تفسير القرآن العظيم - ج ٣

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٣

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٩٥

الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٦)

يقول تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة أنه قد أرسل رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالهدى ودين الحق إلى جميع أهل الأرض : عربهم وعجمهم ، أميهم وكتابيهم ، وأنه بعثه بالبينات والفرق بين الحق والباطل ، فقال تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) أي يبين ما بدلوه وحرفوه وأولوه ، وافتروا على الله فيه ، ويسكت عن كثير مما غيروه ولا فائدة في بيانه. وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث الحسين بن واقد عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنه ، قال : من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب قال تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) قال : فكان الرجم مما أخفوه (١) ، ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه. ثم أخبر تعالى عن القرآن العظيم الذي أنزله على نبيه الكريم فقال (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) أي طرق النجاة والسلامة ومناهج الاستقامة ، (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي ينجيهم من المهالك ، ويوضح لهم أبين المسالك فيصرف عنهم المحذور ، ويحصل لهم أحب الأمور ، وينفي عنهم الضلالة ، ويرشدهم إلى أقوم حالة.

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (١٨)

يقول تعالى مخبرا وحاكيا بكفر النصارى في ادعائهم في المسيح ابن مريم ، وهو عبد من عباد الله ، وخلق من خلقه أنه هو الله ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ، ثم قال مخبرا عن قدرته على الأشياء وكونها تحت قهره وسلطانه (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أي لو أراد ذلك ، فمن ذا الذي كان يمنعه منه أو من ذا

__________________

(١) الدر المنثور ٢ / ٤٧٥.

٦١

الذي يقدر على صرفه عن ذلك ، ثم قال (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي جميع الموجودات ملكه وخلقه ، وهو القادر على ما يشاء ، لا يسأل عما يفعل بقدرته وسلطانه وعدله وعظمته ، وهذا رد على النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.

ثم قال تعالى رادا على اليهود والنصارى في كذبهم وافترائهم (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) أي نحن منتسبون إلى أنبيائه وهم بنوه ، وله بهم عناية ، وهو يحبنا ، ونقلوا عن كتابهم أن الله تعالى قال لعبده إسرائيل : أنت ابني بكري ، فحملوا هذا على غير تأويله وحرفوه ، وقد رد عليهم غير واحد ممن أسلم من عقلائهم وقالوا : هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام ، كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم ، يعني ربي وربكم ، ومعلوم أنهم لم يدعوا لأنفسهم من النبوة ما ادعوها في عيسى عليه‌السلام وإنما أرادوا من ذلك معزتهم لديه وحظوتهم عنده ، ولهذا قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، قال الله تعالى رادا عليهم (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) أي لو كنتم كما تدعون أبناءه وأحباءه ، فلم أعد لكم نار جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم؟

وقد قال بعض شيوخ الصوفية لبعض الفقهاء : أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه ، فلم يرد عليه ، فتلا عليه الصوفي هذه الآية (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) وهذا الذي قاله حسن ، وله شاهد في المسند للإمام أحمد (١) حيث قال : حدثنا ابن أبي عدي عن حميد ، عن أنس ، قال : مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفر من أصحابه ، وصبي في الطريق ، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ ، فأقبلت تسعى وتقول : ابني ابني ، وسعت فأخذته فقال القوم :

يا رسول الله ، ما كانت هذه لتلقي ولدها في النار. قال : فحفظهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «لا والله ما يلقي حبيبه في النار» تفرد به أحمد.

(بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) أي لكم أسوة أمثالكم من بني آدم ، وهو سبحانه الحاكم في جميع عباده (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أي هو فعال لما يريد ، لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب ، (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي الجميع ملكه وتحت قهره وسلطانه ، (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي المرجع والمآب إليه ، فيحكم في عباده بما يشاء ، وهو العادل الذي لا يجور.

وروى محمد بن إسحاق (٢) عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : وأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعمان بن آصا (٣) وبحري بن عمرو وشاس بن عدي فكلموه ،

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ١٠٤.

(٢) أورده الطبري في تفسيره ٤ / ٥٠٥.

(٣) في الطبري وسيرة ابن هشام ١ / ٥١٤ : «أضاء».

٦٢

وكلمهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعاهم إلى الله ، وحذرهم نقمته ، فقالوا : ما تخوفنا يا محمد ، نحن والله أبناء الله وأحباؤه ، كقول النصارى ، فأنزل الله فيهم (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) إلى آخر الآية ، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، ورويا أيضا من طريق أسباط عن السدي في قول الله (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) أما قولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ) [آل عمران : ٢٤] ، فإنهم قالوا : إن الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدك بكري من الولد ، فيدخلهم النار (١) ، فيكونون فيها أربعين ليلة حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم ، ثم ينادي مناد : أن أخرجوا كل مختون من ولد إسرائيل ، فأخرجوهم فذلك قولهم لن (تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ).

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٩)

يقول تعالى مخاطبا أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأنه قد أرسل إليهم رسوله محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم النبيين ، الذي لا نبي بعده ولا رسول ، بل هو المعقب لجميعهم ، ولهذا قال : على فترة من الرسل ، أي بعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى ابن مريم ، وقد اختلفوا في مقدار هذه الفترة كم هي؟ فقال أبو عثمان النهدي وقتادة في رواية عنه : كانت ستمائة سنة. ورواه البخاري عن سلمان الفارسي ، وعن قتادة : خمسمائة وستون سنة. وقال معمر ، عن بعض أصحابه : خمسمائة وأربعون سنة. وقال الضحاك : أربعمائة وبضع وثلاثون سنة. وذكر ابن عساكر في ترجمة عيسى عليه‌السلام عن الشعبي أنه قال : ومن رفع المسيح إلى هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة ، والمشهور هو القول الأول ، وهو أنها ستمائة سنة. ومنهم من يقول : ستمائة وعشرون سنة ، ولا منافاة بينهما ، فإن القائل الأول أراد ستمائة سنة شمسية ، والآخر أراد قمرية ، وبين كل مائة سنة شمسية وبين القمرية نحو من ثلاث سنين ، ولهذا قال تعالى في قصة أهل الكهف (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) [الكهف : ٢٥] أي قمرية لتكميل ثلاثمائة الشمسية التي كانت معلومة لأهل الكتاب ، وكانت الفترة بين عيسى ابن مريم آخر أنبياء بني إسرائيل وبين محمد خاتم النبيين من بني آدم على الإطلاق ، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أولى الناس بابن مريم لأنا ليس بيني وبينه نبي» (٢) وهذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبي ، يقال له خالد (٣) بن سنان ، كما حكاه القضاعي وغيره ، والمقصود أن الله بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على فترة

__________________

(١) عبارة الطبري : «أن ولدا من ولدك أدخلهم النار.

