماجة من حديث معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : العامل عليها أو رجل اشتراها بماله ، أو غارم ، أو غاز في سبيل الله ، أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى لغني» (١) وقد رواه السفيانان عن زيد بن أسلم عن عطاء مرسلا ، ولأبي داود عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله وابن السبيل أو جار فقير فيهدي لك أو يدعوك» (٢) وقوله : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أي حكما مقدرا بتقدير الله وفرضه وقسمه (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي عليم بظواهر الأمور وبواطنها وبمصالح عباده (حَكِيمٌ) فيما يقوله ويفعله ويشرعه ويحكم به ، لا إله إلا هو ولا رب سواه.

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٦١)

يقول تعالى ومن المنافقين قوم يؤذون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكلام فيه ، ويقولون (هُوَ أُذُنٌ) أي من قال له شيئا صدقه فينا ومن حدثه صدقه ، فإذا جئناه وحلفنا له صدقنا. روي معناه عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. قال الله تعالى : (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) أي هو أذن خير يعرف الصادق من الكاذب (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي ويصدق المؤمنين (وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أي وهو حجة على الكافرين ولهذا قال (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) (٦٣)

قال قتادة في قوله تعالى : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) الآية. قال ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال : والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا وإن كان ما يقول محمد حقا ، لهم شر من الحمير. قال : فسمعها رجل من المسلمين فقال : والله ما يقول محمد لحق ولأنت أشر من الحمار ، قال : فسعى بها الرجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره ، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال «ما حملك على الذي قلت؟» فجعل يلتعن ويحلف بالله ما قال ذلك ، وجعل الرجل المسلم يقول : اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب ، فأنزل الله الآية (٣). وقوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الزكاة باب ٢٥ ، وابن ماجة في الزكاة باب ٢٧ ، ومالك في الزكاة حديث ٢٩.

(٢) أخرجه أبو داود في الزكاة باب ٢٥.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٠٧.

١٤٩

مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ) الآية ، أي ألم يتحققوا ويعلموا أنه من حاد الله عزوجل أي شاقه وحاربه وخالفه ، وكان في حد والله ورسوله في حد (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها) أي مهانا معذبا ، و (ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) أي وهذا هو الذل العظيم والشقاء الكبير.

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) (٦٤)

قال مجاهد : يقولون القول بينهم ثم يقولون عسى الله أن لا يفشي علينا سرنا هذا ، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [المجادلة : ٨] ، وقال في هذه الآية : (قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) أي إن الله سينزل على رسوله ما يفضحكم به ويبين له أمركم ، كقوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ ـ إلى قوله ـ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد : ٢٩ ـ ٣٠] الآية ، ولهذا قال قتادة : كانت تسمى هذه السورة الفاضحة فاضحة المنافقين (١).

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ(٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) (٦٦)

قال أبو معشر المديني : عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : قال رجل من المنافقين : ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنة ، وأجبننا عند اللقاء. فرفع ذلك إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب. فقال : (أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ ـ إلى قوله ـ كانُوا مُجْرِمِينَ) وإن رجليه لتسفعان الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو متعلق بنسعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

وقال عبد الله بن وهب : أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر قال : قال رجل في غزوة تبوك في مجلس : ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء. فقال رجل في المسجد : كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزل القرآن ، فقال عبد الله بن عمر أنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم تنكبه الحجارة ، وهو يقول يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٠٨.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٠٩ ، ٤١٠.

١٥٠

يقول : (أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) الآية (١). وقد رواه الليث عن هشام بن سعيد بنحو من هذا.

وقال ابن إسحاق وقد كان من جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية بن زيد بن عمرو بن عوف ، ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشي بن حمير ، يسيرون مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو منطلق إلى تبوك فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر (٢) كقتال العرب بعضهم بعضا؟ والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال ، إرجافا وترهيبا للمؤمنين فقال مخشي بن حمير : والله لوددت أن أقاضي على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة ، وإننا نغلب أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلغني لعمار بن ياسر «أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فاسألهم عما قالوا فإن أنكروا فقل بلى قلتم كذا وكذا» فانطلق إليهم عمار فقال ذلك لهم فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتذرون إليه فقال وديعة بن ثابت ورسول الله واقف على راحلته ، فجعل يقول وهو آخذ بحقبها : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب فقال مخشي بن حمير : يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي فكان الذي عفي عنه في هذه الآية مخشي بن حمير فتسمي عبد الرحمن وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم مكانه ، فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر (٣).

