تفسير القرآن العظيم - ج ٣

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٣

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٩٥

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقص على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخبر قال أبو الدرداء فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعل أبو بكر يقول والله يا رسول الله لأنا كنت أظلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل أنتم تاركو لي صاحبي؟ إني قلت يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت» انفرد به البخاري.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الصمد حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس مرفوعا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي ولا أقوله فخرا بعثت إلى الناس كافة الأحمر والأسود ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي يوم القيامة فهي لمن لا يشرك بالله شيئا» إسناد جيد ولم يخرجوه.

وقال الإمام أحمد (٢) أيضا : حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا بكر بن مضر عن ابن الهاد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه حتى إذا صلّى انصرف إليهم فقال لهم «لقد أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد قبلي أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه ، ونصرت على العدو بالرعب ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ مني رعبا وأحلت لي الغنائم أكلها ، وكان من قبلي يعظمون أكلها كانوا يحرقونها وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت وكان من قبلي يعظمون ذلك إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم ، والخامسة هي ما هي قيل لي سل فإن كل نبي قد سأل فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله» إسناد جيد قوي أيضا ولم يخرجوه.

وقال أيضا (٣) : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من سمع بي من أمتي أو يهودي أو نصراني فلم يؤمن بي لم يدخل الجنة» وهذا الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار» (٤).

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا أبو يونس وهو سليم بن جبير عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي

__________________

(١) المسند ١ / ٣٠١ ، ٣٥٠.

(٢) المسند ٢ / ٢٢٢.

(٣) المسند ٤ / ٣٩٦.

(٤) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٤٠.

(٥) المسند ٢ / ٣٥٠.

٤٤١

أو نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» تفرد به أحمد.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسين بن محمد حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أعطيت خمسا بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة وليس من نبي إلا وقد سأل الشفاعة وإني قد اختبأت شفاعتي ثم جعلتها لمن مات من أمتي لم يشرك بالله شيئا» وهذا أيضا إسناد صحيح ولم أرهم خرجوه والله أعلم.

وله مثله من حديث ابن عمر بسند جيد أيضا وهذا الحديث ثابت في الصحيحين أيضا من حديث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة» (٢).

وقوله (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ) صفة الله تعالى في قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الذي أرسلني هو خالق كل شيء وربه ومليكه الذي بيده الملك والإحياء والإماتة وله الحكم» وقوله (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِ) أخبرهم أنه رسول الله إليهم ثم أمرهم باتباعه والإيمان به (النَّبِيِّ الْأُمِّيِ) أي الذي وعدتم به وبشرتم به في الكتب المتقدمة فإنه منعوت بذلك في كتبهم ولهذا قال النبي الأمي وقوله (الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) أي يصدق قوله عمله وهو يؤمن بما أنزل إليه من ربه (وَاتَّبِعُوهُ) أي اسلكوا طريقه واقتفوا أثره (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي إلى الصراط المستقيم.

(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٥٩)

يقول تعالى مخبرا عن بني إسرائيل أن منهم طائفة يتبعون الحق ويعدلون به كما قال تعالى :

(مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) [آل عمران : ١١٣] وقال تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [آل عمران : ١٩٩] وقال تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) [القصص : ٥٢ ـ ٥٤] الآية ، وقال تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [البقرة :

__________________

(١) المسند ٤ / ٤١٦.

(٢) أخرجه البخاري في التيمم باب ١ ، ومسلم في المساجد حديث ٣ ، ٥.

٤٤٢

١٢١] وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) [الإسراء : ١٠٧ ـ ١٠٩].

وقد ذكر ابن جرير (١) في تفسيرها خبرا عجيبا فقال حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا حجاج عن ابن جريج قوله (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) قال : بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطا تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله عزوجل أن يفرق بينهم وبينهم ففتح الله لهم نفقا في الأرض ، فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين فهم هنالك حنفاء مسلمين يستقبلون قبلتنا ، قال ابن جريج قال ابن عباس فذلك قوله (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) [الإسراء : ١٠٤] ووعد الآخرة عيسى ابن مريم قال ابن جريج قال ابن عباس ساروا في السرب سنة ونصفا.

وقال ابن عيينة عن صدقة أبي الهذيل عن السدي (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) قال قوم بينكم وبينهم نهر من شهد (٢).

(وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) (١٦٢)

تقدم تفسير هذا كله في سورة البقرة (٣) وهي مدنية وهذا السياق مكي ونبهنا على الفرق بين هذا السياق وذاك بما أغنى عن إعادته هنا. ولله الحمد والمنة.

(وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (١٦٣)

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٨٩.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٨٨ ، ٨٩.

(٣) انظر تفسير الآية ٦٠ من سورة البقرة.

٤٤٣

هذا السياق هو بسط لقوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) [البقرة : ٦٥] الآية يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه (وَسْئَلْهُمْ) أي واسأل هؤلاء اليهود الذين بحضرتك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله ففاجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة وحذر هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهم لئلا يحل بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم وهذه القرية هي أيلة وهي على شاطئ بحر القلزم.

قال محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) قال هي قرية يقال لها أيلة بين مدين والطور (١) وكذا قال عكرمة ومجاهد وقتادة والسدي وقال عبد الله بن كثير القارئ سمعنا أنها أيلة (٢) وقيل هي مدين وهو رواية عن ابن عباس ، وقال ابن زيد هي قرية يقال لها مقنا بين مدين وعينونا (٣).