(٢) صحيح البخاري (أنبياء باب ٤٨)

(٣) هو خالد بن سنان العبسي. كان في أرض بني عبس يدعو الناس إلى دين عيسى. قال ابن الأثير : من معجزاته أن نارا ظهرت بأرض العرب فافتتنوا بها وكادوا يدينون بالمجوسية ، فأخذ خالد عصاه ودخلها ففرقها وهو يقول : «بدّا بدّا ، كل هدي مؤدّى ، لأدخلنها وهي تلظّى ، ولأخرجن منها وثيابي تندّى» ـ

٦٣

من الرسل ، وطموس من السبل ، وتغير الأديان ، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان ، فكانت النعمة به أتم النعم ، والحاجة إليه أمر عمم ، فإن الفساد كان قد عم جميع البلاد ، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد إلا قليلا من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين ، من بعض أحبار اليهود وعباد النصارى والصابئين. كما قال الإمام أحمد (١) :

حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا هشام ، حدثنا قتادة عن مطرف ، عن عياض بن حماد المجاشعي رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب ذات يوم ، فقال في خطبته «وإن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا ، كل مال نحلته عبادي حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإن الشياطين أتتهم فأضلتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ، ثم إن الله عزوجل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم : عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من بني إسرائيل ، وقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء ، تقرأه نائما ويقظان ، ثم إن الله أمرني أن أحرق قريشا فقلت : يا رب إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة (٢) ، فقال : استخرجهم كما استخرجوك ، واغزهم نغزك ، وأنفق عليهم فسننفق عليك ، وابعث جيشا نبعث خمسا أمثاله ، وقاتل بمن أطاعك من عصاك ، وأهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط موفق متصدق ، ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم ، ورجل عفيف فقير ذو عيال متصدق ، وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا دين له ، والذين هم فيكم تبع أو تبعا ـ شك يحيى ـ لا يبتغون أهلا ولا مالا ، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه ، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك ، وذكر البخيل أو الكذاب ، والشنظير الفاحش.

ثم رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي من غير وجه عن قتادة ، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير ، وفي رواية شعبة عن قتادة التصريح بسماع قتادة هذا الحديث من مطرف ، وقد ذكر الإمام أحمد (٣) في مسنده أن قتادة لم يسمعه من مطرف وإنما سمعه من أربعة عنه ، ثم رواه هو عن روح ، عن عوف ، عن حكيم الأثرم ، عن الحسن قال : حدثني مطرف عن عياض بن حماد فذكره. ورواه النسائي من حديث غندر عن عوف الأعرابي به. والمقصود من إيراد هذا الحديث قوله «وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عجمهم وعربهم إلا بقايا من بني إسرائيل» وفي لفظ مسلم : من أهل الكتاب فكان الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم حتى بعث الله

__________________

ـ وطفئت وهو في وسطها. قال الزركلي : هي النفط لا ريب. وهناك روايات بأن النار كانت تخرج من بئر. فتأمّل. (الأعلام ٢ / ٢٩٦)

(١) مسند أحمد ٤ / ١٦٢.

(٢) أي يشدخوا رأسي فيجعلوه مكسورا كالخبزة.

(٣) مسند أحمد ٤ / ٢٦٦.

٦٤

محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهدى الخلائق وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور ، وتركهم على المحجة البيضاء والشريعة الغراء ، ولهذا قال تعالى : (أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) أي لئلا تحتجوا وتقولوا يا أيها الذين بدلوا دينهم وغيروه ما جاءنا من رسول يبشر بالخير وينذر من الشر ، فقد جاءكم بشير ونذير يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قال ابن جرير : معناه إني قادر على عقاب من عصاني ، وثواب من أطاعني (١).

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (٢٦)

يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه‌السلام فيما ذكر به قومه من نعم الله عليهم وآلائه لديهم في جمعه لهم خير الدنيا والآخرة : لو استقاموا على طريقتهم المستقيمة ، فقال تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) أي كلما هلك نبي قام فيكم نبي من لدن أبيكم إبراهيم إلى من بعده ، وكذلك كانوا لا يزال فيهم الأنبياء يدعون إلى الله ويحذرون نقمته حتى ختموا بعيسى ابن مريم عليه‌السلام ، ثم أوحى الله إلى خاتم الأنبياء والرسل على الإطلاق محمد بن عبد الله المنسوب إلى إسماعيل بن إبراهيم عليه‌السلام ، وهو أشرف من كل من تقدمه منهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) قال عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن منصور ، عن الحكم أو غيره ، عن ابن عباس في قوله : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) ، قال : الخادم والمرأة والبيت (٢). وروى الحاكم في مستدركه من حديث الثوري أيضا عن الأعمش ، عن مجاهد عن ابن عباس قال : المرأة والخادم (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) قال : الذين هم بين ظهرانيهم يومئذ. ثم قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه. وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس قال : كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له الزوجة والخادم والدار ، سمي ملكا. وقال ابن

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٥٠٨.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٥١٠ وفيه «الزوجة» مكان «المرأة».

٦٥

جرير (١) : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب ، أنبأنا أبو هانئ أنه سمع أبا عبد الرحمن الحنبلي يقول : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص ، وسأله رجل فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد الله : ألك امرأة تأوي إليها؟ قال : نعم. قال : ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم. قال : فأنت من الأغنياء. فقال : إن لي خادما. قال : فأنت من الملوك. وقال الحسن البصري : هل الملك إلا مركب وخادم ودار ، رواه ابن جرير (٢) ، ثم روي عن الحكم ومجاهد ومنصور وسفيان الثوري نحوا من هذا. وحكاه ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران. وقال ابن شوذب : كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له منزل وخادم واستؤذن عليه ، فهو ملك وقال قتادة : كانوا أول من اتخذ الخدم.

وقال السدي في قوله (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) قال : يملك الرجل منكم نفسه وماله وأهله ، رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن ابن لهيعة ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة ، كتب ملكا ، وهذا حديث غريب من هذا الوجه. وقال ابن جرير (٣) : حدثنا الزبير بن بكار ، حدثنا أبو ضمرة أنس بن عياض ، سمعت زيد بن أسلم يقول : وجعلكم ملوكا فلا أعلم إلا أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كان له بيت وخادم فهو ملك ، وهذا مرسل غريب ، وقال مالك : بيت وخادم وزوجة. وقد ورد في الحديث «من أصبح منكم معافى في جسده ، آمنا في سربه ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها».

وقوله (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) يعني عالمي زمانكم ، فإنهم كانوا أشرف الناس في زمانهم من اليونان والقبط وسائر أصناف بني آدم ، كما قال (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [الجاثية : ١٦] وقال تعالى إخبارا عن موسى لما قالوا (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [الأعراف : ١٤٠] والمقصود أنهم كانوا أفضل زمانهم ، وإلا فهذه الأمة أشرف منهم ، وأفضل عند الله ، وأكمل شريعة ، وأقوم منهاجا ، وأكرم نبيا ، وأعظم ملكا ، وأغزر أرزاقا ، وأكثر أموالا وأولادا ، وأوسع مملكة ، وأدوم عزا. قال الله تعالى (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة : ١٤٣] ، وقد ذكرنا الأحاديث المتواترة في فضل هذه الأمة وشرفها وكرمها عند الله عند قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: ١١٠] من سورة آل عمران.

