تفسير القرآن العظيم - ج ٤

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٤

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤١

دينك» قال : فلم يعد أن قالها فتواضعت لها ، قال : «أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام ، تقول إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له وقد رمتهم العرب أتعرف الحيرة؟» قلت لم أرها وقد سمعت بها ، قال : «فو الذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز» قلت : كسرى بن هرمز؟ قال : «نعم كسرى بن هرمز ، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد» قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد ، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قالها.

وقال مسلم (١) : حدثنا أبو معن زيد بن يزيد الرقاشي حدثنا خالد بن الحارث حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن الأسود بن العلاء عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى» فقلت : يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله عزوجل (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) الآية ، أن ذلك تام ، قال : «إنه سيكون من ذلك ما شاء الله عزوجل ، ثم يبعث الله ريحا طيبة فيتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (٣٥)

قال السدي : الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى (٢) وهو كما قال فإن الأحبار هم علماء اليهود كما قال تعالى : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) [المائدة : ٦٣] والرهبان عباد النصارى والقسيسون علماؤهم كما قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) [المائدة : ٨٢] والمقصود التحذير من علماء السوء وعباد الضلال كما قال سفيان بن عيينة : من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى. وفي الحديث الصحيح «لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة» قالوا : اليهود والنصارى؟ قال : «فمن»؟ وفي رواية فارس والروم ، قال : «فمن الناس إلا هؤلاء؟» (٣) والحاصل التحذير من التشبه بهم في أقوالهم وأحوالهم ولهذا قال تعالى :

__________________

(١) كتاب الفتن حديث ٥٢.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٥٧.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ١٢٥.

١٢١

(لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين ومناصبهم ورئاستهم في الناس يأكلون أموالهم بذلك كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهلية شرف ولهم عندهم خرج وهدايا وضرائب تجيء إليهم فلما بعث الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استمروا على ضلالهم وكفرهم وعنادهم طمعا منهم أن تبقى لهم تلك الرياسات فأطفأها الله بنور النبوة وسلبهم إياها وعوضهم الذل والصغار وباؤوا بغضب من الله تعالى.

وقوله تعالى : (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي وهم مع أكلهم الحرام يصدون الناس عن اتباع الحق ويلبسون الحق بالباطل ويظهرون لمن اتبعهم من الجهلة أنهم يدعونه إلى الخير وليسوا كما يزعمون بل هم دعاة إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون. وقوله : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ، هؤلاء هم القسم الثالث من رؤوس الناس فإن الناس عالة على العلماء وعلى العباد وعلى أرباب الأموال فإذا فسدت أحوال هؤلاء فسدت أحوال الناس كما قال ابن المبارك :

وهل أفسد الدّين إلا الملوك

وأحبار سوء ورهبانها

وأما الكنز فقال مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر هو المال الذي لا تؤدى زكاته ، وروى الثوري وغيره عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال : ما أدّي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين وما كان ظاهرا لا تؤدى زكاته فهو كنز ، وقد روي هذا عن ابن عباس وجابر وأبي هريرة موقوفا ومرفوعا ، وقال عمر بن الخطاب نحوه أيما مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا في الأرض ، وأيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه وإن كان على وجه الأرض ، وروى البخاري من حديث الزهري عن خالد بن أسلم قال : خرجنا مع عبد الله بن عمر فقال : هذا قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت جعلها الله طهرة للأموال ، وكذا قال عمر بن عبد العزيز وعراك بن مالك نسخها قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) الآية.

وقال سعيد بن محمد بن زياد عن أبي أمامة أنه قال : حلية السيوف من الكنز. ما أحدثكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال الثوري عن أبي حصين عن أبي الضحى عن جعدة بن هبيرة عن علي رضي الله عنه قال : أربعة آلاف فما دونها نفقة فما كان أكثر من ذلك فهو كنز (١) وهذا غريب وقد جاء في مدح التقلل من الذهب والفضة وذم التكثر منهما أحاديث كثيرة. ولنورد منها هنا طرفا يدل على الباقي قال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري أخبرني أبو حصين عن أبي الضحى عن جعدة بن هبيرة عن علي رضي الله عنه في قوله : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) الآية. قال النبي : «تبا للذهب تبا للفضة» يقولها ثلاثا قال فشق ذلك على أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : فأي مال نتخذ؟ فقال عمر رضي الله عنه أنا أعلم لكم ذلك فقال :

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٥٨.

١٢٢

يا رسول الله إن أصحابك قد شق عليهم وقالوا : فأي المال نتخذ قال : «لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة تعين أحدكم على دينه» (١).

حديث آخر : قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الله بن عمرو بن مرة عن أبي محمد جعفر حدثنا شعبة حدثني سالم بن عبد الله أخبرنا عبد الله بن أبي الهذيل حدثني صاحب لي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «تبا للذهب والفضة» قال وحدثني صاحبي أنه انطلق مع عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله قولك : «تبا للذهب والفضة» ماذا ندخر؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة تعين على الآخرة».

حديث آخر : قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا وكيع حدثنا عبد الله بن عمرو بن مرة عن أبيه عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان قال : لما نزل في الذهب والفضة ما نزل قالوا : فأي المال نتخذ؟

قال عمر : فأنا أعلم لكم ذلك فأوضع على بعير فأدركه وأنا في أثره فقال : يا رسول الله أي المال نتخذ؟ قال : «قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة تعين أحدكم على أمر الآخرة» (٤) ورواه الترمذي وابن ماجة من غير وجه عن سالم بن أبي الجعد وقال الترمذي حسن ، وحكي عن البخاري أن سالما لم يسمعه من ثوبان قلت : ولهذا رواه بعضهم عنه مرسلا ، والله أعلم.

