تفسير القرآن العظيم - ج ٣

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٣

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٩٥

يقول تعالى ممتنا على بني إسرائيل بما حصل لهم من الهداية بتكليمه موسى عليه‌السلام وإعطائه التوراة وفيها أحكامهم وتفاصيل شرعهم فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة قال المفسرون فصامها موسى عليه‌السلام وطواها فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة فأمره الله تعالى أن يكمل بعشر أربعين وقد اختلف المفسرون في هذه العشر ما هي فالأكثرون على أن الثلاثين هي ذو القعدة والعشر عشر ذي الحجة قاله مجاهد ومسروق وابن جريج وروي عن ابن عباس وغيره.

فعلى هذا يكون قد كمل الميقات يوم النحر وحصل فيه التكليم لموسى عليه‌السلام وفيه أكمل الله الدين لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [المائدة : ٣] فلما تم الميقات وعزم موسى على الذهاب إلى الطور كما قال تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) [طه : ٨٠] الآية فحينئذ استخلف موسى عليه‌السلام على بني إسرائيل أخاه هارون ووصاه بالإصلاح وعدم الإفساد وهذا تنبيه وتذكير وإلا فهارون عليه‌السلام نبي شريف كريم على الله له وجاهة وجلالة صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء.

(وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (١٤٣)

يخبر تعالى عن موسى عليه‌السلام أنه لما جاء لميقات الله تعالى وحصل له التكليم من الله تعالى سأل الله تعالى أن ينظر إليه فقال (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي) وقد أشكل حرف لن هاهنا على كثير من العلماء لأنها موضوعة لنفي التأبيد فاستدل به المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة وهذا أضعف الأقوال لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة كما سنوردها عند قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢].

وقوله تعالى إخبارا عن الكفار (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين : ١٥] وقيل إنها لنفي التأبيد في الدنيا جمعا بين هذه الآية وبين الدليل القاطع على صحة الرؤيا في الدار الآخرة وقيل إن هذا الكلام في هذا المقام كالكلام في قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام : ١٠٣] وقد تقدم ذلك في الأنعام وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى عليه‌السلام «يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده» (١) ولهذا قال تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً).

__________________

(١) تدهده : أي تهدم.

٤٢١

قال أبو جعفر بن جرير الطبري (١) في تفسير هذه الآية : حدثنا أحمد بن سهيل الواسطي حدثنا قرة بن عيسى حدثنا الأعمش عن رجل عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لما تجلى ربه للجبل أشار بإصبعه فجعله دكا. وأرانا أبو إسماعيل بإصبعه السبابة ، هذا الإسناد فيه رجل مبهم لم يسم ، ثم قال (٢) : حدثني المثنى ، حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا حماد عن ليث عن أنس أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) قال : هكذا بإصبعه ، ووضع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إصبعه الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر ، فساخ الجبل.

هكذا وقع في هذه الرواية حماد بن سلمة عن ليث عن أنس والمشهور حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس كما قال ابن جرير (٣) : حدثني المثنى حدثنا هدبة بن خالد حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) قال : «ووضع الإبهام قريبا من طرف خنصره» ، قال : «فساخ الجبل» قال حميد لثابت يقول هكذا فرفع ثابت يده فضرب صدر حميد وقال يقوله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقوله أنس وأنا أكتمه؟

وهكذا رواه الإمام أحمد (٤) في مسنده حدثنا أبو المثنى معاذ بن معاذ العنبري حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَل) قال : قال «هكذا» يعني أنه أخرج طرف الخنصر قال أحمد : أرانا معاذ فقال له حميد الطويل : ما تريد إلى هذا يا أبا محمد؟ قال فضرب صدره ضربة شديدة وقال من أنت يا حميد وما أنت يا حميد؟ يحدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ما تريد إليه؟.

وهكذا رواه الترمذي (٥) في تفسير هذه الآية عن عبد الوهاب بن الحكم الوراق عن معاذ بن معاذ به وعن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة به ثم قال : هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طرق عن حماد بن سلمة به وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

ورواه أبو محمد بن الحسن بن محمد بن علي الخلال عن محمد بن علي بن سويد عن أبي القاسم البغوي عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة فذكره وقال هذا إسناد صحيح لا علة فيه ، وقد رواه داود بن المحبر عن شعبة عن ثابت عن أنس مرفوعا وهذا ليس بشيء ، لأن داود بن المحبر كذاب ، رواه الحافظان أبو القاسم الطبراني وأبو بكر بن مردويه من طريقين عن

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٥٤.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٥٤.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٥٤.

(٤) المسند ٣ / ١٢٥.

(٥) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٧ ، باب ١.

٤٢٢

سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس مرفوعا بنحوه وأسنده ابن مردويه من طريق ابن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا ولا يصح أيضا ، رواه الترمذي وصححه الحاكم وقال على شرط مسلم.

وقال السدي عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) قال ما تجلى منه إلا قدر الخنصر (جَعَلَهُ دَكًّا) قال ترابا (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) قال مغشيا عليه رواه ابن جرير وقال قتادة (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) قال ميتا وقال سفيان الثوري ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر فهو يذهب معه وقال سنيد عن حجاج بن محمد الأعور عن أبي بكر الهذلي (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) انقعر فدخل تحت الأرض فلا يظهر إلى يوم القيامة وجاء في بعض الأخبار أنه ساخ في الأرض فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة رواه ابن مردويه.

وقال ابن أبي حاتم حدثنا عمر بن شبة حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان الكناني حدثنا عبد العزيز بن عمران عن معاوية بن عبد الله عن الجلد بن أيوب عن معاوية بن قرة عن أنس بن مالك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لما تجلى الله للجبال طارت لعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة ، بالمدينة أحد وورقان ورضوى ووقع بمكة حراء وثبير وثور» وهذا حديث غريب بل منكر.