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٥١٠.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

٦٦

وروى ابن جرير (١) عن ابن عباس وأبي مالك وسعيد بن جبير أنهم قالوا في قوله (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) : يعني أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكأنهم أرادوا أن هذا الخطاب في قوله (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً) مع هذه الأمة ، والجمهور على أنه خطاب من موسى لقومه ، وهو محمول على عالمي زمانهم كما قدمنا ، وقيل : المراد وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين : يعني بذلك ما كان تعالى نزله عليهم من المن والسلوى ، ويظللهم به من الغمام وغير ذلك مما كان تعالى يخصهم به من خوارق العادات ، فالله أعلم.

ثم قال تعالى مخبرا عن تحريض موسى عليه‌السلام لبني إسرائيل على الجهاد والدخول إلى بيت المقدس الذي كان بأيديهم في زمان أبيهم يعقوب ، لما ارتحل هو وبنوه وأهله إلى بلاد مصر أيام يوسف عليه‌السلام ، ثم لم يزالوا بها حتى خرجوا مع موسى ، فوجدوا فيها قوما من العمالقة الجبارين قد استحوذوا عليها وتملكوها ، فأمرهم رسول الله موسى عليه‌السلام بالدخول إليها وبقتال أعدائهم وبشرهم بالنصرة والظفر عليهم ، فنكلوا وعصوا وخالفوا أمره ، فعوقبوا بالذهاب في التيه والتمادي في سيرهم حائرين لا يدرون كيف يتوجهون فيه إلى مقصد ، مدة أربعين سنة عقوبة لهم على تفريطهم في أمر الله تعالى. فقال تعالى مخبرا عن موسى أنه قال : يا قومي ادخلوا الأرض المقدسة أي المطهرة. وقال سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : ادخلوا الأرض المقدسة ، قال : هي الطور وما حوله ، وكذا قال مجاهد وغير واحد. وروى سفيان الثوري عن أبي سعيد البقال ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : هي أريحاء ، وكذا ذكر عن غير واحد من المفسرين ، وفي هذا نظر ، لأن أريحاء ليست هي المقصودة بالفتح ، ولا كانت في طريقهم إلى بيت المقدس ، وقد قدموا من بلاد مصر حين أهلك الله عدوهم فرعون ، إلا أن يكون المراد بأريحاء أرض بيت المقدس ، كما قاله السدي فيما رواه ابن جرير (٢) عنه ، لا أن المراد بها هذه البلدة المعروفة في طرف الطور شرقي بيت المقدس.

وقوله تعالى : (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أي التي وعدكموها الله على لسان أبيكم إسرائيل أنه وراثة من آمن منكم ، (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) أي ولا تنكلوا عن الجهاد (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) أي اعتذروا بأن في هذه البلدة التي أمرتنا بدخولها وقتال أهلها قوما جبارين أي ذوي خلق هائلة وقوى شديدة ، وإنا لا نقدر على مقاومتهم ولا مصاولتهم ، ولا يمكننا الدخول إليها ما داموا فيها ، فإن يخرجوا منها دخلناها ، وإلا فلا طاقة لنا بهم. وقد قال ابن جرير (٣) : حدثني

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٥١١.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٥١٣ وبذلك رواه عن ابن زيد وابن عباس.

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٥١٥.

٦٧

عبد الكريم بن الهيثم ، حدثنا إبراهيم بن بشار ، حدثنا سفيان قال : قال أبو سعيد : قال عكرمة ، عن ابن عباس قال : أمر موسى أن يدخل مدينة الجبارين ، قال : فسار موسى بمن معه حتى نزل قريبا من المدينة ، وهي أريحاء ، فبعث إليهم اثني عشر عينا من كل سبط منهم عين ، ليأتوه بخبر القوم ، قال : فدخلوا المدينة فرأوا أمرا عظيما من هيئتهم وجسمهم وعظمهم ، فدخلوا حائطا (١) لبعضهم ، فجاء صاحب الحائط ليجتني الثمار من حائطه ، فجعل يجتني الثمار وينظر إلى آثارهم ، فتبعهم فكلما أصاب واحدا منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة ، حتى التقط الاثني عشر كلهم ، فجعلهم في كمه مع الفاكهة ، وذهب بهم إلى ملكهم فنثرهم بين يديه ، فقال لهم الملك : قد رأيتم شأننا وأمرنا ، فاذهبوا فأخبروا صاحبكم ، قال : فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عاينوا من أمرهم.

وفي هذا الإسناد نظر وقال علي بن أبي طلحة : عن ابن عباس لما نزل موسى وقومه ، بعث منهم اثني عشر رجلا ، وهم النقباء الذين ذكرهم الله ، فبعثهم ليأتوه بخبرهم ، فساروا فلقيهم رجل من الجبارين ، فجعلهم في كسائه ، فحملهم حتى أتى بهم المدينة ، ونادى في قومه فاجتمعوا إليه ، فقالوا من أنتم؟ قالوا : نحن قوم موسى ، بعثنا نأتيه بخبركم ، فأعطوهم حبة من عنب تكفي الرجل ، فقالوا لهم اذهبوا إلى موسى وقومه ، فقولوا لهم هذا قدر فاكهتهم ، فرجعوا إلى موسى فأخبروه ، بما رأوا ، فلما أمرهم موسى عليه‌السلام ، بالدخول عليهم وقتالهم ، قالوا : يا موسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا يحيى بن أيوب ، عن يزيد بن الهادي ، حدثني يحيى بن عبد الرحمن ، قال : رأيت أنس بن مالك ، أخذ عصاه فذرع فيها بشيء لا أدري كم ذرع ، ثم قاس بها في الأرض خمسين أو خمسا وخمسين ، ثم قال : هكذا طول العماليق.

وقد ذكر كثير من المفسرين هاهنا أخبارا من وضع بني إسرائيل في عظمة خلق هؤلاء الجبارين ، وأن منهم عوج بن عنق ، ابن بنت آدم عليه‌السلام ، وأنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعا وثلث ذراع ، تحرير الحساب ، وهذا شيء يستحى من ذكره ، ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيحين ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا ، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن» (٢) ثم ذكروا أن هذا الرجل كان كافرا ، وأنه كان ولد زنية ، وأنه امتنع من ركوب سفينة نوح ، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته ، وهذا كذب وافتراء ، فإن الله تعالى ذكر أن نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين ، فقال (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦] وقال تعالى : (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ) [الشعراء : ١١٩] وقال تعالى : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) [هود : ٤٣]

__________________

(١) الحائط : البستان المسوّر.