حديث آخر قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا حميد بن مالك حدثنا يحيى بن يعلى المحاربي حدثنا أبي حدثنا غيلان بن جامع المحاربي عن عثمان أبي اليقظان عن جعفر بن أبي إياس عن مجاهد عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) الآية ، كبر ذلك على المسلمين وقالوا : ما يستطيع أحد منا أن يترك لولده مالا يبقى بعده فقال عمر : أنا أفرج عنكم فانطلق عمر واتبعه ثوبان فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا نبي الله إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم» قال فكبر عمر ثم قال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته ، وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته» ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه وابن مردويه من حديث يحيى بن يعلى به وقال الحاكم : صحيح على شرطهما ولم يخرجاه.

حديث آخر قال الإمام أحمد (٥) : حدثنا روح حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية قال : كان شداد بن أوس رضي الله عنه في سفر فنزل منزلا فقال لغلامه ائتنا بالشفرة نعبث بها فأنكرت

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٥٩.

(٢) المسند ٥ / ٣٦٦.

(٣) المسند ٥ / ٢٨٢.

(٤) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٩ ، باب ٩ ، وابن ماجة في النكاح باب ٥.

(٥) المسند ٤ / ١٢٣.

١٢٣

عليه فقال : ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتي هذه فلا تحفظوها علي واحفظوا ما أقول لكم سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات : اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد وأسألك شكر نعمتك وأسألك حسن عبادتك وأسألك قلبا سليما وأسألك لسانا صادقا وأسألك من خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب».

وقوله تعالى : (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) أي يقال لهم هذا الكلام تبكيتا وتقريعا وتهكما كما في قوله (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٨ ـ ٤٩] أي هذا بذاك وهذا الذي كنتم تكنزون لأنفسكم ولهذا يقال من أحب شيئا وقدمه على طاعة الله عذب به وهؤلاء لما كان جمع هذه الأموال آثر عندهم من رضا الله عنهم عذبوا بها كما كان أبو لهب لعنه الله جاهدا في عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وامرأته تعينه في ذلك كانت يوم القيامة عونا على عذابه أيضا في جيدها أي عنقها حبل من مسد أي تجمع من الحطب في النار وتلقي عليه ليكون ذلك أبلغ في عذابه ممن هو أشفق عليه في الدنيا كما أن هذه الأموال كما كانت أعز الأشياء على أربابها كانت أضر الأشياء عليهم في الدار الآخرة فيحمى عليها في نار جهنم وناهيك بحرها فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.

قال سفيان عن الأعمش عن عبد الله بن عمرو بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود: والذي لا إله غيره لا يكوى عبد يكنز فيمس دينار دينارا ولا درهم درهما ولكن يوسع جلده فيوضع كل دينار ودرهم على حدته (١) ، وقد رواه ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا ولا يصح رفعه والله أعلم.

وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال : بلغني أن الكنز يتحول يوم القيامة شجاعا (٢) يتبع صاحبه وهو يفر منه ويقول : أنا كنزك لا يدرك منه شيئا إلا أخذه (٣). وقال الإمام أبو جعفر بن جرير (٤) : حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن ثوبان أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول «من ترك بعده كنزا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يتبعه ويقول : ويلك ما أنت؟ فيقول : أنا كنزك الذي تركته بعدك ولا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ثم يتبعها سائر جسده» ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث يزيد عن سعيد به.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٦٣.

(٢) الشجاع ، بضم الشين وكسرها : الحية.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٦٣.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٣٦٣.

١٢٤

وأصل هذا الحديث في الصحيحين من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وفي صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» (١) وذكر تمام الحديث.

وقال البخاري (٢) في تفسير هذه الآية : حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن حصين عن زيد بن وهب قال : مررت على أبي ذر بالربذة فقلت ما أنزلك بهذه الأرض؟. قال كنا بالشام فقرأت (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) فقال معاوية ما هذه فينا ما هذه إلا في أهل الكتاب ، قال : قلت إنها لفينا وفيهم.

ورواه ابن جرير (٣) من حديث عبثر بن القاسم عن حصين عن زيد بن وهب عن أبي ذر رضي الله عنه فذكره وزاد فارتفع في ذلك بيني وبينه القول فكتب إلى عثمان يشكوني فكتب إليّ عثمان أن أقبل إليه قال فأقبلت إليه فلما قدمت المدينة ركبني الناس كأنهم لم يروني قبل يومئذ فشكوت ذلك إلى عثمان فقال لي : تنح قريبا قلت : والله لن أدع ما كنت أقول.

(قلت) كان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال وكان يفتي بذلك ويحثهم عليه ويأمرهم به ويغلظ في خلافه فنهاه معاوية فلم ينته فخشي أن يضر الناس في هذا فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان وأن يأخذه إليه فاستقدمه عثمان إلى المدينة وأنزله بالرّبذة وحده وبها مات رضي الله عنه في خلافة عثمان. وقد اختبره معاوية رضي الله عنه وهو عنده هل يوافق عمله قوله فبعث إليه بألف دينار ففرقها من يومه ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت فهات الذهب فقال ويحك إنها خرجت ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به وهكذا روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنها عامة وقال السدي : هي في أهل القبلة.

وقال الأحنف بن قيس قدمت المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل أخشن الثياب أخشن الجسد أخشن الوجه فقام عليهم فقال : بشر الكنازين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل قال فوضع القوم رؤوسهم فما رأيت أحدا منهم رجع إليه شيئا قال وأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية فقلت : ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم ، فقال :

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ٢٤ ، ٢٥.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٩ ، باب ٦.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٣٦١.

١٢٥

إن هؤلاء لا يعلمون شيئا (١).

