تفسير القرآن العظيم - ج ٣

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٣

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٩٥

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا : حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ، لأنه كان أول من سن القتل» وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود من طرق عن الأعمش به ، وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثني حجاج قال: قال ابن جريج : قال مجاهد : علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة ووجهه في الشمس حيثما دارت دار ، عليه في الصيف حظيرة من نار ، وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج. قال : وقال عبد الله بن عمرو : إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم ، وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة عن ابن إسحاق ، عن حكيم بن حكيم أنه حدث عن عبد الله بن عمرو أنه كان يقول : إن أشقى الناس رجلا لابن آدم الذي قتل أخاه ، ما سفك دم في الأرض منذ قتل أخاه إلى يوم القيامة إلا لحق به منه شر ، وذلك أنه أول من سن القتل ، وقال إبراهيم النخعي : ما من مقتول يقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول والشيطان كفل منه ، ورواه ابن جرير أيضا.

وقوله تعالى : (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) قال السدي بإسناده المتقدم إلى الصحابة رضي الله عنهم : لما مات الغلام تركه بالعراء ، ولا يعلم كيف يدفن ، فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا ، فقتل أحدهما صاحبه ، فحفر له ثم حثى عليه ، فلما رآه قال (يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) (٢) وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال : جاء غراب إلى غراب ميت ، فحثى عليه من التراب حتى واراه ، فقال الذي قتل أخاه (يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) (٣). وقال الضحاك ، عن ابن عباس : مكث يحمل أخاه في جراب على عاتقه سنة حتى بعث الله الغرابين ، فرآهما يبحثان ، فقال (أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ) فدفن أخاه (٤) ، وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : كان يحمله على عاتقه مائة سنة ميتا لا يدري ما يصنع به ، يحمله ويضعه إلى الأرض حتى رأى الغراب يدفن الغراب ، فقال (يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) رواه ابن جرير (٥) وابن أبي حاتم ، وقال عطية العوفي : لما قتله ندم فضمه إليه حتى أروح ، وعكفت عليه الطيور والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله ،

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٣٨٣.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٥٣٨.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المصدر السابق ص ٥٣٩.

٨١

رواه ابن جرير.

وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول : لما قتله سقط في يده ، أي ولم يدر كيف يواريه ، وذلك أنه كان فيما يزعمون أول قتيل في بني آدم ، وأول ميت (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ). قال : وزعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل ، قال له الله عزوجل : يا قابيل أين أخوك هابيل؟ قال : ما أدري ما كنت عليه رقيبا ، فقال الله : إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض الآن ، أنت ملعون في الأرض التي فتحت فاها فتلقت دم أخيك من يدك ، فإن أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعا تائها في الأرض (١). وقوله (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) قال الحسن البصري : علاه الله بندامة بعد خسران.

فهذه أقوال المفسرين في هذه القصة ، وكلهم متفقون على أن هذين ابنا آدم لصلبه ، كما هو ظاهر القرآن ، وكما نطق به الحديث في قوله «إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل» وهذا ظاهر جلي ، ولكن قال ابن جرير (٢) : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا سهل بن يوسف عن عمرو ، عن الحسن هو البصري ، قال : كان الرجلان اللذان في القرآن اللذان قال الله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِ) من بني إسرائيل ، ولم يكونا ابني آدم لصلبه ، وإنما كان القربان من بني إسرائيل ، وكان آدم أول من مات.

وهذا غريب جدا ، وفي إسناده نظر ، وقد قال عبد الرزاق ، عن معمر عن الحسن ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن ابني آدم عليه‌السلام ضربا لهذه الأمة مثلا ، فخذوا بالخير منهما» ورواه ابن المبارك ، عن عاصم الأحول ، عن الحسن ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا ، فخذوا من خيرهم ودعوا شرهم» ، وكذا أرسل هذا الحديث بكير بن عبد الله المزني ، روى ذلك كله ابن جرير (٣). وقال سالم بن أبي الجعد : لما قتل ابن آدم أخاه مكث آدم مائة سنة حزينا لا يضحك ، ثم أتى فقيل له : حياك الله وبياك ، أي أضحكك ، رواه ابن جرير (٤) ، ثم قال : حدثنا ابن حميد ، حدثنا سلمة عن غياث بن إبراهيم ، عن أبي إسحاق الهمداني قال : قال علي بن أبي طالب لما قتل ابن آدم أخاه بكاه آدم فقال : [الوافر]

تغيرت البلاد ومن عليها

فلون الأرض مغبر قبيح

تغير كل ذي لون وطعم

وقل بشاشة الوجه المليح

__________________

(١) رواه الطبري ٤ / ٥٣٩ من طريق محمد بن إسحاق بأطول مما هنا.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٥٣٠.

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٥٤٠.

(٤) تفسير الطبري ٤ / ٥٣٠.

٨٢

فأجيب آدم عليه الصلاة والسلام :

أبا هابيل قد قتلا جميعا

وصار الحي كالميت الذبيح

وجاء بشرّة قد كان منها

على خوف فجاء بها يصيح

والظاهر أن قابيل عوجل بالعقوبة ، كما ذكره مجاهد وابن جبير أنه علقت ساقه بفخذه إلى يوم القيامة ، وجعل الله وجهه إلى الشمس حيث دارت عقوبة له وتنكيلا به ، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» وقد اجتمع في فعل قابيل هذا وهذا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢) إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٤)

يقول تعالى : من أجل قتل ابن آدم أخاه ظلما وعدوانا (كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي شرعنا لهم وأعلمناهم (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) أي من قتل نفسا بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض ، واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية ، فكأنما قتل الناس جميعا ، لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس ، ومن أحياها ، أي حرم قتلها واعتقد ذلك ، فقد سلّم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار ، ولهذا قال (فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) وقال الأعمش وغيره ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : دخلت على عثمان يوم الدار فقلت : جئت لأنصرك ، وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين ، فقال : يا أبا هريرة ، أيسرك أن تقتل الناس جميعا وإياي معهم؟ قلت : لا ، قال : فإنك إن قتلت رجلا واحدا فكأنما قتلت الناس جميعا فانصرف مأذونا لك مأجورا غير مأزور ، قال : فانصرفت ولم أقاتل ، وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو كما قال الله تعالى : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) وإحياؤها ألا يقتل نفسا حرمها الله ، فذلك الذي أحيا الناس جميعا يعني أنه من حرم قتلها إلا بحق حيي الناس منه ، وهكذا قال مجاهد : ومن أحياها ، أي كف عن قتلها (١).