وقال ابن أبي حاتم ذكر عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج حدثنا الهيثم بن خارجة حدثنا عثمان بن حصين بن العلاف عن عروة بن رويم قال : كانت الجبال قبل أن يتجلى الله لموسى على الطور صما ملساء فلما تجلى الله لموسى على الطور دك وتفطرت الجبال فصارت الشقوق والكهوف وقال الربيع بن أنس (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) وذلك أن الجبل حين كشف الغطاء ورأى النور صار مثل دك من الدكاك وقال بعضهم جعله دكا أي فتنة وقال مجاهد في قوله (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) فإنه أكبر منك وأشد خلقا (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) فنظر إلى الجبل لا يتمالك وأقبل الجبل فدك على أوله ورأى موسى ما يصنع الجبل فخر صعقا وقال عكرمة جعله دكاء قال نظر الله إلى الجبل فصار صحراء ترابا وقد قرأ بهذه القراءة بعض القراء واختارها ابن جرير (١).

وقد ورد فيها حديث مرفوع رواه ابن مردويه والمعروف أن الصعق هو الغشي ها هنا كما فسره ابن عباس وغيره لا كما فسره قتادة بالموت وإن كان صحيحا في اللغة كقوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر : ٦٨] فإن هناك قرينة تدل على الموت كما أن هنا قرينة تدل على الغشي. وهي قوله (فَلَمَّا أَفاقَ) والإفاقة لا تكون إلا عن غشي (قالَ سُبْحانَكَ) تنزيها

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٥٤ ، ٥٥.

٤٢٣

وتعظيما وإجلالا أن يراه أحد في الدنيا إلا مات.

وقوله (تُبْتُ إِلَيْكَ) قال مجاهد أن أسألك الرؤية (١) (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) قال ابن عباس ومجاهد من بني إسرائيل واختاره ابن جرير (٢) وفي رواية أخرى عن ابن عباس (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أنه لا يراك أحد (٣) وكذا قال أبو العالية قد كان قبله مؤمنون ولكن يقول أنا أول من آمن بك أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة ، وهذا قول حسن له اتجاه وقد ذكر محمد بن جرير في تفسيره ها هنا أثرا طويلا فيه غرائب وعجائب عن محمد بن إسحاق بن يسار وكأنه تلقاه من الإسرائيليات والله أعلم.

وقوله (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) فيه أبو سعيد وأبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأما حديث أبي سعيد فأسنده البخاري في صحيحه هاهنا فقال حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال جاء رجل من اليهود إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد لطم وجهه ، وقال يا محمد إن رجلا من أصحابك من الأنصار لطم وجهي قال «ادعوه» فدعوه قال «لم لطمت وجهه؟» قال يا رسول الله إني مررت باليهودي فسمعته يقول والذي اصطفى موسى على البشر قال وعلى محمد؟ قال فقلت وعلى محمد وأخذتني غضبة فلطمته فقال «لا تخيروني من بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور» (٤).

وقد رواه البخاري في أماكن كثيرة من صحيحه ومسلم في أحاديث الأنبياء وأبو داود في كتاب السنة من سننه من طرق عن عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي الحسن المازني الأنصاري المدني عن أبيه عن أبي سعيد بن مالك بن سنان الخدري به.

وأما حديث أبي هريرة فقال الإمام أحمد (٥) في مسنده : حدثنا أبو كامل حدثنا إبراهيم بن سعد حدثنا ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال استب رجلان رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال المسلم : والذي اصطفى محمدا على العالمين فقال اليهودي : والذين اصطفى موسى على العالمين فغضب المسلم على اليهودي فلطمه ، فأتى اليهودي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله فأخبره فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاعترف بذلك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون يوم القيامة

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٦.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٥٦.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٥٥.

(٤) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٧ ، باب ٢ ، ومسلم في الفضائل حديث ١٦٠ ، وأبو داود في السنة باب ١٣.

(٥) المسند ٢ / ٢٦٤.

٤٢٤

فأكون أول من يفيق فإذا موسى ممسك بجانب العرش فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عزوجل» (١) أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به.

وقد روى الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا رحمه‌الله أن الذي لطم اليهودي في هذه القضية هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، ولكن تقدم في الصحيحين أنه رجل من الأنصار وهذا هو أصح وأصرح والله أعلم والكلام في قوله عليه‌السلام : «لا تخيروني على موسى» كالكلام على قوله «لا تفضلوني على الأنبياء ولا على يونس بن متى» قيل من باب التواضع وقيل قبل أن يعلم بذلك ، وقيل نهى أن يفضل بينهم على وجه الغضب والتعصب وقيل على وجه القول بمجرد الرأي والتشهي والله أعلم.

وقوله «فإن الناس يصعقون يوم القيامة» الظاهر أن هذا الصعق يكون في عرصات القيامة يحصل أمر يصعقون منه والله أعلم به. وقد يكون ذلك إذا جاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء وتجلى للخلائق الملك الديان كما صعق موسى من تجلي الرب تبارك وتعالى ولهذا قال عليه‌السلام «فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور».

وقد روى القاضي عياض في أوائل كتابه الشفاء بسنده عن محمد بن محمد بن مرزوق ، حدثنا قتادة حدثنا الحسن عن قتادة عن يحيى بن وثاب عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما تجلى الله لموسى عليه‌السلام كان يبصر النملة على الصفا في الليلة الظلماء مسيرة عشرة فراسخ» ثم قال: ولا يبعد على هذا أن يختص نبينا بما ذكرناه من هذا الباب بعد الإسراء والحظوة بما رأى من آيات ربه الكبرى انتهى ما قاله وكأنه صحح هذا الحديث ، وفي صحته نظر ولا تخلو رجال إسناده من مجاهيل لا يعرفون ومثل هذا إنما يقبل من رواية العدل الضابط عن مثله حتى ينتهي إلى منتهاه والله أعلم.

(قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) (١٤٥)

يذكر تعالى أنه خاطب موسى بأنه اصطفاه على أهل زمانه برسالاته تعالى وبكلامه ولا شك أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيد ولد آدم من الأولين والآخرين ولهذا اختصه الله تعالى بأن جعله خاتم الأنبياء والمرسلين الذي تستمر شريعته إلى قيام الساعة وأتباعه أكثر من أتباع سائر الأنبياء والمرسلين كلهم وبعده في الشرف والفضل إبراهيم الخليل عليه‌السلام ثم موسى بن عمران كليم الرحمنعليه‌السلام ولهذا قال الله تعالى له : (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) أي من الكلام والمناجاة

__________________

(١) أخرجه البخاري في الخصومات باب ١ ، وتفسير سورة ٧ ، باب ٢ ، والديات باب ٣٢ ، والرقاق باب ٤٣ ، والتوحيد باب ٢٢ ، ومسلم في الفضائل حديث ١٦٠.

٤٢٥

(وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي على ذلك ولا تطلب ما لا طاقة لك به.

ثم أخبر تعالى أنه كتب له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء قيل كانت الألواح من جوهر وإن الله تعالى كتب له فيها مواعظ وأحكاما مفصلة مبينة للحلال والحرام وكانت هذه الألواح مشتملة على التوراة التي قال الله تعالى فيها : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ) [القصص : ٤٣] وقيل الألواح أعطيها موسى قبل التوراة والله أعلم ، وعلى كل تقدير فكانت كالتعويض له عما سأل من الرؤية ومنع منها والله أعلم.

وقوله (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) أي بعزم على الطاعة (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) قال سفيان بن عيينة حدثنا أبو سعيد عن عكرمة عن ابن عباس قال أمر موسى عليه‌السلام أن يأخذ بأشد ما أمر قومه (١). وقوله (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) أي سترون عاقبة من خالف أمري وخرج عن طاعتي كيف يصير إلى الهلاك والدمار والتباب.

قال ابن جرير (٢) : وإنما قال (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) كما يقول القائل لمن يخاطبه سأريك غدا إلى ما يصير إليه حال من خالف أمري على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره ، ثم نقل معنى ذلك عن مجاهد والحسن البصري وقيل معناه (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) أي: من أهل الشام وأعطيكم إياها وقيل : منازل قوم فرعون والأول أولى والله أعلم لأن هذا بعد انفصال موسى وقومه عن بلاد مصر وهو خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه والله أعلم.

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٤٧)

يقول تعالى : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي سأمنع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين عن طاعتي ويتكبرون على الناس بغير حق ، أي كما استكبروا بغير حق أذلهم الله بالجهل كما قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام : ١١٠] وقال تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف : ٥] وقال بعض السلف : لا ينال العلم حيي ولا مستكبر ، وقال آخر : من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذلك الجهل أبدا ، وقال سفيان بن عيينة في قوله: (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) قال : أنزع عنهم فهم القرآن وأصرفهم

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٩.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٥٩.

٤٢٦

عن آياتي.

قال ابن جرير (١) : وهذا يدل على أن هذا الخطاب لهذه الأمة ، قلت ليس هذا بلازم لأن ابن عيينة إنما أراد أن هذا مطرد في حق كل أمة ولا فرق بين أحد وأحد في هذا ، والله أعلم. وقوله (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧].

وقوله (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) أي وإن ظهر لهم سبيل الرشد أي طريق النجاة لا يسلكوها ، وإن ظهر لهم طريق الهلاك والضلال يتخذوه سبيلا ، ثم علل مصيرهم إلى هذه الحال بقوله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي كذبت بها قلوبهم (وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) أي لا يعلمون شيئا مما فيها ، وقوله (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي من فعل منهم ذلك واستمر عليه إلى الممات حبط عمله ، وقوله (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إنما نجازيهم بحسب أعمالهم التي أسلفوها إن خيرا فخير وإن شرا فشر وكما تدين تدان.

(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (١٤٩)

يخبر تعالى عن ضلال من ضل من بني إسرائيل في عبادتهم العجل الذي اتخذه لهم السامري ، من حلي القبط الذي كانوا استعاروه منهم فشكل لهم منه عجلا ، ثم ألقى فيه القبضة من التراب التي أخذها من أثر فرس جبريل عليه‌السلام ، فصار عجلا جسدا له خوار : والخوار صوت البقر ، وكان هذا منهم بعد ذهاب موسى لميقات ربه تعالى فأعلمه الله تعالى بذلك وهو على الطور ، حيث يقول تعالى إخبارا عن نفسه الكريمة (قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) [طه : ٨٥].

وقد اختلف المفسرون في هذا العجل هل صار لحما ودما له خوار أو استمر على كونه من ذهب إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر على قولين والله أعلم. ويقال إنهم لما صوت لهم العجل رقصوا حوله وافتتنوا به (فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) [طه : ٨٨] قال الله تعالى : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) [طه : ٨٨].

وقال في هذه الآية الكريمة (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) ينكر تعالى عليهم في ضلالهم بالعجل وذهولهم عن خالق السموات والأرض ورب كل شيء ومليكه أن عبدوا معه عجلا جسدا له خوار لا يكلمهم ولا يرشدهم إلى خير ولكن غطى على أعين بصائرهم

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٦٠.

٤٢٧

عمى الجهل والضلال كما تقدم من رواية الإمام أحمد وأبي داود عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «حبك الشيء يعمي ويصم» (١) وقوله (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) أي ندموا على ما فعلوا (وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا) وقرأ بعضهم لئن لم ترحمنا بالتاء المثناة من فوق ربنا منادى وتغفر لنا لنكونن من الخاسرين أي من الهالكين وهذا اعتراف منهم بذنبهم والتجاء إلى الله عزوجل.

(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (١٥١)

يخبر تعالى أن موسى عليه‌السلام لما رجع إلى قومه من مناجاة ربه تعالى وهو غضبان أسف قال أبو الدرداء : الأسف أشد الغضب (٢). (قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) يقول بئس ما صنعتم في عبادة العجل بعد أن ذهبت وتركتكم ، وقوله (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) يقول استعجلتم مجيئي إليكم وهو مقدر من الله تعالى. وقوله (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) قيل كانت الألواح من زمرد وقيل من ياقوت وقيل من برد وفي هذا دلالة على ما جاء في الحديث : «ليس الخبر كالمعاينة» (٣) ثم ظاهر السياق أنه إنما ألقى الألواح غضبا على قومه ، وهذا قول جمهور العلماء سلفا وخلفا. وروى ابن جرير عن قتادة في هذا قولا غريبا لا يصح إسناده إلى حكاية قتادة وقد رده ابن عطية وغير واحد من العلماء وهو جدير بالرد وكأنه تلقاه قتادة عن بعض أهل الكتاب وفيهم كذابون ووضاعون وأفاكون وزنادقة.