وفي الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي ذر : «ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا يمر عليّ ثلاثة أيام وعندي منه شيء إلا دينار أرصده لدين» (٢) فهذا والله أعلم هو الذي حدا بأبي ذر على القول بهذا.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عفان حدثنا همام حدثنا قتادة عن سعيد بن أبي الحسن عن عبد الله بن الصامت رضي الله عنه أنه كان مع أبي ذر فخرج عطاؤه ومعه جارية فجعلت تقضي حوائجه ففضلت معها سبعة فأمرها أن تشتري به فلوسا قال : قلت لو ادخرته لحاجة بيوتك وللضيف ينزل بك قال إن خليلي عهد إليّ أن أيما ذهب أو فضة أوكئ عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله عزوجل. ورواه عن يزيد عن همام به وزاد إفراغا.

وقال الحافظ ابن عساكر بسنده إلى أبي بكر الشبلي في ترجمته عن محمد بن مهدي حدثنا عمر بن أبي سلمة عن صدقة بن عبد الله عن طلحة بن زيد عن أبي فروة الرهاوي عن عطاء عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الق الله فقيرا ، ولا تلقه غنيا» قال : يا رسول الله كيف لي بذلك؟ قال : «ما سئلت فلا تمنع ، وما رزقت فلا تخبئ» قال : يا رسول الله كيف لي بذلك؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هو ذاك وإلا فالنار» إسناده ضعيف.

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا عفان حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا عيينة عن يزيد بن الصرم قال سمعت عليا رضي الله عنه يقول مات رجل من أهل الصفة وترك دينارين أو درهمين فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كيتان ، صلوا على صاحبكم» وقد روي هذا من طرق أخر.

وقال قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة صدي بن عجلان قال : مات رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كية» ثم توفي رجل في مئزره ديناران فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كيتان» (٥) وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم الفراديسي حدثنا معاوية بن يحيى الاطرابلسي حدثني أرطاة حدثني أبو عامر الهوزني سمعت ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من رجل يموت وعنده أحمر أو أبيض إلا جعل الله بكل قيراط صفحة من نار يكوى بها من قدمه إلى ذقنه».

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمود بن خداش حدثنا سيف بن محمد الثوري حدثنا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٦٣.

(٢) أخرجه البخاري في الرقاق باب ١٤.

(٣) المسند ٥ / ١٥٦ ، ١٧٥ ، ١٧٦.

(٤) المسند ١ / ١٠١ ، ١٣٧ ، ١٣٨ ، ٤١٢.

(٥) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٥٩.

١٢٦

الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يوضع الدينار على الدينار ، ولا الدرهم على الدرهم ولكن يوسع جلده فيكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون» سيف هذا كذاب متروك.

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (٣٦)

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا إسماعيل أخبرنا أيوب أخبرنا محمد بن سيرين عن أبي بكرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب في حجته فقال : «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» ثم قال «ألا أي يوم هذا؟» قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : «أليس يوم النحر؟» قلنا بلى ثم قال : «أي شهر هذا؟» قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : «أليس ذا الحجة؟» قلنا بلى ثم قال : «أي بلد هذا؟» قلنا : الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : «أليست البلدة؟» قلنا بلى قال : «فإن دماءكم وأموالكم ـ وأحسبه قال ـ وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا لا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض ألا هل بلغت؟ ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب فلعل من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه» (٢) رواه البخاري في التفسير وغيره. ومسلم من حديث أيوب عن محمد وهو ابن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه به.

وقد قال ابن جرير (٣) : حدثنا معمر حدثنا روح حدثنا أشعث عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم : ثلاثة متواليات ـ ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ـ ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» ورواه البزار عن محمد بن معمر به. ثم قال : لا يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه ، وقد رواه ابن عون وقرة عن ابن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه به.

__________________

(١) المسند ٥ / ٣٧.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٩ ، باب ٨ ، ومسلم في القسامة حديث ٢٩.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٣٦٤ ، ولفظه : حدثنا محمد بن معمر بدل «معمر».

١٢٧

وقال ابن جرير (١) أيضا : حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي حدثنا زيد بن حباب حدثنا موسى بن عبيدة الربذي حدثني صدقة بن يسار عن ابن عمر قال : خطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق فقال «أيها الناس إن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم أولهن رجب مضر بين جمادى وشعبان ، وذو القعدة وذو الحجة والمحرم» وروى ابن مردويه من حديث موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مثله أو نحوه.

وقال حماد بن سلمة حدثني علي بن زيد عن أبي حمزة الرقاشي عن عمه وكانت له صحبة قال : كنت آخذا بزمام ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أوسط أيام التشريق أذود الناس عنه فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم فلا تظلموا فيهن أنفسكم» (٢).

وقال سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) قال محرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث : «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» تقرير منه صلوات الله وسلامه عليه ، وتثبيت للأمر على ما جعله الله ، في أول الأمر من غير تقديم ولا تأخير ، ولا زيادة ولا نقص ، ولا نسيء ولا تبديل كما قال في تحريم مكة : «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة» وهكذا قال هاهنا «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» أي الأمر اليوم شرعا كما ابتدع الله ذلك في كتابه يوم خلق السموات والأرض.

وقد قال بعض المفسرين والمتكلمين على هذا الحديث إن المراد بقوله «قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» أنه اتفق أن حج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلك السنة في ذي الحجة وأن العرب قد كانت نسأت النسيء يحجون في كثير من السنين بل أكثرها في غير ذي الحجة وزعموا أن حجة الصديق في سنة تسع كانت في ذي القعدة وفي هذا نظر كما سنبينه إذا تكلمنا عن النسيء وأغرب منه ما رواه الطبراني عن بعض السلف في جملة حديث أنه اتفق حج المسلمين واليهود والنصارى في يوم واحد وهو يوم النحر عام حجة الوداع والله أعلم.

[فصل] ذكر الشيخ علم الدين السخاوي في جزء جمعه سماه «المشهور في أسماء الأيام والشهور» أن المحرم سمي بذلك لكونه شهرا محرما ، وعندي أنه سمي بذلك تأكيدا لتحريمه

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٣٦٤.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٧٢ ، ٧٣.