وقوله (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) أي يعتدون فيه ويخالفون أمر الله فيه لهم بالوصاة به إذ ذاك (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً) قال الضحاك عن ابن عباس أي ظاهرة على الماء وقال العوفي عن ابن عباس شرعا من كل مكان (٤). قال ابن جرير وقوله (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ) أي نختبرهم بإظهار السمك لهم على ظهر الماء في اليوم المحرم عليهم صيده وإخفائه عنهم في اليوم الحلال لهم صيده (كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ) نختبرهم (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) يقول بفسقهم عن طاعة الله وخروجهم عنها (٥).

وهؤلاء قوم احتالوا على انتهاك محارم الله بما تعاطوا من الأسباب الظاهرة التي معناها في الباطن تعاطي الحرام وقد قال الفقيه الإمام أبو عبد الله بن بطة رحمه‌الله : حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني حدثنا يزيد بن هارون حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» وهذا إسناد جيد فإن أحمد بن محمد بن مسلم هذا ذكره الخطيب في تاريخه ووثقه وباقي رجاله مشهورون ثقات ويصحح الترمذي بمثل هذا الإسناد كثيرا.

(وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٩١.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٩١.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٩٢.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٩٣.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ٩٣.

٤٤٤

بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (١٦٦)

يخبر تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق فرقة ارتكبت المحذور واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت كما تقدم بيانه في سورة البقرة وفرقة نهت عن ذلك واعتزلتهم وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه ولكنها قالت للمنكرة (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) أي لم تنهون هؤلاء وقد علمتم أنهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة من الله فلا فائدة في نهيكم إياهم.

قالت لهم المنكرة (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) قرأ بعضهم بالرفع كأنه على تقدير هذه معذرة وقرأ آخرون بالنصب أي نفعل ذلك (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) أي فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) يقولون ولعل لهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه ويرجعون إلى الله تائبين فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم.

قال تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) أي فلما أبى الفاعلون قبول النصيحة (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي ارتكبوا المعصية (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) فنص على نجاة الناهين وهلاك الظالمين وسكت عن الساكتين لأن الجزاء من جنس العمل فهم لا يستحقون مدحا فيمدحوا ولا ارتكبوا عظيما فيذموا ومع هذا فقد اختلف الأئمة فيهم هل كانوا من الهالكين أو من الناجين على قولين.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) هي قرية على شاطئ البحر بين مصر والمدينة يقال لها أيلة فحرم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم وكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعا في ساحل البحر فإذا مضى يوم السبت لم يقدروا عليها فمضى على ذلك ما شاء الله ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم فنهتهم طائفة وقالوا تأخذونها وقد حرمها الله عليكم يوم سبتكم ، فلم يزدادوا إلا غيا وعتوا وجعلت طائفة أخرى تنهاهم فلما طال ذلك عليهم قالت طائفة من النهاة تعلمون أن هؤلاء قوم قد حق عليهم العذاب (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ) وكانوا أشد غضبا لله من الطائفة الأخرى فقالوا (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) وكل قد كانوا ينهون فلما وقع عليهم غضب الله نجت الطائفتان اللتان قالوا (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ) ، والذين قالوا (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) ، وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان فجعلهم قردة (١).

وروى العوفي عن ابن عباس قريبا من هذا ، وقال حماد بن زيد عن داود بن الحصين عن

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٩٤.

٤٤٥

عكرمة عن ابن عباس في الآية ، قال : ما أدري أنجا الذين قالوا (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ) أم لا؟ قال فلم أزل به حتى عرفته أنهم قد نجوا فكساني حلة (١).

وقال عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج حدثني رجل عن عكرمة قال جئت ابن عباس يوما وهو يبكي وإذا المصحف في حجره فأعظمت أن أدنو منه ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست فقلت : ما يبكيك يا ابن عباس جعلني الله فداك؟ قال فقال هؤلاء الورقات قال وإذا هو في سورة الأعراف قال تعرف أيلة؟ قلت نعم قال فإنه كان بها حي من اليهود سيقت الحيتان إليهم يوم السبت ثم غاصت لا يقدرون عليها حتى يغوصوا بعد كد ومؤنة شديدة كانت تأتيهم يوم سبتهم شرعا بيضاء سمانا كأنها الماخض تنتطح ظهورها لبطونها بأفنيتهم فكانوا كذلك برهة من الدهر.

ثم إن الشيطان أوحى إليهم فقال : إنما نهيتهم عن أكلها وأخذها وصيدها يوم السبت فخذوها فيه ، وكلوها في غيره من الأيام ، فقالت ذلك طائفة منهم وقالت طائفة بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها يوم السبت فكانوا كذلك حتى جاءت الجمعة المقبلة فغدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها واعتزلت طائفة ذات اليمين وتنحت واعتزلت طائفة ذات اليسار وسكتت.

وقال الأيمنون ويلكم الله ، ننهاكم أن تتعرضوا لعقوبة الله ، وقال الأيسرون (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) قال الأيمنون (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي ينتهون ، إن ينتهوا فهو أحب إلينا أن لا يصابوا ولا يهلكوا وإن لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم فمضوا على الخطيئة وقال الأيمنون فقد فعلتم يا أعداء الله ، والله لا نبايتكم الليلة في مدينتكم والله ما نراكم تصبحون حتى يصبحكم الله بخسف أو قذف أو بعض ما عنده من العذاب فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ونادوا فلم يجابوا فوضعوا سلما وأعلوا سور المدينة رجلا ، فالتفت إليهم ، فقال : أي عباد الله ، قردة والله تعادى تعادى لها أذناب.

قال ففتحوا فدخلوا عليهم فعرفت القرود أنسابها من الإنس ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة فجعلت القرود يأتيها نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي فيقول : ألم ننهكم عن كذا فتقول برأسها : أي نعم ثم قرأ ابن عباس (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ) قال : فأرى الذين نهوا قد نجوا ولا أرى الآخرين ذكروا ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها ، قال : قلت جعلني الله فداك ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم؟ وقالوا (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ) قال : فأمر لي فكسيت ثوبين غليظين (٢) ، وكذا روى مجاهد عنه.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٩٥.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٩٥ ، ٩٦.

