تفسير القرآن العظيم - ج ٣

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٣

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٩٥

وقال ابن جرير (١) أيضا : حدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي عن حميد ، عن أنس ، قال : توضأ عمر بن الخطاب وضوءا فيه تجوز خفيفا ، فقال : هذا وضوء من لم يحدث ، وهذا إسناد صحيح. وقال محمد بن سيرين : كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة ، وأما ما رواه أبو داود الطيالسي عن أبي هلال ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، أنه قال : الوضوء من غير حدث اعتداء ، فهو غريب عن سعيد بن المسيب ، ثم هو محمول على أن من اعتقد وجوبه فهو معتد ، وأما مشروعيته استحبابا فقد دلت السنة على ذلك. وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان عن عمرو بن عامر الأنصاري ، سمعت أنس بن مالك يقول : كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ عند كل صلاة ، قال : قلت : فأنتم كيف كنتم تصنعون؟ قال : كنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم نحدث ، وقد رواه البخاري وأهل السنن من غير وجه عن عمرو بن عامر به.

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا أبو سعيد البغدادي ، حدثنا إسحاق بن منصور عن هريم ، عن عبد الرحمن بن زياد ، هو الأفريقي ، عن أبي غطيف ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «من توضأ على طهر ، كتب له عشر حسنات» ورواه أيضا من حديث عيسى بن يونس عن الأفريقي ، عن أبي غطيف ، عن ابن عمر ، فذكره ، وفيه قصة. وهكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة ، من حديث الأفريقي به نحوه. وقال الترمذي : وهو إسناد ضعيف.

وقال ابن جرير (٤) : وقد قال قوم : إن هذه الآية نزلت إعلاما من الله أن الوضوء لا يجب إلا عند القيام إلى الصلاة دون غيرها من الأعمال ، وذلك لأنه عليه‌السلام كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى يتوضأ. حدثنا أبو كريب ، حدثنا معاوية بن هشام عن سفيان ، عن جابر ، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص ، عن أبيه ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أراق البول» نكلمه فلا يكلمنا ، ونسلم عليه فلا يرد علينا ، حتى نزلت آية الرخصة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) الآية ، ورواه ابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم عن أبي كريب به نحوه ، وهو حديث غريب جدا ، وجابر هذا هو ابن زيد الجعفي ضعفوه.

وقال أبو داود (٥) : حدثنا مسدد ، حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة ، عن عبد الله بن عباس : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج من الخلاء فقدم إليه طعام ، فقالوا : ألا نأتيك

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٤٥٣.

(٢) مسند أحمد ٣ / ١٣٢.

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٤٥٥.

(٤) المصدر السابق.

(٥) سنن أبي داود (أطعمة باب ١١)

٤١

بوضوء؟ فقال «إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة» وكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع ، والنسائي عن زياد بن أيوب عن إسماعيل وهو ابن علية به. وقال الترمذي : هذا حديث حسن.

وروى مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن سعيد بن الحويرث ، عن ابن عباس قال : كنا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتى الخلاء ثم إنه رجع فأتي بطعام ، فقيل : يا رسول الله ألا تتوضأ؟ فقال «لم؟ أأصلي فأتوضأ».

وقوله (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) قد استدل طائفة من العلماء بقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) على وجوب النية في الوضوء ، لأن تقدير الكلام (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) لها كما تقول العرب : إذا رأيت الأمير فقم ، أي له. وقد ثبت في الصحيحين حديث «الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (١) ، ويستحب قبل غسل الوجه أن يذكر اسم الله تعالى على وضوئه ، لما ورد في الحديث من طرق جيدة عن جماعة من الصحابة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» (٢) ، ويستحب أن يغسل كفيه قبل إدخالهما في الإناء ويتأكد ذلك عند القيام من النوم ، لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثا ، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» (٣).

وحد الوجه عند الفقهاء ما بين منابت شعر الرأس ، ولا اعتبار بالصلع ولا بالغمم (٤) إلى منتهى اللحيين والذقن طولا ، ومن الأذن إلى الأذن عرضا وفي النزعتين والتحذيف (٥) خلاف : هل هما من الرأس أو الوجه؟ وفي المسترسل من اللحية عن محل الفرض قولان [أحدهما] أنه يجب إفاضة الماء عليه لأنه تقع به المواجهة.

وروي في حديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا مغطيا لحيته فقال «اكشفها فإن اللحية من الوجه» وقال مجاهد : هي من الوجه ، ألا تسمع إلى قول العرب في الغلام إذا نبتت لحيته : طلع وجهه ، ويستحب للمتوضئ أن يخلل لحيته إذا كانت كثيفة. وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا إسرائيل عن عامر بن حمزة ، عن شقيق قال : رأيت عثمان يتوضأ ، فذكر الحديث ، قال : وخلل اللحية ثلاثا حين غسل وجهه ، ثم قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعل الذي

__________________

(١) صحيح البخاري (بدء الوحي باب ١ وإيمان باب ٤١) وصحيح مسلم (إمارة حديث ١٥٥)

(٢) سنن أبي داود (طهارة باب ٤٨) ومسند أحمد ٢ / ٤١٨ ، جميعا عن أبي هريرة.

(٣) صحيح البخاري (وضوء باب ٢٦) وموطأ مالك (طهارة حديث ٩) ومسند أحمد ٢ / ٤٦٥.

(٤) الغمم : أن يسيل الشعر من الرأس في الوجه والقفا ، فتضيق الجبهة ويصغر القفا. والأنزع : الذي انحر الشعر على جانبي ناصيتيه.

(٥) التحذيف من الرأس : ما تنحّي النساء الشعر عنه ، ويقع في جانب الوجه.

٤٢

رأيتموني فعلت ، رواه الترمذي وابن ماجة من حديث عبد الرزاق ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، وحسنه البخاري.

وقال أبو داود (١) : حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع ، حدثنا أبو المليح ، حدثنا الوليد بن زوران ، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا توضأ ، أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه يخلل به لحيته ، وقال «هكذا أمرني به ربي عزوجل» تفرد به أبو داود.

وقد روي هذا من غير وجه عن أنس ، قال البيهقي : وروينا في تخليل اللحية عن عمار وعائشة وأم سلمة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم عن علي وغيره ، وروينا في الرخصة في تركه عن ابن عمر والحسن بن علي ، ثم عن النخعي وجماعة من التابعين.