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٥٤٣.

٨٣

وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) ، يقول : من قتل نفسا واحدة حرمها الله ، فهو مثل من قتل الناس جميعا ، وقال سعيد بن جبير : من استحل دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس جميعا ، ومن حرم دم مسلم فكأنما حرم دماء الناس جميعا ، هذا قول وهو الأظهر ، وقال عكرمة والعوفي عن ابن عباس : من قتل نبيا أو إمام عدل ، فكأنما قتل الناس جميعا ، ومن شدّ على عضد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعا ، رواه ابن جرير. وقال مجاهد في رواية أخرى عنه : من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا ، وذلك لأن من قتل النفس فله النار فهو كما لو قتل الناس كلهم ، قال ابن جريج ، عن الأعرج ، عن مجاهد في قوله : (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) من قتل النفس المؤمنة متعمدا ، جعل الله جزاءه جهنم ، وغضب عليه ولعنه ، وأعد له عذابا عظيما ، يقول : لو قتل الناس جميعا لم يزد على مثل ذلك العذاب ، قال ابن جريج : قال مجاهد : (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) قال : من لم يقتل أحدا فقد حيي الناس منه.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : من قتل نفسا فكأنما قتل الناس ، يعني فقد وجب عليه القصاص ، فلا فرق بين الواحد والجماعة ، ومن أحياها أي عفا عن قاتل وليه فكأنما أحيا الناس جميعا ، وحكي ذلك عن أبيه ، رواه ابن جرير (١).

وقال مجاهد في رواية : ومن أحياها ، أي أنجاها من غرق أو حرق أو هلكة ، وقال الحسن وقتادة في قوله : (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) ، هذا تعظيم لتعاطي القتل ، قال قتادة : عظيم والله وزرها ، وعظيم والله أجرها : وقال ابن المبارك ، عن سلام بن مسكي ، عن سليمان بن علي الربعي ، قال : قلت للحسن : هذه الآية لنا يا أبا سعيد كما كانت لبني إسرائيل ، فقال : إي والذي لا إله غيره ، كما كانت لبني إسرائيل وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا ، وقال الحسن البصري : (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) ، قال : وزرا ، (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) ، قال : أجرا (٢).

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو قال : جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، اجعلني على شيء أعيش به ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا حمزة نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها؟» قال : بل نفس أحييها. قال «عليك بنفسك».

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج والبراهين والدلائل الواضحة،

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٥٤٣.

(٢) الآثار السابقة رواها الطبري في تفسيره ٤ / ٥٤٣.

(٣) مسند أحمد ٢ / ١٧٥.

٨٤

(ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) وهذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها ، كما كانت بنو قريظة والنضير وغيرهم من بني قينقاع ممن حول المدينة من اليهود الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج ، إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية ، ثم إذا وضعت الحروب أوزارها. فدوا من أسروه وودوا من قتلوه ، وقد أنكر الله عليهم ذلك في سورة البقرة حيث يقول (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة : ٨٤ ـ ٨٥].

وقوله (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) الآية ، المحاربة هي المضادة والمخالفة ، وهي صادقة على الكفر وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل ، وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر ، حتى قال كثير من السلف ، منهم سعيد بن المسيب : إن قبض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض. وقد قال تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٥] ثم قال بعضهم : نزلت هذه الآية الكريمة في المشركين ، كما قال ابن جرير (١) : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا الحسين بن واقد عن يزيد عن عكرمة والحسن البصري ، قالا (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ـ إلى ـ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) نزلت هذه الآية في المشركين ، فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه ، لم يكن عليه سبيل ، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل ، أو أفسد في الأرض ، أو حارب الله ورسوله ، ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه ، لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصاب.

ورواه أبو داود (٢) والنسائي من طريق عكرمة ، عن ابن عباس : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) ، نزلت في المشركين من تاب منهم قبل أن يقدر عليه ، لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) الآية ، قال : كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٥٤٧.

(٢) سنن أبي داود (حدود باب ٣)

٨٥

وميثاق ، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض ، فخير الله رسوله إن شاء أن يقتل وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، رواه ابن جرير (١).

وروى شعبة عن منصور عن هلال بن يساف ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه قال : نزلت في الحرورية (٢) (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) رواه ابن مردويه.

والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات ؛ كما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي قلابة واسمه عبد الله بن زيد الجرمي البصري عن أنس بن مالك أن نفرا من عكل ثمانية ، قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبايعوه على الإسلام ، فاستوخموا (٣) المدينة ، وسقمت أجسامهم فشكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، فقال «ألا تخرجون مع راعينا في إبله ، فتصيبوا من أبوالها وألبانها» فقالوا : بلى ، فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها فصحوا ، فقتلوا الراعي ، وطردوا الإبل ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبعث في آثارهم فأدركوا فجيء بهم ، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم ، وسمرت أعينهم ، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا ، لفظ مسلم ، وفي لفظ لهما : من عكل أو عرينة ، وفي لفظ : وألقوا في الحرة فجعلوا يستسقون ، فلا يسقون. وفي لفظ لمسلم : ولم يحسمهم ، وعند البخاري قال أبو قلابة : فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم ، وحاربوا الله ورسوله ، ورواه مسلم من طريق هشيم عن عبد العزيز بن صهيب ، وحميد عن أنس ، فذكر نحوه وعنده فارتدوا ، وقد أخرجاه من رواية قتادة عن أنس بنحوه ، وقال سعيد عن قتادة : من عكل وعرينة ، وراه مسلم من طريق سليمان التيمي ، عن أنس قال : إنما سمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعين أولئك ، لأنهم سملوا أعين الرعاء ، ورواه مسلم من حديث معاوية بن قرة عن أنس قال : أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم نفر من عرينة فأسلموا وبايعوه ، وقد وقع بالمدينة الدم وهو البرسام ، ثم ذكر نحو حديثهم وزاد : عنده شباب من الأنصار قريب من عشرين فارسا فأرسلهم وبعث معهم قائفا يقفو أثرهم وهذه كلها ألفاظ مسلم رحمه‌الله (٤).