٤٤٦

وقال ابن جرير (١) : حدثنا يونس أخبرنا أشهب بن عبد العزيز عن مالك قال : زعم ابن رومان أن قوله تعالى : (تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) [الأعراف : ١٦٣] قال : كانت تأتيهم يوم السبت فإذا كان المساء ذهبت فلا يرى منها شيء إلى يوم السبت الآخر ، فاتخذ لذلك رجل خيطا ووتدا فربط حوتا منها في الماء يوم السبت حتى إذا أمسوا ليلة الأحد أخذه فاشتواه ، فوجد الناس ريحه ، فأتوه فسألوه عن ذلك فجحدهم ، فلم يزالوا به حتى قال لهم فإنه جلد حوت وجدناه فلما كان السبت الآخر فعل مثل ذلك ، ولا أدري لعله قال ربط حوتين فلما أمسى من ليلة الأحد أخذه فاشتواه فوجدوا رائحة فجاؤوا فسألوه فقال لهم : لو شئتم صنعتم كما أصنع.

فقالوا له : وما صنعت؟ فأخبرهم ففعلوا مثل ما فعل حتى كثر ذلك وكانت لهم مدينة لها ربض يغلقونها عليهم فأصابهم من المسخ ما أصابهم فغدا عليهم جيرانهم ممن كانوا حولهم يطلبون منهم ما يطلب الناس فوجدوا المدينة مغلقة عليهم فنادوا فلم يجيبوهم فتسوروا عليهم فإذا هم قردة فجعل القرد يدنو يتمسح بمن كان يعرف قبل ذلك ويدنو منه ويتمسح به.

وقد قدمنا في سورة البقرة من الآثار في خبر هذه القرية ما فيه مقنع وكفاية ولله الحمد والمنة.

[القول الثاني] أن الساكتين كانوا من الهالكين قال محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : ابتدعوا السبت فابتلوا فيه فحرمت عليهم فيه الحيتان فكانوا إذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر فإذا انقضى السبت ذهبت فلم تر حتى السبت المقبل فإذا جاء السبت جاءت شرعا فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا كذلك ثم إن رجلا منهم أخذ حوتا فخزم أنفه ثم ضرب له وتدا في الساحل وربطه وتركه في الماء فلما كان الغد أخذه فشواه فأكله ففعل ذلك وهم ينظرون ولا ينكرون ولا ينهاه منهم أحد إلا عصبة منهم نهوه حتى ظهر ذلك في الأسواق ففعل علانية قال : فقالت : طائفة للذين ينهونهم (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) فقالوا : نسخط أعمالهم (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ ـ إلى قوله ـ قِرَدَةً خاسِئِينَ) قال ابن عباس كانوا ثلاثا ثلث نهوا وثلث قالوا (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ) وثلث أصحاب الخطيئة فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم (٢).

وهذا إسناد جيد عن ابن عباس ولكن رجوعه إلى قول عكرمة في نجاة الساكتين أولى من القول بهذا لأنه تبين حالهم بعد ذلك والله أعلم. وقوله تعالى : (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٩٧.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٩٧ ، ٩٨.

٤٤٧

بَئِيسٍ) فيه دلالة بالمفهوم على أن الذين بقوا نجوا. وبئيس فيه قراءات كثيرة ومعناه في قول مجاهد الشديد. وفي رواية أليم وقال قتادة موجع والكل متقارب والله أعلم ، وقوله (خاسِئِينَ) إي ذليلين حقيرين مهانين.

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٦٧)

(تَأَذَّنَ) تفعل من الأذان أي : أعلم قاله مجاهد ، وقال غيره : أمر ، وفي قوة الكلام ما يفيد معنى القسم من هذه اللفظة ، ولهذا أتبعت باللام في قوله (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ) أي على اليهود (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) أي بسبب عصيانهم ومخالفتهم أوامر الله وشرعه واحتيالهم على المحارم ، ويقال إن موسى عليه‌السلام ضرب عليهم الخراج ، سبع سنين وقيل ثلاث عشرة سنة ، وكان أول من ضرب الخراج ثم كانوا في قهر الملوك من اليونانيين والكشدانيين والكلدانيين ، ثم صاروا إلى قهر النصارى وإذلالهم إياهم وأخذهم منهم الجزية والخراج ، ثم جاء الإسلام ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانوا تحت قهره وذمته يؤدون الخراج والجزية.

قال العوفي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال : هي المسكنة وأخذ الجزية منهم ، وقال علي بن أبي طلحة عنه هي الجزية والذي يسومونهم سوء العذاب محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته إلى يوم القيامة ، وكذا قال سعيد بن جبير وابن جريج والسدي وقتادة ، وقال عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن سعيد بن المسيب قال : يستحب أن تبعث الأنباط في الجزية قلت : ثم آخر أمرهم أنهم يخرجون أنصارا للدجال فيقتلهم المسلمون مع عيسى ابن مريم عليه‌السلام ، وذلك آخر الزمان وقوله (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) أي لمن عصاه وخالف شرعه (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لمن تاب إليه وأناب وهذا من باب قرن الرحمة مع العقوبة لئلا يحصل اليأس فيقرن تعالى بين الترغيب والترهيب كثيرا لتبقى النفوس بين الرجاء والخوف.

(وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (١٧٠)

يذكر تعالى أنه فرقهم في الأرض أمما أي طوائف وفرقا كما قال (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) [الإسراء : ١٠٤].