١٢٨

لأن العرب كانت تتقلب به فتحله عاما وتحرمه عاما قال ويجمع على محرمات ومحارم ومحاريم ، وصفر سمي بذلك لخلو بيوتهم منهم حين يخرجون للقتال والأسفار يقال صفر المكان إذا خلا ويجمع على أصفار كجمل وأجمال ، وشهر ربيع الأول سمّي بذلك لارتباعهم فيه والارتباع الإقامة في عمارة الربع ويجمع على أربعاء كنصيب وأنصباء ، وعلى أربعة كرغيف وأرغفة ، وربيع الآخر كالأول. جمادى سمي بذلك لجمود الماء فيه ، قال وكانت الشهور في حسابهم لا تدور ، وفي هذا نظر إذ كانت شهورهم منوطة بالأهلة فلا بد من دورانها فلعلهم سموه بذلك أول ما سمي عند جمود الماء في البرد ، كما قال الشاعر : [البسيط]

وليلة من جمادى ذات أندية

لا يبصر العبد في ظلمائها الطّنبا (١)

لا ينبح الكلب فيها غير واحدة

حتى يلفّ على خرطومه الذنبا

ويجمع على جماديات كحبارى وحباريات وقد يذكر ويؤنث فيقال جمادى الأولى والأول جمادى الآخر والآخرة. رجب من الترجيب وهو التعظيم ويجمع على أرجاب ورجاب ورجبات. شعبان من تشعب القبائل وتفرقها للغارة ويجمع على شعابين وشعبانات. رمضان من شدة الرمضاء وهو الحر يقال رمضت الفصال إذا عطشت ويجمع على رمضانات ورماضين وأرمضة قال : وقول من قال إنه اسم من أسماء الله خطأ لا يعرج عليه ولا يلتفت إليه ، قلت : قد ورد فيه حديث ولكنه ضعيف وبينته في أول كتاب الصيام. شوال من شالت الإبل بأذنابها للطراق قال ويجمع على شواول وشواويل وشوالات. القعدة بفتح القاف ، قلت وكسرها ، لقعودهم فيه عن القتال والترحال ويجمع على ذوات القعدة. الحجة بكسر الحاء قلت وفتحها سمي بذلك لإقامتهم الحج فيه ، ويجمع على ذوات الحجة.

أسماء الأيام أولها الأحد ويجمع على آحاد وأوحاد ووجود ، ثم يوم الاثنين ويجمع على أثانين ، الثلاثاء يمد ويذكر ويؤنث ويجمع على ثلاثاوات وأثالث ، ثم الأربعاء بالمد ويجمع على أربعاوات وأرابيع والخميس يجمع على أخمسة وأخامس ثم الجمعة بضم الميم وإسكانها وفتحها أيضا ويجمع على جمع وجماعات ، السبت مأخوذ من السبت وهو القطع لانتهاء العدد عنده وكانت العرب تسمي الأيام أول ثم أهون ثم جبار ثم دبار ثم مؤنس ثم العروبة ثم شيار ،

__________________

(١) يروى البيت الأول :

في ليلة من جمادى ذات أندية

لا يبصر الكلب من ظلمات الطّنبا

وهو لمرة بن محكان في الأغاني ٣ / ٣١٨ ، والخصائص ٣ / ٥٢ ، ٢٣٧ ، وسر صناعة الإعراب ص ٦٢٠ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٩٣ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٥٦٣ ، ولسان العرب (ندى) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥١٠ ، والمقتضب ٣ / ٨١ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٤ / ٢٩٤ ، وشرح الأشموني ٣ / ٦٥٦ ، وشرح شافية ابن الحاجب ص ٣٢٩ ، وشرح المفصل ١٠ / ١٧ ، ولسان العرب (رجل)

١٢٩

قال الشاعر من العرب العرباء العاربة المتقدمين : [الوافر]

أرجّي أن أعيش وإن يومي

بأول أو بأهون أو جبار (١)

أو التالي دبار فإن أفته

فمؤنس أو عروبة أو شيار

وقوله تعالى : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) فهذا مما كانت العرب أيضا في الجاهلية تحرمه وهو الذي كان عليه جمهورهم إلا طائفة منهم يقال لهم البسل كانوا يحرمون من السنة ثمانية أشهر تعمقا وتشديدا ، وأما قوله «ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» فإنما أضافه إلى مضر ليبين صحة قولهم في رجب أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان لا كما تظنه ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين جمادى وشعبان لا كما تظنه ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال وهو رمضان اليوم فبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رجب مضر لا رجب ربيعة ، وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة ثلاثة سرد وواحد فرد ، لأجل أداء مناسك الحج والعمرة فحرم قبل أشهر الحج شهرا وهو ذو القعدة لأنهم يقعدون فيه عن القتال وحرم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك وحرم بعده شهرا آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين ، وحرم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنا.

وقوله : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي هذا هو الشرع المستقيم من امتثال أمر الله فيما جعل من الأشهر الحرم والحذو بها على ما سبق من كتاب الله الأول قال تعالى : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) أي في هذه الأشهر المحرمة لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف لقوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الحج :

٢٥] وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام ، ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء ، وكذا في حق من قتل في الحرم أو قتل ذا محرم.

وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس في قوله : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) قال : في الشهور كلها (٢) ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ) الآية ، فلا تظلموا فيهن أنفسكم في كلهن ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراما وعظم حرماتهن وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر

__________________

(١) البيت الأول لبعض شعراء الجاهلية في لسان العرب (هون) ، وتاج العروس (هون) ، والبيتان بلا نسبة في الإنصاف ٢ / ٤٩٧ ، وجمهرة اللغة ص ١٣١١ ، والدرر ١ / ١٠٣ ، ولسان العرب (عرب) (جبر) ، (دبر) ، (شبر) ، (أنس) ، (هون) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٦٧ ، وهمع الهوامع ١ / ٣٧ ، ويروى «أؤمّل» بدل «أرجّي».

