تفسير القرآن العظيم - ج ٣

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٣

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٩٥

به حتى إذا أشرفت به على رأس حسبان على عسكر موسى وبني إسرائيل جعل يدعو عليهم ولا يدعو عليهم بشر إلا صرف الله لسانه إلى قومه ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف لسانه إلى بني إسرائيل ، فقال له قومه : أتدري يا بلعم ما تصنع؟ إنما تدعو لهم وتدعو علينا قال فهذا مالا أملك ، هذا شيء قد غلب الله عليه.

قال : واندلع لسانه (١) فوقع على صدره فقال لهم : قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة ولم يبق إلا المكر والحيلة فسأمكر لكم وأحتال ، جملوا النساء وأعطوهن السلع ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها فإنهم إن زنى رجل منهم واحد كفيتموهم ، ففعلوا فلما دخلت النساء العسكر مرت امرأة من الكنعانيين اسمها كسبي ـ ابنة صور رأس أمته ـ برجل من عظماء بني إسرائيل وهو زمري بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه‌السلام.

فلما رآها أعجبته ، فقام فأخذ بيدها وأتى بها موسى وقال : إني أظنك ستقول هذا حرام عليك؟ قال : أجل هي حرام عليك لا تقربها ، قال فو الله لا أطيعك في هذا فدخل بها قبته فوقع عليها وأرسل الله عزوجل الطاعون في بني إسرائيل ، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى وكان غائبا حين صنع زمري بن شلوم ما صنع ، فجاء والطاعون يجوس فيهم فأخبر الخبر فأخذ حربته وكانت من حديد كلها.

ثم دخل القبة وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء والحربة قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته وأسند الحربة إلى لحييه وكان بكر العيزار ، وجعل يقول اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك ورفع الطاعون ، فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص ، فوجدوه قد هلك منهم سبعون ألفا والمقلل لهم يقول عشرون ألفا في ساعة من النهار ، فمن هنالك تعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها الرقبة والذراع واللحى والبكر من كل أموالهم وأنفسها لأنه كان بكر أبيه العيزار ، ففي بلعام بن باعوراء أنزل الله (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها ـ إلى قوله ـ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٢).

وقوله تعالى : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) اختلف المفسرون في معناه ، فعلى سياق ابن إسحاق عن سالم عن أبي النضر أن بلعاما اندلع لسانه على صدره ، فتشبيهه بالكلب في لهيثه في كلتا حالتيه إن زجر وإن ترك ظاهر ، وقيل معناه فصار مثله في ضلاله واستمراره فيه وعدم انتفاعه بالدعاء إلى الإيمان وعدم الدعاء كالكلب في لهيثه

__________________

(١) اندلع لسانه : خرج من فمه واسترخى كلسان الكلب.

(٢) انظر الأثر في تفسير الطبري ٦ / ١٢٤ ، ١٢٥.

٤٦١

في حالتيه إن حملت عليه وإن تركته هو يلهث في الحالين ، فكذلك هذا لا ينتفع بالموعظة والدعوة إلى الإيمان ولا عدمه كما قال تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٦] (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [التوبة : ٨٠] ونحو ذلك ، وقيل معناه أن قلب الكافر والمنافق والضال ضعيف فارغ من الهدى فهو كثير الوجيب ، فعبر عن هذا بهذا نقل نحوه عن الحسن البصري وغيره.

وقوله تعالى : (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) يقول تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ) أي لعل بني إسرائيل العالمين بحال بلعام وما جرى له في إضلال الله إياه وإبعاده من رحمته ، بسبب أنه استعمل نعمة الله عليه في تعليمه الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب في غير طاعة ربه بل دعا به على حزب الرحمن وشعب الإيمان ، أتباع عبده ورسوله في ذلك الزمان ، كليم الله موسى بن عمران عليه‌السلام ، ولهذا قال (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي فيحذروا أن يكونوا مثله ، فإن الله قد أعطاهم علما وميزهم على من عداهم من الأعراب ، وجعل بأيديهم صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرفونها كما يعرفون أبناءهم ، فهم أحق الناس وأولاهم باتباعه ومناصرته ومؤازرته كما أخبرتهم أنبياؤهم بذلك وأمرتهم به ، ولهذا من خالف منهم ما في كتابه وكتمه فلم يعلم به العباد أحل الله به ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة.

وقوله (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) يقول تعالى ساء مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا [الأعراف : ١٧٧] أي ساء مثلهم أن شبهوا بالكلاب التي لا همة لها إلا في تحصيل أكلة أو شهوة فمن خرج عن حيز العلم والهدى وأقبل على شهوة نفسه واتبع هواه صار شبيها بالكلب وبئس المثل مثله ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ليس لنا مثل السوء ، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه» (١).

وقوله (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) أي ما ظلمهم الله ولكن هم ظلموا أنفسهم بإعراضهم عن اتباع الهدى ، وطاعة المولى ، إلى الركون إلى دار البلى ، والإقبال على تحصيل اللذات وموافقة الهوى.

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٧٨)

يقول تعالى من هداه الله فإنه لا مضل له ومن أضله فقد خاب وخسر وضل لا محالة ، فإنه تعالى ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، ولهذا جاء في حديث ابن مسعود «إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهد الله

__________________

(١) أخرجه البخاري في الهبة باب ٣٠ ، ومسلم في الهبات حديث ٥ ، ٦ ، وأبو داود في البيوع باب ٨١ ، والنسائي في الهبة باب ٣ ، ٤ ، وابن ماجة في الصدقات باب ١ ، وأحمد في المسند ١ / ٤٠ ، ٥٤ ، ٢١٧ ، ٢٣٧ ، ٢٨٩ ، ٣٤٩ ، ٣٥٠ ، ٢ / ٢٧ ، ١٧٥ ، ٢٠٨.

٤٦٢

فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» الحديث بتمامه رواه الإمام أحمد وأهل السنن وغيرهم.

(وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١٧٩)

يقول تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ) أي خلقنا وجعلنا لجهنم (كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي هيأناهم لها وبعمل أهلها يعملون ، فإنه تعالى لما أراد أن يخلق الخلق علم ما هم عاملون قبل كونهم فكتب ذلك عنده في كتاب قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، كما ورد في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» (١).