٤٤٨

(مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) أي فيهم الصالح وغير ذلك كقول الجن (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) [الجن : ١١] (وَبَلَوْناهُمْ) أي اختبرناهم (بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) أي بالرخاء والشدة والرغبة والرهبة والعافية والبلاء (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ثم قال تعالى (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) الآية يقول تعالى : فخلف من بعد ذلك الجيل الذين فيهم الصالح والطالح خلف آخر لا خير فيهم وقد ورثوا دراسة الكتاب وهو التوراة وقال مجاهد : هم النصارى (١).

وقد يكون أعم من ذلك (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) أي يعتاضون عن بذل الحق ونشره بعرض الحياة الدنيا ويسوفون أنفسهم ويعدونها بالتوبة وكلما لاح لهم مثل الأول وقعوا فيه ، ولهذا قال (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) وكما قال سعيد بن جبير يعملون الذنب ثم يستغفرون الله منه ويعترفون لله فإن عرض ذلك الذنب أخذوه (٢).

وقال مجاهد في قوله تعالى : (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) قال لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه حلالا كان أو حراما ويتمنون المغفرة (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) (٣) ، وقال قتادة في الآية إي والله لخلف سوء (وَرِثُوا الْكِتابَ) بعد أنبيائهم ورسلهم أورثهم الله وعهد إليهم ، وقال الله تعالى في آية أخرى (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ) [مريم : ٥٩] الآية قال (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) تمنوا على الله أماني وغرة يغترون بها (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) لا يشغلهم شيء ولا ينهاهم شيء عن ذلك كلما هف لهم شيء من الدنيا أكلوه لا يبالون حلالا كان أو حراما(٤).

وقال السدي : قوله (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) إلى قوله (وَدَرَسُوا ما فِيهِ) قال : كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم وإن خيارهم اجتمعوا فأخذ بعضهم على بعض العهود أن لا يفعلوا ولا يرتشوا فجعل الرجل منهم إذا استقضى ارتشى فيقال له ما شأنك ترتشي في الحكم؟ فيقول سيغفر لي ، فتطعن عليه البقية الآخرون من بني إسرائيل فيما صنع فإذا مات أو نزع وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه فيرتشي ، يقول وإن يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه (٥).

قال الله تعالى : (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) الآية يقول

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٠٥.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٠٥.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٠٦.

(٤) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٠٦.

(٥) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٠٦.

٤٤٩

تعالى منكرا عليهم في صنيعهم هذا مع ما أخذ عليهم من الميثاق ليبينن الحق للناس ولا يكتمونه كقوله (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) وقال ابن جريج قال ابن عباس (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) قال فيما يتمنون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ولا يتوبون منها.

وقوله تعالى (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) يرغبهم في جزيل ثوابه ويحذرهم من وبيل عقابه ، أي وثوابي وما عندي خير لمن اتقى المحارم وترك هوى نفسه وأقبل على طاعة ربه (أَفَلا تَعْقِلُونَ) يقول أفليس لهؤلاء الذين اعتاضوا بعرض الدنيا عما عندي عقل يردعهم عما هم فيه من السفه والتبذير ، ثم أثنى تعالى على من تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما هو مكتوب فيه فقال تعالى : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) أي اعتصموا به واقتدوا بأوامره ، وتركوا زواجره (وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)

(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٧١)

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ) يقول رفعناه وهو قوله (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ) [النساء : ١٥٤] وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : رفعته الملائكة فوق رؤوسهم وهو قوله (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ) وقال القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ثم سار بهم موسى عليه‌السلام إلى الأرض المقدسة وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب وأمرهم بالذي أمر الله أن يبلغهم من الوظائف فثقلت عليهم وأبوا أن يقروا بها حتى نتق الله الجبل فوقهم (كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) قال : رفعته الملائكة فوق رؤوسهم رواه النسائي بطوله.

وقال سنيد بن داود في تفسيره عن حجاج بن محمد عن أبي بكر بن عبد الله قال هذا كتاب أتقبلونه بما فيه فإن فيه بيان ما أحل لكم وما حرم عليكم وما أمركم وما نهاكم؟ قالوا : انشر علينا ما فيها فإن كانت فرائضها وحدودها يسيرة قبلناها. قال : اقبلوها بما فيها قالوا : لا حتى نعلم ما فيها كيف حدودها وفرائضها فراجعوه مرارا فأوحى الله إلى الجبل فانقلع فارتفع في السماء حتى إذا كان بين رؤوسهم وبين السماء قال لهم موسى ألا ترون ما يقول ربي عزوجل لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها لأرمينكم بهذا الجبل قال : فحدثني الحسن البصري.

قال : لما نظروا إلى الجبل خر كل رجل ساجدا على حاجبه الأيسر ونظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من أن يسقط عليه فكذلك ليس اليوم في الأرض يهودي يسجد إلا على حاجبه

٤٥٠

الأيسر يقولون هذه السجدة التي رفعت بها العقوبة قال أبو بكر : فلما نشر الألواح فيها كتاب الله كتبه بيده لم يبق على وجه الأرض جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتز فليس اليوم يهودي على وجه الأرض صغير ولا كبير تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ونفض لها رأسه (١) أي حوّل كما قال تعالى (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) [الإسراء : ٥١] والله أعلم.

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١٧٤)

يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه قال تعالى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) [الروم : ٣٠] وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة» وفي رواية «على هذه الملة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تولد بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء» (٢).

وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم» (٣).