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٦٦.

١٣٠

أعظم (١).

وقال قتادة في قوله : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواها ، وإن كان الظلم على كل حال عظيما ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء ، وقال إن الله اصطفى صفايا من خلقه. اصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس رسلا واصطفى من الكلام ذكره ، واصطفى من الأرض المساجد. واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم واصطفى من الأيام يوم الجمعة واصطفى من الليالي ليلة القدر فعظموا ما عظم الله. فإنما تعظيم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل (٢).

وقال الثوري عن قيس بن مسلم عن الحسن عن محمد ابن الحنفية بأن لا تحرموهن كحرمتهن وقال محمد بن إسحاق : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) أي لا تجعلوا حرامها حلالا ولا حلالها حراما كما فعل أهل الشرك فإنما النسيء الذي كانوا يصنعون من ذلك زيادة في الكفر (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية ، وهذا القول اختيار ابن جرير (٣).

وقوله : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) أي جميعكم (كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) أي جميعهم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) وقد اختلف العلماء في تحريم ابتداء القتال في الشهر الحرام هل هو منسوخ أو محكم على قولين [أحدهما] وهو الأشهر أنه منسوخ لأنه تعالى قال هاهنا (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) وأمر بقتال المشركين ، وظاهر السياق مشعر بأنه أمر بذلك أمرا عاما ولو كان محرما في الشهر الحرام لأوشك أن يقيده بانسلاخها ولأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة كما ثبت في الصحيحين أنه خرج إلى هوازن في شوال فلما كسرهم واستفاء أموالهم ورجع فلهم لجئوا إلى الطائف فعمد إلى الطائف فحاصرهم أربعين يوما وانصرف ولم يفتتحها فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام والقول الآخر أن ابتداء القتال في الشهر الحرام حرام وأنه لم ينسخ تحريم الشهر الحرام لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) [المائدة : ٢] وقال : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [المائدة : ١٩٤] الآية ، وقال (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥] الآية.

وقد تقدم أنها الأربعة المقررة في كل سنة لا أشهر التسيير على أحد القولين. وأما قوله تعالى: (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) فيحتمل أنه منقطع عما قبله وأنه حكم مستأنف ويكون من باب التهييج والتحضيض أي كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم فاجتمعوا

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٣٦٦.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٣٦٦.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٣٦٦.

١٣١

أنتم أيضا لهم إذا حاربتموهم وقاتلوهم بنظير ما يفعلون ، ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم كما قال تعالى : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) [البقرة : ١٩٤] وقال تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) [البقرة : ١٩١] الآية.

وهكذا الجواب عن حصار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل الطائف واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام فإنه من تتمة قتال هوازن وأحلافها من ثقيف فإنهم هم الذين ابتدءوا القتال وجمعوا الرجال ودعوا إلى الحرب والنزال فعندها قصدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تقدم فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم فنالوا من المسلمين وقتلوا جماعة ، واستمر الحصار بالمجانيق وغيرها قريبا من أربعين يوما ، وكان ابتداؤه في شهر حلال ودخل الشهر الحرام فاستمر فيه أياما ثم قفل عنهم لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء ، وهذا أمر مقرر وله نظائر كثيرة والله أعلم ، ولنذكر الأحاديث الواردة في ذلك وقد حررنا ذلك في السيرة والله أعلم.

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٣٧)

هذا مما ذم الله تعالى به المشركين من تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة ، وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الباردة ، وتحليلهم ما حرم الله وتحريمهم ما أحل الله ، فإنهم كان فيهم من القوة الغضبية والشهامة والحمية ما استطالوا به مدة الأشهر الثلاثة في التحريم المانع لهم من قضاء أو طارهم من قتال أعدائهم ، فكانوا قد أحدثوا قبل الإسلام بمدة تحليل المحرم فأخروه إلى صفر فيحلون الشهر الحرام ويحرمون الشهر الحلال ليواطئوا عدة ما حرم الله الأشهر الأربعة كما قال شاعرهم وهو عمير بن قيس المعروف بجذل الطعان : [الوافر]

لقد علمت معدّ بأن قومي

كرام الناس إن لهم كراما (١)

ألسنا الناسئين على معدّ

شهور الحل نجعلها حراما

فأي الناس لم ندرك بوتر

وأي الناس لم نعلك لجاما

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) قال النسيء أن جنادة بن عوف بن أمية الكناني كان يوافي الموسم في كل عام وكان يكنى أبا ثمامة فينادي ألا إن أبا ثمامة لا يجاب ولا يعاب ألا وإن صفر العام الأول العام حلال فيحله للناس

__________________

(١) الأبيات في سيرة ابن هشام ١ / ٤٥ ، والبيت الثاني لعمير الطعان في لسان العرب (نسأ) ، وتهذيب اللغة ١٣ / ٨٣ ، وتاج العروس (نسأ) ، ومعجم الشعراء ص ٢٤٣ ، وبلا نسبة في تاج العروس (قلمس)

١٣٢

فيحرم صفرا عاما ويحرم المحرم عاما فذلك قول الله (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) يقول : يتركون المحرم عاما وعاما يحرمونه (١).