وقال قتادة (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) قال : فبينما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه ، فقالوا : يظن هذا أن يفتح قصور الروم وحصونها هيهات هيهات ، فأطلع الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما قالوا ، فقال عليّ بهؤلاء النفر فدعاهم فقال «قلتم كذا وكذا» فحلفوا ما كنا إلا نخوض ونلعب (٤). وقال عكرمة في تفسير هذه الآية : كان رجل ممن إن شاء الله عفا عنه يقول اللهم إني أسمع آية أنا أعنى بها تقشعر منها الجلود وتجب منها القلوب ، اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت. قال : فأصيب يوم اليمامة فما من أحد من المسلمين إلا وقد وجد غيره (٥). وقوله : (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) أي بهذا المقال الذي استهزأتم به (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً) أي لا يعفى عن جميعكم ولا بد من عذاب بعضكم (بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) أي مجرمين بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة.

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٤٠٩.

(٢) بنو الأصفر : هم الروم.

(٣) انظر سيرة ابن هشام ٢ / ٥٢٤ ، ٥٢٥.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٤٠٩.

(٥) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٠٩.

١٥١

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٦٨)

يقول تعالى منكرا على المنافقين الذين هم على خلاف صفات المؤمنين ، ولما كان المؤمنون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، كان هؤلاء (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) أي عن الإنفاق في سبيل الله ، (نَسُوا اللهَ) أي نسوا ذكر الله (فَنَسِيَهُمْ) أي عاملهم معاملة من نسيهم كقوله تعالى : (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) [الجاثية : ٣٤] (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي الخارجون عن طريق الحق الداخلون في طريق الضلالة ، وقوله : (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ) أي على هذا الصنيع الذي ذكر عنهم (خالِدِينَ فِيها) أي ماكثين فيها مخلدين هم والكفار (هِيَ حَسْبُهُمْ) أي كفايتهم في العذاب (وَلَعَنَهُمُ اللهُ) أي طردهم وأبعدهم (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ).

(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٦٩)

يقول تعالى أصاب هؤلاء من عذاب الله في الدنيا والآخرة كما أصاب من قبلهم ، وقوله (بِخَلاقِهِمْ) قال الحسن البصري : بدينهم (١) ، وقوله (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) أي في الكذب والباطل (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي بطلت مساعيهم فلا ثواب لهم عليها لأنها فاسدة (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لأنهم لم يحصل لهم عليها ثواب. قال ابن جريج عن عمرو بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس في قوله (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الآية ، قال ابن عباس : ما أشبه الليلة بالبارحة (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم لا أعلم إلا أنه قال : «والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضب لدخلتموه»(٢).

قال ابن جريج : وأخبرني زياد بن سعد عن محمد بن زياد بن مهاجر عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع وباعا بباع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه»

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤١٣.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤١٣.

١٥٢

قالوا : ومن هم يا رسول الله ، أهل الكتاب؟ قال «فمن؟» (١) وهكذا رواه أبو معشر عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فذكره ، وزاد قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم القرآن (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الآية ، قال أبو هريرة : الخلاق الدين (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) قالوا يا رسول الله كما صنعت فارس والروم؟ قال «فهل الناس إلا هم؟» (٢) وهذا الحديث له شاهد في الصحيح.

(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٧٠)

يقول تعالى واعظا لهؤلاء المنافقين المكذبين للرسل (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي ألم تخبروا خبر من كان قبلكم من الأمم المكذبة للرسل (قَوْمِ نُوحٍ) وما أصابهم من الغرق العام لجميع أهل الأرض إلا من آمن بعبده ورسوله نوح عليه‌السلام ، (وَعادٍ) كيف أهلكوا بالريح العقيم لما كذبوا هودا عليه‌السلام ، (وَثَمُودَ) كيف أخذتهم الصيحة لما كذبوا صالحا عليه‌السلام وعقروا الناقة ، (وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ) كيف نصره الله عليهم وأيده بالمعجزات الظاهرة عليهم وأهلك ملكهم نمروذ بن كنعان بن كوش الكنعاني لعنه الله.

