تفسير القرآن العظيم - ج ٣

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٣

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٩٥

يعدلوا عنه.

وثبت في الصحيحين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخل الكعبة ، وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها ، وفي أيديهما الأزلام فقال «قاتلهم الله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا» (١).

وفي الصحيح : أن سراقة بن مالك بن جعشم ، لما خرج في طلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر ، وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين ، قال : فاستقسمت بالأزلام ، هل أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره لا يضرهم. قال : فعصيت الأزلام واتبعتهم ، ثم إنه استقسم بها ثانية وثالثة ، كل ذلك يخرج الذي يكره لا يضرهم ، وكان كذلك ، وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك ثم أسلم بعد ذلك (٢).

وروى ابن مردويه من طريق إبراهيم بن يزيد عن رقية ، عن عبد الملك بن عمير ، عن رجاء بن حيوة ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لن يلج الدرجات من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر طائرا» (٣).

وقال مجاهد في قوله (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) قال : هي سهام العرب ، وكعاب فارس والروم ، كانوا يتقامرون بها (٤). وهذا الذي ذكر عن مجاهد في الأزلام أنها موضوعة للقمار ، فيه نظر ، اللهم إلا أن يقال : إنهم كانوا يستعملونها في الاستخارة تارة وفي القمار أخرى ، والله أعلم. فإن الله سبحانه قد قرن بينها وبين القمار وهو الميسر فقال في آخر السورة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ ـ إلى قوله ـ مُنْتَهُونَ). وهكذا قال هاهنا (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ) أي تعاطيه فسق وغي وضلالة وجهالة وشرك.

وقد أمر الله المؤمنين إذا ترددوا في أمورهم أن يستخيروه بأن يعبدوه ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه. كما روى الإمام أحمد والبخاري وأهل السنن من طريق عبد الرحمن بن أبي الموالي عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن ، ويقول «إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر ـ ويسميه باسمه ـ خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال :

__________________

(١) صحيح البخاري (حج باب ٥٤ ومغازي باب ٤٨)

(٢) مسند أحمد ٤ / ١٧٥ ـ ١٧٦.

(٣) في الدر المنثور للسيوطي ٢ / ٤٥٥ : «لن يلج الدرجات العلى من تكهّن أو استقسم أو رجع من سفر تطيرا». قال : وأخرجه الطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء.

(٤) تفسير الطبري ٤ / ٤١٦.

٢١

«عاجل أمري وآجله ـ فاقدره لي ، ويسره لي ، ثم بارك لي فيه ، اللهم وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري ، فاصرفني عنه ، واصرفه عني ، واقدر لي الخير حيث كان ، ثم رضني به» لفظ أحمد (١) ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب ، لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموالي.

وقوله : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني يئسوا أن يراجعوا دينهم (٢) ، وكذا روي عن عطاء بن أبي رباح والسدي ومقاتل بن حيان ، وعلى هذا المعنى يرد الحديث الثابت في الصحيح : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن بالتحريش بينهم» (٣) ، ويحتمل أن يكون المراد أنهم يئسوا من مشابهة المسلمين لما تميز به المسلمون من هذه الصفات المخالفة للشرك وأهله ، ولهذا قال تعالى آمرا لعباده المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفار ولا يخافوا أحدا إلا الله ، فقال (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) أي لا تخافوهم في مخالفتكم إياهم ، واخشوني أنصركم عليهم وأبيدهم ، وأظفركم بهم ، وأشف صدوركم منهم ، وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة.

وقوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم ، فلا يحتاجون إلى دين غيره ، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه ، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء وبعثه إلى الإنس والجن ، فلا حلال إلا ما أحله ، ولا حرام إلا ما حرمه ، ولا دين إلا ما شرعه ، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف كما قال تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) [الأنعام : ١١٥] أي صدقا في الأخبار ، وعدلا في الأوامر والنواهي ، فلما أكمل لهم الدين ، تمت عليهم النعمة ، ولهذا قال تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) أي فارضوه أنتم لأنفسكم ، فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه ، وبعث به أفضل الرسل الكرام ، وأنزل به أشرف كتبه.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (٤) قوله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وهو الإسلام ، أخبر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان ، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا ، وقد

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ٣٤٤.

(٢) في تفسير الطبري ٤ / ٤١٨ من حديث علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : «يعني يئسوا أن ترجعوا إلى دينهم أبدا».

(٣) صحيح مسلم (منافقين حديث ٥). وقوله : «ولكن بالتحريش بينهم» يريد أن الشيطان لم ييأس من إغوائهم وحملهم على الفتن.

