تفسير القرآن العظيم - ج ٤

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٤

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤١

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٧)

يبين تعالى حكمته في البراءة من المشركين ونظرته إياهم أربعة أشهر ، ثم بعد ذلك السيف المرهف أين ثقفوا فقال تعالى : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ) أي أمان ويتركون فيما هم فيه وهم مشركون بالله كافرون به وبرسوله (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) يعني يوم الحديبية ، كما قال تعالى : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح : ٢٥] الآية ، (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) أى مهما تمسكوا بما عاقدتموهم عليه وعاهدتموهم من ترك الحرب بينكم وبينهم عشر سنين (فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).

وقد فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك والمسلمون. استمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة في سنة ست إلى أن نقضت قريش العهد ومالؤوا حلفاءهم وهم بنو بكر على خزاعة أحلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقتلوهم معهم في الحرم أيضا فعند ذلك غزاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رمضان سنة ثمان ففتح الله عليه البلد الحرام ومكنه من نواصيهم ولله الحمد والمنة ، فأطلق من أسلم منهم بعد القهر والغلبة عليهم فسموا الطلقاء ، وكانوا قريبا من ألفين ، ومن استمر على كفره وفرّ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إليه بالأمان والتسيير في الأرض أربعة أشهر يذهب حيث شاء ، ومنهم صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما ، ثم هداهم الله بعد ذلك إلى الإسلام التام ، والله المحمود على جميع ما يقدره ويفعله.

(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) (٨)

يقول تعالى محرضا للمؤمنين على معاداتهم والتبري منهم ومبينا أنهم لا يستحقون أن يكون لهم عهد لشركهم بالله تعالى وكفرهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولأنهم لو ظهروا على المسلمين وأديلوا عليهم لم يبقوا ولم يذروا ولا راقبوا فيهم إلا ولا ذمة. قال علي بن أبي طلحة وعكرمة والعوفي عن ابن عباس: الإلّ القرابة والذمة العهد. وكذا قال الضحاك والسدي كما قال تميم بن مقبل : [الرمل]

أفسد الناس خلوف خلفوا

قطعوا الإلّ وأعراق الرّحم (١)

وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه : [الطويل]

__________________

(١) البيت لابن مقبل في تفسير الطبري ٦ / ٣٢٦ ، وبلا نسبة في تفسير البحر المحيط ٥ / ٥.

١٠١

وجدناهم كاذبا إلّهم

وذو الإلّ والعهد لا يكذب (١)

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا) ، قال : الإل الله ، وفي رواية لا يرقبون الله ولا غيره. وقال ابن جرير (٢) : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية عن سليمان عن أبي مجلز في قوله تعالى : (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) [التوبة : ١٠] مثل قوله جبريل ميكائيل إسرافيل كأنه يقول لا يرقبون الله ، والقول الأول أظهر وأشهر وعليه الأكثر. وعن مجاهد أيضا الإل العهد. وقال قتادة : الإل الحلف.

(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١١)

يقول تعالى ذما للمشركين وحثا للمؤمنين على قتالهم (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) يعني أنهم اعتاضوا عن اتباع آيات الله بما التهوا به من أمور الدنيا الخسيسة (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) أي منعوا المؤمنين من اتباع الحق (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) تقدم تفسيره وكذا الآية التي بعدها (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ) إلى آخرها تقدمت.

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا يحيى بن أبي بكر ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، حدثنا الربيع بن أنس قال : سمعت أنس بن مالك يقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من فارق الدنيا على الإخلاص لله وعبادته لا يشرك به ، وأقام الصلاة وآتى الزكاة فارقها والله عنه راض» وهو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم ، قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء وتصديق ذلك في كتاب الله (فَإِنْ تابُوا) يقول فإن خلعوا الأوثان وعبادتها (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [التوبة : ٥] وقال في آية أخرى (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) ثم قال البزار : آخر الحديث عندي والله أعلم فارقها وهو عنه راض وباقيه عندي من كلام الربيع بن أنس.

(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (١٢)

يقول تعالى وإن نكث المشركون الذين عاهدتموهم على مدة معينة أيمانهم أي عهودهم ومواثيقهم (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) أي عابوه وانتقصوه ، ومن هاهنا أخذ قتل من سب الرسول

__________________

(١) البيت ليس في ديوان حسان بن ثابت ، وهو بلا نسبة في تفسير الطبري ٦ / ٣٢٧.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٣٢٥.

١٠٢

صلوات الله وسلامه عليه أو من طعن في دين الإسلام أو ذكره بنقص ، ولهذا قال : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) أي يرجعون عما هم فيه من الكفر والعناد والضلال. وقد قال قتادة وغيره : أئمة الكفر كأبي جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف وعدد رجالا(١) ، وعن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال : مر سعد بن أبي وقاص برجل من الخوارج فقال الخارجي : هذا من أئمة الكفر فقال سعد كذبت بل أنا قاتلت أئمة الكفر رواه ابن مردويه ، وقال الأعمش عن زيد بن وهب عن حذيفة أنه قال ما قوتل أهل هذه الآية بعد. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : مثله ، والصحيح أن الآية عامة وإن كان سبب نزولها مشركي قريش فهي عامة لهم ولغيرهم والله أعلم.

وقال : الوليد بن مسلم : حدثنا صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، أنه كان في عهد أبي بكر رضي الله عنه إلى الناس حين وجههم إلى الشام قال : إنكم ستجدون قوما محوّقة رؤوسهم ، فاضربوا معاقد الشيطان منهم بالسيوف ، فو الله لأن أقتل رجلا منهم أحب إليّ من أن أقتل سبعين من غيرهم وذلك بأن الله يقول : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) رواه ابن أبي حاتم.