(وَأَصْحابِ مَدْيَنَ) وهم قوم شعيب عليه‌السلام وكيف أصابتهم الرجفة وعذاب يوم الظلة ، (وَالْمُؤْتَفِكاتِ) قوم لوط وقد كانوا يسكنون في مدائن ، وقال في الآية الأخرى (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) [النجم : ٥٣] أي الأمة المؤتفكة وقيل أم قراهم ، وهي سدوم ، والغرض أن الله تعالى أهلكهم عن آخرهم بتكذيبهم نبي الله لوط عليه‌السلام وإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين ، (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج والدلائل القاطعات ، (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أي بإهلاكه إياهم لأنه أقام عليهم الحجة بإرسال الرسل وإزاحة العلل ، (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم الحق فصاروا إلى ما صاروا إليه من العذاب والدمار.

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٧١)

لما ذكر تعالى صفات المنافقين الذميمة عطف بذكر صفات المؤمنين المحمودة ، فقال : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي يتناصرون ويتعاضدون كما جاء في الصحيح «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» (٣) وشبك بين أصابعه ، وفي الصحيح أيضا «مثل

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٤١٣.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤١٢ ، ٤١٣.

(٣) أخرجه البخاري في الصلاة باب ٨٨ ، ومسلم في البر حديث ٦٥.

١٥٣

المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» (١) وقوله : (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) كقوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران : ١٠٤] الآية.

وقوله : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي يطيعون الله ويحسنون إلى خلقه (وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي فيما أمر وترك ما عنه زجر (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) أي سيرحم الله من اتصف بهذه الصفات (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي عز من أطاعه فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين (حَكِيمٌ) في قسمته هذه الصفات لهؤلاء وتخصيصه المنافقين بصفاتهم المتقدمة ، فإنه له الحكمة في جميع ما يفعله تبارك وتعالى.

(وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٧٢)

يخبر تعالى بما أعده للمؤمنين به والمؤمنات من الخيرات والنعيم المقيم في (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي ماكثين فيها أبدا (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) أي حسنة البناء طيبة القرار ، كما جاء في الصحيحين من حديث أبي عمران الجوني عن أبي بكر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» (٢) وبه قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلا في السماء! للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم لا يرى بعضهم بعضا» (٣) أخرجاه في الصحيحين.

وفيهما أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان ، فإن حقا على الله أن يدخله الجنة هاجر في سبيل الله أو حبس في أرضه التي ولد فيها» قالوا : يا رسول الله أفلا نخبر الناس؟ قال : «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ، ومنه تفجر أنهار الجنة ، وفوقه عرش الرحمن» (٤) وعند الطبراني والترمذي وابن ماجة من رواية زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأدب باب ٢٧ ، ومسلم في البر حديث ٦٦.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٥٥ ، باب ١ ، ٢ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٩٦.

(٣) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٥٥ ، باب ٢ ، ومسلم في الجنة حديث ٢٣.

(٤) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢٢ ، والترمذي في الجنة باب ٤ ، والنسائي في الجهاد باب ١٨ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٣٥ ، ٣٣٩.

١٥٤

رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول فذكر مثله.

وللترمذي عن عبادة بن الصامت مثله. وعن أبي حازم عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أهل الجنة ليتراؤون الغرف في الجنة كما ترون الكوكب في السماء» (١) أخرجاه في الصحيحين ، ثم ليعلم أن أعلى منزلة في الجنة مكان يقال له الوسيلة لقربه من العرش وهو مسكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الجنة ، كما قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن ليث عن كعب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا صليتم عليّ فسلوا الله لي الوسيلة» قيل يا رسول الله وما الوسيلة؟ قال «أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا هو».

وفي صحيح مسلم من حديث كعب بن علقمة : عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ فإنه من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا ، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله. وأرجو أن أكون هو ، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة يوم القيامة» (٣) وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن علي الأبار ، حدثنا الوليد بن عبد الملك الحراني ، حدثنا موسى بن أعين عن ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سلوا الله لي الوسيلة فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» رواه الطبراني. وفي مسند الإمام أحمد (٤) من حديث سعد بن مجاهد الطائي عن أبي المدله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قلنا يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال : «لبنة ذهب ولبنة فضة ، وملاطها المسك وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت ، وترابها الزعفران. من يدخلها ينعم لا يبأس ويخلد لا يموت ، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه» وروي عن ابن عمر مرفوعا نحوه ، وعند الترمذي من حديث عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن في الجنة لغرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها» فقام أعرابي فقال : يا رسول الله لمن هي؟ فقال : «لمن طيب الكلام ، وأطعم الطعام ، وأدام الصيام ، وصلى بالليل والناس نيام» (٥) ثم قال : حديث غريب ورواه الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو وأبي مالك الأشعري كل منهما عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه ، وكل من الإسنادين جيد وحسن ، وعنده أن

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الجنة باب ١٩.