وقد ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير وجه في الصحاح وغيرها أنه كان إذا توضأ تمضمض واستنشق ، فاختلف الأئمة في ذلك هل هما واجبان في الوضوء والغسل كما هو مذهب أحمد بن حنبل رحمه‌الله ، أو مستحبان فيهما كما هو مذهب الشافعي ومالك ، لما ثبت في الحديث الذي رواه أهل السنن ، وصححه ابن خزيمة عن رفاعة بن رافع الزرقي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للمسيء صلاته «توضأ كما أمرك الله» ، أو يجبان في الغسل دون الوضوء كما هو مذهب أبي حنيفة ، أو يجب الاستنشاق دون المضمضة كما هو رواية عن الإمام أحمد ، لما ثبت في الصحيحين أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من توضأ فليستنشق» ، وفي رواية «إذا توضأ أحدكم فليجعل في منخريه من الماء ثم لينتثر» (٢) والانتثار هو المبالغة في الاستنشاق.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا أبو سلمة الخزاعي ، حدثنا سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس أنه توضأ فغسل وجهه ، أخذ غرفة من ماء فتمضمض بها واستنثر ، ثم أخذ غرفة فجعل بها هكذا ، يعني أضافها إلى يده الأخرى ، فغسل بها وجهه ، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى ، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى ، ثم مسح رأسه ، ثم أخذ غرفة من ماء ثم رش على رجله اليمنى حتى غسلها ، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها رجله اليسرى ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعني يتوضأ. ورواه البخاري عن محمد بن عبد الرحيم عن أبي سلمة منصور بن سلمة الخزاعي به.

وقوله (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) أي مع المرافق كما قال تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) [النساء : ٢] وقد روى الحافظ الدار قطني وأبو بكر البيهقي من

__________________

(١) سنن أبي داود (طهارة باب ٥٧)

(٢) صحيح البخاري (وضوء باب ٢٦) أما الحديث الذي قبل هذا فقد وجدناه في صحيح البخاري (صوم باب ٢٨) وصحيح مسلم (طهارة حديث ٢١) بلفظ : «إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء».

(٣) مسند أحمد ١ / ٢٦٨.

٤٣

طريق القاسم بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جده ، عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه ، ولكن القاسم هذا متروك الحديث ، وجده ضعيف ، والله أعلم.

ويستحب للمتوضئ أن يشرع في العضد فيغسله مع ذراعيه لما روى البخاري ومسلم من حديث نعيم المجمر ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء ، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل» (١) وفي صحيح مسلم عن قتادة عن خلف بن خليفة ، عن أبي مالك الأشجعي ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : سمعت خليلي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» (٢).

وقوله تعالى (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) اختلفوا في هذه الباء : هل هي للإلصاق؟ وهو الأظهر ، أو للتبعيض؟ وفيه نظر ، على قولين. ومن الأصوليين من قال : هذا مجمل فليرجع في بيانه إلى السنة ، وقد ثبت في الصحيحين من طريق مالك عن عمرو بن يحيى المازني ، عن أبيه أن رجلا قال لعبد الله بن زيد بن عاصم ، وهو جد عمرو بن يحيى ، وكان من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد : نعم فدعا بوضوء فأفرغ على يديه ، فغسل يديه مرتين مرتين ، ثم مضمض واستنشق ثلاثا ، وغسل وجهه ثلاثا ، ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين ، ثم مسح رأسه بيديه ، فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ، ثم ذهب بهما إلى قفاه ، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ، ثم غسل رجليه (٣). وفي حديث عبد خير عن علي في صفة وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحو هذا ، وروى أبو داود عن معاوية والمقداد بن معديكرب في صفة وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله ، ففي هذه الأحاديث دلالة لمن ذهب إلى وجوب تكميل مسح جميع الرأس ، كما هو مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل لا سيما على قول من زعم أنها خرجت مخرج البيان لما أجمل في القرآن.

وقد ذهب الحنفية إلى وجوب مسح ربع الرأس ، وهو مقدار الناصية ، وذهب أصحابنا إلى أنه إنما يجب ما يطلق عليه اسم مسح ولا يقدر ذلك بحد ، بل لو مسح بعض شعرة من رأسه أجزأه ، واحتج الفريقان بحديث المغيرة بن شعبة قال : تخلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتخلفت معه ، فلما قضى حاجته قال : هل معك ماء؟ فأتيته بمطهرة فغسل كفيه ووجهه ، ثم ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كم الجبة ، فأخرج يديه من تحت الجبة ، وألقى الجبة على منكبيه ، فغسل ذراعيه ومسح بناصيته ، وعلى العمامة وعلى خفيه ، وذكر باقي الحديث وهو في صحيح مسلم (٤)

__________________

(١) صحيح البخاري (وضوء باب ٣) وصحيح مسلم (طهارة حديث ٣٤ ـ ٣٥)

(٢) صحيح مسلم (طهارة حديث ٤٠) وسنن النسائي (طهارة باب ١٠٩)

(٣) موطأ مالك (طهارة حديث ١) وفيه : «أنه قال لعبد الله بن زيد» في موضع «أن رجلا قال ...».

(٤) صحيح مسلم (طهارة حديث ٨١) وسنن النسائي (طهارة باب ٨٦)

٤٤

وغيره ، فقال لهم أصحاب الإمام أحمد : إنما اقتصر على مسح الناصية لأنه كمل مسح بقية الرأس على العمامة ، ونحن نقول بذلك وأنه يقع عن الموقع ، كما وردت بذلك أحاديث كثيرة وأنه كان يمسح على العمامة وعلى الخفين ، فهذا أولى ، وليس لكم فيه دلالة على جواز الاقتصار على مسح الناصية أو بعض الرأس من غير تكميل على العمامة ، والله أعلم.

ثم اختلفوا في أنه هل يستحب تكرار مسح الرأس ثلاثا ، كما هو المشهور من مذهب الشافعي ، أو يستحب مسحة واحدة كما هو مذهب أحمد بن حنبل ومن تابعه على قولين ، فقال عبد الرزاق ، عن معمر عن الزهري ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن حمران بن أبان ، قال :

رأيت عثمان بن عفان توضأ فأفرغ على يديه ثلاثا ، فغسلهما ثم تمضمض واستنشق ، ثم غسل وجهه ثلاثا ، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا ، ثم غسل اليسرى مثل ذلك ، ثم مسح برأسه ، ثم غسل قدمه اليمنى ثلاثا ، ثم اليسرى ثلاثا مثل ذلك ، ثم قال : رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ، ثم قال «من توضأ نحو وضوئي هذا ، ثم صلّى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه ، غفر له ما تقدم من ذنبه» أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين (١) من طريق الزهري به نحو هذا. وفي سنن أبي داود (٢) من رواية عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة ، عن عثمان في صفة الوضوء : ومسح برأسه مرة واحدة ، وكذا من رواية عبد خير عن علي مثله. واحتج من استحب تكرار مسح الرأس بعموم الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عثمان رضي الله عنه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا.

وقال أبو داود (٣) : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا الضحاك بن مخلد ، حدثنا عبد الرحمن بن وردان ، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، حدثني حمران قال : رأيت عثمان بن عفان توضأ فذكر نحوه ، ولم يذكر المضمضة والاستنشاق ، قال فيه : ثم مسح رأسه ثلاثا ، ثم غسل رجليه ثلاثا ثم قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ هكذا ، وقال «من توضأ هكذا (٤) كفاه» تفرد به أبو داود. ثم قال : وأحاديث عثمان في الصحاح تدل على أنه مسح الرأس مرة واحدة.