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٥)

وهذا أيضا تهييج وتحضيض وإغراء على قتال المشركين الناكثين بأيمانهم الذين هموا بإخراج الرسول من مكة ، كما قال تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [الأنفال : ٣٠] وقال تعالى : (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) [الممتحنة : ١] الآية ، وقال تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) [الإسراء : ٧٦] الآية ، وقوله : (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) قيل المراد بذلك : يوم بدر حين خرجوا لنصر عيرهم ، فلما نجت وعلموا بذلك استمروا على وجوههم ، طلبا للقتال بغيا وتكبرا كما تقدم بسط ذلك ، وقيل المراد نقضهم العهد وقتالهم مع حلفائهم بني بكر لخزاعة أحلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى سار إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفتح وكان ما كان ولله الحمد والمنة.

وقوله : (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يقول تعالى لا تخشوهم واخشون فأنا أهل أن يخشى العباد من سطوتي وعقوبتي فبيدي الأمر وما شئت كان وما لم أشأ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٢٩.

١٠٣

لم يكن ، ثم قال عزيمة على المؤمنين وبيانا لحكمته فيما شرع لهم من الجهاد مع قدرته على إهلاك الأعداء بأمر من عنده : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) وهذا عام في المؤمنين كلهم ، وقال مجاهد وعكرمة والسدي في هذه الآية (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) يعني خزاعة ، وأعاد الضمير في قوله : (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) عليهم أيضا.

وقد ذكر ابن عساكر في ترجمة مؤذن لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن مسلم بن يسار عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا غضبت أخذ بأنفها وقال «يا عويش قولي اللهم رب النبي محمد اغفر ذنبي ، وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن» ساقه من طريق أبي أحمد الحاكم ، عن الباغندي عن هشام بن عمار حدثنا عبد الرحمن بن أبي الجوزاء عنه (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) أي من عباده (وَاللهُ عَلِيمٌ) أي بما يصلح عباده (حَكِيمٌ) في أفعاله وأقواله الكونية والشرعية فيفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وهو العادل الحاكم الذي لا يجوز أبدا ولا يضيع مثقال ذرة من خير وشر ، بل يجازي عليه في الدنيا والآخرة.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٦)

يقول تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ) أيها المؤمنون أن نترككم مهملين لا نختبركم بأمور يظهر فيها أهل العزم الصادق من الكاذب ولهذا قال : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) أي بطانة ودخيلة بل هم في الظاهر والباطن على النصح لله ولرسوله فاكتفى بأحد القسمين عن الآخر كما قال الشاعر : [الوافر]

وما أدري إذا يمّمت أرضا

أريد الخير أيهما يليني (١)

وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) [العنكبوت : ٢ ـ ٣] وقال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران : ١٤٢] ، وقال تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران : ١٧٩] الآية ، والحاصل أنه تعالى لما شرع لعباده الجهاد بين أن له فيه حكمة وهو اختبار عبيده من يطيعه ممن يعصيه ، وهو تعالى العالم بما كان

__________________

(١) البيت للمثقب العبدي في ديوانه ص ٢١٢ ، وخزانة الأدب ١١ / ٨٠ ، وشرح اختيارات المفضل ص ١٢٦٧ ، وشرح شواهد العيني ١ / ١٩١ ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص ١٤٥ ، وخزانة الأدب ٦ / ٣٧.

١٠٤

وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون فيعلم الشيء قبل كونه ومع كونه على ما هو عليه لا إله إلا هو ولا رب سواه ، ولا راد لما قدّره وأمضاه.

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (١٨)

يقول تعالى ما ينبغي للمشركين بالله أن يعمروا مساجد الله التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له ، ومن قرأ مسجد الله فأراد به المسجد الحرام أشرف المساجد في الأرض الذي بني من أول يوم على عبادة الله وحده لا شريك له ، وأسسه خليل الرحمن ، هذا وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر أي بحالهم وقال لهم كما قال السدي : لو سألت النصراني ما دينك؟ لقال نصراني ، ولو سألت اليهودي ما دينك؟ لقال يهودي ، والصابئ لقال صابئ ، والمشرك لقال مشرك (١).

(أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي بشركهم (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) وقال تعالى : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [الأنفال : ٣٤] ولهذا قال تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فشهد تعالى بالإيمان لعمار المساجد كما قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا شريح ، حدثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث ، أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان». قال الله تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ورواه الترمذي (٣) وابن مردويه والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن وهب به.

وقال عبد الرحمن بن حميد في مسنده : حدثنا يونس بن محمّد حدثنا صالح المري عن ثابت البناني عن ميمون بن سياه وجعفر بن زيد عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما عمار المساجد هم أهل الله» ورواه الحافظ أبو بكر البزار : عن عبد الواحد بن غياث عن صالح بن بشير المري عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما عمار المساجد هم أهل الله» ثم قال : لا نعلم رواه عن ثابت غير صالح ، وقد روى الدار قطني في الأفراد من طريق حكامة بنت عثمان بن دينار عن أبيها عن أخيه مالك بن دينار عن أنس مرفوعا «إذا أراد الله بقوم عاهة نظر إلى أهل المساجد فصرف عنهم» ثم قال : غريب ، وروى الحافظ البهائي في

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٣٤.

(٢) المسند ٣ / ٦٨ ، ٧٦.

(٣) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٩ ، باب ٨.