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير (٤) رحمه‌الله : حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب أخبرني السري بن يحيى أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم عن الأسود بن سريع من بني سعد قال غزوت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربع غزوات قال فتناول القوم الذرية بعد ما قتلوا المقاتلة فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاشتد عليه ثم قال «ما بال أقوام يتناولون الذرية» فقال رجل يا رسول الله أليسوا أبناء المشركين؟ فقال «إن خياركم أبناء المشركين ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها فأبواها يهودانها وينصرانها» قال الحسن والله لقد قال الله في كتابه (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الآية.

وقد رواه الإمام أحمد (٥) عن إسماعيل ابن علية عن يونس بن عبيد عن الحسن البصري به ، وأخرجه النسائي في سننه من حديث هشيم عن يونس بن عبيد عن الحسن قال حدثني

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٠٩.

(٢) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٧٩ ، ومسلم في القدر حديث ٢٢ ، ٢٤.

(٣) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٦٣.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ١١٢.

(٥) المسند ٣ / ٤٣٥.

٤٥١

الأسود بن سريع فذكره ولم يذكر قول الحسن البصري واستحضاره الآية عند ذلك ، وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه‌السلام وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، وفي بعضها الاستشهاد عليهم بأن الله ربهم.

قال الإمام أحمد (١) حدثنا حجاج حدثنا شعبة عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به قال : فيقول : نعم فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي» (٢) أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة به.

حديث آخر : قال الإمام أحمد (٣) حدثنا حسين بن محمد حدثنا جرير يعني ابن حازم عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن أخذ الله الميثاق من ظهر آدم عليه‌السلام بنعمان يوم عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه ثم كلمهم قبلا قال : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا ـ إلى قوله ـ الْمُبْطِلُونَ) وقد روى هذا الحديث النسائي في كتاب التفسير من سننه عن محمد بن عبد الرحيم صاعقة عن حسين بن محمد المروزي به ، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حسين بن محمد به ، إلا أن ابن أبي حاتم جعله موقوفا ، وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث حسين بن محمد وغيره عن جرير بن حازم عن كلثوم بن جبر به ، وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبر ، هكذا قال ، وقد رواه عبد الوارث عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فوقفه ، وكذا رواه إسماعيل ابن علية ووكيع عن ربيعة بن كلثوم عن جبر عن أبيه به ، وكذا رواه عطاء بن السائب وحبيب بن أبي ثابت وعلي بن بذيمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وكذا رواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس فهذا أكثر وأثبت والله أعلم.

وقال ابن جرير (٤) : حدثنا ابن وكيع حدثنا أبي عن أبي هلال عن أبي حمزة الضبعي عن ابن عباس قال أخرج الله ذرية آدم من ظهره كهيئة الذر وهو في أذى من الماء.

وقال أيضا (٥) : حدثنا علي بن سهل حدثنا ضمرة بن ربيعة حدثنا أبو مسعود عن جرير قال مات ابن الضحاك بن مزاحم ابن ستة أيام قال : فقال : يا جابر إذا أنت وضعت ابني في لحده

__________________

(١) المسند ٣ / ١٢٧.

(٢) أخرجه مسلم في المنافقين حديث ٥١.

(٣) المسند ١ / ٢٧٢.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ١١١.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ١١١ ، ١١٢.

٤٥٢

فأبرز وجهه وحل عنه عقده فإن ابني مجلس ومسؤول ففعلت به الذي أمر فلما فرغت قلت يرحمك الله عما يسأل ابنك من يسأله إياه قال : يسأل عن الميثاق الذي أقر به في صلب آدم قلت : يا أبا القاسم وما هذا الميثاق الذي أقر به في صلب آدم قال : حدثني ابن عباس : إن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خلقها إلى يوم القيامة فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وتكفل لهم بالأرزاق ثم أعادهم في صلبه فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطى الميثاق يومئذ فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به نفعه الميثاق الأول ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يقر به لم ينفعه الميثاق الأول ومن مات صغيرا قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول على الفطرة.

فهذه الطرق كلها مما تقوي وقف هذا على ابن عباس والله أعلم.

حديث آخر : قال ابن جرير (١) : حدثنا عبد الرحمن بن الوليد حدثنا أحمد بن أبي طيبة عن سفيان بن سعيد عن الأجلح عن الضحاك عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) قال : أخذ من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس فقال لهم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) قالت الملائكة (شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) أحمد بن أبي طيبة هذا هو أبو محمد الجرجاني قاضي قومس كان أحد الزهاد أخرج له النسائي في سننه وقال أبو حاتم الرازي : يكتب حديثه وقال ابن عدي حدث بأحاديث كثيرة غرائب وقد روى هذا الحديث عبد الرحمن بن حمزة بن مهدي عن سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو ، وكذا رواه ابن جرير عن منصور به وهذا أصح والله أعلم.

حديث آخر : قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا روح هو ابن عبادة حدثنا مالك وحدثنا إسحاق حدثنا مالك عن زيد بن أبي أنيسة أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) الآية فقال عمر بن الخطاب سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عنها فقال «إن الله خلق آدم عليه‌السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية قال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية قال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون «فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا خلق الله العبد للجنة استعمله بأعمال أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بأعمال

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ١١٢.

(٢) المسند ١ / ٤٤ ، ٤٥.

٤٥٣

أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار» (١).

وهكذا رواه أبو داود عن القعنبي والنسائي عن قتيبة والترمذي في تفسيرهما عن إسحاق بن موسى عن معن وابن أبي حاتم عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب وابن جرير عن روح بن عبادة وسعيد بن عبد الحميد بن جعفر ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه من رواية أبي مصعب الزبيري كلهم عن الإمام مالك بن أنس به قال الترمذي وهذا حديث حسن ومسلم بن يسار لم يسمع عمر كذا قاله أبو حاتم وأبو زرعة زاد أبو حاتم وبينهما نعيم بن ربيعة وهذا الذي قاله أبو حاتم رواه أبو داود في سننه عن محمد بن مصفى عن بقية عن عمر بن جعثم القرشي عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن مسلم بن يسار الجهني عن نعيم بن ربيعة قال كنت عند عمر بن الخطاب وقد سئل عن هذه الآية (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) فذكره.