وفي صحيح مسلم أيضا : من حديث عائشة بنت طلحة عن خالتها عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت : دعي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت : يا رسول الله طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم» (٢).

وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود : «ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد» (٣) وتقدم أن الله لما استخرج ذرية آدم من صلبه وجعلهم فريقين أصحاب اليمين وأصحاب الشمال قال «هؤلاء للجنة ولا أبالي ، وهؤلاء للنار ولا أبالي» (٤) والأحاديث في هذا كثيرة ومسألة القدر كبيرة ليس هذا موضع بسطها.

وقوله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) يعني ليس ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله سببا للهداية ، كما قال تعالى : (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) [الأحقاف : ٢٦] الآية ، وقال تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [البقرة : ١٨] هذا في حق المنافقين.

وقال في حق الكافرين (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [البقرة : ١٧١] ولم يكونوا صما

__________________

(١) أخرجه مسلم في القدر حديث ١٦ ، وأبو داود في فضائل القرآن باب ٤ ، ٢٠ ، والترمذي في القدر باب ١٨ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٩٢ ، ٣٩٣ ، ٤٣٢.

(٢) أخرجه مسلم في القدر حديث ٣٠ ، ٣١.

(٣) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢٨ ، ومسلم في القدر حديث ١ ، ٤.

(٤) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٢٣٩.

٤٦٣

ولا بكما ولا عميا إلا عن الهدى ، كما قال تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنفال : ٢٣] وقال (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] وقال (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف : ٣٦ ـ ٣٧].

وقوله تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) أي هؤلاء الذين لا يسمعون الحق ولا يعونه ولا يبصرون الهدى ، كالأنعام السارحة التي لا تنتفع بهذه الحواس منها إلا في الذي يقيتها من ظاهر الحياة الدنيا ، كقوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) [البقرة : ١٧١] أي ومثلهم في حال دعائهم إلى الإيمان كمثل الأنعام إذا دعاها راعيها لا تسمع إلا صوته ، ولا تفقه ما يقول.

ولهذا قال في هؤلاء (بَلْ هُمْ أَضَلُ) أي من الدواب لأنها قد تستجيب مع ذلك لراعيها إذا أبس بها ، وإن لم تفقه كلامه بخلاف هؤلاء ، ولأنها تفعل ما خلقت له إما بطبعها وإما بتسخيرها بخلاف الكافر ، فإنه إنما خلق ليعبد الله ويوحده فكفر بالله وأشرك به ، ولهذا من أطاع الله من البشر كان أشرف من مثله من الملائكة في معاده ، ومن كفر به من البشر كانت الدواب أتم منه ، ولهذا قال تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ).

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٨٠)

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن لله تسعا وتسعين اسما مائة إلا واحدا ، من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر» (١) أخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عنه ، ورواه البخاري عن أبي اليمان عن شعيب عن أبي حمزة عن أبي الزناد به ، وأخرجه الترمذي في جامعه عن الجوزجاني عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم عن شعيب فذكر بسنده مثله.

وزاد بعد قوله «يحب الوتر : هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار ، المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار ، القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط ، الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير ، الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور ، الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم ، الرقيب المجيب الواسع الحكيم ، الودود المجيد الباعث الشهيد الحق ، الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد ، المحيي المميت ، الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر ، الظاهر

__________________

(١) روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة ، أخرجه البخاري في التوحيد باب ١٢ ، والشروط باب ١٨ ، والترمذي في الدعوات باب ٨٢ ، والوتر باب ٢ ، وابن ماجة في الإقامة باب ١١٤.

٤٦٤

الباطن الوالي المتعالي ، البر التواب المنتقم العفو الرؤوف ، مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني ، المانع الضار النافع ، النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور» ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب ، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة ، ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث ، ورواه ابن حبان في صحيحه من طريق صفوان به.

وقد رواه ابن ماجة (١) في سننه من طريق آخر عن موسى بن عقبة عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا فسرد الأسماء كنحو مما تقدم بزيادة ونقصان ، والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج (٢) فيه ، وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك ، أي أنهم جمعوها من القرآن. كما روي عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وأبي زيد اللغوي ، والله أعلم.

ثم ليعلم أن الأسماء الحسنى غير منحصرة في تسعة وتسعين بدليل ما رواه الإمام أحمد (٣) في مسنده عن يزيد بن هارون عن فضيل بن مرزوق عن أبي سلمة الجهني عن القاسم عن عبد الرحمن عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي ، إلا أذهب الله حزنه وهمه وأبدل مكانه فرحا» فقيل يا رسول الله : أفلا نتعلمها؟ فقال «بلى ينبغي لكل من سمعها أن يتعلمها».

وقد أخرجه الإمام أبو حاتم بن حبان البستي في صحيحه بمثله ، وذكر الفقيه الإمام أبو بكر بن العربي أحد أئمة المالكية في كتابه الأحوذي في شرح الترمذي أن بعضهم جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله ألف اسم ، فالله أعلم.

وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) قال : إلحاد الملحدين أن دعوا اللات في أسماء الله (٤). وقال ابن جريج عن مجاهد (وَذَرُوا الَّذِينَ

__________________

(١) كتاب الإقامة باب ١١٤.

(٢) الحديث المدرج : هو أن يذكر الراوي كلاما لنفسه أو لغيره ، فيرويه بعده متصلا بالحديث من غير فصل ، فيتوهم أنه من الحديث.

(٣) المسند ١ / ٣٩١ ، ٤٥٢.

(٤) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٣٢.

٤٦٥

يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) قال اشتقوا اللات من الله ، والعزى من العزيز (١) ، وقال قتادة يلحدون يشركون في أسمائه (٢). وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : الإلحاد التكذيب (٣) : وأصل الإلحاد في كلام العرب العدول عن القصد ، والميل والجور والانحراف ، ومنه اللحد في القبر لانحرافه إلى جهة القبلة عن سمت الحفر.