قوله (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) قرئ وأرجلكم بالنصب عطفا على (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ). قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا وهيب عن خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قرأها وأرجلكم ، يقول : رجعت إلى الغسل ، وروي عن عبد الله بن مسعود وعروة وعطاء وعكرمة والحسن ومجاهد وإبراهيم والضحاك والسدي ومقاتل بن حيان

__________________

(١) صحيح البخاري (وضوء باب ٢٤ و٢٨) وصحيح مسلم (طهارة حديث ٣ و٤ و٨)

(٢) سنن أبي داود (طهارة باب ٥١)

(٣) المصدر السابق.

(٤) في أبي داود : «من توضأ دون هذا كفاه». وأضاف : ولم يذكر أمر الصلاة.

٤٥

والزهري وإبراهيم التيمي نحو ذلك ، وهذه قراءة ظاهرة في وجوب الغسل ، كما قاله السلف ، ومن هاهنا ذهب من ذهب إلى وجوب الترتيب في الوضوء كما هو مذهب الجمهور خلافا لأبي حنيفة حيث لم يشترط الترتيب ، بل لو غسل قدميه ، ثم مسح رأسه ، وغسل يديه ، ثم وجهه ، أجزأه ذلك ، لأن الآية أمرت بغسل هذه الأعضاء ، والواو لا تدل على الترتيب ، وقد سلك الجمهور في الجواب عن هذا البحث طرقا ، فمنهم من قال : الآية دلت على وجوب غسل الوجه ابتداء عند القيام إلى الصلاة ، لأنه مأمور به بفاء التعقيب وهي مقتضية للترتيب ، ولم يقل أحد من الناس بوجوب غسل الوجه أولا ، ثم لا يجب الترتيب بعده ، بل القائل اثنان : أحدهما بوجوب الترتيب كما هو واقع في الآية ، والآخر يقول : لا يجب الترتيب مطلقا ، والآية دلت على وجوب غسل الوجه ابتداء ، فوجب الترتيب فيما بعده بالإجماع حيث لا فارق.

ومنهم من قال : لا نسلم أن الواو لا تدل على الترتيب بل هي دالة كما هو مذهب طائفة من النحاة وأهل اللغة وبعض الفقهاء ، ثم نقول بتقدير تسليم كونها لا تدل على الترتيب اللغوي هي دالة على الترتيب شرعا فيما من شأنه أن يرتب ، والدليل على ذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما طاف بالبيت خرج من باب الصفا وهو يتلو قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) [البقرة : ١٥٨] ، ثم قال «أبدأ بما بدأ الله به» لفظ مسلم ، ولفظ النسائي «ابدءوا بما بدأ الله به» وهذا لفظ أمر ، وإسناده صحيح ، فدل على وجوب البداءة بما بدأ الله به ، وهو معنى كونها تدل على الترتيب شرعا ، والله أعلم.

ومنهم من قال لما ذكر الله تعالى هذه الصفة في هذه الآية على هذا الترتيب ، فقطع النظير عن النظير ، وأدخل الممسوح بين المغسولين ، دل ذلك على إرادة الترتيب ، ومنهم من قال : لا شك أنه قد روى أبو داود وغيره من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ مرة مرة ، ثم قال «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به» قالوا : فلا يخلو إما أن يكون توضأ مرتبا فيجب الترتيب ، أو يكون توضأ غير مرتب فيجب عدم الترتيب ، ولا قائل به ، فوجب ما ذكرناه.

وأما القراءة الأخرى وهي قراءة من قرأ : وأرجلكم بالخفض ، فقد احتج بها الشيعة في قولهم بوجوب مسح الرجلين ، لأنها عندهم معطوفة على مسح الرأس. وقد روي عن طائفة من السلف ما يوهم القول بالمسح فقال ابن جرير (١) : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، حدثنا حميد قال : قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده : يا أبا حمزة ، إن الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه ، فذكر الطهور فقال : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) و (امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) ، وإنه ليس شيء من بني آدم أقرب من خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٤٦٩.

٤٦

وظهورهما وعراقيبهما ، فقال أنس : صدق الله ، وكذب الحجاج ، قال الله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) قال : وكان أنس إذا مسح قدميه بلهما ، إسناد صحيح إليه ، وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سهل ، حدثنا مؤمل ، حدثنا حماد ، حدثنا عاصم الأحول عن أنس قال : نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل (١) ، وهذا أيضا إسناد صحيح. وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا محمد بن قيس الخراساني عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الوضوء غسلتان ومسحتان (٢) ، وكذا روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو معمر المنقري ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) قال : هو المسح ، ثم قال : وروي عن ابن عمر وعلقمة وأبي جعفر محمد بن علي والحسن في إحدى الروايات ، وجابر بن زيد ومجاهد في إحدى الروايات ، ونحوه.

وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن علية ، حدثنا أيوب قال : رأيت عكرمة يمسح على رجليه ، قال : وكان يقوله. وقال ابن جرير : حدثني أبو السائب ، حدثنا ابن إدريس عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي قال : نزل جبريل بالمسح ، ثم قال الشعبي : ألا ترى أن التيمم أن يمسح ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحا. وحدثنا ابن أبي زياد ، أخبرنا إسماعيل قلت لعامر :

إن ناسا يقولون : إن جبريل نزل بغسل الرجلين؟ فقال : نزل جبريل بالمسح ، فهذه آثار غريبة جدا ، وهي محمولة على أن المراد بالمسح هو الغسل الخفيف لما سنذكره من السنة الثابتة في وجوب غسل الرجلين ، وإنما جاءت هذه القراءة بالخفض إما على المجاورة وتناسب الكلام كما في قول العرب : جحر ضب خرب ، وكقوله تعالى : (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) [الإنسان : ٢١] وهذا ذائع شائع في لغة العرب سائغ.

ومنهم من قال : هي محمولة على مسح القدمين إذا كان عليهما الخفان ، قاله أبو عبد الله الشافعي رحمه‌الله. ومنهم من قال ، هي دالة على مسح الرجلين ، ولكن المراد بذلك الغسل الخفيف كما وردت به السنة ، وعلى كل تقدير فالواجب غسل الرجلين فرضا لا بد منه للآية والأحاديث التي سنوردها ، ومن أحسن ما يستدل به على أن المسح يطلق على الغسل الخفيف ما رواه الحافظ البيهقي حيث قال : أخبرنا أبو علي الروزبادي ، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن حمويه العسكري ، حدثنا جعفر بن محمد القلانسي ، حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، حدثنا عبد الملك بن ميسرة ، سمعت النزال بن سبرة يحدث عن علي بن أبي طالب أنه صلّى الظهر ، ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر ، ثم أتى بكوز من ماء فأخذ منه حفنة واحدة ، فمسح بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه ، ثم قام فشرب فضلته وهو

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المصدر نفسه.