وقوله (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) خوفا أن يكون قد قصر في نهيهم كما قال في الآية الأخرى (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) [طه: ٩٢ ـ ٩٤] وقال هاهنا (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي لا تسوقني سياقهم وتجعلني معهم وإنما قال : ابن أم ليكون أرق وأنجع عنده وإلا فهو شقيقه لأبيه وأمه فلما تحقق موسى عليه‌السلام براءة ساحة هارون عليه‌السلام كما قال تعالى : (وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) [طه : ٩٠] فعند ذلك (قالَ) موسى(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الأدب باب ١١٦ ، وأحمد في المسند ٥ / ١٩٤ ، ٦ / ٤٥٠.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٦٤ ، ولفظه : الأسف منزلة وراء الغضب ، أشد من ذلك.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٢١٥ ، ٢٧١.

٤٢٨

وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه عزوجل أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح».

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٥٣)

أما الغضب الذي نال بني إسرائيل في عبادة العجل فهو أن الله تعالى : لم يقبل لهم توبة حتى قتل بعضهم بعضا ، كما تقدم في سورة البقرة (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة : ٥٤] وأما الذلة فأعقبهم ذلك ذلا وصغارا في الحياة الدنيا.

وقوله (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) نائلة لكل من افترى بدعة فإن ذل البدعة ومخالفة الرشاد متصلة من قلبه على كتفيه ، كما قال الحسن البصري : إن ذل البدعة على أكتافهم وإن هملجت (١) بهم البغلات وطقطقت (٢) بهم البراذين : وهكذا روى أيوب السختياني عن أبي قلابة الجرمي أنه قرأ هذه الآية (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) فقال : هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة (٣) ، وقال سفيان بن عيينة : كل صاحب بدعة ذليل (٤).

ثم نبه تعالى عباده وأرشدهم إلى أنه يقبل توبة عباده من أي ذنب كان حتى ولو كان من كفر أو شرك أو نفاق أو شقاق ، ولهذا عقب هذه القصة بقوله (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ) أي : يا محمد يا رسول التوبة ونبي الرحمة (مِنْ بَعْدِها) أي من بعد تلك الفعلة (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبان حدثنا قتادة عن عزرة عن الحسن العرني عن علقمة عن عبد الله بن مسعود أنه سئل عن ذلك يعني عن الرجل يزني بالمرأة ثم يتزوجها فتلا هذه الآية (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) فتلاها عبد الله عشر مرات فلم يأمرهم بها ولم ينههم عنها.

__________________

(١) الهملجة : حسن سير الدابة في سرعة.

(٢) الطقطقة : صوت قوائم الخيل على الأرض الصلبة.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٧١.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٧٢.

٤٢٩

(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) (١٥٤)

يقول تعالى : (وَلَمَّا سَكَتَ) أي سكن (عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) أي غضبه على قومه (أَخَذَ الْأَلْواحَ) أي التي كان ألقاها من شدة الغضب على عبادتهم العجل غيرة لله وغضبا له (وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) يقول كثير من المفسرين إنها لما ألقاها تكسرت ثم جمعها بعد ذلك ولهذا قال بعض السلف فوجد فيها هدى ورحمة ، وأما التفصيل فذهب وزعموا أن رضاضها لم يزل موجودا في خزائن الملوك لبني إسرائيل إلى الدولة الإسلامية والله أعلم بصحة هذا وأما الدليل الواضح على أنها تكسرت حين ألقاها وهي من جوهر الجنة فقد أخبر تعالى أنه لما أخذها بعد ما ألقاها وجد فيها (هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) ضمن الرهبة معنى الخضوع ، ولهذا عداها باللام.

وقال قتادة : في قوله تعالى : (أَخَذَ الْأَلْواحَ) قال رب إني أجد في الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد. قال رب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون أي آخرون في الخلق سابقون في دخول الجنة رب اجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد. قال رب إني أجد في الألواح أمة أنا جيلهم في صدورهم يقرءونها وكان من قبلهم يقرءون كتابهم نظرا حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئا ولم يعرفوه وإن الله أعطاهم من الحفظ شيئا : لم يعطه أحد من الأمم. قال رب اجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد. قال رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ويقاتلون فصول الضلالة حتى يقاتلون الأعور الكذاب فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد.

قال رب إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم ويؤجرون عليها ، وكان من قبلهم من الأمم إذا تصدق بصدقة فقبلت منه بعث الله عليها نارا فأكلتها وإن ردت عليه تركت فتأكلها السباع والطير وإن الله أخذ صدقاتهم من غنيهم لفقيرهم قال رب فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد. قال رب إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة ، رب اجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد. قال رب إني أجد في الألواح أمة هم المشفوعون والمشفوع لهم فاجعلهم أمتي ، قال تلك أمة أحمد. قال قتادة فذكر لنا أن نبي الله موسى عليه‌السلام نبذ الألواح وقال اللهم اجعلني من أمة أحمد.

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ

٤٣٠

الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) (١٥٦)

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية ، كان الله أمره أن يختار من قومه سبعين رجلا فاختار سبعين رجلا فبرز ليدعوا ربهم وكان فيما دعوا الله أن قالوا اللهم أعطنا ما لم تعطه أحدا قبلنا ولا تعطه أحدا بعدنا ، فكره الله ذلك من دعائهم فأخذتهم الرجفة (قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) (١) الآية.

وقال السدي : إن الله أمر موسى أن يأتيه في ثلاثين من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ووعدهم موعدا (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) على عينيه ثم ذهب بهم ليعتذروا فلما أتوا ذلك المكان قالوا (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) [البقرة : ٥٥] يا موسى (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥] فإنك قد كلمته فأرناه (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) [البقرة : ٥٥] فماتوا فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا لقيتهم وقد أهلكت خيارهم (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) (٢).