(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٨١)

يقول تعالى : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا) أي بعض الأمم (أُمَّةٌ) قائمة بالحق قولا وعملا (يَهْدُونَ بِالْحَقِ) يقولونه ويدعون إليه (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) يعملون ويقضون ، وقد جاء في الآثار أن المراد بهذه الأمة المذكورة في الآية هي هذه الأمة المحمدية ، قال سعيد عن قتادة في تفسير هذه الآية : بلغني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول إذا قرأ هذه الآية «هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (٤) [الأعراف : ١٥٩]. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في قوله تعالى : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم متى ما نزل»(٥).

وفي الصحيحين عن معاوية بن أبي سفيان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة» وفي رواية «حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» وفي رواية «وهم بالشام» (٦).

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (١٨٣)

يقول تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) ومعناه أنه يفتح لهم أبواب الرزق ووجوه المعاش في الدنيا حتى يغتروا بما هم فيه ويعتقدوا أنهم على شيء ، كما قال تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الأنعام : ٤٤ ـ ٤٥] ولهذا قال تعالى : (وَأُمْلِي لَهُمْ) أي وسأملي لهم ، أي أطول لهم ما هم فيه ، (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي قوي شديد.

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ١٣٢.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ١٣٢.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ١٣٢.

(٤) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٣٤.

(٥) انظر الأثر في الدر المنثور ٣ / ٢٧٢.

(٦) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢٩ ، ومسلم في الإمارة حديث ١٧٠ ، ١٧٤.

٤٦٦

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (١٨٤)

يقول تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) هؤلاء المكذبون بآياتنا (ما بِصاحِبِهِمْ) يعني محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم (مِنْ جِنَّةٍ) أي ليس به جنون ، بل هو رسول الله حقا ، دعا إلى حق (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي ظاهر لمن كان له لب وقلب يعقل به ويعي به ، كما قال تعالى : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) [التكوير : ٢٢] وقال تعالى : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) [سبأ : ٤٦] يقول : إنما أطلب منكم أن تقوموا قياما خالصا لله ليس فيه تعصب ولا عناد (مَثْنى وَفُرادى) ، أي : مجتمعين ومتفرقين.

(ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) في هذا الذي جاءكم بالرسالة من الله أبه جنون أم لا ، فإنكم إذا فعلتم ذلك بان لكم وظهر أنه رسول الله حقا وصدقا ، وقال قتادة بن دعامة : ذكر لنا أن نبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان على الصفا فدعا قريشا ، فجعل يفخذهم فخذا فخذا يا بني فلان ، يا بني فلان فحذرهم بأس الله ووقائع الله ، فقال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوت إلى الصباح أو حتى أصبح ، فأنزل الله تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (١).

(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (١٨٥)

يقول تعالى : أو لم ينظر هؤلاء المكذبون بآياتنا في ملك الله وسلطانه في السموات والأرض ، وفيما خلق من شيء فيهما ، فيتدبروا ذلك ويعتبروا به ، ويعلموا أن ذلك لمن لا نظير له ولا شبيه ، ومن فعل من لا ينبغي أن تكون العبادة والدين الخالص إلا له فيؤمنوا به ويصدقوا رسوله ، وينيبوا إلى طاعته ، ويخلعوا الأنداد والأوثان ، ويحذروا أن تكون آجالهم قد اقتربت فيهلكوا على كفرهم ويصيروا إلى عذاب الله وأليم عقابه. وقوله (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) يقول فبأي تخويف وتحذير وترهيب بعد تحذير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وترهيبه ، الذي أتاهم به من عند الله في آي كتابه يصدقون إن لم يصدقوا بهذا الحديث الذي جاءهم به محمد من عند الله عزوجل؟.

وقد روى الإمام أحمد (٢) : عن حسن بن موسى وعفّان بن مسلم وعبد الصمد بن عبد الوارث ، كلهم عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي الصلت عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رأيت ليلة أسري بي كذا ، فلما انتهينا إلى السماء السابعة

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٣٤ ، ١٣٥.

(٢) المسند ٢ / ٣٥٣ ، ٣٦٣.

٤٦٧

فنظرت فوقي فإذا أنا برعد وبرق وصواعق ، وأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم ، قلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء أكلة الربا ، فلما نزلت إلى السماء الدنيا فنظرت إلى أسفل مني فإذا أنا برهج ودخان وأصوات فقلت : ما هذا يا جبريل؟ قال : هؤلاء الشياطين يحومون على أعين بني آدم أن لا يتفكروا في ملكوت السموات والأرض ولو لا ذلك لرأوا العجائب» علي بن زيد بن جدعان له منكرات. ثم قال تعالى :

(مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١٨٦)

يقول تعالى : من كتب عليه الضلالة فإنه لا يهديه أحد ، ولو نظر لنفسه فيما نظر فإنه لا يجزي عنه شيئا (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [المائدة : ٤١] وكما قال تعالى : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يوسف : ١٠١].

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١٨٧)

يقول تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) كما قال تعالى : (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ) [الأحزاب : ٦٣] قيل نزلت في قريش ، وقيل في نفر من اليهود ، والأول أشبه لأن الآية مكية ، وكانوا يسألون عن وقت الساعة استبعادا لوقوعها وتكذيبا بوجودها ، كما قال تعالى: (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الأنبياء : ٣٨] وقال تعالى : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) [الشورى : ١٨].

وقوله (أَيَّانَ مُرْساها) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : منتهاها (١) أي متى محطها وأيان آخر مدة الدنيا الذي هو أول وقت الساعة (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) أمر تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سئل عن وقت الساعة أن يرد علمها إلى الله تعالى ، فإنه هو الذي يجليها لوقتها أي يعلم جلية أمرها ومتى يكون على التحديد ، لا يعلم ذلك إلا هو تعالى ، ولهذا قال (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال : ثقل علمها على أهل السموات والأرض أنهم لا يعلمون (٢) ، قال معمر : قال الحسن : إذا جاءت ثقلت على أهل السموات والأرض ، يقول : كبرت عليهم (٣).

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٣٧.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٣٧.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٣٨.

٤٦٨

وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال ليس شيء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة ، وقال ابن جريج (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال : إذا جاءت انشقت السماء وانتثرت النجوم ، وكورت الشمس ، وسيرت الجبال ، وكان ما قال الله عزوجل ، فذلك ثقلها (١) ، واختار ابن جرير رحمه‌الله أن المراد ثقل علم وقتها على أهل السموات والأرض كما قال قتادة ، وهو كما قالاه كقوله تعالى : (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) ولا ينفي ذلك ثقل مجيئها على أهل السموات والأرض ، والله أعلم.