١٠٥

المستقصى عن أبيه بسنده إلى أبي أمية الطرسوسي ، حدثنا منصور بن صقير ، حدثنا صالح المري عن ثابت عن أنس مرفوعا يقول الله : وعزتي وجلالي إني لأهم بأهل الأرض عذابا فإذا نظرت إلى عمار بيوتي وإلى المتحابين في وإلى المستغفرين بالأسحار صرفت ذلك عنهم. ثم قال ابن عساكر : حديث غريب.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا روح حدثنا سعيد عن قتادة ، حدثنا العلاء بن زياد عن معاذ بن جبل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الشيطان ذئب الإنسان ، كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية ، فإياكم والشعاب وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد» وقال عبد الرزاق : عن معمر عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون الأودي قال : أدركت أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يقولون : إن المساجد بيوت الله في الأرض وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها. وقال المسعودي : عن حبيب بن أبي ثابت وعدي بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : من سمع النداء بالصلاة ثم لم يجب ولم يأت المسجد ويصلي فلا صلاة له وقد عصى الله ورسوله. قال الله تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية ، رواه ابن مردويه. وقد روي مرفوعا من وجه آخر ، وله شواهد من وجوه آخر ليس هذا موضع بسطها.

وقوله : (وَأَقامَ الصَّلاةَ) أي التي هي أكبر عبادات البدن (وَآتَى الزَّكاةَ) أي التي هي أفضل الأعمال المتعدية إلى بر الخلائق ، وقوله (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) أي ولم يخف إلا من الله تعالى ولم يخش سواه (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يقول : من وحد الله وآمن باليوم الآخر يقول من آمن بما أنزل الله (وَأَقامَ الصَّلاةَ) يعني الصلوات الخمس (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) يقول لم يعبد إلا الله ثم قال : (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) يقول تعالى : إن أولئك هم المفلحون كقوله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩] وهي الشفاعة ، وكل عسى في القرآن فهي واجبة (٢) ، وقال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه‌الله : وعسى من الله حق (٣).

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٢٢)

__________________

(١) المسند ٥ / ٢٣٢ ، ٢٣٣ ، ٢٤٣.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٣٥.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٣٣٥.

١٠٦

قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال : إن المشركين قالوا : عمارة بيت الله وقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد ، وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعماره ، فذكر الله استكبارهم وإعراضهم ، فقال لأهل الحرم من المشركين (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) [المؤمنون : ٦٧] يعني أنهم كانوا يستكبرون بالحرم قال (بِهِ سامِراً) [المؤمنون : ٦٧] كانوا يسمرون به ويهجرون القرآن والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخير الله الإيمان والجهاد مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عمارة المشركين البيت وقيامهم على السقاية ولم يكن ينفعهم عند الله مع الشرك به ، وإن كانوا يعمرون بيته ويحرمون به. قال الله تعالى : (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) يعني الذين زعموا أنهم أهل العمارة فسماهم الله ظالمين بشركهم فلم تغن عنهم العمارة شيئا.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال : قد نزلت في العباس بن عبد المطلب حين أسر ببدر قال : لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي ونفك العاني ، قال الله عزوجل : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ ـ إلى قوله ـ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) يعني أن ذلك كله كان في الشرك ولا أقبل ما كان في الشرك (١) ، وقال الضحاك بن مزاحم : أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك ، فقال العباس : أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونفك العاني ونحجب البيت ونسقي الحاج ، فأنزل الله (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) الآية (٢).

وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن عيينة عن إسماعيل عن الشعبي : قال : نزلت في على والعباس رضي الله عنهما بما تكلما في ذلك ، وقال ابن جرير (٣) : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن لهيعة عن أبي صخر قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار وعباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب فقال طلحة : أنا صاحب البيت معي مفتاحه ولو أشاء بت فيه. وقال العباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها ولو أشاء بت في المسجد ، فقال علي رضي الله عنه : ما أدري ما تقولان لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد ، فأنزل الله عزوجل (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) الآية كلها.

وهكذا قال السدي إلا أنه قال : افتخر علي والعباس وشيبة بن عثمان وذكر نحوه ، وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن عمرو عن الحسن قال : نزلت في علي وعباس وعثمان وشيبة

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٣٦.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٣٣٧.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٣٣٧.

١٠٧

تكلموا في ذلك ، فقال العباس : ما أراني إلا أني تارك سقايتنا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيرا» ورواه محمد بن ثور : عن معمر عن الحسن فذكر نحوه.

وقد ورد في تفسير هذه الآية حديث مرفوع فلا بد من ذكره هنا ، قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رجلا قال : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر رضي الله عنه وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك يوم الجمعة ، ولكن إذا صلينا الجمعة دخلنا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألناه. فنزلت (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ـ إلى قوله ـ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) (١).

[طريق أخرى] قال الوليد بن مسلم حدثني معاوية بن سلام عن جده أبي سلام الأسود عن النعمان بن بشير الأنصاري قال : كنت عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم : ما أبالي أن لا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام وقال آخر : بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم فزجرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. قال ففعل فأنزل الله عزوجل (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ـ إلى قوله ـ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢) ورواه مسلم في صحيحه وأبو داود وابن جرير وهذا لفظه ، وابن مردويه وابن أبي حاتم في تفاسيرهم وابن حبان في صحيحه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٢٤)

أمر تعالى بمباينة الكفار به وإن كانوا آباء أو أبناء ، ونهى عن موالاتهم إن استحبوا أي اختاروا الكفر على الإيمان ، وتوعد على ذلك كقوله تعالى (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ)

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٣٦.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٣٦ ، وأخرجه أيضا مسلم في الإمارة حديث ١١١ ، وأحمد في المسند ٤ / ٢٦٩ ، والحديث بهذا اللفظ ليس في سنن أبي داود.