٤٧

قائم ، ثم قال : إن ناسا يكرهون الشرب قائما ، وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صنع كما صنعت ، وقال «هذا وضوء من لم يحدث» (١) ، رواه البخاري في الصحيح عن آدم ببعض معناه. ومن أوجب من الشيعة مسحهما كما يمسح الخف فقد ضل وأضل ، وكذا من جوز مسحهما وجوز غسلهما فقد أخطأ أيضا ، ومن نقل عن أبي جعفر بن جرير أنه أوجب غسلهما للأحاديث ، وأوجب مسحهما للآية ، فلم يحقق مذهبه في ذلك ، فإن كلامه في تفسيره إنما يدل على أنه أراد أنه يجب دلك الرجلين من دون سائر أعضاء الوضوء ، لأنهما يليان الأرض والطين وغير ذلك ، فأوجب دلكهما ليذهب ما عليهما ، ولكنه عبر عن الدلك بالمسح ، فاعتقد من لم يتأمل كلامه أنه أراد وجوب الجمع بين غسل الرجلين ومسحهما ، فحكاه من حكاه كذلك ، ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء وهو معذور ، فإنه لا معنى للجمع بين المسح والغسل ، سواء تقدمه أو تأخر عليه لاندراجه فيه ، وإنما أراد الرجل ما ذكرته ، والله أعلم ، ثم تأملت كلامه أيضا فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين في قوله (وَأَرْجُلَكُمْ) خفضا على المسح وهو الدلك ، ونصبا على الغسل ، فأوجبهما أخذا بالجمع بين هذه وهذه.

ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وأنه لا بد منه

قد تقدم حديث أمير المؤمنين عثمان وعلي وابن عباس ومعاوية وعبد الله بن زيد بن عاصم والمقداد بن معد يكرب ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غسل الرجلين في وضوئه إما مرة ، وإما مرتين أو ثلاثا ، على اختلاف رواياتهم ، وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ فغسل قدميه ، ثم قال «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به».

وفي الصحيحين من رواية أبي عوانة عن أبي بشر ، عن يوسف بن ماهك ، عن عبد الله بن عمرو قال : تخلف عنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفرة سافرناها ، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ، صلاة العصر ، ونحن نتوضأ ، فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته «أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار» وكذلك هو في الصحيحين عن أبي هريرة. وفي صحيح مسلم عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار» (٢) وروى الليث بن سعد عن حيوة بن شريح ، عن عقبة بن مسلم عن عبد الله بن الحارث بن حرز أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار» رواه البيهقي والحاكم ، وهذا إسناد صحيح.

__________________

(١) رواه أحمد في المسند (ج ١ ص ١٠٢) والنسائي في سننه (طهارة باب ٩٩)

(٢) صحيح البخاري (أيمان باب ١٥ واستئذان باب ١٨ ووضوء باب ٢٩) وصحيح مسلم (طهارة حديث ٢٥ و٢٦ و٢٩) وصلاة حديث ٤٦) وسنن أبي داود (طهارة باب ٤٦ و٥٦ وصلاة باب ١٤٤) وسنن الترمذي (صوم باب ٦٨) وسنن النسائي (طهارة باب ٥٥ و٧٠)

٤٨

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق أنه سمع سعيد بن أبي كرب أو شعيب بن أبي كرب قال : سمعت جابر بن عبد الله وهو على جبل يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «ويل للعراقيب من النار» وحدثنا (٢) أسود بن عامر ، أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن أبي كرب ، عن جابر بن عبد الله قال : رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رجل رجل مثل الدرهم لم يغسله ، فقال «ويل للأعقاب من النار» ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن أبي الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد به نحوه.

وكذا رواه ابن جرير (٣) من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج وغير واحد ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن سعيد بن أبي كرب ، عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله. ثم قال : حدثنا علي بن مسلم ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، حدثنا حفص عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى قوما يتوضؤون لم يصب أعقابهم الماء ، فقال «ويل للعراقيب من النار».

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا أيوب بن عقبة عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن معيقيب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ويل للأعقاب من النار» تفرد به أحمد.

وقال ابن جرير (٥) : حدثني علي بن عبد الأعلى ، حدثنا المحاربي عن مطرح بن يزيد ، عن عبيد الله بن زحر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «ويل للأعقاب من النار». قال : فما بقي في المسجد شريف ولا وضيع إلا نظرت إليه يقلب عرقوبيه ، ينظر إليهما. وحدثنا أبو كريب ، حدثنا حسين عن زائدة عن ليث ، حدثني عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة أو عن أخي أبي أمامة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبصر قوما يصلون ، وفي عقب أحدهم أو كعب أحدهم ، مثل موضع الدرهم أو موضع الظفر لم يمسه الماء ، فقال «ويل للأعقاب من النار». قال : فجعل الرجل إذا رأى في عقبه شيئا لم يصبه الماء ، أعاد وضوءه.

ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهرة ، وذلك أنه لو كان فرض الرجلين مسحهما ، أو أنه يجوز ذلك فيهما لما توعد على تركه ، لأن المسح لا يستوعب جميع الرجل بل يجري فيه ما يجري في مسح الخف ، وهكذا وجه هذه الدلالة على الشيعة الإمام أبو جعفر بن جرير

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ٣٦٩.

(٢) مسند أحمد ٣ / ٣٩٠.

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٤٧٤.

(٤) مسند أحمد ٣ / ٤٢٦.

(٥) تفسير الطبري ٤ / ٤٧٥.

٤٩

رحمه‌الله تعالى ، وقد روى مسلم في صحيحه من طريق أبي الزبير عن جابر ، عن عمر بن الخطاب : أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه ، فأبصره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال «ارجع فأحسن وضوءك» (١). وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا محمد بن إسحاق الصنعاني ، حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ابن وهب ، حدثنا جرير بن حازم أنه سمع قتادة بن دعامة ، قال : حدثنا أنس بن مالك أن رجلا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد توضأ وترك على قدمه مثل موضع الظفر ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ارجع فأحسن وضوءك» وهكذا رواه أبو داود عن هارون بن معروف وابن ماجة عن حرملة بن يحيى ، كلاهما عن ابن وهب به. وهذا إسناد جيد ، رجاله كلهم ثقات ، لكن قال أبو داود : ليس هذا الحديث بمعروف ، لم يروه إلا ابن وهب (٢). وحدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، أخبرنا يونس وحميد عن الحسن : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بمعنى حديث قتادة.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا إبراهيم بن أبي العباس ، حدثنا بقية ، حدثني يحيى بن سعد عن خالد بن معدان ، عن بعض أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : رأى رجلا يصلي ، وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء ، فأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعيد الوضوء. ورواه أبو داود من حديث بقية ، وزاد : والصلاة. وهذا إسناد جيد قوي صحيح ، والله أعلم.