(٢) صحيح البخاري (أنبياء باب ١)

٦٨

وإذا كان ابن نوح الكافر ، غرق فكيف يبقى عوج بن عنق وهو كافر وولد زنية؟ هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع. ثم في وجود رجل يقال له عوج بن عنق نظر ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) أي فلما نكل بنو إسرائيل عن طاعة الله ومتابعة رسول الله موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حرضهم رجلان لله عليهما نعمة عظيمة ، وهما ممن يخاف أمر الله ويخشى عقابه ، وقرأ بعضهم (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) (١) أي ممن لهم مهابة وموضع من الناس ، ويقال إنهما يوشع بن نون ، وكالب بن يوقنا. قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة ، وعطية والسدي ، والربيع بن أنس ، وغير واحد من السلف والخلف رحمهم‌الله فقالا (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن توكلتم على الله واتبعتم أمره ، ووافقتم رسوله ، نصركم الله على أعدائكم وأيدكم وظفركم بهم ، ودخلتم البلد التي كتبها الله لكم ، فلم ينفع ذاك فيهم شيئا (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) وهذا نكول منهم عن الجهاد ، ومخالفة لرسولهم ، وتخلف عن مقاتلة الأعداء ، ويقال : إنهم لما نكلوا عن الجهاد ، وعزموا على الانصراف والرجوع إلى مصر ، سجد موسى وهارون عليهما‌السلام ، قدام ملأ من بني إسرائيل ، إعظاما لما هموا به ، وشق يوشع بن نون وكالب بن يوقنا ثيابهما ، ولا ما قومهما على ذلك ، فيقال إنهم رجموهما ، وجرى أمر عظيم ، وخطر جليل ، وما أحسن ما أجاب به الصحابة رضي الله عنهم يوم بدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين استشارهم في قتال النفير ، الذين جاءوا لمنع العير ، الذي كان مع أبي سفيان ، فلما فات اقتناص العير ، واقترب منهم النفير ، وهم في جمع ما بين التسعمائة إلى الألف في العدة ، والبيض واليلب (٢) ، فتكلم أبو بكر رضي الله عنه فأحسن ، ثم تكلم من تكلم من الصحابة من المهاجرين ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «أشيروا علي أيها المسلمون» وما يقول ذلك ، إلا ليستعلم ما عند الأنصار ، لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذ ، فقال سعد بن معاذ : كأنك تعرض بنا يا رسول الله ، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر ، فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء لعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله ، فسّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقول سعد ونشطه ذلك.

وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو حاتم الرازي ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، حدثنا حميد عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سار إلى بدر استشار المسلمين ، فأشار عليه عمر ، ثم استشارهم فقالت الأنصار : يا معشر الأنصار إياكم يريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : إذا لا نقول له كما قالت بنو إسرائيل لموسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا

__________________

(١) أي بضم أوله.

(٢) البيض : الخوذ. واليلب : الدروع.

٦٩

إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) والذي بعثك بالحق لو ضربت أكبادها إلى برك الغماد لاتبعناك ، ورواه الإمام أحمد عن عبيدة بن حميد الطويل ، عن أنس به ، ورواه النسائي عن محمد بن المثنى ، عن خالد بن الحارث ، عن حميد به ، ورواه ابن حبان عن أبي يعلى عن عبد الأعلى بن حماد ، عن معمر بن سليمان ، عن حميد به.

وقال ابن مردويه : أنبأنا عبد الله بن جعفر ، أنبأنا إسماعيل بن عبد الله ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن شعيب عن الحكم بن أيوب ، عن عبد الله بن ناسخ ، عن عتبة بن عبيد السلمي ، قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه «ألا تقاتلون»؟ قالوا نعم ، ولا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون ، وكان ممن أجاب يومئذ المقداد بن عمرو الكندي رضي الله عنه ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثني سفيان عن مخارق بن عبد الله الأحمسي ، عن طارق هو ابن شهاب ، أن المقداد قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر : يا رسول الله ، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، هكذا رواه أحمد من هذا الوجه ، وقد رواه من طريق أخرى فقال : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا إسرائيل عن مخارق ، عن طارق بن شهاب ، قال : قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : لقد شهدت من المقداد مشهدا لأن أكون أنا صاحبه أحب إليّ مما عدل به ، أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يدعو على المشركين فقال : والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ولكنا نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن بين يديك ومن خلفك ، فرأيت وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشرق لذلك وسر بذلك (١).

وهكذا رواه البخاري في المغازي وفي التفسير من طرق عن مخارق به ، ولفظه في كتاب التفسير عن عبد الله ، قال : قال المقداد يوم بدر : يا رسول الله ، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ولكن امض ونحن معك. فكأنه سرّي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال البخاري : رواه وكيع عن سفيان ، عن مخارق ، عن طارق ، أن المقداد قال ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه يوم الحديبية حين صد المشركون الهدي ، وحيل بينهم وبين مناسكهم «إني ذاهب بالهدي فناحره عند البيت» فقال له المقداد بن الأسود : أما والله لا نكون

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٣٨٩ ـ ٣٩٠ و٤ / ٣١٤.

(٢) صحيح البخاري (تفسير سورة المائدة باب ٣)

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٥٢١.

٧٠

كالملإ من بني إسرائيل إذ قالوا لنبيهم (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فلما سمعها أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تتابعوا على ذلك.

وهذا إن كان محفوظا يوم الحديبية فيحتمل أنه كرر هذه المقالة يومئذ كما قاله يوم بدر.

وقوله : (قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) يعني لما نكل بنو إسرائيل عن القتال غضب عليهم موسى عليه‌السلام ، وقال داعيا عليهم (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) أي ليس أحد يطيعني منهم فيمتثل أمر الله ويجيب إلى ما دعوت إليه إلا أنا وأخي هارون (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) قال العوفي عن ابن عباس : يعني اقض بيني وبينهم ، وكذا قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وكذا قال الضحاك : اقض بيننا وبينهم ، وافتح بيننا وبينهم ، وقال غيره : افرق افصل بيننا وبينهم ، كما قال الشاعر : [الرجز]

يا رب فافرق بينه وبيني

أشد ما فرقت بين اثنين (١)