وقال الحافظ الدار قطني : وقد تابع عمر بن جعثم يزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي وقولهما أولى بالصواب من قول مالك والله أعلم ، قلت : الظاهر أن الإمام مالكا إنما أسقط ذكر نعيم بن ربيعة عمدا لما جهل حال نعيم بن ربيعة ولم يعرفه فإنه غير معروف إلا في هذا الحديث ولذلك يسقط ذكر جماعة ممن لا يرتضيهم ولهذا يرسل كثيرا من المرفوعات ويقطع كثيرا من الموصولات والله أعلم.

حديث آخر : قال الترمذي (٢) عند تفسيره هذه الآية : حدثنا عبد بن حميد حدثنا أبو نعيم حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال : أي رب من هؤلاء قال : هؤلاء ذريتك فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه قال : أي رب من هذا قال : هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود قال رب وكم جعلت عمره قال ستين سنة قال أي رب وقد وهبت له من عمري أربعين سنة فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت قال أو لم يبق من عمري أربعون سنة قال أو لم تعطها ابنك داود قال فجحد آدم فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته وخطىء آدم فخطئت ذريته».

ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ورواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين به وقال : صحيح على

__________________

(١) أخرجه أبو داود في السنة باب ١٦ ، والترمذي في تفسير سورة ٧ ، باب ٢ ، ومالك في القدر حديث ٢.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٧ ، باب ٢.

٤٥٤

شرط مسلم ولم يخرجاه ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه أنه حدث عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر نحو ما تقدم إلى أن قال : «ثم عرضهم على آدم فقال يا آدم هؤلاء ذريتك وإذا فيهم الأجذم والأبرص والأعمى وأنواع الأسقام فقال آدم : يا رب لم فعلت هذا بذريتي؟ قال : كي تشكر نعمتي وقال آدم : يا رب من هؤلاء الذين أراهم أظهر الناس نورا قال هؤلاء الأنبياء يا آدم من ذريتك» ثم ذكر قصة داود كنحو ما تقدم (١).

حديث آخر : قال عبد الرحمن بن قتادة النضري عن أبيه عن هشام بن حكيم رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله أتبدأ الأعمال أم قد قضي القضاء قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله قد أخذ ذرية آدم من ظهورهم ثم أشهدهم على أنفسهم ثم أفاض بهم في كفيه ثم قال هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار» رواه ابن جرير (٢) وابن مردويه من طرق عنه.

حديث آخر : روى جعفر بن الزبير وهو ضعيف عن القاسم عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لما خلق الله الخلق وقضى القضية أخذ أهل اليمين بيمينه وأهل الشمال بشماله فقال يا أصحاب اليمين فقالوا لبيك وسعديك قال ألست بربكم؟ قالوا بلى قال يا أصحاب الشمال قالوا لبيك وسعديك قال ألست بربكم؟ قالوا بلى ثم خلط بينهم فقال قائل له يا رب لم خلطت بينهم؟ قال لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ثم ردهم في صلب آدم» رواه ابن مردويه.

أثر آخر : قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الآيات قال : فجمعهم له يومئذ جميعا ما هو كائن منه إلى يوم القيامة فجعلهم في صورهم ثم استنطقهم فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) الآية قال : فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري ولا تشركوا بي شيئا وإني سأرسل إليكم رسلا لينذروكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي.

قالوا : نشهد أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك فأقروا له يومئذ بالطاعة ورفع أباهم آدم فنظر إليهم فرأى فيهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك فقال : يا رب لو سويت بين عبادك؟ قال : إني أحببت أن أشكر ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج عليهم النور

__________________

(١) انظر الدر المنثور ٣ / ٢٦٠ ، ٢٦١ ، ٢٦٢.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ١١٦.

٤٥٥

وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة فهو الذي يقول تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) الآية وهو الذي يقول (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ) الآية ومن ذلك قال (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) ومن ذلك قال (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) الآية.

رواه عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه ، ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه في تفاسيرهم من رواية أبي جعفر الرازي به وروي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي وغير واحد من علماء السلف سياقات توافق هذه الأحاديث اكتفينا بإيرادها عن التطويل في تلك الآثار كلها وبالله المستعان.

فهذه الأحاديث دالة على أن الله عزوجل استخرج ذرية آدم من صلبه وميز بين أهل الجنة وأهل النار ، وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وفي حديث عبد الله بن عمرو وقد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان كما تقدم ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي ومن رواية الحسن البصري عن الأسود بن سريع وقد فسر الحسن الآية بذلك قالوا : ولهذا قال : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) ولم يقل من آدم (مِنْ ظُهُورِهِمْ) ولم يقل من ظهره (ذُرِّيَّتَهُمْ) أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن كقوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) [الأنعام : ١٦٥] وقال (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) [النمل : ٦٢] وقال (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) [الأنعام : ١٣٣].

ثم قال (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) أي أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له حالا وقالا والشهادة تارة تكون بالقول كقوله (قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) الآية وتارة تكون حالا كقوله تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) [التوبة : ١٧] أي حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك وكذا قوله تعالى : (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) [العاديات : ٧] كما أن السؤال تارة يكون بالقال وتارة يكون بالحال كقوله (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) [إبراهيم : ٣٤].