وقال محمد بن إسحاق : اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلا الخير فالخير ، وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم ، فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم ، فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا معه للقاء ربه لموسى : اطلب لنا نسمع كلام ربنا ، فقال : أفعل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله دنا موسى فدخل فيه وقال للقوم ادنوا وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهة موسى نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم ، حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل فلما فرغ إليه من أمره وانكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا : يا موسى (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥] ... (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) وهي الصاعقة فالتقت أرواحهم فماتوا جميعا ، فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) قد سفهوا ، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل.

وقال سفيان الثوري : حدثني أبو إسحاق عن عمارة بن عبيد السلولي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : انطلق موسى وهارون وشبر وشبير فانطلقوا إلى سفح جبل فنام هارون على سرير فتوفاه الله عزوجل ، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له : أين

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٧٤.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٧٣.

٤٣١

هارون؟ قال : توفاه الله عزوجل ، قالوا : أنت قتلته حسدتنا على خلقه ولينه أو كلمة نحوها قال : فاختاروا من شئتم قال : فاختاروا سبعين رجلا قال : فذلك قوله تعالى (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) فلما انتهوا إليه قالوا : يا هارون من قتلك؟ قال : ما قتلني أحد ولكن توفاني الله ، قالوا : يا موسى لن تعصى بعد اليوم فأخذتهم الرجفة قال فجعل موسى يرجع يمينا وشمالا وقال : يا رب (لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) قال : فأحياهم الله وجعلهم أنبياء كلهم (١).

هذا أثر غريب جدا وعمارة بن عبيد هذا لا أعرفه ، وقد رواه شعبة عن أبي إسحاق عن رجل من بني سلول عن علي فذكره.

وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وابن جرير : إنهم أخذتهم الرجفة لأنهم لم يزايلوا قومهم في عبادتهم العجل ولا نهوهم ، ويتوجه هذا القول بقول موسى (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) وقوله (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) أي ابتلاؤك واختبارك وامتحانك ، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وأبو العالية والربيع بن أنس وغير واحد من علماء السلف والخلف ، ولا معنى له غير ذلك ، يقول إن الأمر إلا أمرك وإن الحكم إلا لك فما شئت كان ، تضل من تشاء وتهدي من تشاء ، ولا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت ، فالملك كله لك والحكم كله لك ، لك الخلق والأمر.

وقوله (أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) الغفر هو الستر وترك المؤاخذة بالذنب والرحمة إذا قرنت مع الغفر يراد بها أن لا يوقعه في مثله في المستقبل (وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) أي لا يغفر الذنب إلا أنت (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ) الفصل الأول من الدعاء لدفع المحذور وهذا لتحصيل المقصود (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ) أي أوجب لنا وأثبت لنا فيهما حسنة وقد تقدم تفسير الحسنة في سورة البقرة (٢).

(إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) أي تبنا ورجعنا وأنبنا إليك ، قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وأبو العالية والضحاك وإبراهيم التيمي والسدي وقتادة وغير واحد : وهو كذلك لغة ، وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا أبي عن شريك عن جابر عن عبد الله بن يحيى عن علي قال : إنما سميت اليهود لأنهم قالوا (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) جابر هو ابن يزيد الجعفي ضعيف.

(قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) (١٥٦)

يقول تعالى مجيبا لنفسه في قوله (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) الآية ، قال (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٧٤.

(٢) في تفسير الآية ٢٠١ من سورة البقرة.

٤٣٢

أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) أي أفعل ما أشاء وأحكم ما أريد ، ولي الحكمة والعدل في كل ذلك سبحانه لا إله إلا هو ، وقوله تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) آية عظيمة الشمول والعموم ، كقوله تعالى إخبارا عن حملة العرش ومن حوله ، أنهم يقولون (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) [غافر : ٧].

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبي ، حدثنا الجريري عن أبي عبد الله الجشمي ، حدثنا جندب هو ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه ، قال : جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم علقها ثم صلّى خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى راحلته فأطلق عقالها ثم ركبها ثم نادى اللهم ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتنا أحدا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أتقولون هذا أضل أم بعيره ألم تسمعوا ما قال؟» قالوا بلى قال : «لقد حظرت رحمة واسعة إن الله عزوجل خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنها وإنسها وبهائمها وأخر عنده تسعا وتسعين رحمة أتقولون هو أضل أم بعيره؟ رواه أحمد وأبو داود (٢) ، عن علي بن نصر عن عبد الصمد بن عبد الوارث به.

وقال الإمام أحمد (٣) أيضا : حدثنا يحيى بن سعيد عن سليمان عن أبي عثمان عن سلمان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن لله عزوجل مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق وبها تعطف الوحوش على أولادها وأخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة» ، تفرد بإخراجه مسلم (٤) ، فرواه من حديث سليمان هو ابن طرخان وداود بن أبي هند ، كلاهما عن أبي عثمان واسمه عبد الرحمن بن ملّ عن سلمان هو الفارسي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به.

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا عفان ، حدثنا حماد عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن لله مائة رحمة عنده تسعة وتسعون وجعل عندكم واحدة تتراحمون بها بين الجن والإنس وبين الخلق فإذا كان يوم القيامة ضمها إليه» تفرد به أحمد من هذا الوجه.

وقال أحمد (٦) : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الواحد ، حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لله مائة رحمة فقسم منها جزءا واحدا بين الخلق به يتراحم الناس والوحش والطير» ورواه ابن ماجة (٧) من حديث أبي معاوية عن الأعمش به ، وقال

__________________

(١) المسند ٤ / ٣١٢.

(٢) كتاب الأدب باب ٣٦.

(٣) المسند ٥ / ٤٣٩.

(٤) كتاب التوبة حديث ١٧ ، ٢٠.

(٥) المسند ٣ / ٥٥ ، ٥٦.

(٦) المسند ٣ / ٥٥.

(٧) كتاب الزهد باب ٣٥.