وقال السدي : (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يقول : خفيت في السموات والأرض ، فلا يعلم قيامها حين تقوم ملك مقرب ولا نبي مرسل (٢) (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) يبغتهم قيامها تأتيهم على غفلة. وقال قتادة في قوله تعالى : (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) قضى الله أنها (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) قال : وذكر لنا أن نبي الله كان يقول «إن الساعة تهيج بالناس ، والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقيم سلعته في السوق ويخفض ميزانه ويرفعه» (٣).

وقال البخاري : حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب ، أنبأنا أبو الزناد عن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون ، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ، ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما ، فلا يتبايعانه ولا يطويانه. ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ، ولتقومن الساعة والرجل قد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها» (٤).

وقال مسلم في صحيحه ، حدثني زهير بن حرب ، حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة يبلغ به ، قال : تقوم الساعة والرجل يحلب لقحته ، فما يصل الإناء إلى فيه حتى تقوم الساعة والرجلان يتبايعان الثوب فما يتبايعانه حتى تقوم الساعة ، والرجل يلوط حوضه فما يصدر حتى تقوم (٥).

وقوله (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) اختلف المفسرون في معناه ، فقيل معناه كما قال العوفي عن ابن عباس (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) يقول : كأن بينك وبينهم مودة كأنك صديق لهم ، قال ابن عباس : لما سأل الناس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الساعة سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمدا حفي بهم ، فأوحى الله إليه إنما علمها عنده استأثر به ، فلم يطلع الله عليها ملكا مقربا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٣٨.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ١٣٧.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ١٣٨.

(٤) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٤٠.

(٥) أخرجه مسلم في الفتن حديث ١١٦ ، ١٤٠.

٤٦٩

ولا رسولا (١).

وقال قتادة : قالت قريش لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن بيننا وبينك قرابة فأسر إلينا متى الساعة؟ فقال الله عزوجل (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) (٢) وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وأبي مالك والسدي ، وهذا قول ، والصحيح عن مجاهد من رواية ابن أبي نجيح وغيره (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) قال : استحفيت عنها السؤال حتى علمت وقتها ، وكذا قال الضحاك عن ابن عباس (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) يقول : كأنك عالم بها لست تعلمها (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ).

وقال معمر عن بعضهم : (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) كأنك عالم بها (٣). وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) كأنك بها عالم وقد أخفى الله علمها على خلقه ، وقرأ (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان : ٣٤] الآية ، وهذا القول أرجح في المقام من الأول ، والله أعلم ، ولهذا قال (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). ولهذا لما جاء جبريل عليه‌السلام في صورة أعرابي ليعلم الناس أمر دينهم ، فجلس من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجلس السائل المسترشد ، وسأله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإسلام ، ثم عن الإيمان ، ثم عن الإحسان ، ثم قال : فمتى الساعة؟ قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» أي لست أعلم بها منك ولا أحد بها من أحد ، ثم قرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان : ٣٤] الآية.

وفي رواية فسأله عن أشراط الساعة ، فبين له أشراط الساعة ، ثم قال «في خمس لا يعلمهن إلا الله» وقرأ هذه الآية ، وفي هذا كله يقول له بعد كل جواب : صدقت ، ولهذا عجب الصحابة من هذا السائل يسأله ويصدقه ، ثم لما انصرف قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» وفي رواية قال «وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها إلا صورته هذه» (٤) وقد ذكرت هذا الحديث بطرقه وألفاظه من الصحاح والحسان والمسانيد في أول شرح البخاري ، ولله الحمد والمنة.

ولما سأله ذلك الأعرابي وناداه بصوت جهوري فقال : يا محمد ، قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «هاؤم» على نحو من صوته ، قال : يا محمد متى الساعة؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ويحك إن الساعة آتية فما أعددت لها» قال ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام ، ولكنني أحب الله

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٣٩.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ١٣٩.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ١٣٩.

(٤) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٣٧ ، وتفسير سورة ٣١ ، باب ٢ ، ومسلم في الإيمان حديث ١ ، ٥ ، ٧ ، وأبو داود في السنة باب ١٦ ، والترمذي في الإيمان باب ٤ ، والنسائي في الإيمان باب ٥ ، ٦ ، وابن ماجة في المقدمة باب ٩ ، والفتن باب ٢٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ٤٢٦.

٤٧٠

ورسوله ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «المرء مع من أحب» (١) فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث ، وهذا له طرق متعددة في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «المرء مع من أحب» وهي متواترة عند كثير من الحفاظ المتقنين ، ففيه أنه عليه‌السلام كان إذا سئل عن هذا الذي لا يحتاجون إلى علمه أرشدهم إلى ما هو الأهم في حقهم ، وهو الاستعداد لوقوع ذلك والتهيؤ له قبل نزوله وإن لم يعرفوا تعيين وقته.

ولهذا قال مسلم في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا : حدثنا أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : كانت الأعراب إذا قدموا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سألوه عن الساعة : متى الساعة؟ فينظر إلى أحدث إنسان منهم فيقول «إن يعش هذا لم يدركه الهرم حتى قامت عليكم ساعتكم» (٢) يعني بذلك موتهم الذي يفضي بهم إلى الحصول في برزخ الدار الآخرة. ثم قال مسلم : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يونس بن محمد عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الساعة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن يعش هذا الغلام فعسى أن لا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة» انفرد به مسلم (٣).