(٢) المسند ٢ / ٢٦٥.

(٣) أخرجه مسلم في الصلاة حديث ١١.

(٤) المسند ٢ / ٣٠٤ ، ٣٠٥.

(٥) أخرجه الترمذي في الجنة باب ٣.

١٥٥

السائل هو أبو مالك الأشعري ، فالله أعلم.

وعن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا هل من مشمر إلى الجنة؟ فإن الجنة لا خطر لها ، هي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز ، وقصر مشيد ، ونهر مطرد ، وثمرة نضيجة ، وزوجة حسناء جميلة. وحلل كثيرة ، ومقام في أبد في دار سليمة ، وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية» قالوا : نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها ، قال : «قولوا إن شاء الله» فقال القوم : إن شاء الله ، رواه ابن ماجة (١).

وقوله تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) أي رضا الله عنهم أكبر وأجل وأعظم مما هم فيه من النعيم ، كما قال الإمام مالك رحمه‌الله عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله عزوجل يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك. فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ، فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» (٢) أخرجاه من حديث مالك.

وقال أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي : حدثنا الفضل الرجائي ، حدثنا الفريابي عن سفيان عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله عزوجل هل تشتهون شيئا فأزيدكم؟ قالوا يا ربنا ما خير مما أعطيتنا؟ قال : رضواني أكبر» ورواه البزار في مسنده من حديث الثوري ، وقال الحافظ الضياء المقدسي في كتابه صفة الجنة : هذا عندي على شرط الصحيح ، والله أعلم.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٧٤)

أمر تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم ، كما أمره بأن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين ، وأخبره أن مصير الكفار والمنافقين إلى النار في الدار الآخرة ، وقد تقدم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأربعة أسياف : سيف للمشركين (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥] وسيف لكفار أهل الكتاب (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ

__________________

(١) كتاب الزهد باب ٣٩.

(٢) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٥١ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٠٢ ، والجنة حديث ٩.

١٥٦

الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة : ٢٩] وسيف للمنافقين (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) وسيف للبغاة (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) [الحجرات : ٩] وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق وهو اختيار ابن جرير (١).

وقال ابن مسعود في قوله تعالى : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) قال : بيده فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه (٢). وقال ابن عباس : أمره الله تعالى بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان وأذهب الرفق عنهم (٣) ، وقال الضحاك : جاهد الكفار بالسيف واغلظ على المنافقين بالكلام وهو مجاهدتهم (٤) ، وعن مقاتل والربيع مثله ، وقال الحسن وقتادة مجاهدتهم إقامة الحدود عليهم ، وقد يقال إنه لا منافاة بين هذه الأقوال لأنه تارة يؤاخذهم بهذا وتارة بهذا بحسب الأحوال ، والله أعلم.

وقوله : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) قال قتادة : نزلت في عبد الله بن أبي وذلك أنه اقتتل رجلان جهني وأنصاري فعلا الجهني على الأنصاري ، فقال عبد الله للأنصار ألا تنصروا أخاكم؟ والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك ، وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسل إليه فسأله فجعل يحلف بالله ما قاله ، فأنزل الله فيه هذه الآية (٥).

وروى إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبة قال : فحدثني عبد الله بن الفضل أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول : حزنت على من أصيب بالحرة من قومي فكتب إلي زيد بن أرقم وبلغه شدة حزني يذكر أنه سمع رسول الله يقول : «اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار» وشك ابن الفضل في أبناء أبناء الأنصار قال ابن الفضل : فسأل أنس بعض من كان عنده عن زيد بن أرقم فقال : هو الذي يقول له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوفى الله له بإذنه» قال : وذلك حين سمع رجلا من المنافقين يقول ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب : لئن كان صادقا فنحن شر من الحمير ، فقال زيد بن أرقم : فهو والله صادق ولأنت شر من الحمار. ثم رفع ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجحده القائل فأنزل الله هذه الآية تصديقا لزيد ، يعني قوله : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٤١٩.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤١٩.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٤٢٠.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٤٢٠.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ٤٢٢.