قالوا ومما يدل على أن المراد بهذا هذا أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك فلو كان قد وقع هذا كما قال من قال لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه فإن قيل إخبار الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم به كاف في وجوده فالجواب أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره ، وهذا جعل حجة مستقلة عليهم فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد ولهذا قال (أَنْ تَقُولُوا) أي لئلا تقولوا يوم القيامة (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا) أي التوحيد (غافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا) الآية.

٤٥٦

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) (١٧٧)

قال عبد الرزاق : عن سفيان الثوري عن الأعمش ومنصور عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) الآية قال : هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم بن باعوراء وكذا رواه شعبة وغير واحد عن منصور به (١).

وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس : هو صيفي بن الراهب قال قتادة وقال كعب : كان رجلا من أهل البلقاء وكان يعلم الاسم الأكبر وكان مقيما ببيت المقدس مع الجبارين وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه : هو رجل من أهل اليمن يقال له بلعم آتاه الله آياته فتركها ، وقال مالك بن دينار : كان من علماء بني إسرائيل وكان مجاب الدعوة يقدمونه في الشدائد بعثه نبي الله موسى عليه‌السلام إلى ملك مدين يدعوه إلى الله فأقطعه وأعطاه فتبع دينه وترك دين موسى عليه‌السلام وقال سفيان بن عيينة عن حصين عن عمران بن الحارث عن ابن عباس : هو بلعم بن باعوراء ، وكذا قال مجاهد وعكرمة.

وقال ابن جرير (٢) : حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا إسرائيل عن مغيرة عن مجاهد عن ابن عباس قال : هو بلعام وقالت ثقيف : هو أمية بن أبي الصلت.

وقال شعبة عن يعلى بن عطاء عن نافع بن عاصم عن عبد الله بن عمرو في قوله (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) الآية قال : هو صاحبكم أمية بن أبي الصلت (٣).

وقد روي من غير وجه عنه وهو صحيح إليه وكأنه إنما أراد أن أمية بن أبي الصلت يشبهه فإنه كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة ولكنه لم ينتفع بعلمه فإنه أدرك زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبلغته أعلامه وآياته ومعجزاته وظهرت لكل من له بصيرة ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه وصار إلى موالاة المشركين ومناصرتهم وامتداحهم ورثى أهل بدر من المشركين بمرثاة بليغة قبحه الله. وقد جاء في بعض الأحاديث أنه ممن آمن لسانه ولم يؤمن قلبه فإن له أشعارا ربانية وحكما وفصاحة ولكنه لم يشرح الله صدره للإسلام.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ١١٩.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ١١٩.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ١٢٠.

٤٥٧

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن أبي نمر حدثنا سفيان عن أبي سعيد الأعور عن عكرمة عن ابن عباس في قوله (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) قال هو رجل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن وكانت له امرأة له منها ولد فقالت اجعل لي منها واحدة قال فلك واحدة فما الذي تريدين؟ قالت ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا الله فجعلها أجمل امرأة في بني إسرائيل فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت شيئا آخر فدعا الله أن يجعلها كلبة فصارت كلبة فذهبت دعوتان فجاء بنوها فقالوا ليس بنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها فدعا الله فعادت كما كانت وذهبت الدعوات الثلاث وتسمى البسوس (١) ، غريب.

وأما المشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة فإنما هو رجل من المتقدمين في زمن بني إسرائيل كما قال ابن مسعود وغيره من السلف.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هو رجل من مدينة الجبارين يقال له بلعام وكان يعلم اسم الله الأكبر ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيره من علماء السلف : كان مجاب الدعوة ولا يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه (٢) ، وأغرب بل أبعد بل أخطأ من قال : كان قد أوتي النبوة فانسلخ منها ، حكاه ابن جرير عن بعضهم ولا يصح.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : لما نزل موسى بهم يعني بالجبارين ومن معه أتاه ـ يعني بلعم ـ أتاه بنو عمه وقومه فقالوا : إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة وإنه إن يظهر علينا يهلكنا فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه ، قال : إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي ، فلم يزالوا به حتى دعا عليهم فسلخه الله ما كان عليه ، فذلك قوله تعالى : (فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) (٣) الآية.

وقال السدي : لما انقضت الأربعون سنة التي قال الله (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً) بعث يوشع بن نون نبيا فدعا بني إسرائيل فأخبرهم أنه نبي وأن الله أمره أن يقاتل الجبارين فبايعوه وصدقوه ، وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له بلعام فكان عالما يعلم الاسم الأعظم المكتوم فكفر ـ لعنه الله ـ وأتى الجبارين وقال لهم : لا ترهبوا بني إسرائيل فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم دعوة فيهلكون وكان عندهم فيما شاء من الدنيا غير أنه كان لا يستطيع أن يأتي النساء لعظمهن فكان ينكح أتانا له وهو الذي قال الله تعالى : (فَانْسَلَخَ مِنْها) (٤).

__________________

(١) انظر الدر المنثور ٣ / ٢٦٦.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٢٠.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٢٢.

(٤) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٢١.

٤٥٨

وقوله تعالى : (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) أي استحوذ عليه وعلى أمره فمهما أمره امتثل وأطاعه ولهذا قال : (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) أي من الهالكين الحائرين البائرين وقد ورد في معنى هذه الآية حديث رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده حيث قال حدثنا محمد بن مرزوق حدثنا محمد بن بكر عن الصلت بن بهرام حدثنا الحسن حدثنا جندب البجلي في هذا المسجد أن حذيفة يعني ابن اليمان رضي الله عنه حدثه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن مما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رؤيت بهجته عليه وكان رداؤه الإسلام اعتراه إلى ما شاء الله انسلخ منه ونبذه وراء ظهره وسعى على جاره بالسيف ورماه بالشرك» قال قلت يا نبي الله أيهما أولى بالشرك المرمي أو الرامي؟ قال «بل الرامي».