(٤) تفسير الطبري ٤ / ٤١٩.

٢٢

أتمه الله فلا ينقصه أبدا ، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبدا. وقال أسباط عن السدي (١) : نزلت هذه الآية يوم عرفة ، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام ، ورجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمات قالت أسماء بنت عميس : حججت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك الحجة فبينما نحن نسير إذ تجلى له جبريل ، فمال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الراحلة ، فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن ، فبركت ، فأتيته فسجيت عليه بردا كان علي.

وقال ابن جرير وغير واحد : مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوما ، رواهما ابن جرير ، ثم قال : حدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا ابن فضيل عن هارون بن عنترة ، عن أبيه ، قال : لما نزلت (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وذلك يوم الحج الأكبر ، بكى عمر ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما يبكيك؟» قال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذا أكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص ، فقال «صدقت» (٢).

ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت «إن الإسلام بدأ غريبا ، وسيعود غريبا ، فطوبى للغرباء».

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا جعفر بن عون ، حدثنا أبو العميس عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين ، إنكم تقرؤون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت ، لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال : وأي آية؟ قال : قوله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) فقال عمر : والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عشية عرفة في يوم جمعة.

ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح عن جعفر بن عون به. ورواه أيضا مسلم والترمذي والنسائي أيضا من طرق عن قيس بن مسلم به. ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية من طريق سفيان الثوري ، عن قيس ، عن طارق قال : قالت اليهود لعمر : والله إنكم تقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيدا. فقال عمر : إني لأعلم حين أنزلت ، وأين أنزلت ، وأين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أنزلت : يوم عرفة ، وأنا والله بعرفة ، قال سفيان : وأشك ، كان يوم الجمعة أم لا (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الآية (٤).

وشك سفيان رحمه‌الله إن كان في الرواية ، فهو تورع حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) مسند أحمد ١ / ٢٨.

(٤) صحيح البخاري (تفسير سورة المائدة باب ١)

٢٣

لا ، وإن كان شكا في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة ، فهذا ما أخاله يصدر عن الثوري رحمه‌الله ، فإن هذا أمر معلوم مقطوع به ، لم يختلف فيه أحد من أصحاب المغازي والسير ، ولا من الفقهاء وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة لا يشك في صحتها ، والله أعلم ، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر.

وقال ابن جرير (١) : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، أخبرنا رجاء بن أبي سلمة ، أخبرنا عبادة بن نسي ، أخبرنا أميرنا إسحاق ، قال أبو جعفر بن جرير وهو إسحاق بن حرشة عن قبيصة يعني ابن أبي ذئب ، قال : قال كعب : لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية ، لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم ، فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه ، فقال عمر : أي آية يا كعب؟ فقال (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ، فقال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت ، والمكان الذي أنزلت فيه : نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة ، وكلاهما بحمد الله لنا عيد.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا أبو بكر ، حدثنا قبيصة ، حدثنا حماد بن سلمة عن عمار هو مولى بني هاشم : أن ابن عباس قرأ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) فقال يهودي : لو نزلت هذه الآية علينا ، لاتخذنا يومها عيدا ، فقال ابن عباس : فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين : يوم عيد ، ويوم جمعة.

وقال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن كامل ، حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا يحيى بن الحماني ، حدثنا قيس بن الربيع عن إسماعيل بن سليمان ، عن أبي عمر البزار ، عن ابن الحنيفة ، عن علي قال : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قائم عشية عرفة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ).

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السكوني ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا ابن عياش حدثنا عمرو بن قيس السكوني ، أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع (٤) بهذه الآية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) حتى ختمها ، فقال : نزلت في يوم عرفة في يوم جمعة.

وروى ابن مردويه من طريق محمد بن إسحاق عن عمرو بن موسى بن دحية ، عن قتادة عن الحسن ، عن سمرة قال : نزلت هذه الآية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) يوم عرفة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقف على الموقف.

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٤٢٢.

(٢) المصدر السابق.

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٤٢٣.

(٤) انتزع بالآية : تمثّل بها.