وقال حماد بن سلمة : حدثنا قتادة وثابت البناني وحميد الطويل عن أنس بن مالك أن ناسا من عرينة قدموا المدينة فاجتووها ، فبعثهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إبل الصدقة ، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها ، ففعلوا فصحوا ، فارتدوا عن الإسلام ، وقتلوا الراعي ، وساقوا الإبل ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في آثارهم فجيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسمر أعينهم

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٥٤٧.

(٢) هم الخوارج.

(٣) أي لم يوافق مناخها أبدانهم وأمزجتهم.

(٤) انظر صحيح البخاري (ديات باب ٢٢) وصحيح مسلم (قسامة حديث ١٠)

٨٦

وألقاهم في الحرة قال أنس : فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشا حتى ماتوا ، ونزلت (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) الآية ، وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه وهذا لفظه ، وقال الترمذي : حسن صحيح (١).

وقد رواه ابن مردويه من طرق كثيرة عن أنس بن مالك ، منها ما رواه من طريقين عن سلام بن أبي الصهباء ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك ، قال : ما ندمت على حديث ، ما ندمت على حديث سألني عنه الحجاج ، قال : أخبرني عن أشد عقوبة عاقب بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال :

قلت قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوم من عرينة من البحرين ، فشكوا إلى رسول الله ما لقوا من بطونهم ، وقد اصفرت ألوانهم ، وضمرت بطونهم ، فأمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها ، حتى إذا رجعت إليهم ألوانهم وانخمصت بطونهم ، عمدوا إلى الراعي فقتلوه ، واستاقوا الإبل ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في آثارهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم ، ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا. فكان الحجاج إذا صعد المنبر يقول : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قطع أيدي قوم وأرجلهم ، ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا بحال ذود من الإبل ، فكان الحجاج يحتج بهذا الحديث على الناس.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا علي بن سهل ، حدثنا الوليد يعني ابن مسلم ، حدثني سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، قال كانوا أربعة نفر من عرينة ، وثلاثة نفر من عكل ، فلما أتي بهم قطع أيديهم وأرجلهم ، وسمر أعينهم ، ولم يحسمهم وتركهم يلتقمون الحجارة بالحرة ، فأنزل الله في ذلك (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) الآية.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا أبو مسعود يعني عبد الرحمن بن الحسن الزجاج ، حدثنا أبو سعيد يعني البقال ، عن أنس بن مالك قال : كان رهط من عرينة أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبهم جهد ، مصفرة ألوانهم ، عظيمة بطونهم ، فأمرهم أن يلحقوا بالإبل فيشربوا من أبوالها وألبانها ، ففعلوا فصفت ألوانهم ، وخمصت بطونهم ، وسمنوا ، فقتلوا الراعي ، واستاقوا الإبل ، فبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طلبهم ، فأتي بهم ، فقتل بعضهم ، وسمر أعين بعضهم ، وقطع أيدي بعضهم وأرجلهم ، ونزلت (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) إلى آخر الآية.

وقال أبو جعفر بن جرير (٣) : حدثنا علي بن سهل ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا يزيد بن لهيعة عن ابن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية ، فكتب إليه

__________________

(١) سنن أبي داود (حدود باب ٢) وسنن الترمذي (طهارة باب ٥٥)

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٥٤٩.

(٣) المصدر السابق.

٨٧

أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين وهم من بجيلة ، قال أنس : فارتدوا عن الإسلام ، وقتلوا الراعي ، واستاقوا الإبل ، وأخافوا السبيل ، وأصابوا الفرج الحرام.

وقال حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال ، عن أبي الزناد ، عن عبد الله بن عبيد الله ، عن عبد الله بن عمر أو عمرو ـ شك يونس ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، يعني بقصة العرنيين ، ونزلت فيهم آية المحاربة ، ورواه أبو داود والنسائي من طريق أبي الزناد ، وفيه عن ابن عمر من غير شك (١).

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا محمد بن خلف ، حدثنا الحسن بن حماد عن عمرو بن هاشم ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن إبراهيم ، عن جرير ، قال : قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوم من عرينة حفاة مضرورين ، فأمر بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما صحوا واشتدوا ، قتلوا رعاء اللقاح ، ثم خرجوا باللقاح عامدين بها إلى أرض قومهم ، قال جرير فبعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم بعد ما أشرفوا على بلاد قومهم ، فقدمنا بهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسمل أعينهم ، فجعلوا يقولون : الماء ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : النار حتى هلكوا ، قال : وكره الله عزوجل سمل الأعين ، فأنزل الله هذه الآية (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) إلى آخر الآية ، هذا حديث غريب ، وفي إسناده الربذي وهو ضعيف ، وفي إسناده فائدة ، وهو ذكر أمير هذه السرية ، وهو جرير بن عبد الله البجلي ، وتقدم في صحيح مسلم أن هذه السرية كانوا عشرين فارسا من الأنصار ، وأما قوله : فكره الله سمل الأعين ، فأنزل الله هذه الآية ، فإنه منكر ، وقد تقدم في صحيح مسلم أنهم سملوا أعين الرعاء ، فكان ما فعل بهم قصاصا ، والله أعلم.

وقال عبد الرزاق عن إبراهيم بن محمد الأسلمي ، عن صالح مولى التوأمة ، عن أبي هريرة ، قال قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجال من بني فزارة قد ماتوا هزلا ، فأمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى لقاحه ، فشربوا منها حتى صحوا ، ثم عمدوا إلى لقاحه فسرقوها ، فطلبوا فأتي بهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمر (٣) أعينهم. قال أبو هريرة ففيهم نزلت هذه الآية (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ، فترك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمر الأعين بعد ، وروي من وجه آخر عن أبي هريرة.

وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا الحسين بن إسحاق التستري ، حدثنا أبو القاسم محمد بن الوليد عن عمرو بن محمد المديني ، حدثنا محمد بن طلحة عن

__________________

(١) سنن أبي داود (حدود باب ٣)

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٥٤٨.

(٣) قال في اللسان (سمر) : سمر عينه : كسملها. ومن روى الحديث باللام فمعناه فقأها بشوك أو غيره ، وقوله سمر أعينهم أي أحمى لا مسامير الحديث ثم كحلها بها.