وروى العوفي عن ابن عباس نحوه ، وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إلى الموسم على حمار له فيقول : يا أيها الناس : إني لا أعاب ولا أجاب ولا مرد لما أقول ، إنا قد حرمنا المحرم وأخرنا صفر. ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته ويقول إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم فهو قوله (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) قال يعني الأربعة فيحلوا ما حرم الله لتأخير هذا الشهر الحرام (٢) ، وروي عن أبي وائل والضحاك وقتادة نحو هذا.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) الآية قال هذا رجل من بني كنانة يقال له القلمس وكان في الجاهلية وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام يلقى الرجل قاتل أبيه ولا يمد إليه يده ، فلما كان هو قال اخرجوا بنا قالوا له هذا المحرم قال ننسئه العام هما العام صفران ، فإذا كان العام القابل قضينا جعلناهما محرمين ، قال ففعل ذلك فلما كان عام قابل قال لا تغزوا في صفر حرموه مع المحرم هما محرمان (٣) ، فهذه صفة غريبة في النسيء وفيها نظر لأنهم في عام إنما يحرمون على هذا ثلاثة أشهر فقط وفي العام الذي يليه يحرمون خمسة أشهر فأين هذا من قوله تعالى : (يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ).

وقد روي عن مجاهد صفة أخرى غريبة أيضا فقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) الآية ، قال فرض الله عزوجل الحج في ذي الحجة ، قال وكان المشركون يسمون ذا الحجة المحرم وصفر وربيع وربيع وجمادى وجمادى ورجب وشعبان ورمضان وشوالا وذا القعدة وذا الحجة يحجون فيه مرة ثم يسكتون عن المحرم ولا يذكرونه ثم يعودون فيسمون صفرا ، ثم يسمون رجب جمادى الآخرة ، ثم يسمون شعبان رمضان ، ثم يسمون شوالا رمضان ، ثم يسمون ذا القعدة شوالا ، ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة ، ثم يسمون المحرم ذا الحجة فيحجون فيه واسمه عندهم ذا الحجة. ثم عادوا بمثل هذه الصفة فكانوا يحجون في كل عام شهرين حتى إذا وافق حجة أبي بكر الآخر من العامين في ذي القعدة ، ثم حج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حجته التي حج فوافق ذا الحجة فذلك حين يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبته : «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» (٤) وهذا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٦٩.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٣٧٠.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٣٧١.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٣٧٠ ، ٣٧١.

١٣٣

الذي قاله مجاهد فيه نظر أيضا وكيف تصح حجة أبي بكر وقد وقعت في ذي القعدة وأنى هذا؟.

وقد قال الله تعالى : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) [التوبة : ٣] الآية وإنما نودي به في حجة أبي بكر فلو لم تكن في ذي الحجة لما قال تعالى : (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) ولا يلزم من فعلهم النسيء هذا الذي ذكره من دوران السنة عليهم وحجهم في كل شهر عامين فإن النسيء حاصل بدون هذا فإنهم لما كانوا يحلون شهر المحرم عاما يحرمون عوضه صفرا وبعده ربيع وربيع إلى آخر السنة بحالها على نظامها وعدتها وأسماء شهورها ثم في السنة الثانية يحرمون المحرم ويتركونه على تحريمه وبعده صفر وربيع وربيع إلى آخرها (يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) أي في تحريم أربعة أشهر من السنة إلا أنهم تارة يقدمون تحريم الشهر الثالث من الثلاثة المتوالية وهو المحرم وتارة ينسئونه إلى صفر أي يؤخرونه وقد قدمنا الكلام على قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الزمان قد استدار» الحديث أي إن الأمر في عدة الشهور وتحريم ما هو محرم منها على ما سبق في كتاب الله من العدد والتوالي لا كما تعتمده جهلة العرب من فصلهم تحريم بعضها بالنسيء عن بعض والله أعلم وقال ابن أبي حاتم : حدثنا صالح بن بشر بن سلمة الطبراني حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنه قال : وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعقبة فاجتمع إليه من شاء الله من المسلمين فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال : «وإنما النسيء من الشيطان زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما» فكانوا يحرمون المحرم عاما ويستحلون صفر ويستحلون المحرم هو النسيء.

وقد تكلم الإمام محمد بن إسحاق على هذا في كتاب السيرة كلاما جيدا مفيدا حسنا فقال: كان أول من نسأ الشهور على العرب فأحل منها ما حرم الله وحرم منها ما أحل الله عزوجل القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان : ثم قام بعده على ذلك ابنه عباد ثم من بعد عباد ابنه قلع بن عباد ثم ابنه أمية بن قلع ثم ابنه عوف بن أمية ثم ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف وكان آخرهم وعليه قام الإسلام فكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه فقام فيهم خطيبا فحرم رجبا وذا القعدة وذا الحجة ويحل المحرم عاما ويجعل مكانه صفر ويحرمه ليواطئ عدة ما حرم الله فيحل ما حرم الله يعني ويحرم ما أحل الله (١). والله أعلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٤٤.

١٣٤

بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٩)

هذا شروع في عتاب من تخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر وحمارّة القيظ فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي إذا دعيتم إلى الجهاد في سبيل الله (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) أي تكاسلتم وملتم إلى المقام في الدعة والخفض وطيب الثمار (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) أي ما لكم فعلتم هكذا أرضى منكم بالدنيا بدلا من الآخرة؟ ثم زهد تبارك وتعالى في الدنيا ، ورغب في الآخرة فقال (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) كما قال الإمام أحمد (١) :

حدثنا وكيع ويحيى بن سعيد قالا حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن المستورد أخي بني فهر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم فلينظر بم ترجع؟» وأشار بالسبابة انفرد بإخراجه مسلم (٢).

وروى ابن أبي حاتم حدثنا بشر بن مسلم بن عبد الحميد الحمصي بحمص حدثنا الربيع بن روح حدثنا محمد بن خالد الوهبي حدثنا زياد يعني الجصاص عن أبي عثمان قال : قلت : يا أبا هريرة سمعت من إخواني بالبصرة أنك تقول : سمعت نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة» قال أبو هريرة : بل سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة» ثم تلا هذه الآية (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) فالدنيا ما مضى منها وما بقي منها عند الله قليل. وقال الثوري عن الأعمش في الآية (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) قال : كزاد الراكب.

