تفسير القرآن العظيم - ج ٣

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٣

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٩٥

الكلام عليها في سورة البقرة (١).

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٨٥)

قال محمد بن إسحاق : هم من سلالة مدين بن إبراهيم وشعيب وهو ابن ميكيل بن يشجر قال واسمه بالسريانية يثرون (قلت) مدين تطلق على القبيلة وعلى المدينة وهي التي بقرب معان من طريق الحجاز قال الله تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) [القصص : ٢٣] وهم أصحاب الأيكة كما سنذكره إن شاء الله وبه الثقة (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) هذه دعوة الرسل كلهم قد جاءتكم بينة من ربكم ، أي قد أقام الله الحجج والبينات على صدق ما جئتكم به ، ثم وعظهم في معاملتهم الناس بأن يوفوا المكيال والميزان ولا يبخسوا الناس أشياءهم ، أي لا يخونوا الناس في أموالهم ويأخذوها على وجه البخس وهو نقص المكيال والميزان وتدليسا كما قال تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ـ إلى قوله ـ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [المطففين : ١ ـ ٦] وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد نسأل الله العافية منه ، ثم قال تعالى إخبارا عن شعيب الذي يقال له خطيب الأنبياء لفصاحة عبارته وجزالة موعظته.

(وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (٨٧)

ينهاهم شعيب عليه‌السلام عن قطع الطريق الحسي والمعنوي بقوله (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) أي تتوعدون الناس بالقتل إن لم يعطوكم أموالهم قال السدي وغيره : كانوا عشارين (٢) ، وعن ابن عباس ومجاهد وغير واحد (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) أي تتوعدون المؤمنين الآتين إلى شعيب ليتبعوه (٣) والأول أظهر لأنه قال (بِكُلِّ صِراطٍ) وهو الطريق وهذا الثاني هو قوله (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً) أي وتودون أن تكون سبيل الله عوجا مائلة.

__________________

(١) في تفسير الآية ٢٢٣.

(٢) انظر تفسير الطبري ٥ / ٥٤٤.

(٣) تفسير الطبري ٥ / ٥٤٤.

٤٠١

(وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) أي كنتم مستضعفين لقلتكم فصرتم أعزة لكثرة عددكم فاذكروا نعمة الله عليكم في ذلك (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي من الأمم الخالية والقرون الماضية وما حل بهم من العذاب والنكال باجترائهم على معاصي الله وتكذيب رسله. وقوله (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا) أي قد اختلفتم علي (فَاصْبِرُوا) أي انتظروا (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا) وبينكم أي يفصل (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) فإنه سيجعل العاقبة للمتقين ، والدمار على الكافرين.

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (٨٩)

هذا خبر من الله تعالى عما واجهت به الكفار نبيه شعيبا ومن معه من المؤمنين في توعدهم إياه ومن معه بالنفي عن القرية أو الإكراه على الرجوع في ملتهم والدخول معهم فيما هم فيه ، وهذا خطاب مع الرسول والمراد أتباعه الذين كانوا معه على الملة.

وقوله (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) يقول أو أنتم فاعلون ذلك ولو كنا كارهين ما تدعونا إليه فإنا إن رجعنا إلى ملتكم ودخلنا معكم فيما أنتم فيه ، فقد أعظمنا الفرية على الله في جعل الشركاء معه أندادا وهذا تعبير منه عن اتباعهم (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) وهذا رد إلى المشيئة فإنه يعلم كل شيء وقد أحاط بكل شيء علما (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) أي في أمورنا ما نأتي منها وما نذر (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) أي احكم بيننا وبين قومنا وانصرنا عليهم (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) أي خير الحاكمين ، فإنك العادل الذي لا يجوز أبدا.

(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) (٩٢)

يخبر تعالى عن شدة كفرهم وتمردهم وعتوهم وما هم فيه من الضلال وما جبلت عليه قلوبهم من المخالفة للحق ولهذا أقسموا وقالوا (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) فلهذا عقبه بقوله (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) أخبر تعالى هنا أنهم أخذتهم الرجفة وذلك كما أرجفوا شعيبا وأصحابه وتوعدهم بالجلاء كما أخبر عنهم في سورة هود فقال (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) [هود : ٩٤] والمناسبة هناك والله أعلم أنهم لما تهكموا به في

٤٠٢

قولهم (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ) [هود : ٨٧] الآية فجاءت الصيحة فأسكتتهم ، وقال تعالى إخبارا عنهم في سورة الشعراء (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الشعراء : ١٨٩] وما ذاك إلا لأنهم قالوا له في سياق القصة (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) [الشعراء : ١٨٧] الآية.

فأخبر أنه أصابهم عذاب يوم الظلة ، وقد اجتمع عليهم ذلك كله أصابهم (عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) وهي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم ، ثم جاءتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم فزهقت الأرواح وفاضت النفوس وخمدت الأجسام (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) ثم قال تعالى : (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) أي كأنهم لما أصابتهم النقمة لم يقيموا بديارهم التي أرادوا إجلاء الرسول وصحبه منها ثم قال تعالى مقابلا لقيلهم (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ).