وفي حديث حمران عن عثمان في صفة وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه خلل بين أصابعه. وروى أهل السنن من حديث إسماعيل بن كثير عن عاصم بن لقيط بن صبرة ، عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله أخبرني عن الوضوء. فقال «أسبغ الوضوء ، وخلل بين الأصابع ، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما» (٤).

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا عبد الله بن يزيد أبو عبد الرحمن المقري ، حدثنا عكرمة بن عمار ، حدثنا شداد بن عبد الله الدمشقي قال : قال أبو أمامة : حدثنا عمرو بن عبسة قال : قلت : يا رسول الله ، أخبرني عن الوضوء ، قال «ما منكم من أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر إلا خرجت خطاياه من فمه وخياشيمه ، مع الماء حين ينتثر ، ثم يغسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا

__________________

(١) صحيح مسلم (طهارة حديث ٣١)

(٢) سنن أبي داود (طهارة باب ٦٦). وفيه أن هذا الحديث «ليس بمعروف عن جرير بن حازم ولم يروه إلا ابن وهب» قال : وقد روي عن معقل بن عبيد الله الجزري عن أبي الزبير عن جابر عن عمر عن النبي بنحوه.

(٣) مسند أحمد ٣ / ٤٢٤.

(٤) سنن أبي داود (طهارة باب ٥٦) من حديث طويل.

(٥) مسند أحمد ٤ / ١١٢ من حديث طويل.

٥٠

خرّت خطايا يديه من أطراف أنامله ، ثم يمسح رأسه إلا خرّت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله إلا خرّت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء ، ثم يقوم فيحمد الله ويثني عليه بالذي هو له أهل ، ثم يركع ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه». قال أبو أمامة : يا عمرو ، انظر ما تقول ، سمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيعطى هذا الرجل كله في مقامه؟ فقال عمرو بن عبسة : يا أبا أمامة ، لقد كبرت سني ، ورق عظمي ، واقترب أجلي ، وما بي حاجة أن أكذب على الله وعلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو لم أسمعه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا ، لقد سمعته سبع مرات أو أكثر من ذلك.

وهذا إسناد صحيح. وهو في صحيح مسلم من وجه آخر ، وفيه : ثم يغسل قدميه كما أمره الله ، فدل على أن القرآن يأمر بالغسل. وهكذا روى أبو إسحاق السبيعي عن الحارث ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : «اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أمرتم» ، ومن هاهنا يتضح لك المراد من حديث عبد خير عن علي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رش على قدميه الماء وهما في النعلين ، فدلكهما ، إنما أراد غسلا خفيفا ، وهما في النعلين ، ولا مانع من إيجاد الغسل والرجل في نعلها ، ولكن في هذا رد على المتعمقين والمتنطعين من الموسوسين.

وهكذا الحديث الذي أورده ابن جرير (١) على نفسه ، وهو من روايته عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة قال : «أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سباطة قوم ، فبال [عليها] (٢) قائما ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه» وهو حديث صحيح وقد أجاب ابن جرير عنه بأن الثقات الحفاظ رووه عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة ، قال : فبال قائما ثم توضأ ومسح على خفيه ، قلت : ويحتمل الجمع بينهما بأن يكون في رجليه خفان وعليهما نعلان ، وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل (٣) : حدثنا يحيى عن شعبة ، حدثني يعلى عن أبيه ، عن أوس بن أبي أوس ، قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ ومسح على نعليه ، ثم قام إلى الصلاة. وقد رواه أبو داود (٤) عن مسدد وعباد بن موسى ، كلاهما عن هشيم ، عن يعلى بن عطاء ، عن أبيه ، عن أوس بن أبي أوس قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى سباطة (٥) قوم ، فبال وتوضأ ومسح على نعليه وقدميه.

وقد رواه ابن جرير من طريق شعبة ومن طريق هشيم ، ثم قال : وهذا محمول على أنه توضأ كذلك وهو غير محدث ، إذ كان غير جائز أن تكون فرائض الله وسنن رسوله متنافية ومتعارضة ،

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٤٧٥.

(٢) الزيادة من الطبري. والسباطة : الموضع الذي ترمى فيه الكناسة والتراب.

(٣) مسند أحمد ٤ / ٨.

(٤) سنن أبي داود (طهارة باب ٦٢)

(٥) في سنن أبي داود : «أتى كظامة قوم ـ يعني الميضأة».

٥١

وقد صح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأمر بعموم غسل القدمين في الوضوء بالماء بالنقل المستفيض القاطع عذر من انتهى إليه وبلغه ، ولما كان القرآن آمرا بغسل الرجلين كما في قراءة النصب ، وكما هو الواجب في حمل قراءة الخفض عليه ، توهم بعض السلف أن هذه الآية ناسخة لرخصة المسح على الخفين ، وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب ، ولكن لم يصح إسناده ، ثم الثابت عنه خلافه ، وليس كما زعموه ، فإنه قد ثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسح على الخفين بعد نزول هذه الآية الكريمة.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا زياد بن عبد الله بن علاثة عن عبد الكريم بن مالك الجزري ، عن مجاهد ، عن جرير بن عبد الله البجلي قال : أنا أسلمت بعد نزول المائدة ، وأنا رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمسح بعد ما أسلمت ، تفرد به أحمد. وفي الصحيحين من حديث الأعمش عن إبراهيم ، عن همام قال : بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه ، فقيل : تفعل هذا؟ فقال : نعم ، رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه ، قال الأعمش : قال إبراهيم : فكان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة ، لفظ مسلم (٢). وقد ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشروعية المسح على الخفين قولا منه وفعلا ، كما هو مقرر في كتاب الأحكام الكبير مع ما يحتاج إلى ذكره هناك من تأقيت المسح أو عدمه ، أو التفصيل فيه ، كما هو مبسوط في موضعه.

وقد خالفت الروافض في ذلك بلا مستند بل بجهل وضلال ، مع أنه ثابت في صحيح مسلم من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، كما ثبت في الصحيحين عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم النهي عن نكاح المتعة وهم يستبيحونها ، وكذلك هذه الآية الكريمة دالة على وجوب غسل الرجلين مع ما ثبت بالتواتر من فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وفق ما دلت هذه الآية الكريمة ، وهم مخالفون لذلك كله وليس لهم دليل صحيح في نفس الأمر ، ولله الحمد ، وهكذا خالفوا الأئمة والسلف في الكعبين اللذين في القدمين فعندهم أنهما في ظهر القدم فعندهم في كل رجل كعب ، وعند الجمهور أن الكعبين هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم. قال الربيع : قال الشافعي : لم أعلم مخالفا في أن الكعبين اللذين ذكرهما الله في كتابه في الوضوء هما الناتئان ، وهما مجمع مفصل الساق والقدم ، هذا لفظه ، فعند الأئمة رحمهم‌الله : في كل قدم كعبان ، كما هو المعروف عند الناس ، وكما دلت عليه السنة ، ففي الصحيحين من طريق حمران عن عثمان أنه توضأ فغسل رجله اليمنى إلى الكعبين ، واليسرى مثل ذلك.