وقوله تعالى : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) الآية ، لما دعا عليهم موسى عليه‌السلام حين نكلوا عن الجهاد حكم الله بتحريم دخولها عليهم مدة أربعين سنة فوقعوا في التيه يسيرون دائما لا يهتدون للخروج منه وفيه كانت أمور عجيبة وخوارق كثيرة من تظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى عليهم ، ومن إخراج الماء الجاري من صخرة صماء تحمل معهم على دابة ، فإذا ضربها موسى بعصاه انفجرت من ذلك الحجر اثنتا عشرة عينا تجري لكل شعب عين ، وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها موسى بن عمران. وهناك نزلت التوراة وشرعت لهم الأحكام ، وعملت قبة العهد ويقال لها : قبة الزمان ، قال يزيد بن هارون عن أصبغ بن زيد ، عن القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جبير : سألت ابن عباس عن قوله : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) الآية قال : فتاهوا في الأرض أربعين سنة يصبحون كل يوم يسيرون ليس لهم قرار ، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه ، وأنزل عليهم المن والسلوى ، وهذا قطعة من حديث الفتون ، ثم كانت وفاة هارون عليه‌السلام ، ثم بعده بمدة ثلاث سنين وفاة موسى الكليم عليه‌السلام ، وأقام لله فيهم يوشع بن نون عليه‌السلام ، نبيا خليفة عن موسى بن عمران ، ومات أكثر بني إسرائيل هناك في تلك المدة ، ويقال : إنه لم يبق منهم أحد سوى يوشع وكالب ، ومن هاهنا قال بعض المفسرين في قوله (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) هذا وقف تام ، وقوله (أَرْبَعِينَ سَنَةً) منصوب بقوله (يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) فلما انقضت المدة ، خرج بهم يوشع بن نون عليه‌السلام ، أو بمن بقي منهم ، وبسائر بني إسرائيل من الجيل الثاني ، فقصد بهم بيت المقدس فحاصرها ، فكان فتحها يوم الجمعة

__________________

(١) البيت بلا نسبة في تفسير الطبري ٤ / ٥٢٢ ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١ / ١٦٠.

٧١

بعد العصر ، فلما تضيفت (١) الشمس للغروب وخشي دخول السبت عليهم ، قال : إنك مأمورة ، وأنا مأمور ، اللهم احبسها علي. فحبسها الله تعالى حتى فتحها ، وأمر الله يوشع بن نون ، أن يأمر بني إسرائيل حين يدخلون بيت المقدس ، أن يدخلوا بابها سجدا ، وهم يقولون : حطة أي حط عنا ذنوبنا ، فبدلوا ما أمروا به ، ودخلوا يزحفون على أستاههم وهو يقولون : حبة في شعرة ، وقد تقدم هذا كله في سورة البقرة.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن أبي عمر العبدي ، حدثنا سفيان عن أبي سعد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، رضي الله عنه ، قوله (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) قال : فتاهوا أربعين سنة ، قال : فهلك موسى وهارون في التيه ، وكل من جاوز الأربعين سنة ، فلما مضت الأربعون سنة ، ناهضهم يوشع بن نون ، وهو الذي قام بالأمر بعد موسى ، وهو الذي افتتحها ، وهو الذي قيل له : اليوم يوم الجمعة ، فهموا بافتتاحها ودنت الشمس للغروب ، فخشي إن دخلت ليلة السبت أن يسبتوا ، فنادى الشمس : إني مأمور ، وإنك مأمورة ، فوقفت حتى افتتحها ، فوجد فيها من الأموال ما لم ير مثله قط ، فقربوه إلى النار فلم تأته ، فقال : فيكم الغلول ، فدعا رؤوس الأسباط وهم اثنا عشر رجلا فبايعهم والتصقت يد رجل منهم بيده فقال : الغلول عندك فأخرجه ، فأخرج رأس بقرة من ذهب لها عينان من ياقوت وأسنان من لؤلؤ فوضعه مع القربان ، فأتت النار فأكلته (٢) ، وهذا السياق له شاهد في الصحيح.

وقد اختار ابن جرير (٣) أن قوله : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) هو العامل في أربعين سنة وأنهم مكثوا لا يدخلونها أربعين سنة ، وهم تائهون في البرية لا يهتدون لمقصد ، قال : ثم خرجوا مع موسى عليه‌السلام ، ففتح بهم بيت المقدس ، ثم احتج على ذلك من قال بإجماع علماء أخبار الأولين ، أن عوج بن عنق قتله موسى عليه‌السلام ، قال : فلو كان قتله إياه قبل التيه ، لما رهبت بنو إسرائيل من العماليق فدل على أنه كان بعد التيه ، قال : وأجمعوا على أن بلعام بن باعورا أعان الجبارين بالدعاء على موسى ، قال : وما ذاك إلا بعد التيه ، لأنهم كانوا قبل التيه لا يخافون من موسى وقومه ، هذا استدلاله ، ثم قال : حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن عطية ، حدثنا قيس عن ابن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كانت عصا موسى عشرة أذرع ، ووثبته عشرة أذرع ، وطوله عشرة أذرع ، فوثب فأصاب كعب عوج فقتله ، فكان جسرا لأهل النيل سنة (٤) ، وروي أيضا عن محمد بن بشار : حدثنا مؤمل ، حدثنا سفيان عن أبي إسحاق ، عن نوف هو البكالي قال : كان سرير عوج ثمانمائة ذراع ، وكان طول موسى عشرة

__________________

(١) تضيّفت للغروب : مالت إليه ودنت منه.

(٢) رواه السيوطي في الدر المنثور ٢ / ٤٨١.

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٥٢٥.

(٤) تفسير الطبري ٤ / ٥٢٦.

٧٢

أذرع ، وعصاه عشرة أذرع ، ووثب في السماء عشرة أذرع ، فضرب عوجا فأصاب كعبه فسقط ميتا وكان جسرا للناس يمرون عليه (١).

وقوله تعالى : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) تسلية لموسى عليه‌السلام عنهم ، أي لا تأسف ولا تحزن عليهم فيما حكمت عليهم به ، فإنهم مستحقون ذلك ، وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود ، وبيان فضائحهم ومخالفتهم لله ولرسوله ونكولهم عن طاعتهما فيما أمراهم به من الجهاد ، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم ومقاتلتهم ، مع أن بين أظهرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكليمه وصفيه من خلقه في ذلك الزمان ، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم ، هذا مع ما شاهدوا من فعل الله بعدوهم فرعون من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليم وهم ينظرون لتقر به أعينهم ، وما بالعهد من قدم ، ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازي عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم ، فظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام ، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل ، ولا يسترها الذيل ، هذا وهم في جهلهم يعمهون وفي غيهم يتردّدون ، وهم البغضاء إلى الله وأعداؤه ويقولون مع ذلك : نحن أبناء الله وأحباؤه ، فقبح الله وجوههم التي مسخ منها الخنازير والقرود وألزمهم لعنة تصحبهم إلى النار ذات الوقود ، ويقضي لهم فيها بتأييد الخلود ، وقد فعل وله الحمد في جميع الوجود.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) (٣١)

يقول تعالى مبينا وخيم عاقبة البغي والحسد والظلم في خبر ابني آدم لصلبه في قول الجمهور ، وهما قابيل وهابيل كيف عدا أحدهما على الآخر فقتله ، بغيا عليه وحسدا له ، فيما وهبه الله من النعمة وتقبل القربان الذي أخلص فيه لله عزوجل ، ففاز المقتول بوضع الآثام والدخول إلى الجنة ، وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدارين ، فقال تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِ) ، أي اقصص على هؤلاء البغاة الحسدة إخوان الخنازير والقردة من اليهود وأمثالهم وأشباههم خبر ابني آدم ، وهما هابيل وقابيل ، فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف.