١٥٧

ما قالُوا) الآية ، رواه البخاري (١) في صحيحه عن إسماعيل بن أبي أويس عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ـ إلى قوله ـ هذا الذي أوفى الله له بإذنه ، ولعل ما بعده من قول موسى بن عقبة ، وقد رواه محمد بن فليح عن موسى بن عقبة بإسناده : ثم قال قال ابن شهاب فذكر ما بعده عن موسى عن ابن شهاب.

والمشهور في هذه القصة أنه كانت في غزوة بني المصطلق فلعل الراوي وهم في ذكر الآية ، وأراد أن يذكر غيرها فذكرها ، والله أعلم. قال الأموي في مغازيه : حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عن جده قال : لما قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذني قومي فقالوا : إنك امرؤ شاعر فإن شئت أن تعتذر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببعض العلة ثم يكون ذنبا تستغفر الله منه ، وذكر الحديث بطوله إلى أن قال : وكان ممن تخلف من المنافقين ونزل فيه القرآن منهم ممن كان مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجلاس بن سويد بن الصامت ، وكان على أم عمير بن سعد ، وكان عمير في حجره ، فلما نزل القرآن وذكرهم الله بما ذكر مما أنزل في المنافقين قال الجلاس : والله لئن كان هذا الرجل صادقا فيما يقول لنحن شر من الحمير؟ فسمعها عمير بن سعد فقال : والله يا جلاس إنك لأحب الناس إليّ وأحسنهم بلاء عندي وأعزهم عليّ أن يصله شيء يكرهه ، ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك ولئن كتمتها لتهلكني ، ولإحداهما أهون عليّ من الأخرى ، فمشى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر له ما قال الجلاس ، فلما بلغ ذلك الجلاس خرج حتى أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحلف بالله ما قال ما قال عمير بن سعد ولقد كذب علي ، فأنزل الله عزوجل فيه (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) إلى آخر الآية ، فوقفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليها فزعموا أن الجلاس تاب فحسنت توبته ونزع فأحسن النزوع.

هكذا جاء هذا مدرجا (٢) في الحديث متصلا به وكأنه والله أعلم من كلام ابن إسحاق نفسه لا من كلام كعب بن مالك.

وقال عروة بن الزبير : نزلت هذه الآية في الجلاس بن سويد بن الصامت ، أقبل هو وابن امرأته مصعب من قباء ، فقال الجلاس : إن كان ما جاء به محمد حقا فنحن أشر من حمرنا هذه التي نحن عليها ، فقال مصعب : أما والله يا عدو الله لأخبرن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما قلت فأتيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وخفت أن ينزل فيّ القرآن أو تصيبني قارعة أو أن أخلط بخطيئته ، فقلت : يا رسول الله أقبلت أنا والجلاس من قباء فقال كذا وكذا ولو لا مخافة أن أخلط بخطيئة أو تصيبني قارعة ما أخبرتك ، قال : فدعا الجلاس فقال «يا جلاس أقلت الذي قاله مصعب؟»

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٦٣ ، باب ٦.

(٢) المدرج : هو أن يذكر الراوي عقيبه حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلاما لنفسه أو لغيره. فيرويه من بعده متصلا بالحديث من غير فصل. فيتوهم أنه من الحديث.

١٥٨

فحلف فأنزل الله (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) الآية (١).

وقال محمد بن إسحاق : كان الذي قال تلك المقالة فيما بلغني الجلاس بن سويد بن الصامت فرفعها عليه رجل كان في حجره يقال له عمير بن سعد فأنكرها فحلف بالله ما قالها ، فلما نزل فيه القرآن تاب ونزع وحسنت توبته فيما بلغني (٢) ، وقال الإمام أبو جعفر بن جرير (٣) :

حدثني أيوب بن إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا إسرائيل عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا في ظل شجرة فقال : «إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم ـ بعيني الشيطان ـ فإذا جاء فلا تكلموه» فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «علام تشتمني أنت وأصحابك؟» فانطلق الرجل فجاءه بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز عنهم ، فأنزل الله عزوجل (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) الآية.