وحدثني حجاج بن الشاعر ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا سعيد بن أبي هلال المصري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : متى الساعة؟ فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هنيهة ، ثم نظر إلى غلام بين يديه من أزد شنوءة فقال «إن عمر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة» قال أنس : ذلك الغلام من أترابي (٤) ، وقال : حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة عن أنس قال : مر غلام للمغيرة بن شعبة وكان من أترابي فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن يؤخر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة» (٥) ورواه البخاري (٦) في كتاب الأدب من صحيحه عن عمرو بن عاصم عن همام بن يحيى عن قتادة عن أنس ، أن رجلا من أهل البادية قال : يا رسول الله متى الساعة؟ فذكر

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأدب باب ٩٦ ، ومسلم في البر حديث ١٦٥ ، والترمذي في الزهد باب ٥٠ ، والدعوات باب ٩٨ ، والدارمي في الرقاق باب ٧١ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٩٢ ، ٣ / ١٠٤ ، ١١٠ ، ١٥٩ ، ١٦٥ ، ١٦٧ ، ١٦٨ ، ١٧٢ ، ١٧٣ ، ١٧٨ ، ١٩٢ ، ١٩٨ ، ٢٠٠ ، ٢٠٢ ، ٢٠٧ ، ٢٠٨ ، ٢١٣ ، ٢٢٢ ، ٢٢٦ ، ٢٢٧ ، ٢٢٨ ، ٢٥٥ ، ٢٦٨ ، ٢٧٦ ، ٢٨٣ ، ٢٨٨ ، ٣٣٦ ، ٣٩٤ ، ٤ / ١٠٧ ، ١٦٠ ، ٢٣٩ ، ٢٤١ ، ٣٩٢ ، ٣٩٥ ، ٣٩٨ ، ٤٠٥.

(٢) أخرجه مسلم في الفتن حديث ١٣٦.

(٣) كتاب الفتن حديث ١٣٧.

(٤) أخرجه مسلم في الفتن حديث ١٣٨.

(٥) أخرجه مسلم في الفتن حديث ١٣٩.

(٦) كتاب الأدب باب ٩٥.

٤٧١

الحديث ، وفي آخره : فمر غلام للمغيرة بن شعبة وذكره ، وهذا الإطلاق في هذه الروايات محمول على التقييد بساعتكم في حديث عائشة رضي الله عنها.

وقال ابن جريج : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول قبل أن يموت بشهر «تسألوني عن الساعة ، وإنما علمها عند الله ، وأقسم بالله ما على ظهر الأرض اليوم من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة». رواه مسلم (١).

وفي الصحيحين عن ابن عمر مثله ، قال ابن عمر : وإنما أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انخرام ذلك القرن (٢). وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا هشيم ، أنبأنا العوام عن جبلة بن سحيم عن موثر بن عفارة عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى ، فتذاكروا أمر الساعة ـ قال ـ فردوا أمرهم إلى إبراهيم عليه‌السلام ، فقال لا علم لي بها ، فردوا أمرهم إلى موسى فقال لا علم لي بها فردوا أمرهم إلى عيسى فقال عيسى : أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله عزوجل ، وفيما عهد إلي ربي عزوجل أن الدجال خارج ـ قال ـ ومعي قضيبان ، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص ، قال : فيهلكه الله عزوجل إذا رآني حتى إن الشجر والحجر يقول : يا مسلم إن تحتي كافرا فتعال فاقتله.

قال : فيهلكهم الله عزوجل ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم ، قال : فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ، فيطئون بلادهم لا يأتون على شيء إلا أهلكوه ولا يمرون على ماء إلا شربوه : قال : ثم يرجع الناس إلي فيشكونهم فأدعو الله عزوجل عليهم فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم أي تنتن ، قال : فينزل الله عزوجل المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر.

قال الإمام أحمد : قال يزيد بن هارون : ثم تنسف الجبال وتمد الأرض مد الأديم ، ثم رجع إلى حديث هشيم ، قال : ففيما عهد إلي ربي عزوجل أن ذلك إذا كان كذلك ، فإن الساعة كالحامل المتمم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادتها ليلا أو نهارا ، ورواه ابن ماجة عن بندار عن يزيد بن هارون عن العوام بن حوشب بسنده نحوه ، فهؤلاء أكابر أولي العزم من المرسلين ليس عندهم علم بوقت الساعة على التعيين ، وإنما ردوا الأمر إلى عيسى عليه‌السلام ، فتكلم على أشراطها لأنه ينزل في آخر هذه الأمة منفذا لأحكام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقتل المسيح الدجال ، ويجعل الله هلاك يأجوج ومأجوج ببركة دعائه ، فأخبر بما أعلمه الله تعالى به.

__________________

(١) كتاب فضائل الصحابة حديث ٢١٧.

(٢) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث ٢١٦ ، وأبو داود في الملاحم باب ١٧ ، والترمذي في الفتن باب ٦٤.

(٣) المسند ١ / ٣٧٥.

٤٧٢

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا يحيى بن أبي بكير ، حدثنا عبيد بن إياد بن لقيط ، قال : سمعت أبي يذكر عن حذيفة قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الساعة ، فقال «علمها عند ربي عزوجل لا يجليها لوقتها إلا هو ، ولكن سأخبركم بمشاريطها وما يكون بين يديها ، إن بين يديها فتنة وهرجا» قالوا : يا رسول الله الفتنة قد عرفناها فما الهرج؟ قال «بلسان الحبشة القتل» قال «ويلقى بين الناس التناكر ، فلا يكاد أحد يعرف أحدا» لم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه.

وقال وكيع : حدثنا ابن أبي خالد عن طارق بن شهاب قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يزال يذكر من شأن الساعة حتى نزلت (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) الآية ، ورواه النسائي من حديث عيسى بن يونس عن إسماعيل بن أبي خالد به ، وهذا إسناد جيد قوي ، فهذا النبي الأمي سيد الرسل وخاتمهم محمد صلوات الله عليه وسلامه نبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملحمة والعاقب والمقفى والحاشر الذي تحشر الناس على قدميه ، مع قوله فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث أنس وسهل بن سعد رضي الله عنهما «بعثت أنا والساعة كهاتين» وقرن بين إصبعيه السبابة والتي تليها (٢) ، ومع هذا كله قد أمره الله أن يرد علم وقت الساعة إليه إذا سئل عنها ، فقال (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١٨٨)

أمره الله تعالى أن يفوض الأمور إليه ، وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب المستقبل ولا اطلاع له على شيء من ذلك إلا بما أطلعه الله عليه ، كما قال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) [الجن : ٢٦] الآية. وقوله (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) قال عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن مجاهد (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) قال : لو كنت أعلم متى أموت لعملت عملا صالحا ، وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وقال مثله ابن جريج ، وفيه نظر لأن عمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ديمة (٣) ، وفي رواية : كان إذا عمل عملا أثبته (٤) ، فجميع عمله كان على منوال واحد كأنه ينظر إلى الله عزوجل في جميع أحواله ، اللهم إلا أن يكون المراد أن يرشد غيره إلى الاستعداد لذلك ، والله أعلم.