١٠٨

[المجادلة : ٢٢] الآية ، وروى الحافظ البيهقي من حديث عبد الله بن شوذب قال : جعل أبو أبي عبيدة بن الجراح ينعت له الآلهة يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه فلما أكثر الجراح قصده ابنه أبو عبيدة فقتله فأنزل الله فيه هذه الآية (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المجادلة : ٢٢] الآية.

ثم أمر تعالى رسوله أن يتوعد من آثر أهله وقرابته وعشيرته على الله ورسوله وجهاد في سبيله فقال : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها) أي اكتسبتموها وحصلتموها (وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها) أي تحبونها لطيبها وحسنها ، أي إن كانت هذه الأشياء (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا) أي فانتظروا ماذا يحل بكم من عقابه ونكاله بكم ولهذا قال (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن لهيعة عن زهرة بن معبد عن جده قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال : والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» فقال عمر فأنت الآن والله أحب إليّ من نفسي ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «الآن يا عمر» انفرد بإخراجه البخاري (٢) فرواه عن يحيى بن سليمان عن ابن وهب عن حيوة بن شريح عن أبي عقيل زهرة بن معبد أنه سمع جده عبد الله بن هشام عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا.

وقد ثبت في الصحيح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» (٣) وروى الإمام أحمد وأبو داود واللفظ له من حديث أبي عبد الرحمن الخراساني عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» (٤) وروى الإمام أحمد (٥) أيضا عن يزيد بن هارون عن أبي جناب عن شهر بن حوشب أنه سمع عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحو ذلك ، وهذا شاهد للذي قبله والله أعلم.

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ

__________________

(١) المسند ٤ / ٣٣٦.

(٢) كتاب الأيمان باب ٣.

(٣) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٨ ، ومسلم في الإيمان حديث ٦٩ ، ٧٠.

(٤) أخرجه أبو داود في البيوع باب ٥٤ ، وأحمد في المسند ٢ / ٤٢.

(٥) المسند ٢ / ٨٤.

١٠٩

عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٧)

قال ابن جريج عن مجاهد هذه أول آية نزلت من براءة يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله ، وأن ذلك من عنده تعالى وبتأييده وتقديره لا بعددهم ولا بعددهم ونبههم على أن النصر من عنده سواء قل الجمع أو كثر فإن يوم حنين أعجبتهم كثرتهم ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئا فولوا مدبرين إلا القليل منهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أنزل نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه كما سنبينه إن شاء الله تعالى مفصلا ليعلمهم أن النصر من عنده تعالى وحده وبإمداده وإن قل الجمع فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين.

وقد قال الإمام أحمد (١) : حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي سمعت يونس يحدث عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير الصحابة أربعة ، وخير السرايا أربعمائة ، وخير الجيوش أربعة آلاف ولن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة» (٢) وهكذا رواه أبو داود والترمذي ثم قال هذا حديث حسن غريب جدا لا يسنده أحد غير جرير بن حازم ، وإنما روي عن الزهري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسلا. وقد رواه ابن ماجة والبيهقي وغيره عن أكثم بن الجون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه والله أعلم.

وقد كانت وقعة حنين بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة. وذلك لما فرغصلى‌الله‌عليه‌وسلم من فتح مكة وتمهدت أمورها وأسلم عامة أهلها وأطلقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبلغه أن هوازن جمعوا له ليقاتلوه وأن أميرهم مالك بن عوف بن النضر ، ومعه ثقيف بكمالها وبنو جشم وبنو سعد بن بكر وأوزاع (٣) من بني هلال وهم قليل وناس من بني عمرو بن عامر وعوف بن عامر وقد أقبلوا ومعهم النساء والولدان والشاء والنعم وجاءوا بقضهم وقضيضهم (٤) فخرج إليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في جيشه الذي جاء معه للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ومعه الذين أسلموا من أهل مكة وهم الطلقاء في ألفين فسار بهم إلى العدو فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له حنين فكانت فيه الوقعة في أول النهار في غلس الصبح انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد ثاوروهم (٥) ، ورشقوا بالنبال

__________________

(١) المسند ١ / ٢٩٤ ، ٢٩٩.

(٢) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ٨٢ ، وابن ماجة في الجهاد باب ٢٥.

(٣) الأوزاع : الفرق من الناس.

(٤) جاءوا بقضهم وقضيضهم : أي بأجمعهم.

(٥) ثاوروهم : أي ثاوبوهم ، والمثاورة : المواثبة.

١١٠

وأصلتوا السيوف وحملوا حملة رجل واحد كما أمرهم ملكهم فعند ذلك ولى المسلمون مدبرين كما قال الله عزوجل ، وثبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو راكب يومئذ بغلته الشهباء يسوقها إلى نحو العدو ، والعباس عمه آخذ بركابها الأيمن ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بركابها الأيسر يثقلانها لئلا تسرع السير وهو ينوه باسمه عليه الصلاة والسلام ويدعو المسلمين إلى الرجعة ويقول : «إليّ عباد الله إليّ أنا رسول الله» ويقول في تلك الحال :

«أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب»