٨٨

موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن سلمة بن الأكوع قال : كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غلام يقال له يسار ، فنظر إليه يحسن الصلاة فأعتقه ، وبعثه في لقاح له بالحرة فكان بها ، قال : فأظهر قوم الإسلام من عرينة ، وجاءوا وهم مرضى موعوكون قد عظمت بطونهم قال : فبعث بهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يسار ، فكانوا يشربون من ألبان الإبل حتى انطوت بطونهم ، ثم عدوا على يسار فذبحوه ، وجعلوا الشوك في عينيه ، ثم طردوا الإبل ، فبعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في آثارهم خيلا من المسلمين ، كبيرهم كرز بن جابر الفهري ، فلحقهم فجاء بهم إليه فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ، غريب جدا ، وقد روى قصة العرنيين من حديث جماعة من الصحابة منهم جابر وعائشة وغير واحد ، وقد اعتنى الحافظ الجليل أبو بكر بن مردويه بتطريق هذا الحديث من وجوه كثيرة جدا فرحمه‌الله وأثابه.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ، سمعت أبي يقول : سمعت أبا حمزة عن عبد الكريم وسئل عن أبوال الإبل فقال : حدثني سعيد بن جبير عن المحاربين فقال : كان أناس أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : نبايعك على الإسلام ، فبايعوه وهم كذبة ، وليس الإسلام يريدون ، ثم قالوا : إنا نجتوي المدينة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه اللقاح تغدوا عليكم وتروح ، فاشربوا من أبوالها وألبانها ، قال : فبينما هم كذلك إذ جاء الصريخ ، فصرخ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : قتلوا الراعي ، واستاقوا النعم ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنودي في الناس «أن يا خيل الله اركبي» قال : فركبوا لا ينتظر فارس فارسا ، قال : وركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أثرهم ، فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنهم ، فرجع صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أسروا منهم ، فأتوا بهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) الآية ، قال فكان نفيهم أن نفوهم حتى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم ، ونفوهم من أرض المسلمين ، وقتل نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم وصلب ، وقطع وسمر الأعين ، قال : فما مثل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل ولا بعد ، قال : ونهى عن المثلة ، وقال «ولا تمثلوا بشيء» قال : وكان أنس يقول ذلك ، غير أنه قال : أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم ، قال : وبعضهم يقول : هم ناس من بني سليم ، ومنهم من عرينة ، وناس من بجيلة.

وقد اختلف الأئمة في حكم هؤلاء العرنيين : هل هو منسوخ ، أو محكم؟ فقال بعضهم : هو منسوخ بهذه الآية ، وزعموا أن فيها عتابا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما في قوله (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة : ٤٣] ومنهم من قال : هو منسوخ بنهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المثلة ، وهذا القول فيه نظر ، ثم قائله مطالب ببيان تأخر الناسخ الذي ادعاه عن المنسوخ ، وقال بعضهم : كان هذا قبل أن تنزل الحدود ، قاله محمد بن سيرين ، وفيه نظر ، فإن قصته متأخرة ، وفي رواية جرير بن عبد الله لقصتهم ما يدل على تأخرها ، فإنه أسلم بعد نزول المائدة ، ومنهم من قال لم يسمل

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٥٤٨.

٨٩

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعينهم ، وإنما عزم على ذلك حتى نزل القرآن فبين حكم المحاربين ، وهذا القول أيضا فيه نظر ، فإنه قد تقدم في الحديث المتفق عليه أنه سمل ، وفي رواية سمر أعينهم.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا علي بن سهل ، حدثنا الوليد بن مسلم قال : ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعينهم ، وتركه حسمهم حتى ماتوا ، فقال : سمعت محمد بن عجلان يقول : أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معاتبة في ذلك ، وعلمه عقوبة مثلهم من القتل والقطع والنفي ، ولم يسمل بعدهم غيرهم قال : وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو يعني الأوزاعي ، فأنكر أن يكون نزلت معاتبة ، وقال : بل كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم ، ورفع عنهم السمل.

ثم قد احتج بعموم هذه الآية جمهور من العلماء في ذهابهم إلى أن حكم المحاربة في الأمصار وفي السبلان على السواء لقوله (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) وهذا مذهب مالك والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد بن حنبل ، حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتا فيقتله ، ويأخذ ما معه : إن هذه محاربة ، ودمه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول ، ولا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط القتل. وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا تكون المحاربة إلا في الطرقات ، فأما في الأمصار فلا ، لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث ، بخلاف الطريق لبعده ممن يغيثه ويعينه.

وقوله تعالى (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية : من شهر السلاح في فئة الإسلام ، وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار إن شاء قتله وإن شاء صلبه ، وإن شاء قطع يده ورجله وكذا قال سعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك وروى ذلك كله أبو جعفر بن جرير (٢) وحكى مثله عن مالك بن أنس رحمه‌الله ومستند هذا القول أن ظاهر أو للتخيير كما في نظائر ذلك من القرآن كقوله في جزاء الصيد (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) [المائدة : ٩٥] وكقوله في كفارة الفدية (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [البقرة : ١٩٦] وكقوله في كفارة اليمين (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) [المائدة : ٨٩] هذه كلها على التخيير فكذلك فلتكن هذه الآية.

وقال الجمهور : هذه الآية منزلة على أحوال ، كما قال أبو عبد الله الشافعي : أنبأنا

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٥٥٠.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٥٥٢ ـ ٥٥٣.

٩٠

إبراهيم بن أبي يحيى عن صالح مولى التوأمة ، عن ابن عباس في قطاع الطريق ، إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا ، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض ، وقد رواه ابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان ، عن حجاج ، عن عطية عن ابن عباس بنحوه ، وعن أبي مخلد وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والسدي وعطاء الخراساني نحو ذلك ، وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة ، واختلفوا : هل يصلب حيا ويترك حتى يموت بمنعه من الطعام والشراب ، أو بقتله برمح أو نحوه ، أو يقتل أولا ثم يصلب تنكيلا وتشديدا لغيره من المفسدين ، وهل يصلب ثلاثة أيام ثم ينزل أو يترك حتى يسيل صديده؟ في ذلك كله خلاف محرر في موضعه ، وبالله الثقة وعليه التكلان.

ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير (١) في تفسيره إن صح سنده فقال : حدثنا علي بن سهل ، حدثنا الوليد بن مسلم عن يزيد بن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان ، كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية ، فكتب إليه يخبره أنها نزلت في أولئك النفر العرنيين وهم من بجيلة ، قال أنس : فارتدوا عن الإسلام ، وقتلوا الراعي ، واستاقوا الإبل ، وأخافوا السبيل ، وأصابوا الفرج الحرام ، قال أنس : فسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبرائيل عليه‌السلام عن القضاء فيمن حارب فقال : من سرق مالا وأخاف السبيل ، فاقطع يده بسرقته ورجله بإخافته ، ومن قتل فاقتله ، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه.