وقال عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه : لما حضرت عبد العزيز بن مروان الوفاة. قال : ائتوني بكفني الذي أكفن فيه أنظر إليه فلما وضع بين يديه نظر إليه فقال : أما لي من كبير ما أخلف من الدنيا إلا هذا؟ ثم ولى ظهره فبكى وهو يقول أف لك من دار إن كان كثيرك لقليل ، وإن كان قليلك لقصير ، وإن كنا منك لفي غرور. ثم توعد تعالى من ترك الجهاد فقال : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) قال ابن عباس : استنفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيا من العرب فتثاقلوا عنه فأمسك الله عنهم القطر فكان عذابهم (٣).

(وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) أي لنصرة نبيه وإقامة دينه كما قال تعالى : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ

__________________

(١) المسند ٤ / ٢٢٨ ، ٢٢٩.

(٢) كتاب الجنة حديث ٥٥.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٧٣.

١٣٥

قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) [محمد : ٣٨] (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) أي ولا تضروا الله شيئا بتوليكم عن الجهاد ، ونكولكم وتثاقلكم عنه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي قادر على الانتصار من الأعداء بدونكم ، وقد قيل إن هذه الآية وقوله : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) [التوبة: ٤١] وقوله : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) [التوبة : ١٢٠] إنهن منسوخات بقوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) [التوبة : ١٢٢] روي هذا عن ابن عباس وعكرمة والحسن ، وزيد بن أسلم ورده ابن جرير وقال : إنما هذا فيمن دعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الجهاد فتعين عليهم ذلك فلو تركوه لعوقبوا عليه وهذا له اتجاه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

(إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٤٠)

يقول تعالى : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) أي تنصروا رسوله فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه كما تولى نصره (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ) أي عام الهجرة لما هم المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه فخرج منهم هاربا بصحبة صديقه وصاحبه أبي بكر بن أبي قحافة فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهم ثم يسيروا نحو المدينة فجعل أبو بكر رضي الله عنه يجزع أن يطلع عليهم أحد فيخلص إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم أذى فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسكنه ويثبته ويقول : «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما».

كما قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عفان حدثنا همام أنبأنا ثابت عن أنس أن أبا بكر حدثه قال : قلت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن في الغار : لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه قال : فقال : «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» (٢) أخرجاه في الصحيحين ، ولهذا قال تعالى : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) أي تأييده ونصره عليه أي على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أشهر القولين وقيل على أبي بكر ، وروي عن ابن عباس وغيره قالوا : لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تزل معه سكينة وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال ولهذا قال : (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) أي الملائكة (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) قال ابن عباس يعني بكلمة الذين كفروا الشرك وكلمة الله هي لا إله إلا الله.

وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن

__________________

(١) المسند ١ / ٤.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٩ ، باب ١١.

١٣٦

الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله فقال : «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (١) وقوله : (وَاللهُ عَزِيزٌ) أي في انتقامه وانتصاره ، منيع الجناب لا يضام من لاذ ببابه ، واحتمى بالتمسك بخطابه (حَكِيمٌ) في أقواله وأفعاله.

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤١)

قال سفيان الثوري عن أبيه عن أبي الضحى مسلم بن صبيح : هذه الآية (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) أول ما نزل من سورة براءة (٢) وقال معتمر بن سليمان عن أبيه قال : زعم حضرمي أنه ذكر له أن ناسا كانوا عسى أن يكون أحدهم عليلا وكبيرا فيقول : إني لا آثم فأنزل الله (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) الآية (٣).

أمر الله تعالى بالنفير العام مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام غزوة تبوك لقتال أعداء الله من الروم الكفرة من أهل الكتاب وحتم على المؤمنين في الخروج معه على كل حال في المنشط والمكره والعسر واليسر فقال (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً).

وقال علي بن زيد عن أنس عن أبي طلحة : كهولا وشبابا ما سمع الله عذر أحد ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل وفي رواية قرأ أبو طلحة سورة براءة فأتى على هذه الآية (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) فقال أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبانا جهزوني يا بني ، فقال بنوه يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى مات ومع أبي بكر حتى مات ومع عمر حتى مات فنحن نغزو عنك فأبى فركب البحر فمات فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد تسعة أيام فلم يتغير فدفنوه فيها.

وهكذا روي عن ابن عباس وعكرمة وأبي صالح والحسن البصري وسهيل بن عطية ومقاتل بن حيان والشعبي وزيد بن أسلم أنهم قالوا في تفسير هذه الآية (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) كهولا وشبانا وكذا قال عكرمة والضحاك ومقاتل بن حيان وغير واحد ، وقال مجاهد شبانا وشيوخا وأغنياء ومساكين وكذا قال أبو صالح وغيره وقال الحكم بن عتيبة : مشاغيل وغير مشاغيل ، وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) يقول انفروا نشاطا وغير نشاط ، وكذا قال قتادة وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) قالوا فإن فينا الثقيل ، وذا الحاجة والضيعة والشغل والمتيسر به أمره فأنزل الله وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا (خِفافاً وَثِقالاً) أي على ما كان منهم وقال الحسن بن أبي الحسن البصري أيضا في

__________________

(١) أخرجه البخاري في العلم باب ٤٥ ، ومسلم في الإمارة حديث ١٥٠ ، ١٥١.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٧٩.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٣٧٨.

١٣٧

العسر واليسر وهذا كله من مقتضيات العموم في الآية وهذا اختيار ابن جرير.

وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي : إذا كان النفير إلى دروب الروم نفر الناس إليها خفافا وركبانا وإذا كان النفير إلى هذه السواحل نفروا إليها خفافا وثقالا وركبانا ومشاة وهذا تفصيل في المسألة وقد روي عن ابن عباس ومحمد بن كعب وعطاء الخراساني وغيرهم أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله ، وقال السدي قوله : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) يقول غنيا وفقيرا وقويا وضعيفا فجاءه رجل يومئذ زعموا أنه المقداد وكان عظيما سمينا فشكا إليه وسأله أن يأذن له فأبى فنزلت يومئذ (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) فلما نزلت هذه الآية اشتد على الناس فنسخها الله فقال : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ).