(١) وثبت معه من أصحابه قريب من مائة ومنهم من قال ثمانون فمنهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما والعباس وعلي والفضل بن عباس وأبو سفيان بن الحارث وأيمن ابن أم أيمن وأسامة بن زيد وغيرهم رضي الله عنهم ثم أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمه العباس وكان جهير الصوت أن ينادي بأعلى صوته يا اصحاب الشجرة يعني شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها على أن لا يفروا عنه فجعل ينادي بهم يا أصحاب السمرة ، ويقول تارة يا أصحاب سورة البقرة ، فجعلوا يقولون يا لبيك يا لبيك ، وانعطف الناس فتراجعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع لبس درعه ثم انحدر عنه وأرسله ورجع بنفسه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فلما اجتمعت شرذمة منهم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرهم عليه‌السلام أن يصدقوا الحملة وأخذ قبضة من تراب بعد ما دعا ربه واستنصره ، وقال «اللهم أنجز لي ما وعدتني» ثم رمى القوم بها فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينه وفمه ما يشغله عن القتال ثم انهزموا فاتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا يعلى بن عطاء عن عبد الله بن يسار عن أبي همام عن أبي عبد الرحمن الفهري واسمه يزيد بن أسيد ويقال يزيد بن أنيس ويقال كرز قال : كنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة حنين فسرنا في يوم قائظ شديد الحر فنزلنا تحت ظلال الشجر فلما زالت الشمس لبست لأمتي وركبت فرسي فانطلقت إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في فسطاطه فقلت السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته حان الرواح؟ فقال : «أجل» فقال : «يا بلال» فثار من تحت سمرة كأن ظلها ظل طائر فقال : لبيك وسعديك وأنا فداؤك فقال «أسرج لي فرسي» فأخرج سرجا دفتاه من ليف ليس فيهما أشر ولا بطر.

__________________

(١) الرجز لرسول الله ص في كتاب العين ٦ / ٦٥ ، وتهذيب اللغة ١٠ / ٦١١.

(٢) المسند ٥ / ٢٨٦.

١١١

قال فأسرج فركب وركبنا فصاففناهم عشيتنا وليلتنا فتشامت الخيلان فولى المسلمون مدبرين كمال قال الله تعالى : (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا عباد الله أنا عبد الله ورسوله» ثم قال : «يا معشر المهاجرين أنا عبد الله ورسوله» قال ثم اقتحم عن فرسه فأخذ كفا من تراب فأخبرني الذي كان أدنى إليه مني أنه ضرب به وجوههم وقال : «شاهت الوجوه» فهزمهم الله تعالى. قال يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا : لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا وسمعنا صلصلة بين السماء والأرض كإمرار الحديد على الطست الجديد ، وهكذا رواه الحافظ البيهقي في دلائل النبوة من حديث أبي داود الطيالسي عن حماد بن سلمة به.

وقال محمد بن إسحاق : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه جابر بن عبد الله قال : فخرج مالك بن عوف بمن معه إلى حنين فسبق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه فأعدوا وتهيئوا في مضايق الوادي وأحنائه وأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حتى انحط بهم الوادي في عماية الصبح فلما انحط الناس ثارت في وجوههم الخيل فشدت عليهم وانكفأ الناس منهزمين لا يقبل أحد على أحد وانحاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات اليمين يقول : «أيها الناس هلموا إلي أنا رسول الله ، أنا رسول الله ، أنا محمد بن عبد الله» فلا شيء وركبت الإبل بعضها بعضا فلما رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر الناس قال : «يا عباس اصرخ يا معشر الأنصار يا أصحاب السمرة» فأجابوه لبيك ، لبيك ، فجعل الرجل يذهب ليعطف بعيره فلا يقدر على ذلك فيقذف درعه في عنقه ويأخذ سيفه وقوسه ثم يؤم الصوت حتى اجتمع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم مائة فاستعرض الناس فاقتتلوا وكانت الدعوة أول ما كانت بالأنصار ثم جعلت آخرا بالخزرج وكانوا صبراء عند الحرب وأشرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ركابه فنظر إلى مجتلد القوم فقال : «الآن حمي الوطيس» قال : فو الله ما راجعه الناس إلا والأسارى عند رسول الله ملقون فقتل الله منهم من قتل وانهزم منهم ما انهزم وأفاء الله على رسوله أموالهم وأبناءهم (١).

وفي الصحيحين من حديث شعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أن رجلا قال له : يا أبا عمارة أفررتم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين؟ فقال : لكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يفر إن هوازن كانوا قوما رماة فلما لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا فأقبل الناس على الغنائم فاستقبلونا بالسهام فانهزم الناس فلقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجام بغلته البيضاء وهو يقول :

«أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب» (٢)

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ٢ / ٤٤٢ ، ٤٤٥.

(٢) أخرجه البخاري في الجهاد باب ٥٢ ، ومسلم في الجهاد حديث ٨٠.

١١٢

قلت : وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة إنه في مثل هذا اليوم في حومة الوغى وقد انكشف عنه جيشه وهو مع هذا على بغلة وليست سريعة الجري ولا تصلح لفر ولا لكر ولا لهرب وهو مع هذا أيضا يركضها إلى وجوههم وينوه باسمه ليعرفه من لم يعرفه صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين وما هذا كله إلا ثقة بالله وتوكلا عليه وعلما منه بأنه سينصره ويتم ما أرسله به ويظهر دينه على سائر الأديان ، ولهذا قال تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ) أي طمأنينته وثباته على رسوله (وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي الذين معه (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) وهم الملائكة كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير (١) : حدثني الحسن بن عرفة قال حدثني المعتمر بن سليمان عن عوف هو ابن أبي جميلة الأعرابي قال سمعت عبد الرحمن مولى ابن برثن حدثني رجل كان مع المشركين يوم حنين قال لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين لم يقوموا لنا حلب شاة ، قال : فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم في آثارهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء فإذا هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فتلقانا عنده رجال بيض حسان الوجوه فقالوا لنا شاهت الوجوه ارجعوا قال فانهزمنا وركبوا أكتافنا فكانت إياها.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ حدثني محمد بن أحمد بن بالويه حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي حدثنا عفان بن مسلم حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الحارث بن حصيرة حدثنا القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه قال : قال ابن مسعود رضي الله عنه : كنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين فولى عنه الناس وبقيت معه في ثمانين رجلا من المهاجرين والأنصار قدمنا ولم نولهم الدبر وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة قال : ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بغلته البيضاء يمضي قدما فحادت بغلته فمال عن السرج فقلت : ارتفع رفعك الله. قال : «ناولني كفا من التراب» فناولته قال : فضرب به وجوههم فامتلأت أعينهم ترابا قال : «أين المهاجرون والأنصار؟» قلت: هم هناك قال : «اهتف بهم» فهتفت بهم فجاؤوا وسيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب وولى المشركون أدبارهم ، ورواه الإمام أحمد في مسنده عن عفان به نحوه.