وروى البخاري (٣) تعليقا مجزوما به وأبو داود (٤) وابن خزيمة في صحيحه من رواية أبي

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٣٦٣.

(٢) صحيح مسلم (طهارة حديث ٧٢)

(٣) صحيح البخاري (أذان باب ٧١)

(٤) سنن أبي داود (صلاة باب ٩٣)

٥٢

القاسم الحسيني بن الحارث الجدلي ، عن النعمان بن بشير قال : أقبل علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بوجهه فقال «أقيموا صفوفكم ـ ثلاثا ـ والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم» قال : فرأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه ، وركبته بركبة صاحبه ، ومنكبه بمنكبه ، لفظ ابن خزيمة ، فليس يمكن أن يلزق كعبه بكعب صاحبه ، إلا والمراد به العظم الناتئ في الساق حتى يحاذي كعب الآخر ، فدل ذلك على ما ذكرناه من أنهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم كما هو مذهب أهل السنة ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إسماعيل بن موسى ، أخبرنا شريك عن يحيى بن الحارث التيمي يعني الخابر ، قال : نظرت في قتلى أصحاب زيد ، فوجدت الكعب فوق ظهر القدم ، وهذه عقوبة عوقب بها الشيعة بعد قتلهم ، تنكيلا بهم في مخالفتهم الحق وإصرارهم عليه.

وقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) كل ذلك قد تقدم الكلام عليه في تفسير آية النساء ، فلا حاجة بنا إلى إعادته لئلا يطول الكلام ، وقد ذكرنا سبب نزول آية التيمم هناك ، لكن البخاري روى هاهنا حديثا خاصا بهذه الآية الكريمة فقال : حدثنا يحيى بن سليمان ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه عن أبيه ، عن عائشة قالت : سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة ، فأناخ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزل ، فثنى رأسه في حجري راقدا ، فأقبل أبو بكر فلكزني لكزة شديدة وقال : حبست الناس في قلادة ، فتمنيت الموت لمكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مني ، وقد أوجعني ، ثم إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استيقظ ، وحضرت الصبح ، فالتمس الماء فلم يوجد ، فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) إلى آخر الآية ، فقال أسيد بن الحضير : لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر ما أنتم إلا بركة لهم (١).

وقوله تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) أي فلهذا سهل عليكم ويسر ولم يعسر ، بل أباح التيمم عند المرض وعند فقد الماء توسعة عليكم ، ورحمة بكم وجعله في حق من شرع له يقوم مقام الماء إلا من بعض الوجوه كما تقدم بيانه ، وكما هو مقرر في كتاب الأحكام الكبير ، وقوله تعالى : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي لعلكم تشكرون نعمه عليكم فيما شرعه لكم من التوسعة والرأفة والرحمة والتسهيل والسماحة ، وقد وردت السنة بالحث على الدعاء عقب الوضوء بأن يجعل فاعله من المتطهرين الداخلين في امتثال هذه الآية الكريمة ، كما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن عن عقبة بن عامر قال : كانت علينا رعاية الإبل ، فجاءت نوبتي فروحتها بعشي ، فأدركت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائما يحدث

__________________

(١) صحيح البخاري (تفسير سورة المائدة باب ٢)

٥٣

الناس ، فأدركت من قوله «ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ، ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبلا عليهما بقلبه ووجهه ، إلا وجبت له الجنة» قال : قلت : ما أجود هذا ، فإذا قائل بين يدي يقول : التي قبلها أجود منها ، فنظرت فإذا عمر رضي الله عنه فقال : إني قد رأيتك جئت آنفا قال «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ، يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية ، يدخل من أيها شاء» لفظ مسلم (١).

وقال مالك (٢) عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء ، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء ، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء ، حتى يخرج نقيا من الذنوب» ورواه مسلم عن أبي الطاهر ، عن ابن وهب ، عن مالك به ، وقال ابن جرير (٣) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا معاوية بن هشام عن سفيان ، عن منصور ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن كعب بن مرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من رجل يتوضأ فيغسل يديه أو ذراعيه ، إلا خرجت خطاياه منهما ، فإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه ، فإذا مسح رأسه خرجت خطاياه من رأسه ، فإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه» هذا لفظه. وقد رواه الإمام أحمد (٤) عن محمد بن جعفر ، عن شعبة عن منصور ، عن سالم ، عن مرة بن كعب أو كعب بن مرة السلمي ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «وإذا توضأ العبد فغسل يديه خرجت خطاياه من بين يديه ، وإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه ، وإذا غسل ذراعيه خرجت خطاياه من ذراعيه ، وإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه» قال شعبة : ولم يذكر مسح الرأس ، وهذا إسناد صحيح.

وروى ابن جرير (٥) من طريق شمر بن عطية عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة ، خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه» وروى مسلم في صحيحه من حديث يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن سلام ، عن جده ممطور ، عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض ، والصوم جنة ، والصبر ضياء ، والصدقة برهان ، والقرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو

__________________

(١) صحيح مسلم (طهارة حديث ١٧)

(٢) موطأ مالك (طهارة حديث ٣١)

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٤٧٩.

(٤) مسند أحمد ٤ / ٢٣٤ ـ ٢٣٥.

(٥) تفسير الطبري ٤ / ٤٧٩.

٥٤

موبقها» (١). وفي صحيح مسلم من رواية سماك بن حرب عن مصعب بن سعد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يقبل الله صدقة من غلول ، ولا صلاة بغير طهور» (٢). وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة عن قتادة ، سمعت أبا المليح الهذلي يحدث عن أبيه ، قال : كنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيت فسمعته يقول «إن الله لا يقبل صلاة من غير طهور ، ولا صدقة من غلول» وكذا رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث شعبة.

(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١١)

يقول تعالى مذكرا عباده المؤمنين نعمته عليهم في شرعه لهم هذا الدين العظيم. وإرساله إليهم هذا الرسول الكريم وما أخذ عليهم من العهد والميثاق في مبايعته على متابعته ومناصرته ومؤازرته ، والقيام بدينه وإبلاغه عنه ، وقبوله منه ، فقال تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا) وهذه هي البيعة التي كانوا يبايعون عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند إسلامهم كما قالوا : بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وأثره علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، وقال الله تعالى : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الحديد : ٨] ، وقيل : هذا تذكار لليهود بما أخذ عليهم من المواثيق والعهود في متابعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والانقياد لشرعه ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.