(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) (٩٣)

أي فتولى عنهم شعيب عليه‌السلام بعد ما أصابهم من العذاب والنقمة والنكال ، وقال مقرعا لهم وموبخا (يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) أي قد أديت إليكم ما أرسلت به فلا آسف عليكم وقد كفرتم بما جئتكم به فلهذا قال (فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ)؟

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٩٥)

يقول تعالى مخبرا عما اختبر به الأمم الماضية الذين أرسل إليهم الأنبياء بالبأساء والضراء ، يعني بالبأساء ما يصيبهم في أبدانهم من أمراض وأسقام ، والضراء ما يصيبهم من فقر وحاجة ونحو ذلك (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) ، أي يدعون ويخشعون ويبتهلون إلى الله تعالى في كشف ما نزل بهم ، وتقدير الكلام أنه ابتلاهم بالشدة ليتضرعوا فما فعلوا شيئا من الذي أراد منهم ، فقلب عليهم الحال إلى الرخاء ليختبرهم فيه ، ولهذا قال (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) أي حولنا الحالة من شدة إلى رخاء ومن مرض وسقم إلى صحة وعافية ومن فقر إلى غنى ليشكروا على ذلك فما فعلوا ، وقوله (حَتَّى عَفَوْا) أي كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم ، يقال عفا الشيء إذا كثر.

(وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) يقول تعالى:

٤٠٣

ابتليناهم بهذا وهذا ليتضرعوا وينيبوا إلى الله فما نجع فيهم لا هذا ولا هذا ولا انتهوا بهذا ولا بهذا ، بل قالوا : قد مسنا من البأساء والضراء ثم بعده من الرخاء مثل ما أصاب آباءنا في قديم الزمان والدهر ، وإنما هو الدهر تارات وتارات ، بل لم يتفطنوا لأمر الله فيهم ولا استشعروا ابتلاء الله لهم في الحالين.

وهذا بخلاف حال المؤمنين الذين يشكرون الله على السراء ويصبرون على الضراء كما ثبت في الصحيحين «عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له» (١) فالمؤمن من يتفطن لما ابتلاه الله به من الضراء والسراء ، ولهذا جاء في الحديث «لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نقيا من ذنوبه ، والمنافق مثله كمثل الحمار لا يدري فيم ربطه أهله ولا فيم أرسلوه» (٢) أو كما قال ، ولهذا عقب هذه الصفة بقوله (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي أخذناهم بالعقوبة بغتة ، أي على بغتة ، وعدم شعور منهم أي أخذناهم فجأة كما في الحديث «موت الفجأة رحمة للمؤمن وأخذة أسف للكافر» (٣).

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ(٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (٩٩)

يخبر تعالى عن قلة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل ، كقوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [يونس : ٩٨] أي ما آمنت قرية بتمامها إلا قوم يونس ، فإنهم آمنوا وذلك بعد ما عاينوا العذاب ، كما قال تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [الصافات : ١٤٧ ـ ١٤٨] وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) [سبأ : ٣٤] الآية.

وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا) أي آمنت قلوبهم بما جاء به الرسل وصدقت به واتبعوه ، واتقوا بفعل الطاعات وترك المحرمات (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي قطر السماء ونبات الأرض ، قال تعالى : (وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٦٤.

(٢) أخرجه مسلم في الطهارة حديث ٣٢ ، والترمذي في الطهارة باب ٢ ، ومالك في الطهارة حديث ٣١ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٠٣.

(٣) أخرجه أبو داود في الجنائز باب ١٠ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤٢٤ ، ٤ / ٢١٩.

٤٠٤

يَكْسِبُونَ) أي ولكن كذبوا رسلهم فعاقبناهم بالهلاك على ما كسبوا من المآثم والمحارم.

ثم قال تعالى مخوفا ومحذرا من مخالفة أوامره والتجرؤ على زواجره : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) أي الكافرة (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا) أي عذابنا ونكالنا (بَياتاً) أي ليلا (وَهُمْ نائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) أي في حال شغلهم وغفلتهم (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) أي بأسه ونقمته وقدرته عليهم وأخذه إياهم في حال سهوهم وغفلتهم (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) ولهذا قال الحسن البصري رحمه‌الله : المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن.

(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (١٠٠)

قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها) أو لم يتبين لهم أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ، وكذا قال مجاهد وغيره ، وقال أبو جعفر بن جرير (١) في تفسيرها : يقول تعالى أو لم يتبين للذين يستخلفون في الأرض من بعد إهلاك آخرين قبلهم كانوا أهلها فساروا سيرتهم وعملوا أعمالهم وعتوا على ربهم (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) يقول : إن لو نشاء فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) يقول ونختم على قلوبهم (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) موعظة ولا تذكيرا (قلت) وهكذا قال تعالى : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) [طه : ١٢٨] وقال تعالى : (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ) [السجدة : ٢٩] وقال (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [إبراهيم : ٤٤ ـ ٤٥] الآية ، وقال تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) [مريم : ٩٨] أي هل ترى لهم شخصا أو تسمع لهم صوتا؟.

وقال تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) [الأنعام : ٦] وقال تعالى بعد ذكره إهلاك عاد (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأحقاف : ٢٥ ـ ٢٧].

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ١١.

٤٠٥

وقال تعالى : (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) [سبأ : ٤٥] وقال تعالى : (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) [الملك : ١٨] وقال تعالى : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٥ ـ ٤٦] وقال تعالى (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الأنعام : ١٠] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على حلول نقمه بأعدائه وحصول نعمه لأوليائه ولهذا عقب بقوله وهو أصدق القائلين ورب العالمين.

(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) (١٠٢)

لما قص تعالى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبر قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وما كان من إهلاكه الكافرين وإنجائه المؤمنين ، وأنه تعالى أعذر إليهم بأن بين لهم الحق بالحجج على ألسنة الرسل صلوات الله عليهم أجمعين ، قال تعالى : (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ) أي يا محمد (مِنْ أَنْبائِها) أي من أخبارها (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي الحجج على صدقهم فيما أخبروهم به ، كما قال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] وقال تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [هود : ١٠١ ـ ١٠٢].