والأحسن في هذا ما رواه الضحاك عن ابن عباس (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ

__________________

(١) المسند ٥ / ٣٨٩.

(٢) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٣٩ ، ومسلم في الجمعة حديث ٣٧.

(٣) أخرجه البخاري في الصوم باب ٦٤ ، ومسلم في المسافرين حديث ٢١٧.

(٤) أخرجه مسلم في المسافرين حديث ١٤١ ، ٢١٥ ، وأبو داود في التطوع باب ٢٧.

٤٧٣

الْخَيْرِ) أي من المال. وفي رواية : لعلمت إذا اشتريت شيئا ما أربح فيه ، فلا أبيع شيئا إلا ربحت فيه (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) ولا يصيبني الفقر.

وقال ابن جرير (١) : وقال آخرون : معنى ذلك لو كنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من المخصبة ولوقت الغلاء من الرخص ، فاستعددت له من الرخص ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) قال : لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون واتقيته ، ثم أخبر أنه إنما هو نذير وبشير ، أي نذير من العذاب وبشير للمؤمنين بالجنات ، كما قال تعالى : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) [مريم : ٩٧].

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٩٠)

ينبه تعالى على أنه خلق جميع الناس من آدم عليه‌السلام. وأنه خلق منه زوجته حواء ثم انتشر الناس منهما ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣] وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) [النساء : ١] الآية ، وقال في هذا الآية الكريمة (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) أي ليألفها ويسكن بها ، كقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم : ٢١] فلا ألفة بين روحين أعظم مما بين الزوجين ، ولهذا ذكر تعالى أن الساحر ربما توصل بكيده إلى التفرقة بين المرء وزوجه (فَلَمَّا تَغَشَّاها) أي وطئها (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) وذلك أول الحمل لا تجد المرأة له ألما ، إنما هي النطفة ثم العلقة ثم المضغة.

وقوله (فَمَرَّتْ بِهِ) قال مجاهد : استمرت بحمله (٢) ، وروي عن الحسن وإبراهيم النخعي والسدي نحوه ، وقال ميمون بن مهران عن أبيه : استخفته. وقال أيوب : سألت الحسن عن قوله (فَمَرَّتْ بِهِ) قال : لو كنت رجلا عربيا لعرفت ما هي إنما هي فاستمرت به ، وقال قتادة (فَمَرَّتْ بِهِ) استبان حملها. وقال ابن جرير : معناه استمرت بالماء قامت به وقعدت. وقال العوفي عن ابن عباس : استمرت به فشكت أحملت أم لا (٣)؟ (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) أي صارت ذات ثقل بحملها. وقال السدي : كبر الولد في بطنها (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) أي بشرا سويا ، كما قال الضحاك عن ابن عباس : أشفقا أن يكون بهيمة ، وكذلك قال أبو البختري

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ١٤١.

(٢) انظر هذه الآثار في تفسير الطبري ٦ / ١٤١ ، ١٤٢ ، ١٤٣.

(٣) انظر هذه الآثار في تفسير الطبري ٦ / ١٤١ ، ١٤٢ ، ١٤٣.

٤٧٤

وأبو مالك : أشفقا أن لا يكون إنسانا (١).

وقال الحسن البصري : لئن آتيتنا غلاما (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) يذكر المفسرون هاهنا آثارا وأحاديث سأوردها وأبين ما فيها ، ثم نتبع ذلك ببيان الصحيح في ذلك إن شاء الله وبه الثقة.

قال الإمام أحمد (٢) في مسنده : حدثنا عبد الصمد : حدثنا عمر بن إبراهيم ، حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لما ولدت حواء طاف بها إبليس ، وكان لا يعيش لها ولد ، فقال : سميه عبد الحارث فإنه يعيش ، فسمته عبد الحارث فعاش ، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره» (٣) ، وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن بشار عن بندار عن عبد الصمد بن عبد الوارث به ، ورواه الترمذي في تفسير هذه الآية عن محمد بن المثنى عن عبد الصمد به ، وقال : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم ، ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه ، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الصمد مرفوعا ، ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه. ورواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيره عن أبي زرعة الرازي عن هلال بن فياض عن عمر بن إبراهيم به مرفوعا.

وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من حديث شاذ بن فياض عن عمر بن إبراهيم مرفوعا ، قلت : وشاذ هو هلال ، وشاذ لقبه ، والغرض أن هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه [أحدها] أن عمر بن إبراهيم هذا هو البصري وقد وثقه ابن معين ، ولكن قال أبو حاتم الرازي : لا يحتج به ، ولكن رواه ابن مردويه من حديث المعتمر عن أبيه عن الحسن عن سمرة مرفوعا ، فالله أعلم. [الثاني] أنه قد روي من قول سمرة نفسه ليس مرفوعا ، كما قال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر عن أبيه ، حدثنا بكر بن عبد الله بن سليمان التيمي عن أبي العلاء بن الشخير عن سمرة بن جندب قال : سمى آدم ابنه عبد الحارث. [الثالث] أن الحسن نفسه فسر الآية بغير هذا ، فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعا لما عدل عنه.

قال ابن جرير (٤) : حدثنا ابن وكيع حدثنا سهل بن يوسف عن عمرو عن الحسن (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) قال : كان هذا في بعض أهل الملل ولم يكن بآدم.

وحدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثور عن معمر قال : قال الحسن : عنى بها ذرية آدم ومن أشرك منهم بعده يعني (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) (٥). وحدثنا بشر ، حدثنا

__________________

(١) انظر هذه الآثار في تفسير الطبري ٦ / ١٤١ ، ١٤٢ ، ١٤٣.

(٢) المسند ٥ / ١١.

(٣) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٧ ، باب ٤ ، والطبري في تفسيره ٦ / ١٤٥.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ١٤٧.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ١٤٧.