وقوله (بِالْحَقِ) أي على الجلية والأمر الذي لا لبس فيه ولا كذب ، ولا وهم ولا تبديل،

__________________

(١) المصدر السابق.

٧٣

ولا زيادة ولا نقصان ، كقوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) [آل عمران : ٦٢]. وقوله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) [الكهف : ١٣] وقال (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِ) [مريم : ٣٤] ، وكان من خبرهما فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف ، أن الله تعالى : شرع لآدم عليه‌السلام ، أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال ، ولكن قالوا : كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى ، فكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر ، وكانت أخت هابيل دميمة وأخت قابيل وضيئة ، فأراد أن يستأثر بها على أخيه ، فأبى آدم ذلك ، إلا أن يقربا قربانا ، فمن تقبل منه فهي له ، فتقبّل من هابيل ولم يتقبل من قابيل ، فكان من أمرهما ما قصه الله في كتابه.

ذكر أقوال المفسرين هاهنا

قال السدي فيما ذكر عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه كان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية ، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر ، ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر ، حتى ولد له ابنان يقال لهما : هابيل وقابيل وكان قابيل صاحب زرع ، وكان هابيل صاحب ضرع ، وكان قابيل أكبرهما ، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل ، وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل ، فأبى عليه ، وقال هي أختي ولدت معي ، وهي أحسن من أختك وأنا أحق أن أتزوج بها ، فأمره أبوه أن يزوجها هابيل فأبى ، وأنهما قربا قربانا إلى الله عزوجل أيهما أحق بالجارية ، وكان آدم عليه‌السلام قد غاب عنهما ، أتى مكة ينظر إليها ، قال الله عزوجل : هل تعلم أن لي بيتا في الأرض؟ قال : اللهم لا. قال : إن لي بيتا في مكة ، فأته ، فقال آدم للسماء : احفظي ولدي بالأمانة فأبت ، وقال للأرض فأبت ، وقال للجبال فأبت ، فقال لقابيل ، فقال : نعم ، تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك ، فلما انطلق آدم قربا قربانا ، وكان قابيل يفخر عليه ، فقال : أنا أحق بها منك هي أختي وأنا أكبر منك وأنا وصي والدي ، فلما قربا قرب هابيل جذعة سمينة وقرب قابيل حزمة سنبل فوجد فيها سنبلة عظيمة ، ففركها وأكلها فنزلت النار ، فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل ، فغضب وقال : لأقتلنك حتى لا تنكح أختي ، فقال هابيل إنما يتقبل الله من المتقين ، رواه ابن جرير (١).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني ابن خيثم قال : أقبلت مع سعيد بن جبير ، فحدثني عن ابن عباس ، قال : نهي أن تنكح المرأة أخاها توأمها وأمر أن ينكحها غيره من إخوتها ، وكان يولد له في كل بطن رجل وامرأة ،

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٥٢٩.

٧٤

فبينما هم كذلك إذ ولد له امرأة وضيئة وولد له أخرى قبيحة دميمة ، فقال أخو الدميمة : أنكحني أختك وأنكحك أختي ، فقال لا ، أنا أحق بأختي ، فقربا قربانا فتقبل من صاحب الكبش ولم يتقبل من صاحب الزرع ، فقتله ، إسناد جيد ، وحدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد بن سلمة عن عبد الله بن عثمان بن خيثم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) فقربا قربانهما ، فجاء صاحب الغنم بكبش أعين أقرن أبيض ، وصاحب الحرث بصبرة من طعامه ، فقبل الله الكبش فخزنة في الجنة أربعين خريفا ، وهو الكبش الذي ذبحه إبراهيمعليه‌السلام ، إسناد جيد.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا عوف عن أبي المغيرة عن عبد الله بن عمرو ، قال : إن ابني آدم اللذين قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر ، كان أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم ، وإنهما أمرا أن يقربا قربانا ، وإن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها طيبة بها نفسه ، وإن صاحب الحرث قرب أشر حرثه الكودن والزوان ، غير طيبة بها نفسه ، وإن الله عزوجل ، تقبل قربان صاحب الغنم ، ولم يتقبل قربان صاحب الحرث ، وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه ، قال : وأيم الله إن كان المقتول لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج أن يبسط يده إلى أخيه.

وقال إسماعيل بن رافع المدني القاص : بلغني أن ابني آدم لما أمرا بالقربان ، كان أحدهما صاحب غنم وكان أنتج له حمل في غنمه ، فأحبه حتى كان يؤثره بالليل ، وكان يحمله على ظهره من حبه ، حتى لم يكن له مال أحب إليه منه ، فلما أمر بالقربان قربه لله عزوجل فقبله الله منه ، فما زال يرتع في الجنة حتى فدي به ابن إبراهيم عليه‌السلام ، رواه ابن جرير (٢).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الأنصاري ، حدثنا القاسم بن عبد الرحمن ، حدثنا محمد بن علي بن الحسين ، قال : قال آدم عليه‌السلام لهابيل وقابيل : إن ربي عهد إلي أنه كائن من ذريتي من يقرب القربان ، فقربا قربانا حتى تقر عيني ، إذا تقبل قربانكما فقربا وكان هابيل صاحب غنم فقرب أكولة غنم خير ماله ، وكان قابيل صاحب زرع ، فقرب مشاقة من زرعه ، فانطلق آدم معهما ، ومعهما قربانهما ، فصعدا الجبل ، فوضعا قربانهما ثم جلسوا ثلاثتهم آدم وهما ينظران إلى القربان ، فبعث الله نارا حتى إذا كانت فوقهما دنا منها عنق ، فاحتمل قربان هابيل ، وترك قربان قابيل ، فانصرفوا ، وعلم آدم أن قابيل مسخوط عليه ، فقال : ويلك يا قابيل رد عليك قربانك ، فقال قابيل أحببته فصليت على قربانه ودعوت له فتقبل قربانه ورد علي قرباني ، فقال قابيل لهابيل لأقتلنك وأستريح منك ، دعا لك أبوك فصلى على قربانك فتقبل

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٥٢٧.

(٢) المصدر السابق.

٧٥

منك ، وكان يتواعده بالقتل إلى أن احتبس هابيل ذات عشية في غنمه ، فقال آدم : يا قابيل ، أين أخوك؟ قال : وبعثتني له راعيا لا أدري ، فقال آدم : ويلك يا قابيل ، انطلق فاطلب أخاك ، فقال قابيل في نفسه : الليلة أقتله ، وأخذ معه حديدة فاستقبله وهو منقلب ، فقال : يا هابيل تقبل قربانك ورد علي قرباني لأقتلنك ، فقال هابيل : قربت أطيب مالي ، وقربت أنت أخبث مالك وإن الله لا يقبل إلا الطيب إنما يتقبل الله من المتقين ، فلما قالها غضب قابيل ، فرفع الحديدة وضربه بها ، فقال : ويلك يا قابيل ، أين أنت من الله كيف يجزيك بعملك؟ فقتله ، فطرحه في حوبة من الأرض ، وحثى عليه شيئا من التراب.

وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول : أن آدم أمر ابنه قابيل أن ينكح أخته توأمة هابيل ، وأمر هابيل أن ينكح توأمة قابيل ، فسلم لذلك هابيل ورضي ، وأبى ذلك قابيل وكره تكرما عن أخت هابيل ، ورغب بأخته عن هابيل وقال : نحن من ولادة الجنة ، وهما من ولادة الأرض ، وأنا أحق بأختي ، ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول : كانت أخت قابيل من أحسن الناس ، فضن بها على أخيه وأرادها لنفسه والله أعلم أي ذلك كان فقال له أبوه : يا بني إنها لا تحل لك فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه ، قال له أبوه : يا بني قرّب قربانا ويقرب أخوك هابيل قربانا فأيكما تقبل قربانه فهو أحق بها ، وكان قابيل على بذر الأرض ، وكان هابيل على رعاية الماشية ، فقرب قابيل قمحا وقرب هابيل أبكارا من أبكار غنمه ، وبعضهم يقول : قرب بقرة ، فأرسل الله نارا بيضاء فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل ، وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله ، رواه ابن جرير (١).

وروى العوفي عن ابن عباس قال : من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه وإنما كان القربان يقربه الرجل فبينا ابنا آدم قاعدان ، إذ قالا لو قربنا قربانا ، وكان الرجل إذا قرب قربانا فرضيه الله أرسل إليه نارا فتأكله ، وإن لم يكن رضيه الله خبت النار ، فقربا قربانا ، وكان أحدهما راعيا وكان الآخر حراثا ، وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها ، وقرب الآخر بعض زرعه ، فجاءت النار فنزلت بينهما فأكلت الشاة وتركت الزرع ، وإن ابن آدم قال لأخيه أتمشي في الناس وقد علموا أنك قربت قربانا فتقبل منك ورد علي ، فلا والله لا ينظر الناس إليّ وأنت خير مني فقال : لأقتلنك ، فقال له أخوه : ما ذنبي؟ إنما يتقبل الله من المتقين. رواه ابن جرير (٢).

فهذا الأثر يقتضي أن تقريب القربان كان لا عن سبب ولا عن تدارؤ (٣) في امرأة كما تقدم عن جماعة ممن تقدم ذكرهم وهو ظاهر القرآن (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٥٢٩.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٥٢٨.

(٣) التدارؤ : التدافع في الخصومة.

٧٦

الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) فالسياق يقتضي أنه إنما غضب عليه وحسده بقبول قربانه دونه ، ثم المشهور عند الجمهور أن الذي قرب الشاة هو هابيل وأن الذي قرب الطعام هو قابيل وأنه تقبل من هابيل شاته ، حتى قال ابن عباس وغيره إنها الكبش الذي فدي به الذبيح وهو مناسب ، والله أعلم ، ولم يتقبل من قابيل ، كذلك نص عليه غير واحد من السلف والخلف وهو المشهور عن مجاهد أيضا ، ولكن روى ابن جرير عنه أنه قال الذي قرب الزرع قابيل وهو المتقبل منه ، وهذا خلاف المشهور ولعله لم يحفظ عنه جيدا ، والله أعلم.

ومعنى قوله (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أي ممن اتقى الله في فعله ذلك ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن العلاء بن زبريق ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثني صفوان بن عمرو عن تميم يعني ابن مالك المقري ، قال : سمعت أبا الدرداء يقول : لأن أستيقن أن الله قد تقبل لي صلاة واحدة أحب إليّ من الدنيا وما فيها إن الله يقول (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ). وحدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن عمران حدثنا إسحاق بن سليمان يعني الرازي عن المغيرة بن مسلم ، عن ميمون بن أبي حمزة ، قال : كنت جالسا عند أبي وائل فدخل علينا رجل يقال له أبو عفيف من أصحاب معاذ فقال له شقيق بن سلمة : يا أبا عفيف ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل؟ قال : بلى سمعته يقول : يحبس الناس في بقيع واحد فينادي مناد : أين المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت : من المتقون؟ قال : قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا العبادة فيمرون إلى الجنة.

وقوله (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) يقول له أخوه الرجل الصالح الذي تقبل الله قربانه لتقواه ، حين توعده أخوه بالقتل على غير ما ذنب منه إليه (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) أي لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله فأكون أنا وأنت سواء في الخطيئة (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) أي من أن أصنع كما تريد أن تصنع بل أصبر وأحتسب ، قال عبد الله بن عمرو : وأيم الله إن كان (١) لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج يعني الورع ، ولهذا ثبت في الصحيحين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قالوا : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال «إنه كان حريصا على قتل صاحبه» (٢).

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا ليث بن سعد عن عياش بن عباس ، عن بكير بن عبد الله ، عن بشر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان : أشهد أن

__________________

(١) أي المقتول ، كما في تفسير الطبري ٤ / ٥٣٢.

(٢) صحيح البخاري (فتن باب ١٠) وصحيح مسلم (فتن حديث ١٤ و١٥) وسنن النسائي (تحريم باب ٢٩)

(٣) مسند أحمد ١ / ١٨٥.

٧٧

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم ، والقائم خير من الماشي ، والماشي خير من الساعي» قال : أفرأيت إن دخل عليّ بيتي فبسط يده إليّ ليقتلني فقال «كن كابن آدم».

وكذا رواه الترمذي عن قتيبة بن سعيد وقال : هذا حديث حسن ، وفي الباب عن أبي هريرة وخباب بن الأرت وأبي بكر وابن مسعود وأبي واقد وأبي موسى وخرشة ورواه بعضهم عن الليث بن سعد وزاد في الإسناد رجلا ، قال الحافظ ابن عساكر : الرجل هو حسين الأشجعي ، قلت : وقد رواه أبو داود (١) من طريقه فقال : حدثنا يزيد بن خالد الرملي ، حدثنا الفضل عن عياش بن عباس ، عن بكير عن بشر بن سعيد ، عن حسين بن عبد الرحمن الأشجعي أنه سمع سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا الحديث قال : فقلت : يا رسول الله أرأيت إن دخل بيتي وبسط يده ليقتلني؟ قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كن كابن (٢) آدم» وتلا يزيد (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ).