وقال ابن جرير (١) : حدثني يعقوب حدثنا ابن علية حدثنا أيوب عن محمد قال شهد أبو أيوب مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدرا ثم لم يتخلف عن غزاة للمسلمين إلا عاما واحدا قال وكان أبو أيوب يقول : قال الله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا. وقال ابن جرير(٢) : حدثني سعيد بن عمرو السكوني حدثنا بقية حدثنا جرير حدثني عبد الرحمن بن ميسرة حدثني أبو راشد الحبراني قال : وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص وقد فصل عنها من عظمه يريد الغزو فقلت : له قد أعذر الله إليك فقال : أتت علينا سورة البعوث (٣) (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً).

وقال ابن جرير (٤) : حدثني حبان بن زيد الشرعبي قال : نفرنا مع صفوان بن عمرو وكان واليا على حمص قبل الأفسوس إلى الجراجمة فرأيت شيخا كبيرا همّا قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار فأقبلت إليه فقلت يا عم لقد أعذر الله إليك قال فرفع حاجبيه فقال يا ابن أخي استنفرنا الله خفافا وثقالا ألا إنه من يحبه الله يبتليه ثم يعيده الله فيبقيه وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ولم يعبد إلا الله عزوجل.

ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله وبذل المهج في مرضاته ومرضاة رسوله فقال : (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي هذا خير لكم في الدنيا والآخرة لأنكم تغرمون في النفقة قليلا فيغنمكم الله أموال عدوكم في الدنيا مع ما يدخر لكم من الكرامة في الآخرة كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٣٧٨.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٣٧٨.

(٣) قال الأستاذ شاكر في حاشية تفسير الطبري ٦ / ٣٧٨ : لم أجد من سمى سورة التوبة سورة البعوث ، بل أجمعوا على تسميتها سورة البحوث ، سميت بها لما تضمنت من البحث في أسرار المنافقين.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٣٧٧.

١٣٨

أن يدخله الجنة ، أو يرده إلى منزله بما نال من أجر أو غنيمة» (١) ولهذا قال الله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ومن هذا القبيل ما رواه الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن أبي عدي عن حميد عن أنس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لرجل : «أسلم» قال : أجدني كارها قال : «أسلم وإن كنت كارها».

(لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٤٢)

يقول تعالى موبخا للذين تخلفوا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك وقعدوا بعد ما استأذنوه في ذلك مظهرين أنهم ذوو أعذار ولم يكونوا كذلك فقال : (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً) قال ابن عباس : غنيمة قريبة (وَسَفَراً قاصِداً) أي قريبا أيضا (لَاتَّبَعُوكَ) أي لكانوا جاءوا معك لذلك (لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) أي المسافة إلى الشام (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ) أي لكم إذا رجعتم إليهم (لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) أي لو لم يكن لنا أعذار لخرجنا معكم قال الله تعالى : (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).

(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) (٤٥)

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو حصين بن سليمان الرازي حدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر عن عون قال : هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا؟ نداء بالعفو قبل المعاتبة فقال (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) وكذا قال مورق العجلي وغيره. وقال قتادة : عاتبه كما تسمعون ثم أنزل التي في سورة النور فرخص له في أن يأذن لهم إن شاء فقال (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) [النور : ٦٢] الآية (٣). وكذا روي عن عطاء الخراساني ، وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في أناس قالوا : استأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن لكم فاقعدوا (٤).

__________________

(١) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢٨ ، ٣٠ ، ومسلم في الإمارة حديث ١٠٤ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٣١ ، ٣٧٤ ، ٣٩٩ ، ٤٢٤ ، ٤٩٤.

(٢) المسند ٣ / ١٠٩ ، ١٨١.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٨١.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٣٨١.

١٣٩

ولهذا قال تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) أي في إبداء الأعذار (وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) يقول تعالى هلا تركتهم لما استأذنوك فلم تأذن لأحد منهم في القعود لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب فإنهم قد كانوا مصرين على القعود عن الغزو وإن لم تأذن لهم فيه.

ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو أحد يؤمن بالله ورسوله فقال : (لا يَسْتَأْذِنُكَ) أي في القعود عن الغزو (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) لأنهم يرون الجهاد قربة ولما ندبهم إليه بادروا وامتثلوا (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ) أي في القعود ممن لا عذر له (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي لا يرجون ثواب الله في الدار الآخرة على أعمالهم (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) أي شكت في صحة ما جئتهم به (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) أي يتحيرون يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى وليست لهم قدم ثابتة في شيء فهم قوم حيارى هلكى لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا.

(وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (٤٧)

يقول تعالى : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ) أي معك إلى الغزو (لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) أي لكانوا تأهبوا له (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) أي أبغض أن يخرجوا معكم قدرا (فَثَبَّطَهُمْ) أي أخرهم (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) أي قدرا ثم بين تعالى وجه كراهيته لخروجهم مع المؤمنين فقال : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) أي لأنهم جبناء مخذولون (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) أي ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالنميمة والبغضاء والفتنة.

(وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم فيؤدي إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير. وقال مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير : (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم ، وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم بل هذا عام في جميع الأحوال والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين.

وقال محمد بن إسحاق : كان الذين استأذنوا فيما بلغني من ذوي الشرف منهم عبد الله بن أبي ابن سلول والجد بن قيس وكانوا أشرافا في قومهم فثبطهم الله لعلمه بهم أن يخرجوا معه فيفسدوا عليه جنده وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم فقال : (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) (١).

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٨٤.

١٤٠