وقوله تعالى : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) الباء سببية ، أي فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم حكاه ابن عطية رحمه‌الله وهو متجه حسن كقوله (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام : ١١٠ ـ ١١١] الآية ، ولهذا قال هنا (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ) أى لأكثر الأمم الماضية.

(مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) أي ولقد وجدنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة والامتثال. والعهد الذي أخذه هو ما جبلهم عليه وفطرهم عليه وأخذ عليهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو فأقروا بذلك وشهدوا على أنفسهم به ، وخالفوه وتركوه وراء ظهورهم وعبدوا مع الله غيره بلا دليل ولا حجة لا من عقل ولا شرع ، وفي الفطرة السليمة خلاف ذلك ، وجاءت الرسل الكرام من أولهم إلى آخرهم بالنهي عن ذلك كما جاء في صحيح مسلم ، يقول الله تعالى : «إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن

٤٠٦

دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم» (١) وفي الصحيحين «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» (٢) الحديث.

وقال تعالى في كتابه العزيز (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥] وقوله تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) [الزخرف : ٤٥] وقال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل : ٣٦] إلى غير ذلك من الآيات.

وقد قيل في تفسير قوله تعالى : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) ما روى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) قال كان في علمه تعالى يوم أقروا له بالميثاق (٣) ، أي فما كانوا ليؤمنوا لعلم الله منهم ذلك ، وكذا قال الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب عن أنس ، واختاره ابن جرير (٤) ، وقال السدي (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) قال : ذلك يوم أخذ منهم الميثاق فآمنوا كرها (٥) ، وقال مجاهد في قوله (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) هذا كقوله (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا) [الأنعام : ٢٨] الآية (٦).

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (١٠٣)

يقول تعالى : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي الرسل المتقدم ذكرهم كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر أنبياء الله أجمعين (مُوسى بِآياتِنا) أي بحججنا ودلائلنا البينة إلى فرعون ، وهو ملك مصر في زمن موسى (وَمَلَائِهِ) أي قومه (فَظَلَمُوا بِها) أي جحدوا وكفروا بها ظلما منهم وعنادا ، وكقوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) [النمل : ١٤] أي الذين صدوا عن سبيل الله وكذبوا رسله ، أي انظر يا محمد كيف فعلنا بهم وأغرقناهم عن آخرهم بمرأى من موسى وقومه ، وهذا أبلغ في النكال بفرعون وقومه وأشفى لقلوب أولياء الله موسى وقومه من المؤمنين به.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٦٣.

(٢) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٨٠ ، ومسلم في القدر حديث ٢٢ ، ٢٣ ، ٢٤.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٢.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ١٣.

(٥) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٢.

(٦) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٢ ، ١٣.

٤٠٧

(وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (١٠٦)

يخبر تعالى عن مناظرة موسى لفرعون وإلجامه إياه بالحجة وإظهاره الآيات البينات بحضرة فرعون وقومه من قبط مصر ، فقال تعالى : (وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي أرسلني الذي هو خالق كل شيء وربه ومليكه ، (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) فقال بعضهم : معناه حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق ، أي جدير بذلك وحري به ، قالوا : والباء وعلى يتعاقبان يقال رميت بالقوس وعلى القوس ، وجاء على حال حسنة وبحال حسنة.

وقال بعض المفسرين : معناه حريص على أن لا أقول على الله إلا الحق ، وقرأ آخرون من أهل المدينة : حقيق عليّ بمعنى واجب وحق علي ذلك أن لا أخبر عنه إلا بما هو حق وصدق ، لما أعلم من عز جلاله وعظيم شأنه (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي بحجة قاطعة من الله أعطانيها دليلا على صدقي فيما جئتكم به (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي أطلقهم من أسرك وقهرك ، ودعهم وعبادة ربك وربهم فإنهم من سلالة نبي كريم إسرائيل ، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن (قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي قال فرعون لست بمصدقك فيما قلت ولا بمطيعك فيما طلبت ، فإن كانت معك حجة فأظهرها لنراها إن كنت صادقا فيما ادعيت.

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) (١٠٨)

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (ثُعْبانٌ مُبِينٌ) الحية الذكر (١) ، وكذا قال السدي والضحاك ، وفي حديث الفتون من رواية يزيد بن هارون عن الأصبغ بن زيد عن القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال (فَأَلْقى عَصاهُ) فتحولت حية عظيمة فاغرة فاها مسرعة إلى فرعون ، فلما رآها فرعون أنها قاصدة إليه اقتحم عن سريره (٢) واستغاث بموسى أن يكفها عنه ففعل (٣) ، وقال قتادة : تحولت حية عظيمة مثل المدينة (٤).

وقال السدي في قوله (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) الثعبان الذكر من الحيات فاتحة فاها واضعة

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٦.

(٢) اقتحم عن سريره : أي رمى بنفسه عن سريره.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٦.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ١٥.

٤٠٨

لحيها الأسفل في الأرض والأخر على سور القصر ، ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه فلما رآها ذعر منها ووثب وأحدث ولم يكن يحدث قبل ذلك ، وصاح يا موسى خذها وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل ، فأخذها موسى عليه‌السلام فعادت عصا (١) ، وروي عن عكرمة عن ابن عباس نحو هذا ، وقال وهب بن منبه : لما دخل موسى على فرعون قال له فرعون : أعرفك قال نعم قال (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) [الشعراء : ١٨] قال : فرد إليه موسى الذي رد ، فقال فرعون : خذوه فبادر موسى (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) فحملت على الناس فانهزموا منها ، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا قتل بعضهم بعضا ، وقام فرعون منهزما حتى دخل البيت ، رواه ابن جرير والإمام أحمد ، في كتابه الزهد ، وابن أبي حاتم وفيه غرابة في سياقه والله أعلم.