وقال الوليد بن مسلم : حدثني عبد الله بن المبارك عن أبي بكر الهذلي عن عكرمة مولى ابن عباس عن شيبة بن عثمان قال : لما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين قد عري ذكرت أبي وعمي وقتل علي وحمزة إياهما فقلت اليوم أدرك ثأري منه قال : فذهبت لأجيئه عن يمينه فإذا أنا بالعباس بن عبد المطلب قائما عليه درع بيضاء كأنها فضة يكشف عنها العجاج فقلت : عمه ولن يخذله قال فجئته عن يساره فإذا أنا بأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب فقلت : ابن عمه ولن يخذله فجئته من خلفه فلم يبق إلا أن أسوره سورة بالسيف إذ رفع لي شواظ من نار

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٣٤٣ ، وفيه : حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسن بن عرفة.

١١٣

بيني وبينه كأنه برق فخفت أن تمحشني فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى فالتفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «يا شيبة يا شيبة ادن مني ، اللهم أذهب عنه الشيطان» قال : فرفعت إليه بصري ولهو أحب إلي من سمعي وبصري فقال : «يا شيبة قاتل الكفار» رواه البيهقي من حديث الوليد فذكره.

ثم روي من حديث أيوب بن جابر عن صدقة بن سعيد عن مصعب بن شيبة عن أبيه قال: خرجت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين والله ما أخرجني إسلام ولا معرفة به ولكنني أبيت أن تظهر هوازن على قريش فقلت وأنا واقف معه : يا رسول الله إني أرى خيلا بلقا فقال : «يا شيبة إنه لا يراها إلا كافر» فضرب بيده على صدري ثم قال : «اللهم اهد شيبة» ثم ضربها الثانية ثم قال : «اللهم اهد شيبة» ثم ضربها الثالثة ثم قال : «اللهم اهد شيبة» قال : فو الله ما رفع يده عن صدري في الثالثة حتى ما كان أحد من خلق الله أحب إليّ منه وذكر تمام الحديث في التقاء الناس وانهزام المسلمين ونداء العباس واستنصار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى هزم الله تعالى المشركين.

قال محمد بن إسحاق : حدثني والدي إسحاق بن يسار عمن حدثه عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال إنا لمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين والناس يقتتلون إذ نظرت إلى مثل البجاد الأسود يهوي من السماء حتى وقع بيننا وبين القوم فإذا نمل منثور قد ملأ الوادي فلم يكن إلا هزيمة القوم فما كنا نشك أنها الملائكة (١) ، وقال سعيد بن السائب بن يسار عن أبيه قال : سمعت يزيد بن عامر السوائي وكان شهد حنينا مع المشركين ثم أسلم بعد فكنا نسأله عن الرعب الذي ألقى الله في قلوب المشركين يوم حنين فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطست فيطن فيقول كنا نجد في أجوافنا مثل هذا (٢) ، وقد تقدم له شاهد من حديث يزيد بن أبي أسيد فالله أعلم.

وفي صحيح مسلم (٣) عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق أنبأنا معمر عن همام قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نصرت بالرعب وأوتيت جوامع الكلم» ولهذا قال تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ).

وقوله : (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قد تاب الله على بقية هوازن فأسلموا وقدموا عليه مسلمين ولحقوه وقد قارب مكة عند الجعرانة وذلك بعد الوقعة بقريب من عشرين يوما فعند ذلك خيرهم بين سبيهم وبين أموالهم فاختاروا سبيهم وكانوا ستة

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ٢ / ٤٤٩.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٤٣.

(٣) كتاب المساجد حديث ٥.

١١٤

آلاف أسير ما بين صبي وامرأة ، فرده عليهم وقسم الأموال بين الغانمين ونفل أناسا من الطلقاء لكي يتألف قلوبهم على الإسلام فأعطاهم مائة من الإبل وكان من جملة من أعطى مائة مالك بن عوف النّصري واستعمله على قومه كما كان فامتدحه بقصيدته التي يقول فيها : [الطويل]

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله

في الناس كلهم بمثل محمد (١)

أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى

ومتى تشأ يخبرك عما في غد

وإذا الكتيبة عرّدت أنيابها

بالسمهري وضرب كل مهنّد

فكأنه ليث على أشباله

وسط المباءة خادر في مرصد

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨) قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (٢٩)

أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينا وذاتا بنفي المشركين الذين هم نجس دينا عن المسجد الحرام وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية وكان نزولها في سنة تسع ولهذا بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا صحبة أبي بكر رضي الله عنهما عامئذ وأمره أن ينادي في المشركين أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. فأتم الله ذلك وحكم به شرعا وقدرا.

وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) إلا أن يكون عبدا أو أحدا من أهل الذمة (٢). وقد روي مرفوعا من وجه آخر فقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا حسين حدثنا شريك عن الأشعث يعني ابن سوار عن الحسن عن جابر قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمهم» تفرد به الإمام أحمد مرفوعا والموقوف أصح إسنادا.

وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي ، كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين وأتبع نهيه قول الله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) وقال عطاء : الحرم كله مسجد لقوله تعالى : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا). ودلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك كما ورد في الصحيح «المؤمن لا ينجس» (٤) وأما

__________________

(١) الأبيات في سيرة ابن هشام ٢ / ٤٩١.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٤٨.

(٣) المسند ٣ / ٣٩٢.

(٤) أخرجه البخاري في الغسل باب ٢٣ ، ٢٤.

١١٥

نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب ، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم ، وقال أشعث عن الحسن من صافحهم فليتوضأ. رواه ابن جرير (١).

وقوله (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) قال محمد بن إسحاق : وذلك أن الناس قالوا لتقطعن عنا الأسواق ولتهلكن التجارة وليذهبن عنا ما كنا نصيب فيها من المرافق فأنزل الله (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من وجه غير ذلك (إِنْ شاءَ) إلى قوله (وَهُمْ صاغِرُونَ) أي هذا عوض ما تخوفتم من قطع تلك الأسواق فعوضهم الله مما قطع أمر الشرك ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب من الجزية (٢) ، وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك وغيرهم (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) أي بما يصلحكم (حَكِيمٌ) أي فيما يأمر به وينهى عنه لأنه الكامل في أفعاله وأقواله العادل في خلقه وأمره تبارك وتعالى ولهذا عوضهم عن تلك المكاسب بأموال الجزية التي يأخذوها من أهل الذمة.

وقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) فهم في نفس الأمر لما كفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبق لهم إيمان صحيح بأحد من الرسل ولا بما جاءوا به وإنما يتبعون آراءهم وأهواءهم وآباءهم فيما هم فيه لا لأنه شرع الله ودينه ، لأنهم لو كانوا مؤمنين بما بأيديهم إيمانا صحيحا لقادهم ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن جميع الأنبياء بشروا به وأمروا باتباعه فلما جاء وكفروا به وهو أشرف الرسل علم أنهم ليسوا متمسكين بشرع الأنبياء الأقدمين لأنه من عند الله. بل لحظوظهم وأهوائهم فلهذا لا ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء وقد كفروا بسيدهم وأفضلهم وخاتمهم وأكملهم ، ولهذا قال : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وهذه الآية الكريمة أول الأمر بقتال أهل الكتاب بعد ما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجا واستقامت جزيرة العرب أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى وكان ذلك في سنة تسع ولهذا تجهز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقتال الروم ودعا الناس إلى ذلك وأظهره لهم وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم فأوعبوا معه واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفا وتخلف بعض الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين وغيرهم وكان ذلك في عام جدب ووقت قيظ وحر وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد الشام لقتال الروم فبلغ تبوك فنزل بها وأقام بها قريبا من عشرين يوما ثم استخار الله في الرجوع فرجع عامه ذلك لضيق الحال وضعف الناس كما سيأتي بيانه بعد إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٣٤٥.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٤٨.

١١٦

وقد استدل بهذه الآية الكريمة من يرى أنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب أو من أشبههم كالمجوس كما صح فيهم الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذها من مجوس هجر وهذا مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وقال أبو حنيفة رحمه‌الله. بل تؤخذ من جميع الأعاجم سواء كانوا من أهل الكتاب أو من المشركين ولا تؤخذ من العرب إلا من أهل الكتاب.

وقال الإمام مالك : بل يجوز أن تضرب الجزية على جميع الكفار من كتابي ومجوسي ووثني وغير ذلك ولمأخذ هذه المذاهب وذكر أدلتها مكان غير هذا والله أعلم. وقوله : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) أي إن لم يسلموا (عَنْ يَدٍ) أي عن قهر لهم وغلبة (وَهُمْ صاغِرُونَ) أي ذليلون حقيرون مهانون فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين بل هم أذلاء صغرة أشقياء كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه» (١) ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم.

وذلك مما رواه الأئمة الحفاظ من رواية عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال : كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى من أهل الشام : بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب منها ولا نحيي منها ما كان خططا للمسلمين وألا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل وأن ننزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم ولا نؤوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسا ولا نكتم غشا للمسلمين ولا نعلم أولادنا القرآن ولا نظهر شركا ولا ندعو إليه أحدا ولا نمنع أحدا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه وأن نوقر المسلمين وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نبيع الخمور وأن نجز مقاديم رؤوسنا وأن نلزم زينا حيثما كنا وأن نشد الزنانير على أوساطنا وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا وأن لا نظهر صلبنا ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيفا وأن لا نرفع أصواتنا

__________________

(١) أخرجه مسلم في السلام حديث ١٤.

١١٧

بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين ولا نخرج شعانين ولا باعوثا ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نجاورهم بموتانا ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين وأن نرشد المسلمين ولا نطلع عليهم في منازلهم.

قال فلما أتيت عمر بالكتاب زاد فيه ولا نضرب أحدا من المسلمين شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم ووظفنا على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٣١)

وهذا إغراء من الله تعالى للمؤمنين على قتال الكفار من اليهود والنصارى لمقالتهم هذه المقالة الشنيعة والفرية على الله تعالى فأما اليهود فقالوا في العزير : إنه ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وذكر السدي وغيره أن الشبهة التي حصلت لهم في ذلك أن العمالقة لما غلبت على بني إسرائيل فقتلوا علماءهم وسبوا كبارهم بقي العزيز يبكي على بني إسرائيل وذهاب العلم منهم حتى سقطت جفون عينيه فبينما هو ذات يوم إذ مر على جبانة وإذا امرأة تبكي عند قبر وهي تقول : وا مطعماه وا كاسياه فقال لها : ويحك من كان يطعمك قبل هذا؟ قالت : الله قال : فإن الله حي لا يموت ، قالت يا عزيز فمن كان يعلم العلماء قبل بني إسرائيل؟ قال : الله.