٤٧٥

يزيد ، حدثنا سعيد عن قتادة قال : كان الحسن يقول هم اليهود ، والنصارى رزقهم الله أولادا فهودوا ونصروا (١) ، وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن رضي الله عنه أنه فسر الآية بذلك ، وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية ، ولو كان هذا الحديث عنده محفوظا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما عدل عنه هو ولا غيره ولا سيما مع تقواه لله وورعه ، فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي ، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب من آمن منهم مثل كعب أو وهب بن منبه وغيرهما ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله إلا أننا برئنا من عهدة المرفوع ، والله أعلم.

فأما الآثار فقال محمد بن إسحاق بن يسار عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال : كانت حواء تلد لآدم عليه‌السلام أولادا فيعبدهم لله ويسميهم عبد الله وعبيد الله ونحو ذلك ، فيصيبهم الموت ، فأتاهما إبليس فقال : إنكما لو سميتماه بغير الذي تسميانه به لعاش ، قال : فولدت له رجلا فسماه عبد الحارث ، ففيه أنزل الله يقول (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ـ إلى قوله ـ جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) إلى آخر الآية (٢).

وقال العوفي عن ابن عباس قوله في آدم (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ـ إلى قوله ـ فَمَرَّتْ بِهِ) شكت أحملت أم لا؟ (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) فأتاهما الشيطان ، فقال : هل تدريان ما يولد لكما؟ أم هل تدريان ما يكون أبهيمة أم لا؟ وزين لهما الباطل ، إنه غوي مبين ، وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا ، فقال لهما الشيطان : إنكما إن لم تسمياه بي لم يخرج سويا ومات كما مات الأول ، فسميا ولدهما عبد الحارث ، فذلك قول الله تعالى : (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) الآية (٣).

وقال عبد الله بن المبارك عن شريك عن خصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) قال : قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها) آدم (حَمَلَتْ) فأتاهما إبليس لعنه الله فقال : إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعاني أو لأجعلن له قرني إبل فيخرج من بطنك فيشقه ، ولأفعلن ولأفعلن يخوفهما ، فسمياه عبد الحارث فأبيا أن يطيعاه ، فخرج ميتا ، ثم حملت الثانية فأتاهما أيضا فقال : أنا صاحبكما الذي فعلت ما فعلت لتفعلن أو لأفعلن ـ يخوفهما ـ فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا ، ثم حملت الثالثة فأتاهما أيضا فذكر لهما فأدركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث ، فذلك قوله تعالى : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) رواه ابن أبي حاتم.

وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس من أصحابه كمجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة ، ومن

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ١٤٧.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ١٤٥.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٤٥.

٤٧٦

الطبقة الثانية قتادة والسدي وغير واحد من السلف وجماعة من الخلف ، ومن المفسرين من المتأخرين جماعات لا يحصون كثرة ، وكأنه ـ والله أعلم ـ أصله مأخوذ من أهل الكتاب ، فإن ابن عباس رواه عن أبي بن كعب ، كما رواه ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الجماهر ، حدثنا سعيد يعني ابن بشير عن عقبة عن قتادة عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : لما حملت حواء أتاها الشيطان فقال لها : أتطيعيني ويسلم لك ولدك ، سميه عبد الحارث ، فلم تفعل ، فولدت فمات ، ثم حملت فقال لها مثل ذلك فلم تفعل ، ثم حملت الثالثة فجاءها فقال : إن تطيعيني يسلم وإلا فإنه يكون بهيمة ، فهيبهما فأطاعا.

وهذه الآثار يظهر عليها ـ والله أعلم ـ أنها من آثار أهل الكتاب ، وقد صح الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم» (١) ثم أخبارهم على ثلاثة أقسام ، فمنها ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب الله أو سنة رسوله ، ومنها ما علمنا كذبه بما دل على خلافه من الكتاب والسنة أيضا ، ومنها ما هو مسكوت عنه فهو المأذون في روايته بقوله عليه‌السلام «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» (٢) وهو الذي لا يصدق ولا يكذب لقوله «فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم» وهذا الأثر هو من القسم الثاني أو الثالث فيه نظر ، فأما من حدث به من صحابي أو تابعي فإنه يراه من القسم الثالث ، وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري رحمه‌الله في هذا ، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء ، وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته ولهذا قال الله (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ثم قال فذكر آدم وحواء أولا كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين ، وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس ، كقوله (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) [الملك : ٥] الآية ، ومعلوم أن المصابيح وهي النجوم التي زينت بها السماء ليست هي التي يرمى بها ، وإنما هذا استطراد من شخص المصابيح إلى جنسها ، ولهذا نظائر في القرآن ، والله أعلم.

(أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ(١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ

__________________

(١) أخرجه البخاري في الشهادات باب ٢٩ ، وتفسير سورة ٢ ، باب ١١ ، والاعتصام باب ٢٥ ، والتوحيد باب ٥١ ، وأبو داود في العلم باب ٢ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٣٦.

(٢) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٥٠ ، ومسلم في الزهد حديث ٧٢ ، والترمذي في العلم باب ١٣ ، وابن ماجة في المقدمة باب ٥ ، وأحمد في المسند ٣ / ٣٩ ، ٤٦.

٤٧٧

إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (١٩٨)

هذا إنكار من الله على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأنداد والأصنام والأوثان ، وهي مخلوقة لله مربوبة مصنوعة ، لا تملك شيئا من الأمر ولا تضر ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تنتصر لعابديها ، بل هي جماد لا تتحرك ولا تسمع ولا تبصر ، وعابدوها أكمل منها بسمعهم وبصرهم وبطشهم ، ولهذا قال : (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أي أتشركون به من المعبودات ما لا يخلق شيئا ولا يستطيع ذلك ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج : ٧٣ ـ ٧٤].

أخبر تعالى أن آلهتهم لو اجتمعوا كلهم ما استطاعوا خلق ذبابة بل لو سلبتهم الذبابة شيئا من حقير المطاعم وطارت ، لما استطاعوا إنقاذه منها ، فمن هذه صفته وحاله كيف يعبد ليرزق ويستنصر؟ ولهذا قال تعالى : (لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أي بل هم مخلوقون مصنوعون كما قال الخليل (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) [الصافات : ٩٥] الآية.