٢٤

فأما ما رواه ابن جرير وابن مردويه والطبراني من طريق ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران ، عن حنش بن عبد الله الصغاني ، عن ابن عباس قال : ولد نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الاثنين ، وخرج من مكة يوم الاثنين ، ودخل المدينة يوم الاثنين ، وفتح بدرا يوم الاثنين ، وأنزلت سورة المائدة يوم الاثنين ـ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ). ورفع الذكر يوم الاثنين. فإنه أثر غريب ، وإسناده ضعيف ، وقد رواه الإمام أحمد (١) : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران ، عن حنش الصغاني ، عن ابن عباس قال : ولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الاثنين ، واستنبئ يوم الاثنين ، وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين ، وقدم المدينة يوم الاثنين ، وتوفي يوم الاثنين ، ووضع الحجر الأسود يوم الاثنين ، هذا لفظ أحمد ، ولم يذكر نزول المائدة يوم الاثنين ، فالله أعلم ، ولعل ابن عباس أراد أنها نزلت يوم عيدين اثنين ، كما تقدم فاشتبه على الراوي ، والله أعلم.

وقال ابن جرير (٢) : وقد قيل : ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس ، ثم روي من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) يقول : ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس ، قال : وقد قيل : إنها نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسيره إلى حجة الوداع ، ثم رواه من طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس.

قلت : وقد روى ابن مردويه من طريق أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري : أنها نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم غدير خم حين قال لعلي «من كنت مولاه فعلي مولاه». ثم رواه عن أبي هريرة ، وفيه أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة يعني مرجعه عليه‌السلام من حجة الوداع ، ولا يصح هذا ولا هذا بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية أنها أنزلت يوم عرفة ، وكان يوم جمعة كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ، وأول ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان ، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس ، وسمرة بن جندب رضي الله عنهم ، وأرسله الشعبي وقتادة بن دعامة وشهر بن حوشب وغير واحد من الأئمة والعلماء ، واختاره ابن جرير الطبري رحمه‌الله.

وقوله (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه المحرمات التي ذكرها الله تعالى لضرورة ألجأته إلى ذلك ، فله تناوله ، والله غفور رحيم له لأنه تعالى يعلم حاجة عبده المضطر وافتقاره إلى ذلك ، فيتجاوز عنه ، ويغفر له ، وفي المسند وصحيح ابن حبان عن ابن عمر مرفوعا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله يحب أن تؤتى رخصته كما يكره أن تؤتى معصيته» لفظ ابن حبان ، وفي لفظ لأحمد «من لم يقبل

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٢٧٧.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٤٢٣ ـ ٤٢٤.

٢٥

رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة» (١) ولهذا قال الفقهاء : قد يكون تناول الميتة واجبا في بعض الأحيان وهو ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها ، وقد يكون مندوبا ، وقد يكون مباحا بحسب الأحوال ، واختلفوا هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق ، أو له أن يشبع أو يشبع ويتزود؟ على أقوال كما هو مقرر في كتاب الأحكام ، وفيما إذا وجد ميتة وطعام الغير أو صيدا وهو محرم ، هل يتناول الميتة أو ذلك الصيد ويلزمه الجزاء أو ذلك الطعام ويضمن بدله ، على قولين هما قولان للشافعي رحمه‌الله. وليس من شرط جواز تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاما كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم ، بل متى اضطر إلى ذلك جاز له.

وقد قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، حدثنا حسان بن عطية عن أبي واقد الليثي ، أنهم قالوا : يا رسول الله ، إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة ، فمتى تحل لنا بها الميتة؟ فقال «إذا لم تصطبحوا ، ولم تغتبقوا ، ولم تحتفئوا بها بقلا فشأنكم بها» (٣) تفرد به أحمد من هذا الوجه ، وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين ، وكذا رواه ابن جرير عن عبد الأعلى بن واصل عن محمد بن القاسم الأسدي عن الأوزاعي به ، لكن رواه بعضهم عن الأوزاعي ، عن حسان بن عطية ، عن مسلم بن يزيد ، عن أبي واقد به. ومنهم من رواه عن الأوزاعي ، عن حسان ، عن مرثد أو أبي مرثد عن أبي واقد به. ورواه ابن جرير عن هناد بن السري ، عن عيسى بن يونس ، عن حسان ، عن رجل قد سمي له فذكره ، ورواه أيضا عن هناد ، عن ابن المبارك ، عن الأوزاعي ، عن حسان مرسلا ، وقال ابن جرير (٤) : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية عن ابن عون ، قال : وجدت عند الحسن كتاب سمرة فقرأته عليه ، فكان فيه : ويجزئ من الاضطرار غبوق أو صبوح.

حدثنا (٥) أبو كريب ، حدثنا هشيم عن الخصيب بن زيد التميمي ، حدثنا الحسن : أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : متى (٦) يحل الحرام؟ قال : فقال «إلى متى يروى أهلك من اللبن أو تجيء ميرتهم». حدثنا ابن حميد ، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق ، حدثني عمر بن عبد الله بن عروة ، عن جده عروة بن الزبير ، عن جدته (٧) : أن رجلا من الأعراب أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستفتيه في

__________________

(١) مسند أحمد ٢ / ٧١.