إسناد جيد والصلت بن بهرام كان من ثقات الكوفيين ولم يرم بشيء سوى الإرجاء وقد وثقه الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما.

وقوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) يقول تعالى: (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) أي لرفعناه من التدنس عن قاذورات الدنيا بالآيات التي آتيناه إياها (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) أي مال إلى زينة الحياة الدنيا وزهرتها وأقبل على لذاتها ونعيمها وغرته كما غرت غيره من غير أولي البصائر والنهي ، وقال أبو الراهويه في قوله تعالى : (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) قال : تراءى له الشيطان على علوة من قنطرة بانياس ، فسجدت الحمارة لله وسجد بلعام للشيطان ، وكذا قال عبد الرحمن بن جبير بن نفير وغير واحد.

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير (١) رحمه‌الله : وكان من قصة هذا الرجل ما حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر عن أبيه أنه سئل عن هذه الآية (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) فحدث عن سيار أنه كان رجلا يقال له بلعام وكان مجاب الدعوة ، قال : وإن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام أو قال : الشام قال : فرعب الناس منه رعبا شديدا فأتوا بلعام فقالوا : ادع الله على هذا الرجل وجيشه ، قال حتى أؤامر ربي أو حتى أؤامر ، قال فآمر في الدعاء عليهم فقيل له لا تدع عليهم فإنهم عبادي وفيهم نبيهم.

قال : فقال لقومه إني قد آمرت ربي في الدعاء عليهم وإني قد نهيت فأهدوا له هدية فقبلها ثم راجعوه فقالوا : ادع عليهم فقال : حتى أؤامر ربي فأمر فلم يأمره بشيء فقال : قد وأمرت فلم يأمرني بشيء فقالوا : لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك المرة الأولى ، قال : فأخذ يدعو عليهم فإذا دعا عليهم جرى على لسانه الدعاء على قومه ، وإذا أراد أن يدعو أن يفتح لقومه دعا أن يفتح لموسى وجيشه أو نحوا من ذلك إن شاء الله ، قال : فقالوا ما نراك تدعو إلا علينا ، قال: ما يجري على لساني إلا هكذا ولو دعوت عليه أيضا ما استجيب لي ولكن

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ١٢٣ ، ١٢٤.

٤٥٩

سأدلكم على أمر عسى أن يكون فيه هلاكهم ، إن الله يبغض الزنا وإنهم إن وقعوا في الزنا هلكوا ورجوت أن يهلكهم الله فأخرجوا النساء تستقبلهم فإنهم قوم مسافرون فعسى أن يزنوا فيهلكوا.

قال : ففعلوا فأخرجوا النساء تستقبلهم قال وكان للملك ابنة فذكر من عظمها ما الله أعلم به فقال : فقال أبوها أو بلعام لا تمكني نفسك إلا من موسى ، قال : ووقعوا في الزنا قال : فأتاها رأس سبط من أسباط بني إسرائيل فأرادها على نفسه ، فقالت : ما أنا بممكنة نفسي إلا من موسى فقال إن منزلتي كذا وكذا وإن في حالي كذا وكذا فأرسلت إلى أبيها تستأمره قال فقال لها : مكنيه قال ويأتيهما رجل من بني هارون ومعه الرمح فيطعنهما. قال : وأيده الله بقوة فانتظمهما جميعا ورفعهما على رمحه فرآهما الناس ـ أو كما حدث ـ قال : وسلط الله عليهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفا.

قال أبو المعتمر : فحدثني سيار أن بلعاما ركب حمارة له حتى أتى العلولي أو قال طريقا من العلولي جعل يضربها ولا تتقدم وقامت عليه فقالت : علام تضربني؟ أما ترى هذا الذي بين يديك؟ فإذا الشيطان بين يديه قال : فنزل وسجد له قال الله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها ـ إلى قوله ـ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) قال : فحدثني بهذا سيار ولا أدري لعله قد دخل فيه شيء من حديث غيره.

(قلت) هو بلعام ويقال بلعم بن باعوراء ويقال ابن أبر ، ويقال ابن باعور بن شهتوم بن قوشتم بن ماب بن لوط بن هاران ويقال بن حران بن آزر وكان يسكن قرية من قرى البلقاء ، قال ابن عساكر : وهو الذي كان يعرف اسم الله الأعظم فانسلخ من دينه له ذكر في القرآن ثم أورد من قصته نحوا مما ذكرناه ها هنا أورده عن وهب وغيره والله أعلم.

وقال محمد بن إسحاق بن سيار : عن سالم أبي النضر أنه حدث أن موسى عليه‌السلام لما نزل في أرض بني كنعان من أرض الشام ، أتى قوم بلعام إليه فقالوا له : هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل ، وإنا قومك وليس لنا منزل وأنت رجل مجاب الدعوة فاخرج فادع الله عليهم ، قال ويلكم نبي الله معه الملائكة والمؤمنون كيف أذهب أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم؟ قالوا له : ما لنا من منزل فلم يزالوا به يرققونه ويتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن فركب حمارة له متوجها إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل وهو جبل حسبان.

فلما سار عليها غير كثير ربضت به فنزل عنها فضربها حتى إذا أزلقها قامت فركبها ، فلم تسر به كثيرا حتى ربضت به فضربها حتى إذا أزلقها أذن لها فكلمته حجة عليه فقالت : ويحك يا بلعم أين تذهب؟ أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا؟ تذهب إلى نبي الله والمؤمنين لتدعو عليهم ، فلم ينزع عنها يضربها فخلى الله سبيلها حين فعل بها ذلك ، فانطلقت

٤٦٠