وأما قوله تعالى : (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) قال بعضهم : هو أن يطلب حتى يقدر عليه فيقام عليه الحد أو يهرب من دار الإسلام ، رواه ابن جرير عن ابن عباس ، وأنس بن مالك وسعيد بن جبير والضحاك والربيع بن أنس والزهري والليث بن سعد ومالك بن أنس وقال آخرون : هو أن ينفى من بلده إلى بلد آخر أو يخرجه السلطان أو نائبه من معاملته بالكلية وقال الشعبي : ينفيه ـ كما قال ابن هبيرة ـ من عمله كله. وقال عطاء الخراساني ينفى من جند إلى جند سنين ، ولا يخرج من دار الإسلام ، وكذا قال سعيد بن جبير وأبو الشعثاء والحسن والزهري والضحاك ومقاتل بن حيان إنه ينفى ولا يخرج من أرض الإسلام ، وقال آخرون : المراد بالنفي هاهنا السجن ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، واختار ابن جرير أن المراد بالنفي هاهنا أن يخرج من بلده إلى بلد آخر فيسجن فيه (٢).

وقوله تعالى : (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي هذا الذي ذكرته من قتلهم ومن صلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ونفيهم ، خزي لهم بين الناس

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٥٤٩.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٥٥٧ ـ ٥٥٨.

٩١

في هذه الحياة الدنيا مع ما ادخر الله لهم من العذاب العظيم يوم القيامة ، وهذا يؤيد قول من قال : إنها نزلت في المشركين فأما أهل الإسلام ففي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : أخذ علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أخذ على النساء ألا نشرك بالله شيئا ، ولا نسرق ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ، ولا يعضه (١) بعضنا بعضا ، فمن وفي منكم فأجره على الله تعالى ، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب فهو كفارة له ، ومن ستره الله فأمره إلى الله : إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه (٢) ، وعن علي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أذنب ذنبا في الدنيا فعوقب به ، فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده ، ومن أذنب ذنبا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه ، فالله أكرم من أن يعود عليه في شيء قد عفا عنه». ورواه الإمام أحمد (٣) والترمذي وابن ماجة ، وقال الترمذي : حسن غريب. وقد سئل الحافظ الدار قطني عن هذا الحديث ، فقال : روي مرفوعا وموقوفا ، قال ورفعه صحيح.

وقال ابن جرير (٤) في قوله : (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا) يعني شر وعار ونكال وذلة وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة. (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي إذا لم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا لهم في الآخرة مع الجزاء الذي جازيتهم به في الدنيا ، والعقوبة التي عاقبتهم بها فيها (عَذابٌ عَظِيمٌ) ، يعني عذاب جهنم ، وقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أما على قول من قال : إنها في أهل الشرك فظاهر ، وأما المحاربون المسلمون فإذا تابوا قبل القدرة عليهم ، فإنه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرجل ، وهل يسقط قطع اليد أم لا؟ فيه قولان للعلماء ، وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع ، وعليه عمل الصحابة ، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، عن مجالد ، عن الشعبي قال : كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة ، وكان قد أفسد في الأرض وحارب ، فكلم رجالا من قريش منهم الحسن بن علي وابن عباس وعبد الله بن جعفر ، فكلموا عليا فيه فلم يؤمنه ، فأتى سعيد بن قيس الهمداني فخلفه في داره ، ثم أتى عليا ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أرأيت من حارب الله ورسوله ، وسعى في الأرض فسادا ، فقرأ حتى بلغ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) قال : فكتب له أمانا ، قال سعيد بن قيس : فإنه حارثة بن بدر ، وكذا رواه ابن جرير من غير وجه عن مجالد عن الشعبي به ، وزاد فقال حارثة بن بدر : [الطويل]

ألا بلغن همدان أما لقيتها

على النأي لا يسلم عدو يعيبها

__________________

(١) أي لا يقذفه بالباطل.

(٢) صحيح مسلم (حدود حديث ٤٣)

(٣) مسند أحمد ١ / ٩٩.

(٤) تفسير الطبري ٤ / ٥٦٠.

٩٢

لعمر أبيها إن همدان تتقي الإله

ويقضي بالكتاب خطيبها (١)

وروى ابن جرير (٢) من طريق سفيان الثوري عن السدي ، ومن طريق أشعث ، كلاهما عن عامر الشعبي قال : جاء رجل من مراد إلى أبي موسى وهو على الكوفة في إمارة عثمان رضي الله عنه بعد ما صلّى المكتوبة ، فقال : يا أبا موسى هذا مقام العائذ بك ، أنا فلان ابن فلان المرادي ، وإني كنت حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض فسادا ، وإني تبت من قبل أن تقدروا عليّ ، فقام أبو موسى فقال : إن هذا فلان ابن فلان ، وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا ، وإنه تاب من قبل أن نقدر عليه فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير ، فإن يك صادقا فسبيل من صدق ، وإن يك كاذبا تدركه ذنوبه ، فأقام الرجل ما شاء الله ، ثم إنه خرج فأدركه الله تعالى بذنوبه فقتله ، ثم قال ابن جرير (٣) : حدثني علي ، حدثنا الوليد بن مسلم قال : قال الليث : وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدني ، وهو الأمير عندنا ، أن عليا الأسدي حارب وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال فطلبه الأئمة والعامة ، فامتنع ولم يقدروا عليه حتى جاء تائبا ، وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر : ٥٣] فوقف عليه فقال : يا عبد الله أعد قراءتها فأعادها عليه ، فغمد سيفه ، ثم جاء تائبا حتى قدم المدينة من السحر ، فاغتسل ثم أتى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلى الصبح ثم قعد إلى أبي هريرة في أغمار أصحابه ، فلما أسفروا عرفه الناس فقاموا إليه فقال : لا سبيل لكم علي جئت تائبا من قبل أن تقدروا علي ، فقال أبو هريرة : صدق ، وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم وهو أمير على المدينة في زمن معاوية فقال : هذا علي جاء تائبا ولا سبيل لكم عليه ولا قتل ، فترك من ذلك كله ، قال وخرج علي تائبا مجاهدا في سبيل الله في البحر ، فلقوا الروم فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم فاقتحم على الروم في سفينتهم فهربوا منه إلى شقها الآخر (٤) ، فمالت به وبهم فغرقوا جميعا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٣٧)

__________________

(١) البيتان في تفسير الطبري ٤ / ٥٦٢ وفيه «أبلغن» مكان «بلغن».