وقوله (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) أي أخرج يده من درعه بعد ما أدخلها فيه فإذا هي بيضاء تتلألأ من غير برص ولا مرض ، كما قال تعالى : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) [النمل : ١٢] الآية ، وقال ابن عباس في حديث الفتون : من غير سوء يعني من غير برص ثم أعادها إلى كمه فعادت إلى لونها الأول (٢) ، وكذا قال مجاهد وغير واحد.

(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ) (١١٠)

أي قال الملأ وهم الجمهور والسادة من قوم فرعون موافقين لقول فرعون فيه بعد ما رجع إليه روعه واستقر على سرير مملكته بعد ذلك قال للملأ حوله (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) فوافقوا وقالوا كمقالته وتشاوروا في أمره كيف يصنعون في أمره وكيف تكون حيلتهم في إطفاء نوره وإخماد كلمته وظهور كذبه وافترائه وتخوفوا أن يستميل الناس بسحره فيما يعتقدون فيكون ذلك سببا لظهوره عليهم وإخراجه إياهم من أرضهم والذي خافوا منه وقعوا فيه كما قال تعالى : (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) [القصص : ٦] فلما تشاوروا في شأنه وائتمروا بما فيه اتفق رأيهم على ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله تعالى :

(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) (١١٢)

قال ابن عباس (أَرْجِهْ) أخره وقال قتادة احبسه (وَأَرْسِلْ) أي ابعث (فِي الْمَدائِنِ) أي في الأقاليم ومدائن ملكك (حاشِرِينَ) أي من يحشر لك السحرة من سائر البلاد ويجمعهم وقت كان السحر في زمانهم غالبا كثيرا ظاهرا واعتقد من اعتقد منهم وأوهم من أوهم منهم أن

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٦.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٧.

٤٠٩

ما جاء به موسى عليه‌السلام من قبيل ما تشعبذه سحرتهم فلهذا جمعوا له السحرة ليعارضوه بنظير ما أراهم من البينات كما أخبر تعالى عن فرعون حيث قال (أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى) [طه : ٥٧ ـ ٦٠] وقال تعالى هاهنا :

(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (١١٤)

يخبر تعالى عما تشارط عليه فرعون والسحرة الذين استدعاهم لمعارضة موسى عليه‌السلام إن غلبوا موسى ليثيبنهم وليعطينهم عطاء جزيلا فوعدهم ومناهم أن يعطيهم ما أرادوا ويجعلهم من جلسائه والمقربين عنده فلما توثقوا من فرعون لعنه الله.

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (١١٦)

هذه مبارزة من السحرة لموسى عليه‌السلام في قولهم (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) أي قبلك كما قال في الآية الأخرى (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) [طه : ٦٥] فقال لهم موسى عليه‌السلام ألقوا أي أنتم أولا ، قيل الحكمة في هذا والله أعلم ليرى الناس صنيعهم ويتأملوا فإذا فرغوا من بهرجهم ومحالهم جاءهم الحق الواضح الجلي بعد التطلب له والانتظار منهم لمجيئه فيكون أوقع في النفوس وكذا كان ولهذا قال تعالى : (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) أي خيلوا إلى الأبصار أن ما فعلوا له حقيقة في الخارج ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال كما قال تعالى : (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) [طه : ٦٦ ـ ٦٩].

قال سفيان بن عيينة حدثنا أبو سعيد عن عكرمة عن ابن عباس : ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا ، قال فأقبلت يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى (١) وقال محمد بن إسحاق : صف خمسة عشر ألف ساحر مع كل ساحر حباله وعصيه وخرج موسى عليه‌السلام معه أخوه يتكئ على عصاه حتى أتى الجمع وفرعون في مجلسه مع أشراف أهل مملكته ثم قال السحرة (يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ) [طه : ٦٥ ـ ٦٧] فكان أول ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى وبصر فرعون ثم أبصار الناس بعد ثم ألقى كل رجل

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢١.

٤١٠

منهم ما في يده من الحبال والعصي فإذا حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا (١).

وقال السدي كانوا بضعة وثلاثين ألف رجل وليس رجل منهم إلا ومعه حبل وعصا (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) يقول فرقوهم أي من الفرق وقال ابن جرير (٢) : حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية عن هشام الدستوائي حدثنا القاسم بن أبي بزة قال جمع فرعون سبعين ألف ساحر فألقوا سبعين ألف حبل وسبعين ألف عصا حتى جعل يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ولهذا قال تعالى : (وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ).

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) (١٢٢)

يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله موسى عليه‌السلام في ذلك الموقف العظيم الذي فرق الله تعالى فيه بين الحق والباطل يأمره بأن يلقي ما في يمينه وهي عصاه (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ) أي تأكل (ما يَأْفِكُونَ) أي ما يلقونه ويوهمون أنه حق وهو باطل قال ابن عباس فجعلت لا تمر بشيء من حبالهم ولا من خشبهم إلا التقمته فعرفت السحرة أن هذا شيء من السماء ليس هذا بسحر فخروا سجدا وقالوا (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) (٣).