وقيل : هو تذكار بما أخذ تعالى من العهد على ذرية آدم حين استخرجهم من صلبه وأشهدهم على أنفسهم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) [الأعراف : ١٧٢] قاله مجاهد ومقاتل بن حيان ، والقول الأول أظهر ، وهو المحكي عن ابن عباس والسدي واختاره ابن جرير(٣).

ثم قال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) تأكيد وتحريض على مواظبة التقوى في كل حال ، ثم أعلمهم

__________________

(١) صحيح مسلم (طهارة حديث ١)

(٢) المصدر السابق.

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٤٨١.

٥٥

أنه يعلم ما يتخالج في الضمائر من الأسرار والخواطر ، فقال (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ) أي كونوا قوامين بالحق لله عزوجل ، لا لأجل الناس والسمعة ، وكونوا (شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل لا بالجور ، وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير أنه قال : نحلني أبي نحلا فقالت أمي عمرة بنت رواحة : لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاءه ليشهده على صدقتي ، فقال «أكل ولدك ، نحلت مثله؟» قال : لا ، فقال «اتقوا الله واعدلوا في أولادكم». وقال «إني لا أشهد على جور» قال : فرجع أبي فرد تلك الصدقة (١).

وقوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم ، بل استعملوا العدل في كل أحد صديقا كان أو عدوا ، ولهذا قال (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) أي عدلكم أقرب إلى التقوى من تركه ، ودل الفعل على المصدر الذي عاد الضمير عليه ، كما في نظائره من القرآن وغيره ، كما في قوله (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ) [النور : ٢٨].

وقوله : (هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) من باب استعمال أفعل التفضيل في المحل الذي ليس في الجانب الآخر منه شيء ، كما في قوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) [الفرقان : ٢٤] وكقول بعض الصحابيات لعمر : أنت أفظ وأغلظ من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي وسيجزيكم على ما علم من أفعالكم التي عملتموها ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، ولهذا قال بعده (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي لذنوبهم (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) وهو الجنة التي هي من رحمته على عباده ، لا ينالونها بأعمالهم بل برحمة منه وفضل ، وإن كان سبب وصول الرحمة إليهم أعمالهم ، وهو تعالى الذي جعلها أسبابا إلى نيل رحمته وفضله وعفوه ورضوانه فالكل منه وله ، فله الحمد والمنة.

ثم قال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) وهذا من عدله تعالى ، وحكمته وحكمه الذي لا يجور فيه ، بل هو الحكم العدل الحكيم القدير. وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ). قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الزهري ، ذكره عن أبي سلمة ، عن جابر : أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم نزل منزلا ، وتفرق الناس في العضاه (٢) يستظلون تحتها ، وعلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلاحه بشجرة ، فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخذه فسله ، ثم أقبل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : من

__________________

(١) صحيح البخاري (هبة باب ١٢) وصحيح مسلم (هبات حديث ٩ و١٠ و١٧) ، وسنن الترمذي (أحكام باب ٣٠)

(٢) العضاه : كل شجر له شوك ، صغر أو كبر. واحدته : عضاهة.

٥٦

يمنعك مني؟ قال : «الله عزوجل». قال الأعرابي ، مرتين أو ثلاثا : من يمنعك مني؟ والنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «الله». قال : فشام (١) الأعرابي السيف ، فدعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه ، فأخبرهم خبر الأعرابي ، وهو جالس إلى جنبه ، ولم يعاقبه ، وقال معمر : كان قتادة يذكر نحو هذا ، ويذكر أن قوما من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسلوا هذا الأعرابي ، وتأول (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) الآية (٢) ، وقصة هذا الأعرابي وهو غورث بن الحارث ثابتة في الصحيح.

وقال العوفي ، عن ابن عباس في هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) وذلك أن قوما من اليهود صنعوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه طعاما ليقتلوهم ، فأوحى الله إليه بشأنهم ، فلم يأت الطعام وأمر أصحابه فأتوه (٣) ، رواه ابن أبي حاتم. وقال أبو مالك : نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه حين أرادوا أن يغدروا بمحمد وأصحابه في دار كعب بن الأشرف ، رواه ابن أبي حاتم. وذكر محمد بن إسحاق بن يسار ومجاهد وعكرمة وغير واحد ، أنها نزلت في شأن بني النضير حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرحى ، لما جاءهم يستعينهم في دية العامريين ، ووكلوا عمرو بن جحاش بن كعب بذلك ، وأمروه إن جلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الجدار واجتمعوا عنده أن يلقي تلك الرحى من فوقه ، فأطلع الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما تمالئوا عليه ، فرجع إلى المدينة وتبعه أصحابه ، فأنزل الله في ذلك هذه الآية (٤). وقوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) يعني من توكل على الله كفاه الله ما أهمه ، وحفظه من شر الناس وعصمه ، ثم أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يغدو إليهم ، فحاصرهم حتى أنزلهم فأجلاهم.

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ

__________________

(١) شام سيفه : أغمده.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٤٨٧.

(٣) في الدر المنثور للسيوطي : «فلم يأتوه» وهو الصواب.

(٤) سيرة ابن هشام ٢ / ١٩٠.

٥٧

الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (١٤)

لما أمر تعالى عباده المؤمنين بالوفاء بعهده وميثاقه الذي أخذه عليهم على لسان عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمرهم بالقيام بالحق ، والشهادة بالعدل ، وذكرهم نعمه عليهم الظاهرة والباطنة فيما هداهم له من الحق والهدى ، شرع يبين لهم كيف أخذ العهود والمواثيق على من كان قبلهم من أهل الكتابين : اليهود والنصارى ، فلما نقضوا عهوده ومواثيقه أعقبهم ذلك لعنا منه لهم ، وطردا عن بابه وجنابه ، وحجابا لقلوبهم عن الوصول إلى الهدى ودين الحق ، وهو العلم النافع ، والعمل الصالح ، فقال تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) يعني عرفاء على قبائلهم بالمبايعة والسمع والطاعة لله ولرسوله ولكتابه ، وقد ذكر ابن عباس ومحمد بن إسحاق وغير واحد أن هذا كان لما توجه موسى عليه‌السلام لقتال الجبابرة ، فأمر بأن يقيم نقباء من كل سبط نقيب ، قال محمد بن إسحاق : فكان من سبط روبيل شامون بن زكّور ، ومن سبط شمعون شافاط بن حرى ، ومن سبط يهوذا كالب بن يوفنا ، ومن سبط أبين ميخائيل بن يوسف ، ومن سبط يوسف وهو سبط إفرايم يوشع بن نون ، ومن سبط بنيامين فلطمى بن رفون ومن سبط زبولون جدي بن سودى ومن سبط منشا بن يوسف جدي بن موسى ومن سبط دان حملائيل بن حمل ومن سبط أسير ساطور بن ملكيل ، ومن سبط نفثالي نحر بن وفسي ، ومن سبط جاد جولايل بن ميكى.