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٥٦٣.

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٥٦٤.

(٤) عبارة الطبري : «فهزموا منه إلى سفينتهم الأخرى».

٩٣

يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بتقواه ، وهي إذا قرنت بطاعته كان المراد بها الانكفاف عن المحارم وترك المنهيات ، وقد قال بعدها (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) قال سفيان الثوري ، عن طلحة عن عطاء ، عن ابن عباس : أي القربة ، وكذا قال مجاهد وأبو وائل والحسن وقتادة وعبد الله بن كثير والسدي وابن زيد وغير واحد. وقال قتادة : أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه ، وقرأ ابن زيد (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) [الإسراء : ٥٧] وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه. وأنشد عليه ابن جرير قول الشاعر : [الطويل]

إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا

وعاد التصافي بيننا والوسائل (١)

والوسيلة هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود ، والوسيلة أيضا علم على أعلى منزلة في الجنة وهي منزلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وداره في الجنة ، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش ، وقد ثبت في صحيح البخاري من طريق محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمدا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته ، إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة»(٢).

حديث آخر ـ في صحيح مسلم من حديث كعب بن علقمة ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا علي ، فإنه من صلّى علي صلاة صلّى الله عليه عشرا ، ثم سلوا لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة» (٣).

حديث آخر ـ قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان عن ليث ، عن كعب ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا صليتم علي فسلوا لي الوسيلة». قيل : يا رسول الله ، وما الوسيلة؟ قال «أعلى درجة في الجنة ، لا ينالها إلا رجل واحد ، وأرجو أن أكون أنا هو». ورواه الترمذي عن بندار ، عن أبي عاصم ، عن سفيان الثوري ، عن ليث بن أبي سليم ، عن كعب قال : حدثني أبو هريرة ، ثم قال : غريب ، وكعب ليس بمعروف ، لا نعرف أحدا روى عنه غير ليث بن أبي سليم.

__________________

(١) البيت بلا نسبة أيضا في تفسير الطبري ٤ / ٥٦٧ وتفسير القرطبي ٦ / ١٥٩.

(٢) صحيح البخاري (أذان باب ٨)

(٣) صحيح مسلم (صلاة حديث ١١)

(٤) مسند أحمد ٢ / ٢٦٥.

٩٤

حديث آخر ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الباقي بن قانع ، حدثنا محمد بن نصر الترمذي ، حدثنا عبد الحميد بن صالح ، حدثنا ابن شهاب عن ليث ، عن المعلى ، عن محمد بن كعب ، عن أبي هريرة رفعه ، قال «صلوا علي صلاتكم وسلوا الله لي الوسيلة» فسألوه ، أو أخبرهم أن الوسيلة درجة في الجنة ليس ينالها إلا رجل واحد ، وأرجو أن أكون أنا.

حديث آخر ـ قال الحافظ أبو القاسم الطبراني : أخبرنا أحمد بن علي الأبار ، حدثنا الوليد بن عبد الملك الحراني ، حدثنا موسى بن أعين عن ابن أبي ذئب ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سلوا الله لي الوسيلة ، فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» ، ثم قال الطبراني لم يروه عن ابن أبي ذئب إلا موسى بن أعين ، كذا قال. وقد رواه ابن مردويه : حدثنا محمد بن علي بن دحيم ، حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، حدثنا موسى بن عبيدة عن محمد بن عمرو بن عطاء ، فذكر بإسناده نحوه.

حديث آخر ـ روى ابن مردويه بإسناده عن عمارة بن غزية ، عن موسى بن وردان أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة ، فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة على خلقه».

حديث آخر ـ روى ابن مردويه أيضا من طريقين عن عبد الحميد بن بحر ، حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث عن علي ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «في الجنة درجة تدعى الوسيلة ، فإذا سألتم الله فسلوا لي الوسيلة» قالوا : يا رسول الله ، من يسكن معك؟ قال : «علي وفاطمة والحسن والحسين» هذا حديث غريب منكر من هذا الوجه ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا الحسن الدشتكي ، حدثنا أبو زهير ، حدثنا سعيد بن طريف عن علي بن الحسين الأزدي مولى سالم بن ثوبان ، قال : سمعت علي بن أبي طالب ينادي على منبر الكوفة : يا أيها الناس إن في الجنة لؤلؤتين : إحداهما بيضاء ، والأخرى صفراء ، أما البيضاء فإنها إلى بطنان العرش ، والمقام المحمود من اللؤلؤة البيضاء سبعون ألف غرفة ، كل بيت منها ثلاثة أميال ، وغرفها وأبوابها وأسرتها وسكانها من عرق واحد ، واسمها الوسيلة ، هي لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهل بيته ، والصفراء فيها مثل ذلك هي لإبراهيم عليه‌السلام وأهل بيته ، وهذا أثر غريب أيضا.

وقوله (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لما أمرهم بترك المحارم وفعل الطاعات ، أمرهم بقتال الأعداء من الكفار والمشركين الخارجين عن الطريق المستقيم ، والتاركين للدين القويم ، ورغبهم في ذلك بالذي أعده للمجاهدين في سبيله يوم القيامة من الفلاح ، والسعادة

٩٥

العظيمة الخالدة المستمرة التي لا تبيد ولا تحول ولا تزول في الغرف العالية الرفيعة ، الآمنة الحسنة مناظرها ، الطيبة مساكنها ، التي من سكنها ينعم لا يبأس ، ويحيى لا يموت ، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه.