(٢) مسند أحمد ٥ / ٢١٨.

(٣) الاصطباح : أكل الصباح وهو الغداء. والاغتباق : أكل الغبوق وهو العشاء. واحتفأ البقل : اقتلعه ورمى به.

(٤) تفسير الطبري ٤ / ٤٢٧.

(٥) الرواية للطبري في تفسيره ٤ / ٤٢٦.

(٦) في الطبري : «إلى متى يحلّ لي الحرام؟».

(٧) في الطبري : «عمن حدثه».

٢٦

الذي حرم الله عليه ، والذي أحل له ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يحل لك الطيبات ، ويحرم عليك الخبائث ، إلا أن تفتقر إلى طعام لك ، فتأكل منه حتى تستغني عنه». فقال الرجل : وما فقري الذي يحل لي وما غنائي الذي يغنيني عن ذلك؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا كنت ترجو غناء تطلبه فتبلغ من ذلك شيئا فأطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه» فقال الأعرابي : ما غنائي الذي أدعه إذا وجدته ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا أرويت أهلك غبوقا من الليل ، فاجتنب ما حرم الله عليك من طعام مالك ، فإنه ميسور كله فليس فيه حرام».

ومعنى قوله «ما لم تصطبحوا» يعني به الغداء «وما لم تغتبقوا» يعني به العشاء «أو تحتفئوا بقلا فشأنكم بها» فكلوا منها. وقال ابن جرير (١) : يروى هذا الحرف ، يعني قوله «أو تحتفئوا» على أربعة أوجه : تحتفئوا بالهمزة ، وتحتفيوا : بتخفيف الياء والحاء ، وتحتفوا بتشديد الفاء ، وتحتفوا بالحاء وبالتخفيف ، ويحتمل الهمز ، كذا رواه في التفسير.

حديث آخر ـ قال أبو داود (٢) : حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا الفضل بن دكين ، حدثنا وهب بن عقبة العامري ، سمعت أبي يحدث عن النجيع العامري أنه أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ما يحل لنا من الميتة؟ قال «ما طعامكم»؟ قلنا : نصطبح ونغتبق. قال أبو نعيم : فسره لي عقبة ، قدح غدوة وقدح عشية ، قال : ذاك وأبى الجوع ، وأحل لهم الميتة على هذه الحال. تفرد به أبو داود. وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئا لا يكفيهم ، فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حد الشبع ، ولا يتقيد ذلك بسد الرمق ، والله أعلم.

حديث آخر ـ قال أبو داود (٣) : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، حدثنا سماك عن جابر عن سمرة : أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده ، فقال له رجل : إن ناقتي ضلت ، فإن وجدتها فأمسكها ، فوجدها ولم يجد صاحبها ، فمرضت ، فقالت له امرأته : أنحرها فأبى ، فنفقت فقالت له امرأته : اسلخها حتى تقدد شحمها ولحمها فنأكله ، قال : لا حتى أسأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتاه فسأله ، فقال «هل عندك غنى يغنيك؟» قال : لا ، قال «فكلوها» قال : فجاء صاحبها فأخبره الخبر ، فقال : هلا كنت نحرتها؟ قال استحييت منك ، تفرد به ، وقد يحتج به من يجوز الأكل والشبع والتزود منها مدة يغلب على ظنه الاحتياج إليها والله أعلم.

وقوله : (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) أي متعاط لمعصية الله ، فإن الله قد أباح ذلك له وسكت عن الآخر ، كما قال في سورة البقرة (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٤٢٧.

(٢) سنن أبي داود (أطعمة باب ٣٦)

(٣) المصدر السابق.

٢٧

[المائدة : ١٧٣] وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر ، لأن الرخص لا تنال بالمعاصي ، والله أعلم.

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٤)

لما ذكر تعالى ما حرمه في الآية المتقدمة من الخبائث الضارة لمتناولها إما في بدنه أو في دينه أو فيهما ، واستثنى ما استثناه في حالة الضرورة كما قال تعالى : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) [الأنعام : ١١٩] قال بعدها (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) كما في سورة الأعراف في صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يحل لهم الطيبات ، ويحرم عليهم الخبائث ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن أبي بكير ، حدثني عبد الله بن لهيعة ، حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير ، عن عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين ، سألا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالا : يا رسول الله قد حرم الله الميتة ، فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) قال سعيد : يعني الذبائح الحلال الطيبة لهم. وقال مقاتل : الطيبات ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه وهو الحلال من الرزق ، وقد سئل الزهري عن شرب البول للتداوي فقال : ليس هو من الطيبات ، رواه ابن أبي حاتم ، وقال ابن وهب : سئل مالك عن بيع الطير الذي يأكله الناس ، فقال : ليس هو من الطيبات.