وقال محمد بن إسحاق جعلت تتبع تلك الحبال والعصي واحدة واحدة حتى ما يرى بالوادي قليل ولا كثير مما ألقوا ثم أخذها موسى فإذا هي عصا في يده كما كانت ووقع السحرة سجدا (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) لو كان هذا ساحرا ما غلبنا. وقال القاسم بن أبي بزة أوحى الله إليه أن ألق عصاك فألقي عصاه فإذا هي ثعبان مبين فاغر فاه يبتلع حبالهم وعصيهم فألقي السحرة عند ذلك سجدا فما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار وثواب أهلهما.

(قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ(١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) (١٢٦)

يخبر تعالى عما توعد به فرعون لعنه الله السحرة لما آمنوا بموسى عليه‌السلام وما أظهره

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢١.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٢٢.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٤.

٤١١

للناس من كيده ومكره في قوله (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) أي إن غلبته لكم في يومكم هذا إنما كان عن تشاور منكم ورضا منكم لذلك كقوله في الآية الأخرى (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) [طه : ٢٣٨] وهو يعلم وكل من له لب أن هذا الذي قاله من أبطل الباطل فإن موسى عليه‌السلام بمجرد ما جاء من مدين دعا فرعون إلى الله وأظهر المعجزات الباهرة والحجج القاطعة على صدق ما جاء به.

فعند ذلك أرسل فرعون في مدائن ملكه ومعاملة سلطنته فجمع سحرة متفرقين من سائر الأقاليم ببلاد مصر ممن اختار هو والملأ من قومه وأحضرهم عنده ووعدهم بالعطاء الجزيل ولهذا قد كانوا من أحرص الناس على ذلك وعلى الظهور في مقامهم ذلك والتقدم عند فرعون. وموسىعليه‌السلام لا يعرف أحدا منهم ولا رآه ولا اجتمع به وفرعون يعلم ذلك وإنما قال هذا تسترا وتدليسا على رعاع دولته وجهلتهم كما قال تعالى : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ) [الزخرف : ٥٤] فإن قوما صدقوه في قوله (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] من أجهل خلق الله وأضلهم.

وقال السدي في تفسيره بإسناده المشهور عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من الصحابة في قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ) قال : التقى موسى عليه‌السلام وأمير السحرة فقال له موسى أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق. قال الساحر لآتين غدا بسحر لا يغلبه سحر فو الله لئن غلبتني لأومنن بك ولأشهدن أنك حق وفرعون ينظر إليهما قالوا فلهذا قال ما قال (١).

وقوله (لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) أي تجتمعوا أنتم وهو وتكون لكم دولة وصولة وتخرجوا منها الأكابر والرؤساء وتكون الدولة والتصرف لكم (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي ما أصنع بكم ثم فسر هذا الوعيد بقوله (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) يعني يقطع يد الرجل اليمنى ورجله اليسرى أو بالعكس (ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) وقال في الآية الأخرى (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١] أي على الجذوع.

قال ابن عباس وكان أول من صلب وأول من قطع الأيدي والأرجل من خلاف فرعون وقول السحرة (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أي قد تحققنا أنا إليه راجعون وعذابه أشد من عذابك ونكاله على ما تدعونا إليه اليوم وما أكرهتنا عليه من السحر أعظم من نكالك فلنصبرن اليوم على عذابك لنخلص عن عذاب الله ولهذا قالوا (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) أي عمنا بالصبر على دينك والثبات عليه (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) أي متابعين لنبيك موسى عليه‌السلام وقالوا لفرعون (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٤.

٤١٢

السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) [طه : ٧٢ ـ ٧٥] فكانوا في أول النهار سحرة ، فصاروا في آخره شهداء بررة ، قال ابن عباس وعبيد بن عمير وقتادة وابن جريج كانوا في أول النهار سحرة وفي آخره شهداء (١).

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (١٢٩)

يخبر تعالى عما تمالأ عليه فرعون وملؤه وما أضمروه لموسى عليه‌السلام وقومه من الأذى والبغضة (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ) أي لفرعون (أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ) أي أتدعهم ليفسدوا في الأرض أي يفسدوا أهل رعيتك ويدعوهم إلى عبادة ربهم دونك يا لله العجب صار هؤلاء يشفقون من إفساد موسى وقومه! ألا إن فرعون وقومه هم المفسدون ولكن لا يشعرون ولهذا قالوا (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) قال بعضهم الواو هاهنا حالية أي أتذره وقومه يفسدون في الأرض وقد ترك عبادتك؟ وقرأ ذلك أبي بن كعب وقد تركوك أن يعبدوك وآلهتك حكاه ابن جرير (٢).

وقال آخرون : هي عاطفة أي أتدعهم يصنعون من الفساد ما قد أقررتهم عليه وعلى ترك آلهتك ، وقرأ بعضهم إلا هتك أي عبادتك وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وغيره وعلى القراءة الأولى قال بعضهم : كان لفرعون إله يعبده قال الحسن البصري كان لفرعون إله يعبده في السر وقال في رواية أخرى كان له حنانة في عنقه معلقة يسجد لها (٣).

وقال السدي في قوله تعالى : (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) وآلهته فيما زعم ابن عباس كانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم فرعون أن يعبدوها فلذلك أخرج لهم السامري عجلا جسدا له خوار. فأجابهم فرعون فيما سألوه بقوله سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وهذا أمر ثان بهذا الصنيع وقد كان نكل بهم قبل ولادة موسى عليه‌السلام حذرا من وجوده فكان خلاف ما رامه وضد ما قصده فرعون.

وهكذا عومل في صنيعه أيضا لما أراد إذلال بني إسرائيل وقهرهم فجاء الأمر على خلاف ما أراد : أعزهم الله وأذله وأرغم أنفه وأغرقه وجنوده. ولما صمم فرعون على ما ذكره من

__________________

(١) انظر الآثار في تفسير الطبري ٦ / ٢٥.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٢٦.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٦.