ثم أخبر تعالى بما أعد لأعدائه الكفار من العذاب والنكال يوم القيامة فقال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي لو أن أحدهم جاء يوم القيامة بملء الأرض ذهبا وبمثله ليفتدي بذلك من عذاب الله الذي قد أحاط به ، وتيقن وصوله إليه ما تقبل ذلك منه ، بل لا مندوحة عنه ولا محيص له ولا مناص ، ولهذا قال (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي موجع (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) كما قال تعالى : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) [الحج : ٢٢] الآية ، فلا يزالون يريدون الخروج مما هم فيه من شدته وأليم مسه ولا سبيل لهم إلى ذلك ، وكلما رفعهم اللهب فصاروا في أعلى جهنم ضربتهم الزبانية بالمقامع الحديد فيردوهم إلى أسفلها (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي دائم مستمر لا خروج لهم منها ، ولا محيد لهم عنها ، وقد قال حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يؤتى بالرجل من أهل النار فيقال له : يا ابن آدم ، كيف وجدت مضجعك؟ فيقول : شر مضجع ، فيقال : هل تفتدي بقراب الأرض ذهبا؟ قال : فيقول : نعم يا رب ، فيقول الله : كذبت ، قد سألتك أقل من ذلك فلم تفعل ، فيؤمر به إلى النار» ، رواه مسلم والنسائي من طريق حماد بن سلمة بنحوه ، وكذا رواه البخاري ومسلم من طريق معاذ بن هشام الدستوائي عن أبيه عن قتادة عن أنس به ، وكذا أخرجاه من طريق أبي عمران الجوني واسمه عبد الملك بن حبيب عن أنس بن مالك به ، ورواه مطر الوراق عن أنس بن مالك ، ورواه ابن مردويه من طريقه عنه.

ثم روى ابن مردويه من طريق المسعودي عن يزيد بن صهيب الفقير عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة» قال : فقلت لجابر بن عبد الله : يقول الله (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) قال : اتل أول الآية (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ) الآية ، ألا إنهم الذين كفروا. وقد روى الإمام أحمد ومسلم هذا الحديث : من وجه آخر عن يزيد الفقير ، عن جابر ، وهذا أبسط سياقا.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن أبي شيبة الواسطي ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا مبارك بن فضالة ، حدثني يزيد الفقير قال : جلست إلى جابر بن عبد الله وهو يحدث ، فحدث أن ناسا يخرجون من النار ، قال : وأنا يومئذ أنكر ذلك ، فغضبت وقلت : ما أعجب من الناس ، ولكن أعجب منكم يا أصحاب محمد تزعمون أن الله يخرج ناسا من

٩٦

النار ، والله يقول (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) الآية ، فانتهرني أصحابه ، وكان أحلمهم ، فقال : دعوا الرجل إنما ذلك للكفار ، فقرأ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ) حتى بلغ (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) أما تقرأ القرآن؟ قلت : بلى قد جمعته ، قال ، أليس الله يقول (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩] فهو ذلك المقام ، فإن الله تعالى يحتبس أقواما بخطاياهم في النار ما شاء ، لا يكلمهم فإذا أراد أن يخرجهم أخرجهم ، قال : فلم أعد بعد ذلك إلى أن أكذب به.

ثم قال ابن مردويه : حدثنا دعلج بن أحمد ، حدثنا عمرو بن حفص السدوسي ، حدثنا عاصم بن عليّ ، أخبرنا العباس بن الفضل ، حدثنا سعيد بن المهلب ، حدثني طلق بن حبيب قال : كنت من أشد الناس تكذيبا بالشفاعة حتى لقيت جابر بن عبد الله ، فقرأت عليه كل آية أقدر عليها ، يذكر الله فيها خلود أهل النار ، فقال : يا طلق ، أتراك أقرأ لكتاب الله وأعلم بسنة رسول الله مني؟ إن الذين قرأت هم أهلها هم المشركون ، ولكن هؤلاء قوم أصابوا ذنوبا فعذبوا ، ثم أخرجوا منها ، ثم أهوى بيديه إلى أذنيه فقال : صمّتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «يخرجون من النار بعد ما دخلوا» ونحن نقرأ كما قرأت.

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤٠)

يقول تعالى حاكما وآمرا بقطع يد السارق والسارقة ، وروى الثوري عن جابر بن يزيد الجعفي ، عن عامر بن شراحيل الشعبي أن ابن مسعود كان يقرؤها «والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما» وهذه قراءة شاذة ، وإن كان الحكم عند جميع العلماء موافقا لها لا بها ، بل هو مستفاد من دليل آخر ، وقد كان القطع معمولا به في الجاهلية ، فقرر في الإسلام ، وزيدت شروط أخر كما سنذكره إن شاء الله تعالى ، كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه وزيادات هي من تمام المصالح ويقال : إن أول من قطع الأيدي في الجاهلية قريش ، قطعوا رجلا يقال له : دويك مولى لبني مليح بن عمرو من خزاعة ، كان قد سرق كنز الكعبة ، ويقال : سرقه قوم فوضعوه عنده ، وقد ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئا قطعت يده به ، سواء كان قليلا أو كثيرا لعموم هذه الآية (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) فلم يعتبروا نصابا ولا حرزا ، بل أخذوا بمجرد السرقة.

٩٧

وقد روى ابن جرير (١) وابن أبي حاتم من طريق عبد المؤمن عن نجدة الحنفي ، قال : سألت ابن عباس عن قوله (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) أخاص أم عام؟ فقال : بل عام ، وهذا يحتمل أن يكون موافقة من ابن عباس لما ذهب إليه هؤلاء ، ويحتمل غير ذلك ، فالله أعلم. وتمسكوا بما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده» (٢) وأما الجمهور ، فاعتبروا النصاب في السرقة وإن كان قد وقع بينهم الخلاف في قدره ، فذهب كل من الأئمة الأربعة إلى قول على حدة ، فعند الإمام مالك بن أنس رحمه‌الله النصاب ثلاثة دراهم مضروبة خالصة ، فمتى سرقها أو ما يبلغ ثمنها فما فوقه ، وجب القطع ، واحتج في ذلك بما رواه عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم» ، أخرجاه في الصحيحين (٣) ، قال مالك رحمه‌الله : وقطع عثمان رضي الله عنه في أترجة قومت بثلاثة دراهم ، وهو أحب ما سمعت في ذلك ، وهذا الأثر عن عثمان رضي الله عنه قد رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه ، عن عمرة بنت عبد الرحمن أن سارقا سرق في زمن عثمان أترجة ، فأمر بها عثمان أن تقوم فقومت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهما ، فقطع عثمان يده. قال أصحاب مالك : ومثل هذا الصنيع يشتهر ، ولم ينكر ، فمن مثله يحكي الإجماع السكوتي ، وفيه دلالة على القطع في الثمار خلافا للحنفية ، وعلى اعتبار ثلاثة دراهم خلافا لهم في أنه لا بد من عشرة دراهم ، وللشافعية في اعتبار ربع دينار ، والله أعلم.