٤٣٣

الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا سعد أبو غيلان الشيباني عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن صلة بن زفر عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والذي نفسي بيده ليدخلن الجنة الفاجر في دينه الأحمق في معيشته ، والذي نفسي بيده ليدخلن الجنة الذي قد محشته (١) النار بذنبه ، والذي نفسي بيده ليغفرن الله يوم القيامة مغفرة يتطاول لها إبليس رجاء أن تصيبه» هذا حديث غريب جدا وسعد هذا لا أعرفه.

وقوله (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الآية ، يعني فسأوجب حصول رحمتي منّة مني وإحسانا إليهم كما قال تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ٥٤] وقوله (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) أي سأجعلها للمتصفين بهذه الصفات ، وهم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الَّذِينَ يَتَّقُونَ) أي الشرك والعظائم من الذنوب. قوله (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) قيل زكاة النفوس ، وقيل الأموال ويحتمل أن تكون عامة لهما فإن الآية مكية (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) أي يصدقون.

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٥٧)

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) وهذه صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتب الأنبياء بشروا أممهم ببعثه وأمروهم بمتابعته ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم. كما روى الإمام أحمد (٢) : حدثنا إسماعيل عن الجريري عن أبي صخر العقيلي حدثني رجل من الأعراب قال جلبت حلوبة إلى المدينة في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما فرغت من بيعي قلت لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه قال فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون فتبعتهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشرا التوراة يقرؤها يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأجمل الفتيان وأحسنها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنشدك بالذي أنزل التوراة هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي» فقال برأسه هكذا أي لا فقال ابنه إي والذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله فقال «أقيموا اليهودي عن أخيكم» ثم تولى كفنه والصلاة عليه هذا حديث جيد قوي له شاهد في الصحيح عن أنس.

وقال الحاكم صاحب المستدرك أخبرنا محمد بن عبد الله بن إسحاق البغوي حدثنا

__________________

(١) محشته النار : أحرقت جلده حتى ظهر العظم.

(٢) المسند ٥ / ٤١١.

٤٣٤

إبراهيم بن الهيثم البلدي حدثنا عبد العزيز بن مسلم بن إدريس حدثنا عبد الله بن إدريس عن شرحبيل بن مسلم عن أبي أمامة الباهلي عن هشام بن العاص الأموي قال بعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام فخرجنا حتى قدمنا الغوطة يعني غوطة دمشق فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني فدخلنا عليه فإذا هو على سرير له فأرسل إلينا برسوله نكلمه فقلنا والله لا نكلم رسولا وإنما بعثنا إلى الملك ، فإن أذن لنا كلمناه وإلا لم نكلم الرسول فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك.

قال : فأذن لنا فقال : تكلموا فكلمه هشام بن العاص ودعاه إلى الإسلام فإذا عليه ثياب سود فقال له هشام وما هذه التي عليك؟ فقال لبستها وحلفت أن لا أنزعها حتى أخرجكم من الشام قلنا ومجلسك هذا والله لنأخذنه منك ولنأخذن ملك الملك الأعظم إن شاء الله ، أخبرنا بذلك نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لستم بهم بل هم قوم يصومون بالنهار ويقومون بالليل فكيف صومكم؟ فأخبرناه ، فملىء وجهه سوادا فقال : قوموا وبعث معنا رسولا إلى الملك فخرجنا حتى إذا كنا قريبا من المدينة قال لنا الذي معنا : إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك فإن شئتم حملناكم على براذين وبغال ، قلنا والله لا ندخل إلا عليها فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون ذلك فأمرهم أن ندخل على رواحلنا.

فدخلنا عليها متقلدين سيوفنا حتى انتهينا إلى غرفة له فأنخنا في أصلها وهو ينظر إلينا ، فقلنا لا إله إلا الله والله أكبر فالله يعلم لقد انتفضت الغرفة (١) حتى صارت كأنها عذق تصفقه الرياح ، قال : فأرسل إلينا ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم ، وأرسل إلينا أن ادخلوا فدخلنا عليه وهو على فراش له وعنده بطارقة من الروم وكل شيء في مجلسه أحمر وما حوله حمرة وعليه ثياب من الحمرة ، فدنونا منه فضحك فقال : ما عليكم لو حييتموني بتحيتكم فيما بينكم؟ وإذا عنده رجل فصيح بالعربية كثير الكلام فقلنا إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك وتحيتك التي تحيا بها ، لا يحل لنا أن نحييك بها.

قال كيف تحيتكم فيما بينكم؟ قلنا السلام عليكم قال فكيف تحيون ملككم قلنا بها قال : فكيف يرد عليكم؟ قلنا بها ، قال فما أعظم كلامكم؟ قلنا لا إله إلا الله والله أكبر فلما تكلمنا بها والله يعلم لقد انتفضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها قال فهذه الكلمة التي قلتموها حيث انتفضت الغرفة كلما قلتموها في بيوتكم انتفضت عليكم غرفكم؟ قلنا لا ، ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك ، قال : لوددت أنكم كلما قلتم انتفض كل شيء عليكم وإني قد خرجت من نصف ملكي قلنا لم؟ قال لأنه كان أيسر لشأنها وأجدر أن لا تكون من أمر النبوة وأنها تكون من حيل الناس ، ثم سألنا عما أراد فأخبرناه ، ثم قال كيف صلاتكم وصومكم؟ فأخبرناه ، فقال : قوموا

__________________

(١) انتفضت الغرفة : أي تشققت وسمع صوتها.

٤٣٥

فأمر لنا بمنزل حسن ونزل كثير فأقمنا ثلاثا فأرسل إلينا ليلا فدخلنا عليه فاستعاد قولنا فأعدناه.

ثم دعا بشيء كهيئة الربعة (١) العظيمة مذهبة فيها بيوت صغار عليها أبواب ففتح بيتا وقفلا فاستخرج «حريرة سوداء فنشرها فإذا فيها صورة حمراء ، وإذا فيها رجل ضخم العينين عظيم الأليتين لم أر مثل طول عنقه ، وإذا ليست له لحية وإذا له ضفيرتان أحسن ما خلق الله فقال : أتعرفون هذا ، قلنا لا قال : هذا آدم عليه‌السلام وإذا هو أكثر الناس شعرا ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء وإذا فيها صورة بيضاء وإذا له شعر كشعر القطط أحمر العينين ضخم الهامة حسن اللحية فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال : هذا نوح عليه‌السلام ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة سوداء وإذا فيها رجل شديد البياض حسن العينين صلت الجبين (٢) طويل الخد أبيض اللحية كأنه يبتسم فقال هل تعرفون هذا؟ قلنا : لا قال : هذا إبراهيم عليه‌السلام.