٤١٣

المساءة لبني إسرائيل (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا) ووعدهم بالعاقبة وأن الدار ستصير لهم في قوله (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) أي قد فعلوا بنا مثل ما رأيت من الهوان والإذلال من قبل ما جئت يا موسى ومن بعد ذلك فقال منبها لهم على حالهم الحاضر وما يصيرون إليه في ثاني الحال (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) الآية ، وهذا تخصيص لهم على العزم على الشكر عند حلول النعم وزوال النقم.

(وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٣١)

يقول تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ) أي اختبرناهم وامتحناهم وابتليناهم (بِالسِّنِينَ) وهي سني الجوع بسبب قلة الزروع (وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) قال مجاهد وهو دون ذلك وقال أبو إسحاق عن رجاء بن حيوة كانت النخلة لا تحمل إلا ثمرة واحدة (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ) أي من الخصب والرزق (قالُوا لَنا هذِهِ) أي هذا لنا بما نستحقه (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي جدب وقحط (يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) أي هذا بسببهم وما جاءوا به.

(أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) يقول مصائبهم عند الله (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١) وقال ابن جريج عن ابن عباس قال (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) أي إلا من قبل الله.

(وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ(١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) (١٣٥)

هذا إخبار من الله عزوجل عن تمرد قوم فرعون وعتوهم وعنادهم للحق وإصرارهم على الباطل في قولهم (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) يقولون أي آية جئتنا بها ودلالة وحجة أقمتها رددناها فلا نقبلها منك ولا نؤمن بك ولا بما جئت به قال الله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ) اختلفوا في معناه فعن ابن عباس في رواية كثرة الأمطار المغرقة المتلفة للزروع والثمار وبه قال الضحاك بن مزاحم ، وعن ابن عباس في رواية أخرى هو كثرة الموت وكذا قال عطاء ، وقال مجاهد : الطوفان الماء والطاعون على كل حال.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣١.

٤١٤

وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن هشام الرفاعي ، حدثنا يحيى بن يمان حدثنا المنهال بن خليفة عن الحجاج عن الحكم بن ميناء عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «الطوفان الموت» وكذا رواه ابن مردويه من حديث يحيى بن يمان به ، وهو حديث غريب ، وقال ابن عباس في رواية أخرى : هو أمر من الله طاف بهم ثم قرأ (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ) وأما الجراد فمعروف مشهور وهو مأكول لما ثبت في الصحيحين عن أبي يعفور قال سألت عبد الله بن أبي أوفى عن الجراد فقال غزونا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبع غزوات نأكل الجراد (٢).

وروى الشافعي وأحمد بن حنبل وابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أحلت لنا ميتتان ودمان : الحوت والجراد والكبد والطحال» (٣) ورواه أبو القاسم البغوي عن داود بن رشيد عن سويد بن عبد العزيز عن أبي تمام الأيلي عن زيد بن أسلم عن ابن عمر مرفوعا مثله.

وروى أبو داود (٤) عن محمد بن الفرج عن محمد بن زبرقان الأهوازي عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن سلمان قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الجراد فقال «أكثر جنود الله لا آكله ولا أحرمه» وإنما تركه عليه‌السلام لأنه كان يعافه كما عافت نفسه الشريفة أكل الضب وأذن فيه.

وقد روى الحافظ ابن عساكر في جزء جمعه في الجراد من حديث أبي سعيد الحسن بن علي العدوي حدثنا نصر بن يحيى بن سعيد ، حدثنا يحيى بن خالد عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يأكل الجراد ولا الكلوتين ولا الضب من غير أن يحرمها أما الجراد فرجز وعذاب ، وأما الكلوتان فلقربهما من البول ، وأما الضب فقال «أتخوف أن يكون مسخا» ثم قال غريب لم أكتبه إلا من هذا الوجه ، وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشتهيه ويحبه ، فروى عبد الله بن دينار عن ابن عمر : أن عمر سئل عن الجراد فقال : ليت أن عندنا منه قفعة أو قفعتين نأكله (٥).

وروى ابن ماجة (٦) : حدثنا أحمد بن منيع عن سفيان بن عيينة عن أبي سعد سعيد بن المرزبان البقال سمع أنس بن مالك يقول كان أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتهادين الجراد على الأطباق ،

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٣٢.

(٢) أخرجه البخاري في الذبائح باب ١٣ ، ومسلم في الصيد حديث ٥٢.

(٣) أخرجه ابن ماجة في الأطعمة باب ٣١ ، وأحمد في المسند ٢ / ٩٧.

(٤) كتاب الأطعمة باب ٣٤.

(٥) أخرجه مالك في صفة النبي حديث ٣٠.

(٦) كتاب الصيد باب ٩.

٤١٥

وقال أبو القاسم البغوي : حدثنا داود بن رشيد حدثنا بقية بن الوليد عن يحيى بن يزيد القعنبي حدثني أبي عن صدي بن عجلان عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن مريم بنت عمرانعليها‌السلام سألت ربها عزوجل أن يطعمها لحما لا دم له فأطعمها الجراد فقالت اللهم أعشه بغير رضاع وتابع بينه بغير شياع» وقال نمير : الشياع الصوت ، وقال أبو بكر بن أبي داود : حدثنا أبو تقي هشام بن عبد الملك المزني ، حدثنا بقية بن الوليد حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي زهير النميري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقاتلوا الجراد فإنه جند الله الأعظم» غريب جدا.