ثم قال تعالى : (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً) أي لعابديهم (وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) يعني ولا لأنفسهم ينصرون ممن أرادهم بسوء ، كما كان الخليل عليه الصلاة والسلام يكسر أصنام قومه ويهينها غاية الإهانة كما أخبر تعالى عنه في قوله : (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) [الصافات : ٩٣] وقال تعالى : (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) [الأنبياء : ٥٨] وكما كان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما ، وكانا شابين قد أسلما لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، فكانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتلفانها ويتخذانها حطبا للأرامل ليعتبر قومهما بذلك ويرتئوا لأنفسهم ، فكان لعمرو بن الجموح وكان سيدا في قومه صنم يعبده ويطيبه ، فكانا يجيئان في الليل فينكسانه على رأسه ويلطخانه. بالعذرة ، فيجيء عمرو بن الجموح فيرى ما صنع به ، فيغسله ويطيبه ويضع عنده سيفا ويقول له : انتصر ، ثم يعودان لمثل ذلك ، ويعود إلى صنيعه أيضا ، حتى أخذاه مرة فقرناه مع كلب ميت ، ودلياه في حبل في بئر هناك ، فلما جاء عمرو بن الجموح ورأى ذلك نظر فعلم أن ما كان عليه من الدين باطل ، وقال : [رجز]

تالله لو كنت إلها مستدن

لم تك والكلب جميعا في قرن (١)

ثم أسلم فحسن إسلامه ، وقتل يوم أحد شهيدا رضي الله عنه وأرضاه وجعل جنة الفردوس مأواه ، وقوله (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ) الآية ، يعني أن هذه الأصنام لا تسمع دعاء

__________________

(١) الرجز في سيرة ابن هشام ١ / ٣٥٤.

٤٧٨

دعاها ، وسواء لديها من دعاها ومن دحاها ، كما قال إبراهيم (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم : ٤٢] ثم ذكر تعالى أنها عبيد مثل عابديها أي مخلوقات مثلهم ، بل الأناس أكمل منها لأنها تسمع وتبصر وتبطش ، وتلك لا تفعل شيئا من ذلك.

وقوله (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) الآية ، أي استنصروا بها علي فلا تؤخروني طرفة عين ، واجهدوا جهدكم (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) أي الله حسبي وكافيّ ، وهو نصيري وعليه متكلي وإليه ألجأ ، وهو وليي في الدنيا والآخرة وهو ولي كل صالح بعدي وهذا كما قال هود عليه‌السلام لما قال له قومه (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود : ٥٤ ـ ٥٦] وكقول الخليل (أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) [الشعراء : ٧٥ ـ ٧٨] الآيات ، وكقوله لأبيه وقومه (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الزخرف : ٢٦ ـ ٢٨].

وقوله (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) إلى آخر الآية ، مؤكد لما تقدم إلا أنه بصيغة الخطاب وذلك بصيغة الغيبة ، ولهذا قال (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) ، وقوله (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) كقوله تعالى : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) [فاطر : ١٤] الآية. وقوله (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) إنما قال (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) أي يقابلونك بعيون مصورة كأنها ناظرة وهي جماد ، ولهذا عاملهم معاملة من يعقل لأنها على صورة مصورة كالإنسان (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) ، فعبر عنها بضمير من يعقل ، وقال السدي : المراد بهذا المشركون ، وروي عن مجاهد نحوه ، والأول أولى ، وهو اختيار ابن جرير ، وقاله قتادة.

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٠٠)

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (خُذِ الْعَفْوَ) يعني خذ ما عفي لك من أموالهم وما أتوك به من شيء فخذه ، وكان هذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها وما انتهت إليه الصدقات ، قاله السدي. وقال الضحاك عن ابن عباس (خُذِ الْعَفْوَ) أنفق الفضل ، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس (خُذِ الْعَفْوَ) قال : الفضل. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله (خُذِ الْعَفْوَ) أمره الله بالعفو والصفح عن المشركين عشر سنين ، ثم أمره

٤٧٩

بالغلظة عليهم ، واختار هذا القول ابن جرير (١).

وقال غير واحد عن مجاهد في قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ) قال : من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس. وقال هشام بن عروة عن أبيه : أمر الله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس ، وفي رواية قال : خذ ما عفي لك من أخلاقهم ، وفي صحيح البخاري عن هشام عن أبيه عروة عن أخيه عبد الله بن الزبير قال : إنما أنزل (خُذِ الْعَفْوَ) من أخلاق الناس (٢) وفي رواية لغيره عن هشام عن أبيه عن ابن عمر ، وفي رواية عن هشام عن أبيه عن عائشة أنهما قالا مثل لك ، والله أعلم.

وفي رواية سعيد بن منصور عن أبي معاوية عن هشام عن وهب بن كيسان عن أبي الزبير خذ العفو ، قال : من أخلاق الناس ، والله لآخذنه منهم ما صحبتهم ، وهذا أشهر الأقوال ، ويشهد له ما رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم جميعا : حدثنا يونس حدثنا سفيان هو ابن عيينة عن أميّ قال : لما أنزل الله عزوجل على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما هذا يا جبريل؟» قال : إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك.

وقد رواه ابن أبي حاتم أيضا عن أبي يزيد القراطيسي كتابة ، عن أصبغ بن الفرج عن سفيان عن أميّ عن الشعبي نحوه ، وهذا مرسل على كل حال ، وقد روي له شواهد من وجوه أخر ، وقد روي مرفوعا عن جابر وقيس بن سعد بن عبادة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسندهما ابن مردويه.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا معاذ بن رفاعة ، حدثني علي بن يزيد عن القاسم بن أبي أمامة الباهلي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : لقيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فابتدأته ، فأخذت بيده فقلت : يا رسول الله أخبرني بفواضل الأعمال ، فقال «يا عقبة صل من قطعك ، وأعط من حرمك ، وأعرض عمن ظلمك» وروى الترمذي نحوه من طريق عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد به. وقال : حسن. قلت : ولكن علي بن يزيد وشيخه القاسم أبو عبد الرحمن فيهما ضعف.

وقال البخاري (٤) : قوله (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) العرف : المعروف ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب عن الزهري ، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قدم عيينة بن حصن بن حذيفة ، فنزل على ابن أخيه

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ١٥٣.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٧ باب ٥ ، وأبو داود في الأدب باب ٤.

(٣) المسند ٤ / ١٤٨.

(٤) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٧ ، باب ٥.

٤٨٠