قال أيوب السختياني : إن أول من أخذ بهذه الآية من هذه الأمة (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) لعثمان بن عفان رضي الله عنه ، رواه ابن أبي حاتم.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا ابن حزم ، حدثني أبو عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر ، قال : ركب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمارا وأردفني خلفه وقال «يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس جوع شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك كيف تصنع؟» قال : قال : الله ورسوله أعلم ، قال «تعفف» قال «يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس موت شديد يكون البيت فيه بالعبد يعني القبر كيف تصنع؟» قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : «اصبر» قال «يا أبا ذر أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضا ، يعني حتى تغرق حجارة الزيت (٤) من الدماء كيف تصنع؟» قال : الله ورسوله أعلم ، قال «اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك» قال : فإن لم أترك ، قال «فائت من أنت منهم فكن منهم» قال : فآخذ سلاحي ، قال «فإذا تشاركهم فيما هم فيه ولكن إذا خشيت أن يردعك شعاع السيف فألق طرف ردائك على وجهك كي يبوء بإثمه وإثمك» ، ورواه مسلم وأهل السنن سوى النسائي ، من طرق عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت به ، ورواه أبو داود وابن ماجة من طريق حماد بن زيد عن أبي عمران ، عن المشعث بن طريف ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر بنحوه ، قال أبو داود : ولم يذكر المشعث في هذا الحديث غير

__________________

(١) سنن أبي داود (فتن باب ٢)

(٢) في أبي داود : «كابني آدم».

(٣) مسند أحمد ٥ / ١٤٩.

(٤) حجارة الزيت : موضع كان بالمدينة.

٧٨

حماد بن زيد.

وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن علي بن دحيم ، حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا قبيصة بن عقبة ، حدثنا سفيان عن منصور ، عن ربعي ، قال : كنا في جنازة حذيفة فسمعت رجلا يقول : سمعت هذا يقول في ناس ، مما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لئن اقتتلتم لأنظرن إلى أقصى بيت في داري فلألجنه فلئن دخل علي فلان لأقولن ها ، بؤ بإثمي وإثمك فأكون كخير ابني آدم».

وقوله (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي في قوله (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) أي بإثم قتلي وإثمك الذي عليك قبل ذلك ، قاله ابن جرير (١). وقال آخرون : يعني بذلك إني أريد أن تبوء بخطيئتي فتتحمل وزرها وإثمك في قتلك إياي ، وهذا قول وجدته عن مجاهد وأخشى أن يكون غلطا لأن الصحيح من الرواية عنه خلافه ، يعني ما رواه سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي) قال : بقتلك إياي (وَإِثْمِكَ) قال : بما كان منك قبل ذلك ، وكذا رواه عيسى بن أبي نجيح ، عن مجاهد بمثله ، وروى شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) يقول إني أريد أن يكون عليك خطيئتي ودمي فتبوء بهما جميعا.

(قلت) وقد يتوهم كثير من الناس هذا القول ، ويذكرون في ذلك حديثا لا أصل له «ما ترك القاتل على المقتول من ذنب» وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثا يشبه هذا ولكن ليس به فقال : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني ، حدثنا يعقوب بن عبد الله ، حدثنا عتبة بن سعيد عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «قتل الصبر لا يمر بذنب إلا محاه» وهذا بهذا لا يصح ، ولو صح فمعناه أن الله يكفر عن المقتول بألم القتل ذنوبه فأما أن تحمل على القاتل فلا ، ولكن قد يتفق هذا في بعض الأشخاص وهو الغالب ، فإن المقتول يطالب القاتل في العرصات ، فيؤخذ له من حسناته بقدر مظلمته فإن نفدت ولم يستوف حقه ، أخذ من سيئات المقتول ، فطرحت على القاتل ، فربما لا يبقى على المقتول خطيئة إلا وضعت على القاتل ، وقد صح الحديث بذلك عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في المظالم كلها ، والقتل من أعظمها وأشدها والله أعلم.

وأما ابن جرير فقال : والصواب من القول في ذلك أن يقال إن تأويله إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي وذلك هو معنى قوله (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي) وأما معنى (وَإِثْمِكَ) فهو إثمه يعني قتله (٢) وذلك معصيته الله عزوجل في أعمال سواه وإنما قلنا ذلك هو الصواب

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٥٣٤.

(٢) في تفسير الطبري : «فهو إثمه بغير قتله».

٧٩

لإجماع أهل التأويل عليه وأن الله عزوجل أخبرنا أن كل عامل فجزاء عمله له أو عليه وإذا كان هذا حكمه في خلقه فغير جائز أن تكون آثام المقتول مأخوذا بها القاتل ، وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثام معاصيه التي ارتكبها بنفسه دون ما ركبه قتيله ، هذا لفظه ، ثم أورد على هذا سؤالا حاصله كيف أراد هابيل أن يكون على أخيه قابيل إثم قتله وإثم نفسه مع أن قتله له محرم؟ وأجاب بما حاصله أن هابيل أخبر عن نفسه بأنه لا يقاتل أخاه إن قاتله ، بل يكف عنه يده طالبا إن وقع قتل أن يكون من أخيه لا منه (١).

قلت : وهذا الكلام متضمن موعظة له لو اتعظ ، وزجرا له لو انزجر ، ولهذا قال (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) أي تتحمل إثمي وإثمك (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) وقال ابن عباس : خوفه بالنار فلم ينته ولم ينزجر.

وقوله تعالى : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي فحسنت وسولت له نفسه وشجعته على قتل أخيه فقتله ، أي بعد هذه الموعظة وهذا الزجر ، وقد تقدم في الرواية عن أبي جعفر الباقر وهو محمد بن علي بن الحسين أنه قتله بحديدة في يده ، وقال السدي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة بن عبد الله ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فطوعت له نفسه قتل أخيه ، فطلبه ليقتله ، فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال ، فأتاه يوما من الأيام وهو يرعى غنما له وهو نائم ، فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات فتركه بالعراء ، رواه ابن جرير (٢). وعن بعض أهل الكتاب أنه قتله خنقا وعضا كما تقتل السباع. وقال ابن جرير : لما أراد أن يقتله جعل يلوي عنقه ، فأخذ إبليس دابة ووضع رأسها على حجر ، ثم أخذ حجرا آخر فضرب به رأسها حتى قتلها وابن آدم ينظر ، ففعل بأخيه مثل ذلك ، رواه ابن أبي حاتم ، وقال عبد الله بن وهب ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، قال : أخذ برأسه ليقتله فاضطجع له وجعل يغمز رأسه وعظامه ولا يدري كيف يقتله ، فجاءه إبليس فقال : أتريد أن تقتله؟ قال : نعم. قال : فخذ هذه الصخرة فاطرحها على رأسه ، قال : فأخذها فألقاها عليه فشدخ رأسه ، ثم جاء إبليس إلى حواء مسرعا فقال : يا حواء إن قابيل قتل هابيل ، فقالت له : ويحك وأي شيء يكون القتل؟ قال : لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك ، قالت : ذلك الموت. قال : فهو الموت ، فجعلت تصيح حتى دخل عليها آدم وهي تصيح ، فقال : ما لك؟ فلم تكلمه ، فرجع إليها مرتين فلم تكلمه الله ، فقال : عليك الصيحة وعلى بناتك ، وأنا وبنيّ منها برآء ، رواه ابن أبي حاتم.

وقوله (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي في الدنيا والآخرة ، وأي خسارة أعظم من هذه؟ وقد

__________________

(١) لمزيد من الإيضاح راجع تفسير الطبري ٤ / ٥٣٤ ـ ٥٣٥.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٥٣٦.

٨٠