قالت : فلم تبكي عليهم؟ فعرف أنه شيء قد وعظ به ثم قيل له اذهب إلى نهر كذا فاغتسل منه وصل هناك ركعتين فإنك ستلقى هناك شيخا فما أطعمك فكله فذهب ففعل ما أمر به فإذا الشيخ فقال له : افتح فمك ففتح فمه فألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة ثلاث مرات فرجع عزير وهو من أعلم الناس بالتوراة فقال : يا بني إسرائيل قد جئتكم بالتوراة فقالوا يا عزير ما كنت كذابا فعمد فربط على إصبع من أصابعه قلما وكتب التوراة بإصبعه كلها فلما تراجع الناس من عدوهم ورجع العلماء أخبروا بشأن عزيز فاستخرجوا النسخ التي كانوا أودعوها في الجبال وقابلوها بها فوجدوا ما جاء به صحيحا فقال بعض جهلتهم : إنما صنع هذا لأنه ابن الله (١).

وأما ضلال النصارى في المسيح فظاهر ، ولهذا كذب الله سبحانه الطائفتين فقال : (ذلِكَ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٥١.

١١٨

قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) أي لا مستند لهم فيما ادعوه سوى افترائهم واختلاقهم (يُضاهِؤُنَ) أي يشابهون (قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) أي من قبلهم من الأمم ضلوا كما ضل هؤلاء (قاتَلَهُمُ اللهُ) قال ابن عباس : لعنهم الله (أَنَّى يُؤْفَكُونَ؟) أي كيف يضلون عن الحق وهو ظاهر ويعدلون إلى الباطل؟

وقوله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فر إلى الشام وكان قد تنصر في الجاهلية فأسرت أخته وجماعة من قومه ثم منّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على أخته وأعطاها فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقدم عدي إلى المدينة وكان رئيسا في قومه طيئ وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم فتحدث الناس بقدومه فدخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة وهو يقرأ هذه الآية (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم فقال : «بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم» وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا عدي ما تقول؟ أيضرك أن يقال الله أكبر؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله ما يضرك أيضرك أن يقال لا إله إلا الله فهل تعلم إلها غير الله؟» ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق قال فلقد رأيت وجه استبشر ثم قال «إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون» (١).

وهكذا قال حذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس وغيرهما في تفسير (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا ، وقال السدي : استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ولهذا قال تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) أي الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام وما حلله فهو الحلال وما شرعه اتبع وما حكم به نفذ (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تعالى وتقدس وتنزه عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأولاد لا إله إلا هو ولا رب سواه.

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٣٣)

يقول تعالى : يريد هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب (أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) أي ما بعث به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الهدى ودين الحق بمجرد جدالهم وافترائهم فمثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس أو نور القمر بنفخه وهذا لا سبيل إليه فكذلك ما أرسل به

__________________

(١) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٩ ، باب ١٠.

١١٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا بد أن يتم ويظهر ولهذا قال تعالى مقابلا لهم فيما راموه وأرادوه : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) والكافر هو الذي يستر الشيء ويغطيه ومنه سمي الليل كافرا لأنه يستر الأشياء والزارع كافرا لأنه يغطي الحب في الأرض كما قال (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) ثم قال تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) فالهدى هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة والإيمان الصحيح والعلم النافع ودين الحق هي الأعمال الصالحة الصحيحة النافعة في الدنيا والآخرة.

(لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي على سائر الأديان كما ثبت في الصحيح عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها»(١).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن محمد بن أبي يعقوب سمعت شقيق بن حيان يحدث عن مسعود بن قبيصة أو قبيصة بن مسعود يقول : صلى هذا الحي من محارب الصبح فلما صلوا قال شاب منهم : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها ، وإن عمالها في النار إلا من اتقى الله وأدى الأمانة» ، وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان حدثنا سليم بن عامر عن تميم الداري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين يعز عزيزا ويذل ذليلا ، عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر» فكان تميم الداري يقول : قد عرفت ذلك أهل بيتي لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز ولقد أصاب من كان كافرا منهم الذل والصغار والجزية.

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا يزيد بن عبد ربه حدثنا الوليد بن مسلم حدثني ابن جابر سمعت سليم بن عامر قال سمعت المقداد بن الأسود يقول سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام يعز عزيزا ، ويذل ذليلا إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها ، وإما يذلهم فيدينون لها».

وفي المسند (٥) أيضا : حدثنا محمد بن أبي عدي عن ابن عون عن ابن سيرين عن أبي حذيفة عن عدي بن حاتم سمعه يقول دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا عدي أسلم تسلم» فقلت إني من أهل دين قال : «أنا أعلم بدينك منك» فقلت أنت أعلم بديني مني؟ قال : «نعم ألست من الركوسية وأنت تأكل مرباع قومك؟ قلت : بلى! قال : «فإن هذا لا يحل لك في

__________________

(١) أخرجه مسلم في الفتن حديث ١٩.

(٢) المسند ٥ / ٣٦٦ ، ٣٦٧.

(٣) المسند ٤ / ١٠٣.

(٤) المسند ٦ / ٤.

(٥) المسند ٤ / ٢٥٧ ، ٣٧٧ ، ٣٧٨.

١٢٠