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ) قال :

كانت تأكل مسامير أبوابهم وتدع الخشب ، وروى ابن عساكر من حديث علي بن زيد الخرائطي عن محمد بن كثير سمعت الأوزاعي يقول : خرجت إلى الصحراء فإذا أنا برجل من جراد في السماء فإذا برجل راكب على جرادة منها وهو شاك في الحديد وكلما قال بيده هكذا مال الجراد مع يده وهو يقول الدنيا باطل باطل ما فيها الدنيا باطل باطل ما فيها الدنيا باطل باطل ما فيها.

وروى الحافظ أبو الفرج المعافى بن زكريا الحريري : حدثنا محمد بن الحسن بن زياد ، حدثنا أحمد بن عبد الرحيم أخبرنا وكيع عن الأعمش أنبأنا عامر قال : سئل شريح القاضي عن الجراد فقال : قبح الله الجرادة فيها خلقة سبعة جبابرة ، رأسها رأس فرس ، وعنقها عنق ثور ، وصدرها صدر أسد ، وجناحها جناح نسر ، ورجلاها رجل جمل ، وذنبها ذنب حية ، وبطنها بطن عقرب.

وقدمنا عند قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) حديث حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حج أو عمرة فاستقبلنا رجل جراد فجعلنا نضربه بالعصي ونحن محرمون ، فسألنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «لا بأس بصيد البحر» (١).

وروى ابن ماجة (٢) عن هارون الحمال عن هشام بن القاسم عن زياد بن عبد الله بن علاثة عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أنس وجابر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان إذا دعا على الجراد قال «اللهم أهلك كباره واقتل صغاره وأفسد بيضه واقطع دابره وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا إنك سميع الدعاء» فقال له جابر يا رسول الله أتدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره؟ فقال «إنما هو نثرة حوت في البحر» قال هشام أخبرني زياد أنه أخبره من رآه ينثره الحوت قال من حقق ذلك إن السمك إذا باض في ساحل البحر فنضب الماء عنه وبدا للشمس

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٣٠٦ ، ٣٦٤ ، ٤٠٧.

(٢) كتاب الصيد باب ٩.

٤١٦

أنه يفقس كله جرادا طيارا.

وقدمنا عند قوله (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) حديث عمر رضي الله عنه «إن الله خلق ألف أمة ستمائة في البحر وأربعمائة في البر ، وإن أولها هلاكا الجراد» ، وقال أبو بكر بن أبي داود حدثنا يزيد بن المبارك حدثنا عبد الرحمن بن قيس حدثنا سالم بن سالم حدثنا أبو المغيرة الجوزجاني محمد بن مالك عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا وباء مع السيف ولا نجاء مع الجراد» حديث غريب وأما القمل فعن ابن عباس هو السوس الذي يخرج من الحنطة وعنه أنه الدبا وهو الجراد الصغير الذي لا أجنحة له وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة وعن الحسن وسعيد بن جبير القمل دواب سود صغار ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : القمل البراغيث ، وقال ابن جرير (١) القمل جمع واحدتها قملة وهي دابة تشبه القمل تأكلها الإبل فيما بلغني وهي التي عناها الأعشى بقوله : [الكامل]

قوم يعالج قمّلا أبناؤهم

وسلاسلا أجدى وبابا مؤصدا (٢)

قال : وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة ، يزعم أن القمل عند العرب الحمنان واحدتها حمنانة وهي صغار القردان فوق القمقامة. وقال الإمام أبو جعفر بن جرير (٣) : حدثنا ابن حميد الرازي ، حدثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير قال : لما أتى موسى عليه‌السلام فرعون قال له : أرسل معي بني إسرائيل فأرسل الله عليهم الطوفان وهو المطر فصب عليهم منه شيئا خافوا أن يكون عذابا فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا المطر فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل ، فأنبت لهم في تلك السنة شيئا لم ينبته قبل ذلك من الزروع والثمار والكلأ.

فقالوا : هذا ما كنا نتمنى فأرسل الله عليهم الجراد فسلطه على الكلأ ، فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لا يبقي الزرع ، فقالوا يا موسى ادع لنا ربك فيكشف عنا الجراد فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم الجراد فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل فداسوا وأحرزوا في البيوت فقالوا قد أحرزنا فأرسل الله عليهم القمل وهو السوس الذي يخرج منه فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها إلا ثلاثة أقفزة فقالوا يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا القمل فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل.

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٣٤.

(٢) البيت في ديوان الأعشى ص ٢٨١ ، ولسان العرب (قمل) ، ورواية البيت في ديوان الأعشى :

قوما تعالج قمّلا أبناؤهم

وسلاسلا أجدا وبابا مؤصدا

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٣٤ ، ٣٥.

٤١٧

فبينما هو جالس عند فرعون إذ سمع نقيق ضفدع فقال لفرعون ما تلقى أنت وقومك من هذا فقال وما عسى أن يكون كيد هذا فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه ، فقالوا لموسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا وأرسل الله عليهم الدم فكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار وما كان في أوعيتهم وجدوه دما عبيطا فشكوا إلى فرعون فقالوا إنا قد ابتلينا بالدم وليس لنا شراب.

فقال : إنه قد سحركم ، فقالوا من أين سحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئا من الماء إلا وجدناه دما عبيطا فأتوه وقالوا يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل.