ثم فتح بابا آخر فإذا فيه صورة بيضاء وإذا والله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أتعرفون هذا؟ قلنا نعم هذا محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : وبكينا قال : والله يعلم أنه قام قائما ثم جلس وقال والله إنه لهو قلنا نعم إنه لهو كأنك تنظر إليه فأمسك ساعة ينظر إليها ثم قال : أما إنه كان آخر البيوت ولكني عجلته لكم لأنظر ما عندكم ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فإذا فيها صورة أدماء سحماء وإذا رجل جعد قطط غائر العينين حديد النظر عابس متراكب الأسنان متقلص الشفة كأنه غضبان فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال : هذا موسى عليه‌السلام وإلى جنبه صورة تشبهه إلا أنه مدهان الرأس عريض الجبين في عينيه نبل فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا لا قال : هذا هارون بن عمران عليه‌السلام.

ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل آدم سبط ربعة كأنه غضبان فقال هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال : هذا لوط عليه‌السلام ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل أبيض مشرب حمزة أقنى خفيف العارضين حسن الوجه فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال : هذا إسحاق عليه‌السلام.

ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة تشبه إسحاق إلا أنه على شفته خال فقال هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال : هذا يعقوب عليه‌السلام.

ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فيها صورة رجل أبيض حسن الوجه أقنى الأنف حسن القامة يعلو وجهه نور يعرف في وجهه الخشوع يضرب إلى الحمرة قال : هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال : هذا إسماعيل جد نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة كصورة آدم كأن وجهه الشمس فقال هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال : هذا يوسف

__________________

(١) الرّبعة : إناء مربع.

(٢) صلت الجبين : أي واسعة ، وقيل : الصلت : البارز ، وقيل : الأملس.

٤٣٦

عليه‌السلام ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل أحمر حمش الساقين أخفش العينين ضخم البطن ربعة متقلد سيفا فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال : هذا داودعليه‌السلام.

ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فيها صورة رجل ضخم الأليتين طويل الرجلين راكب فرسا فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال : هذا سليمان بن داود عليهما‌السلام ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فيها صورة بيضاء وإذا شاب شديد سواد اللحية كثير الشعر حسن العينين حسن الوجه فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال : هذا عيسى ابن مريم عليه‌السلام ، قلنا من أين لك هذه الصور؟ لأنا نعلم أنها على ما صورت عليه الأنبياء عليهم‌السلام لأنا رأينا صورة نبينا عليه‌السلام مثله ، فقال : إن آدم عليه‌السلام سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده فأنزل عليه صورهم ، فكانت في خزانة آدم عليه‌السلام عند مغرب الشمس فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس فدفعها إلى دانيال ، ثم قال : أما والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي وإني كنت عبدا لأشركم ملكة حتى أموت ، ثم أجازنا فأحسن جائزتنا وسرحنا.

فلما أتينا أبا بكر الصديق رضي الله عنه فحدثناه بما أرانا وبما قال لنا وما أجازنا ، قال فبكى أبو بكر ، وقال : مسكين لو أراد الله به خيرا لفعل ثم قال : أخبرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم واليهود يجدون نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عندهم ، وهكذا أورده الحافظ الكبير البيهقي رحمه‌الله في كتاب دلائل النبوّة عن الحاكم إجازة فذكره وإسناده لا بأس به.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا المثنى حدثنا عثمان بن عمر حدثنا فليح عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة قال أجل والله إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) [الأحزاب : ٤٥] وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي اسمك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح به قلوبا غلفا وآذانا صما وأعينا عميا ، قال عطاء : ثم لقيت كعبا فسألته عن ذلك فما اختلف حرفا إلا أن كعبا قال بلغته : قال قلوبا غلوفيا وآذانا صموميا وأعينا عموميا.

وقد رواه البخاري (٢) في صحيحه عن محمد بن سنان عن فليح عن هلال بن علي فذكر بإسناده نحوه ، وزاد بعد قوله ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ، وذكر حديث عبد الله بن عمرو ، ثم قال : ويقع في كلام كثير من

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٨٤.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٤٨ ، باب ٣ ، والبيوع باب ٥٠.

٤٣٧

السلف إطلاق التوراة على كتب أهل الكتاب ، وقد ورد في بعض الأحاديث ما يشبه هذا والله أعلم.

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا محمد بن إدريس بن وراق بن الحميدي ، حدثنا محمد بن عمر بن إبراهيم من ولد جبير بن مطعم قال : حدثتني أم عثمان بنت سعيد وهي جدتي عن أبيها سعيد بن محمد بن جبير عن أبيه محمد بن جبير عن أبيه جبير بن مطعم قال : خرجت تاجرا إلى الشام فلما كنت بأدنى الشام لقيني رجل من أهل الكتاب فقال : هل عندكم رجل نبيا؟ قلت نعم ، قال : هل تعرف صورته إذا رأيتها؟ قلت نعم ، فأدخلني بيتا فيه صور فلم أر صورة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبينا أنا كذلك إذ دخل رجل منهم علينا فقال : فيم أنتم؟ فأخبرناه فذهب بنا إلى منزله فساعة ما دخلت نظرت إلى صورة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإذا رجل آخذ بعقب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلت : من هذا الرجل القابض على عقبه؟ قال إنه لم يكن نبي إلا كان بعده نبي إلا هذا النبي فإنه لا نبي بعده وهذا الخليفة بعده وإذا صفة أبي بكر رضي الله عنه.