وقوله (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) قيل أنزلت في الجلاس بن سويد وذلك أنه هم بقتل ابن امرأته حين قال لأخبرن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل في عبد الله بن أبي ، هم بقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال السدي : نزلت في أناس أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد ورد أن نفرا من المنافقين هموا بالفتك بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في غزوة تبوك ، في بعض تلك الليالي في حال السير ، وكانوا بضعة عشر رجلا ، قال الضحاك : ففيهم نزلت هذه الآية.

وذلك بين فيما رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة من حديث محمد بن إسحاق عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقود به وعمار يسوق الناقة أو أنا أسوقه وعمار يقوده حتى إذا كنا بالعقبة فإذا أنا باثني عشر راكبا قد اعترضوه فيها ، قال فأنبهت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم ، فصرخ بهم فولوا مدبرين فقال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل عرفتم القوم؟» قلنا : لا يا رسول الله قد كانوا متلثمين ولكنا قد عرفنا الركاب قال : «هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة وهل تدرون ما أرادوا؟» قلنا : لا ، قال : «أرادوا أن يزاحموا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العقبة فيلقوه منها» قلنا : يا رسول الله أفلا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟ قال : «لا ، أكره أن تتحدث العرب بينها أن محمدا قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم ـ ثم قال ـ اللهم ارمهم بالدبيلة» قلنا : يا رسول الله وما الدبيلة؟ قال : «شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك.

وقال الإمام أحمد (٤) رحمه‌الله : حدثنا يزيد أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٢١.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤٢١.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٤٢٢.

(٤) المسند ٥ / ٤٥٣ ، ٤٥٤.

١٥٩

الطفيل قال : لما أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة تبوك أمر مناديا فنادى : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ العقبة فلا يأخذها أحد فبينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقوده حذيفة ويسوقه عمار إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل فغشوا عمارا وهو يسوق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقبل عمار رضي الله عنه يضرب وجوه الرواحل فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحذيفة «قد قد» حتى هبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما هبط نزل ورجع عمار فقال يا عمار : «هل عرفت القوم؟» قال : لقد عرفت عامة الرواحل والقوم متلثمون قال «هل تدري ما أرادوا؟» قال : الله ورسوله أعلم قال : «أرادوا أن ينفروا برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ راحلته فيطرحوه» قال : فسأل عمار رجلا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال نشدتك بالله كم تعلم كان أصحاب العقبة؟ قال : أربعة عشر رجلا فقال : إن كنت منهم فقد كانوا خمسة عشر قال فعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم ثلاثة قالوا : والله ما سمعنا منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما علمنا ما أراد القوم فقال عمار أشهد : أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

وهكذا روى ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير نحو هذا ، وأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أن يمشي الناس في بطن الوادي وصعد هو وحذيفة وعمار العقبة ، فتبعهم هؤلاء النفر الأرذلون وهم متلثمون فأرادوا سلوك العقبة ، فأطلع الله على مرادهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمر حذيفة فرجع إليهم فضرب وجوه رواحلهم ففزعوا ورجعوا مقبوحين ، وأعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حذيفة وعمارا بأسمائهم وما كانوا هموا به من الفتك به صلوات الله وسلامه عليه وأمرهما أن يكتما عليهم ، وكذا روى يونس بن بكير عن ابن إسحاق ، إلا أنه سمى جماعة منهم ، فالله أعلم.

وكذا قد حكي في معجم الطبراني قاله البيهقي ، ويشهد لهذه القصة بالصحة ما رواه مسلم (١) : حدثنا زهير بن حرب حدثنا أبو أحمد الكوفي ، حدثنا الوليد بن جميع ، حدثنا أبو الطفيل قال : كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس ، فقال : أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة؟ قال : فقال له القوم : أخبره إذ سألك؟ فقال : كنا نخبر أنهم أربعة عشر فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر ، وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ، وعذر ثلاثة قالوا : ما سمعنا منادي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا علمنا بما أراد القوم؟ وقد كان في حرة يمشي فقال : إن الماء قليل فلا يسبقني إليه أحد ، فوجد قوما قد سبقوه فلعنهم يومئذ.

وما رواه مسلم (٢) أيضا من حديث قتادة عن أبي نضرة عن قيس بن عباد عن عمار بن ياسر قال : أخبرني حذيفة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «في أصحابي اثنا عشر منافقا لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط : ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة سراج من نار

__________________

(١) كتاب صفات المنافقين حديث ١١.

(٢) كتاب صفات المنافقين حديث ٩ ، ١٠.

١٦٠