وذهب الشافعي رحمه‌الله إلى أن الاعتبار في قطع يد السارق بربع دينار أو ما يساويه من الأثمان أو العروض فصاعدا ، والحجة في ذلك ما أخرجه الشيخان البخاري ومسلم من طريق الزهري عن عمرة ، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا» (٤) ولمسلم من طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن عمرة ، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا» قال أصحابنا : فهذا الحديث فاصل في المسألة ، ونص في اعتبار ربع الدينار لا ما ساواه. قالوا : وحديث ثمن المجن ، وأنه كان ثلاثة دراهم لا ينافي هذا لأنه إذ ذاك كان الدينار باثني عشر درهما ، فهي ثمن ربع دينار ، فأمكن الجمع بهذا الطريق ، ويروى هذا المذهب عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، وبه يقول عمر بن عبد العزيز

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٥٧٠.

(٢) صحيح مسلم (حدود حديث ٧) وسنن ابن ماجة (حدود باب ٢٢) وسنن النسائي (سارق باب ١)

(٣) صحيح مسلم (حدود حديث ٦) وسنن أبي داود (حدود باب ١٢) وسنن الترمذي (حدود باب ١٦) وسنن النسائي (سارق باب ٨) وموطأ مالك (حدود حديث ٢١)

(٤) صحيح البخاري (حدود باب ١٣) وصحيح مسلم (حدود حديث ٢) وسنن النسائي (سارق باب ٨)

٩٨

والليث بن سعد والأوزاعي والشافعي وأصحابه ، وإسحاق بن راهويه في رواية عنه ، وأبو ثور وداود بن علي الظاهري ، رحمهم‌الله.

وذهب الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه في رواية عنه ، إلى أن كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مرد شرعي ، فمن سرق واحدا منهما أو ما يساويه ، قطع عملا بحديث ابن عمر وبحديث عائشة رضي الله عنها ، ووقع في لفظ عند الإمام أحمد عن عائشة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «اقطعوا في ربع دينار ، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك» (١) وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم ، والدينار اثني عشر درهما. وفي لفظ للنسائي «لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن». قيل لعائشة : ما ثمن المجن؟ قالت : ربع دينار ، فهذه كلها نصوص دالة على عدم اشتراط عشرة دراهم ، والله أعلم.

وأما الإمام أبو حنيفة وأصحابه أبو يوسف ومحمد وزفر ، وكذا سفيان الثوري ، رحمهم‌الله ، فإنهم ذهبوا إلى أن النصاب عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة ، واحتجوا بأن ثمن المجن الذي قطع فيه السارق على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ثمنه عشرة دراهم. وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا ابن نمير وعبد الأعلى ، حدثنا محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : كان ثمن المجن على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشرة دراهم ، ثم قال : حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تقطع يد السارق في دون ثمن المجن» وكان ثمن المجن عشرة دراهم ، قالوا : فهذا ابن عباس وعبد الله بن عمرو قد خالفا ابن عمر في ثمن المجن ، فالاحتياط الأخذ بالأكثر ، لأن الحدود تدرأ بالشبهات.

وذهب بعض السلف إلى أنه تقطع يد السارق في عشرة دراهم أو دينار أو ما يبلغ قيمته واحدا منهما ، يحكى هذا عن علي وابن مسعود وإبراهيم النخعي وأبي جعفر الباقر رحمهم‌الله تعالى. وقال بعض السلف : لا تقطع الخمس إلا في خمس ، أي في خمسة دنانير أو خمسين درهما ، وينقل هذا عن سعيد بن جبير رحمه‌الله. وقد أجاب الجمهور عما تمسك به الظاهرية من حديث أبي هريرة «يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده» بأجوبة [أحدها] أنه منسوخ بحديث عائشة ، وفي هذا نظر ، لأنه لا بد من بيان التاريخ. [والثاني] أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن ، قاله الأعمش فيما حكاه البخاري وغيره عنه. [والثالث] أن هذه وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده ، ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في الجاهلية حيث كانوا يقطعون في القليل والكثير ، فلعن السارق الذي يبذل يده الثمينة في الأشياء المهينة ، وقد ذكروا أن أبا العلاء المعري لما قدم

__________________

(١) مسند أحمد ٦ / ٨٠.

٩٩

بغداد ، اشتهر عنه أنه أورد إشكالا على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار ، ونظم في ذلك شعرا دل على جهله وقلة عقله ، فقال : [البسيط]

يد بخمس مئين عسجد وديت

ما بالها قطعت في ربع دينار

تناقض ما لنا إلا السكوت له

وأن نعوذ بمولانا من النار

ولما قال ذلك واشتهر عنه تطلبه الفقهاء فهرب منهم ، وقد أجابه الناس في ذلك ، فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه‌الله أن قال : لما كانت أمينة ، كانت ثمينة ، ولما خانت هانت. ومنهم من قال : هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة ، فإن في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار لئلا يجنى عليها. وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار ، لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال ، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب ولهذا قال : (جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي مجازاة على صنيعهما السيئ في أخذهما أموال الناس بأيديهم ، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك نكالا من الله ، أي تنكيلا من الله بهما على ارتكاب ذلك ، (وَاللهُ عَزِيزٌ) أي في انتقامه ، (حَكِيمٌ) أي في أمره ونهيه وشرعه وقدره.

ثم قال تعالى : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله فإن الله يتوب عليه فما بينه وبينه ، فأما أموال الناس فلا بد من ردها إليهم أو بدلها عند الجمهور ، وقال أبو حنيفة : متى قطع وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها ، وقد روى الحافظ أبو الحسن الدار قطني من حديث ... عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتي بسارق قد سرق شملة ، فقال : ما إخاله سرق ، فقال السارق : بلى يا رسول الله. قال «اذهبوا به فاقطعوه ، ثم احسموه ، ثم ائتوني به» فقطع فأتي به فقال «تب إلى الله» فقال : تبت إلى الله ، فقال «تاب الله عليك». وقد روي من وجه آخر مرسلا ، ورجح إرساله علي بن المديني وابن خزيمة رحمهما‌الله.

وروى ابن ماجة (١) من حديث ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصاري ، عن أبيه أن عمر بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس ، جاء إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إني سرقت جملا لبني فلان ، فطهرني فأرسل إليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إنا افتقدنا جملا لنا ، فأمر به فقطعت يده وهو يقول : الحمد لله الذي طهرني منك ، أردت أن تدخلي جسدي النار.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لهيعة عن يحيى بن

__________________

(١) سنن ابن ماجة (حدود باب ٢٤)

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٥٧١.

١٠٠