وقال أبو داود : حدثنا عمر بن حفص أبو عمرو الضرير حدثنا حماد بن سلمة أن سعيد بن إياس الجريري أخبرهم عن عبد الله بن شقيق العقيلي عن الأقرع مؤذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : بعثني عمر إلى الأسقف فدعوته فقال له عمر : هل تجدني في الكتاب؟ قال نعم ، قال : كيف تجدني؟ قال : أجدك قرنا فرفع عمر الدرة وقال : قرن مه؟ قال : قرن حديد أمير شديد ، قال : فكيف تجد الذي بعدي؟ قال : أجد خليفة صالحا غير أنه يؤثر قرابته ، قال عمر يرحم الله عثمان ثلاثا قال : كيف تجد الذي بعده؟ قال : أجده صدأ حديد ، قال فوضع عمر يده على رأسه وقال : يا دفراه يا دفراه قال : يا أمير المؤمنين إنه خليفة صالح ولكنه يستخلف حين يستخلف والسيف مسلول والدم مهراق.

وقوله تعالى : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) هذه صفة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الكتب المتقدمة وهكذا كانت حاله عليه الصلاة والسلام لا يأمر إلا بخير ولا ينهى إلا عن شر كما قال عبد الله بن مسعود إذا سمعت الله يقول (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فأرعها سمعك فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه ، ومن أهم ذلك وأعظمه ما بعثه الله به من الأمر بعبادته وحده لا شريك له والنهي عن عبادة من سواه كما أرسل به جميع الرسل قبله كما قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل : ٣٦].

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو عامر هو العقدي عبد الملك بن عمرو ، حدثنا سليمان هو ابن بلال عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الملك بن سعيد عن أبي حميد وأبي أسيد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له

__________________

(١) المسند ٣ / ٤٩٧ ، ٥ / ٤٢٥.

٤٣٨

أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به ، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه» رواه الإمام أحمد رضي الله عنه بإسناد جيد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن علي رضي الله عنه قال : إذا سمعتم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا فظنوا به الذي هو أهدى والذي هو أهنى والذي هو أتقى ثم رواه عن يحيى عن ابن سعيد عن مسعر عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي عبد الرحمن عن علي رضي الله عنه قال إذا حدثتم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا فظنوا به الذي هو أهداه وأهناه وأتقاه.

وقوله (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) أي يحل لهم ما كانوا حرموه على أنفسهم من البحائر والسوائب والوصائل والحام ونحو ذلك مما كانوا ضيقوا به على أنفسهم ويحرم عليهم الخبائث ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كلحم الخنزير والربا وما كانوا يستحلونه من المحرمات من المأكل التي حرمها الله تعالى (٢).

وقال بعض العلماء فكل ما أحل الله تعالى من المآكل فهو طيب نافع في البدن والدين وكل ما حرمه فهو خبيث ضار في البدن والدين وقد تمسك بهذه الآية الكريمة من يرى التحسين والتقبيح العقليين وأجيب عن ذلك بما لا يتسع هذا الموضع له وكذا احتج بها من ذهب من العلماء ، إلا أن المرجع في حل المآكل التي لم ينص على تحليلها ولا تحريمها إلى ما استطابته العرب في حال رفاهيتها وكذا في جانب التحريم إلى ما استخبثته وفيه كلام طويل أيضا.

وقوله (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) أي أنه جاء بالتيسير والسماحة كما ورد الحديث من طرق عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «بعثت بالحنيفية السمحة» (٣) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأميريه معاذ وأبي موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن «بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا وتطاوعا ولا تختلفا» (٤) وقال صاحبه أبو برزة الأسلمي : إني صحبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشهدت تيسيره (٥).

وقد كانت الأمم التي قبلنا في شرائعهم ضيق عليهم ، فوسع الله على هذه الأمة أمورها وسهلها لهم ولهذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو

__________________

(١) المسند ١ / ١٢٢ ، ١٣٠ ، ١٣١ ، ٣٨٥ ، ٤١٥.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٨٥.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٢٦٦ ، ٦ / ١١٦ ، ٢٣٣.

(٤) أخرجه البخاري في الجهاد باب ١٦٤ ، ومسلم في الجهاد حديث ٧١.

(٥) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ٤٢٠ ، ٤٢٣.

٤٣٩

تعمل» (١) وقال «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (٢) ولهذا قد : أرشد الله هذه الأمة أن يقولوا (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٨٦] وثبت في صحيح مسلم (٣) أن الله تعالى قال : بعد كل سؤال من هذه قد فعلت قد فعلت ، وقوله (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ) أي عظموه ووقروه ، وقوله (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) أي القرآن والوحي الذي جاء به مبلغا إلى الناس (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي في الدنيا والآخرة.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥٨)

يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ) يا محمد (يا أَيُّهَا النَّاسُ) وهذا خطاب للأحمر والأسود والعربي والعجمي (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) أي جميعكم وهذا من شرفه وعظمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه خاتم النبيين وأنه مبعوث إلى الناس كافة كما قال الله تعالى : (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام : ١٩] وقال تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود : ١٧] وقال تعالى : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) [آل عمران : ٢٠].

والآيات في هذا كثيرة كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصر ، وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه صلوات الله وسلامه عليه رسول الله إلى الناس كلهم.

قال البخاري (٤) رحمه‌الله في تفسير هذه الآية : حدثنا عبد الله حدثنا سليمان بن عبد الرحمن وموسى بن هارون قالا : حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبد الله بن العلاء بن زير حدثني يسر بن عبيد الله حدثني أبو إدريس الخولاني قال سمعت أبا الدرداء ، رضي الله عنه يقول : كانت بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما محاورة فأغضب أبو بكر عمر فانصرف عنه عمر مغضبا فأتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أبو الدرداء ونحن عنده فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أما صاحبكم هذا فقد غامر» أي غاضب وحاقد. قال وندم عمر على ما كان منه ، فأقبل حتى سلّم وجلس إلى

__________________

(١) أخرجه البخاري في الطلاق باب ١١ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٠١ ، ٢٠٢.

(٢) أخرجه ابن ماجة في الطلاق باب ١٦.

(٣) كتاب الإيمان حديث ١٩٩ ، ٢٠٠.

(٤) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٧ ، باب ٣.

٤٤٠