وقد روي نحو هذا عن ابن عباس والسدي وقتادة وغير واحد من علماء السلف أنه أخبر بذلك ، وقال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه‌الله ، فرجع عدو الله فرعون حين آمنت السحرة مغلوبا مغلولا ثم أبى إلا الإقامة على الكفر والتمادي في الشر فتابع الله عليه الآيات فأخذه بالسنين وأرسل عليه الطوفان ، ثم الجراد ، ثم القمل ، ثم الضفادع ، ثم الدم ، آيات مفصلات ، فأرسل الطوفان وهو الماء ففاض على وجه الأرض ، ثم ركد لا يقدرون على أن يحرثوا ولا أن يعملوا شيئا حتى جهدوا جوعا فلما بلغهم ذلك (قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) فدعا موسى ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا فأرسل الله عليهم الجراد فأكل الشجر فيما بلغني حتى إن كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد حتى تقع دورهم ومساكنهم فقالوا مثل ما قالوا فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا فأرسل الله عليهم القمل فذكر لي أن موسى عليه‌السلام أمر أن يمشي إلى كثيب حتى يضربه بعصاه فمشى إلى كثيب أهيل عظيم فضربه بها فانثال عليهم قملا حتى غلب على البيوت والأطعمة ومنعهم النوم والقرار.

فلما جهدهم قالوا له مثل ما قالوا له فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا فأرسل الله عليهم الضفادع فملأت البيوت والأطعمة والآنية فلا يكشف أحد ثوبا ولا طعاما إلا وجد فيه الضفادع قد غلبت عليه ، فلما جهدهم ذلك قالوا له مثل ما قالوا فسأل ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياه آل فرعون دما لا يستقون من بئر ولا نهر ولا يغترفون من إناء إلا عاد دما عبيطا (١).

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن منصور المروزي أنبأنا النضر أنبأنا إسرائيل أنبأنا جابر بن يزيد عن عكرمة عن عبيد الله بن عمرو قال : لا تقتلوا الضفادع فإنها لما أرسلت على

__________________

(١) انظر الأثر في تفسير الطبري ٦ / ٣٧ ، ٣٨.

٤١٨

قوم فرعون انطلق ضفدع منها فوقع في تنور فيه نار يطلب بذلك مرضاة الله فأبدلهن الله من هذا أبرد شيء يعلمه من الماء وجعل نقيقهن التسبيح ، وروي من طريق عكرمة عن ابن عباس نحوه ، وقال زيد بن أسلم : يعني بالدم الرعاف. رواه ابن أبي حاتم.

(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) (١٣٧)

يخبر تعالى أنهم لما عتوا وتمردوا مع ابتلائه إياهم بالآيات المتواترة واحدة بعد واحدة انتقم منهم بإغراقه إياهم في اليم وهو البحر الذي فرقه لموسى فجاوزه وبنو إسرائيل معه ، ثم ورده فرعون وجنوده على أثرهم فلما استكملوا فيه ارتطم عليهم فغرقوا عن آخرهم وذلك بسبب تكذيبهم بآيات الله وتغافلهم عنها ، وأخبر تعالى أنه أورث القوم الذين كانوا يستضعفون وهم بنو إسرائيل (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) كما قال تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) [القصص : ٥ ـ ٦] وقال تعالى : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) [الدخان : ٢٥ ـ ٢٨] وعن الحسن البصري وقتادة في قوله (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها) يعني الشام.

وقوله (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) قال مجاهد وابن جرير وهي قوله تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) [القصص : ٥ ـ ٦] وقوله (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) أي وخربنا ما كان فرعون وقومه يصنعونه من العمارات والمزارع (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) قال ابن عباس ومجاهد (يَعْرِشُونَ) يبنون.

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٣٩)

يخبر تعالى عما قاله جهلة بني إسرائيل لموسى عليه‌السلام حين جاوزوا البحر وقد رأوا من آيات الله وعظيم سلطانه ما رأوا (فَأَتَوْا) أي فمروا (عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ).

قال بعض المفسرين كانوا من الكنعانيين وقيل كانوا من لخم (١) قال ابن

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٦.

٤١٩

جرير (١) : وكانوا يعبدون أصناما على صور البقر فلهذا أثار ذلك شبهة لهم في عبادتهم العجل بعد ذلك فقالوا (يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) أي تجهلون عظمة الله وجلاله وما يجب أن ينزه عنه من الشريك والمثيل (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ) أي هالك (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وروى الإمام أبو جعفر بن جرير (٢) في تفسير هذه الآية من حديث محمد بن إسحاق وعقيل ومعمر كلهم عن الزهري عن سنان بن أبي سنان عن أبي واقد الليثي أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حنين قال وكان للكفار سدرة يعكفون عندها ويعلقون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط قال : فمررنا بسدرة (٣) خضراء عظيمة قال : فقلنا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال : «قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن سنان بن أبي سنان الديلي عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل حنين فمررنا بسدرة فقلت يا نبي الله : اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط وكان الكفار ينوطون (٥) سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) إنكم تركبون سنن من قبلكم» أورده ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده مرفوعا.

(قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (١٤١)

يذكرهم موسى عليه‌السلام نعم الله عليهم من إنقاذهم من أسر فرعون وقهره وما كانوا فيه من الهوان والذلة وما صاروا إليه من العزة والاشتفاء من عدوهم والنظر إليه في حال هوانه وهلاكه وغرقه ودماره وقد تقدم تفسيرها في البقرة.

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (١٤٢)

__________________

(١) في تفسير الطبري ٦ / ٤٦ ، الأثر عن ابن جريج.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤٦ ، ٤٧.

(٣) السدرة : شجرة النبق.

(٤) المسند ٥ / ٢١٨.

(٥) ينوطون : يعلقون.

٤٢٠