وقد رأيت في السفر الرابع من التوراة تعداد النقباء على أسباط بني إسرائيل وأسماء مخالفة لم ذكره ابن إسحاق ، والله أعلم ، قال فيها : فعلى بني روبيل اليصور بن سادون ، وعلى بني شمعون شموال بن صورشكي ، وعلى بني يهوذا يحشون بن عمياذاب ، وعلى بني يساخر شال بن صاعون ، وعلى بني زبولون الياب بن حالوب ، وعلى بني إفرايم منشا بن عمنهود ، وعلى بني منشا حمليائيل بن يرصون ، وعلى بني بنيامين أبيدن بن جدعون ، وعلى بني دان جعيذر بن عميشذي ، وعلى بني أسير نحايل بن عجران ، وعلى بني حاز السيف بن دعواييل ، وعلى بني نفتالي أجزع بن عمينان.

وهكذا لما بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأنصار ليلة العقبة ، كان فيهم اثنا عشر نقيبا : ثلاثة من الأوس : وهم أسيد بن الحضير ، وسعد بن خيثمة ، ورفاعة بن عبد المنذر ، ويقال بدله أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه ، وتسعة من الخزرج وهم : أبو أمامة أسعد بن زرارة ، وسعد بن الربيع ، وعبد الله بن رواحة ، ورافع بن مالك بن العجلان ، والبراء بن معرور ، وعبادة بن الصامت ، وسعد بن عبادة ، وعبد الله بن عمرو بن حرام ، والمنذر بن عمر بن حنيش رضي الله عنهم ، وقد ذكرهم كعب بن مالك في شعر له ، كما أورده ابن إسحاق رحمه‌الله ، والمقصود أن هؤلاء كانوا عرفاء على قومهم ليلتئذ عن أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم بذلك ، وهم الذين ولوا المعاقدة

٥٨

والمبايعة عن قومهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السمع والطاعة (١).

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن زيد عن مجالد عن الشعبي ، عن مسروق قال : كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن ، هل سألتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبد الله : ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك ، ثم قال : نعم ، ولقد سألنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل» هذا حديث غريب من هذا الوجه ، وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين من حديث جابر بن سمرة ، قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا» ثم تكلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكلمة خفيت علي ، فسألت أي ماذا قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال «كلهم من قريش» وهذا لفظ مسلم (٣). ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحا يقيم الحق ويعدل فيهم ، ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم ، بل وقد وجد منهم أربعة على نسق وهم الخلفاء الأربعة : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، رضي الله عنهم ، ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شك عند الأئمة وبعض بني العباس ، ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة ، والظاهر أن منهم المهدي المبشر به في الأحاديث الواردة بذكره ، فذكر أنه يواطئ اسمه اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واسم أبيه اسم أبيه ، فيملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما ، وليس هذا بالمنتظر الذي تتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب سامرا ، فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية ، بل هو من هوس العقول السخيفة ، وتوهم الخيالات الضعيفة ، وليس المراد بهؤلاء الخلفاء الاثني عشر الأئمة الاثني عشر الذين يعتقد فيهم الاثنا عشر من الروافض لجهلهم وقلة عقلهم.

وفي التوراة البشارة بإسماعيل عليه‌السلام ، وأن الله يقيم من صلبه اثني عشر عظيما ، وهم هؤلاء الخلفاء الاثنا عشر المذكورون في حديث ابن مسعود وجابر بن سمرة ، وبعض الجهلة ممن أسلم من اليهود إذا اقترن بهم بعض الشيعة يوهمونهم أنهم الأئمة الاثنا عشر ، فيتشيع كثير منهم جهلا وسفها لقلة علمهم وعلم من لقنهم ذلك بالسنن الثابتة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله تعالى : (وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ) أي بحفظي وكلاءتي ونصري (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) أي صدّقتموهم فيما يجيئونكم به من الوحي ، (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) أي نصرتموهم ووازرتموهم على الحق (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) وهو الإنفاق في سبيله وابتغاء مرضاته ، (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي ذنوبكم أمحوها وأسترها ولا أؤاخذكم بها ، (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي أدفع عنكم المحذور وأحصل لكم المقصود.

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٤٤٣ ـ ٤٤٥.

(٢) مسند أحمد ١ / ٣٩٨.

(٣) صحيح مسلم (إمارة حديث ٦)

٥٩

وقوله (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي فمن خالف هذا الميثاق بعد عقده وتوكيده وشده وجحده ، وعامله معاملة من لا يعرفه ، فقد أخطأ الطريق الواضح ، وعدل عن الهدى إلى الضلال ، ثم أخبر تعالى عما حل بهم من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده ، فقال (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) أي فسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم لعناهم ، أي أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى ، (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) أي فلا يتعظون بموعظة لغلظها وقساوتها ، (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) أي فسدت فهومهم وساء تصرفهم في آيات الله ، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله ، وحملوه على غير مراده ، وقالوا عليه ما لم يقل ، عياذا بالله من ذلك ، (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) أي وتركوا العمل به رغبة عنه. وقال الحسن : تركوا عرى دينهم ووظائف الله تعالى التي لا يقبل العمل إلا بها (١) ، وقال غيره : تركوا العمل فصاروا إلى حالة رديئة ، فلا قلوب سليمة ، ولا فطر مستقيمة ، ولا أعمال قويمة ، (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) يعني مكرهم وغدرهم لك ولأصحابك. وقال مجاهد وغيره : يعني بذلك تمالؤهم على الفتك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) وهذا هو عين النصر والظفر ، كما قال بعض السلف : ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه ، وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق ، ولعل الله أن يهديهم ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) يعني به الصفح عمن أساء إليك. وقال قتادة (٢) : هذه الآية (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) منسوخة بقوله (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ٢٩] الآية.

وقوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) أي ومن الذين ادعوا لأنفسهم أنهم نصارى متابعون المسيح ابن مريم عليه‌السلام وليسوا كذلك ، أخذنا عليهم العهود والمواثيق على متابعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومناصرته ، ومؤازرته ، واقتفاء آثاره ، وعلى الإيمان بكل نبي يرسله الله إلى أهل الأرض ، ففعلوا كما فعل اليهود ، خالفوا المواثيق ، ونقضوا العهود ، ولهذا قال تعالى : (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضا ، ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة ، وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين يكفر بعضهم بعضا ، ويلعن بعضهم بعضا ، فكل فرقة تحرم الأخرى ، ولا تدعها تلج معبدها ، فالملكية تكفر اليعقوبية ، وكذلك الآخرون ، وكذلك النسطورية والآريوسية ، كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ، ثم قال تعالى : (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) وهذا تهديد ووعيد أكيد للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله وعلى رسوله ، وما نسبوه إلى الرب عزوجل وتعالى وتقدس عن قولهم علوا كبيرا ، من جعلهم له صاحبة وولدا ، تعالى الواحد

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٤٩٧.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٤٩٨.

٦٠