وقوله تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) أي أحل لكم الذبائح التي ذكر اسم الله عليها ، والطيبات من الرزق ، وأحل لكم ما صدتموه بالجوارح ، وهي الكلاب والفهود والصقور وأشباهها ، كما هو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة ، وممن قال ذلك علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) وهن الكلاب المعلمة ، والبازي ، وكل طير يعلم للصيد والجوارح ، يعني الكلاب الضواري والفهود والصقور وأشباهها (١). رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : وروي عن خيثمة وطاوس ومجاهد ومكحول ويحيى بن أبي كثير نحو ذلك ، وروي عن الحسن أنه قال : الباز والصقر من الجوارح ، وروي عن علي بن الحسين مثله ، ثم روي عن مجاهد أنه كره صيد الطير كله ، وقرأ قوله (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) قال : وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك ، ونقله ابن جرير عن الضحاك والسدي ، ثم قال (٢) : حدثنا هناد ، حدثنا ابن أبي زائدة ، أخبرنا ابن جريج عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : أما ما صاد من الطير البزاة وغيرها من الطير ، فما أدركت فهو لك وإلا فلا تطعمه.

قلت : والمحكي عن الجمهور إن الصيد بالطيور كالصيد بالكلاب لأنها تكلب الصيد

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٤٢٩.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٤٣٠.

٢٨

بمخالبها كما تكلبه الكلاب ، فلا فرق ، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم واختاره ابن جرير ، واحتج في ذلك بما رواه عن هناد (١) ، حدثنا عيسى بن يونس عن مجالد ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم ، قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صيد البازي فقال : «ما أمسك عليك فكل» واستثنى الإمام أحمد صيد الكلب الأسود ، لأنه عنده مما يجب قتله ولا يحل اقتناؤه لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يقطع الصلاة الحمار والمرأة والكلب الأسود» فقلت : ما بال الكلب الأسود من الأحمر؟ فقال : «الكلب الأسود شيطان» (٢). وفي الحديث الآخر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بقتل الكلاب ، ثم قال «ما بالهم وبال الكلاب ، اقتلوا منها كل أسود بهيم» (٣) وسميت هذه الحيوانات التي يصطاد بهن جوارح من الجرح ، وهو الكسب ، كما تقول العرب : فلان جرح أهله خيرا ، أي كسبهم خيرا ، ويقولون : فلان لا جارح له أي لا كاسب له ، وقال الله تعالى : (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) [الأنعام : ٦٠] أي ما كسبتم من خير وشر.

وقد ذكر في سبب نزول هذه الآية الشريفة الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم : حدثنا حجاج بن حمزة ، حدثنا زيد بن حباب ، حدثني يونس بن عبيدة ، حدثني أبان بن صالح عن القعقاع بن حكيم عن سلمى أم رافع ، عن أبي رافع مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بقتل الكلاب ، فقلت : فجاء الناس فقالوا : يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فسكت ، فأنزل الله (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) الآية ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أرسل الرجل كلبه وسمى ، فأمسك عليه ، فيأكل ما لم يأكل» وهكذا رواه ابن جرير (٤) عن أبي كريب عن زيد بن الحباب بإسناده عن أبي رافع قال : جاء جبريل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليستأذن عليه ، فأذن له ، فقال : «قد أذنّا لك يا رسول الله ، قال : أجل ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب» قال أبو رافع : فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها ، فتركته رحمة لها ، ثم جئت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته ، فأمرني فرجعت إلى الكلب فقتلته ، فجاؤوا فقالوا : يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قال : فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فأنزل الله عزوجل (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ).

ورواه الحاكم في مستدركه من طريق محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح به ، وقال :

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) صحيح مسلم (صلاة حديث ٢٦٥)

(٣) سنن أبي داود (أضاحي باب ٢١) وصحيح مسلم (مساقاة حديث ٤٧) ومسند أحمد ٣ / ٣٣٣ وسنن الترمذي (صيد باب ١٦ و ١٧)

(٤) تفسير الطبري ٤ / ٤٢٨.

٢٩

صحيح ، ولم يخرجاه ، وقال ابن جرير (١) : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا حجاج عن ابن جريج ، عن عكرمة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب حتى بلغ العوالي ، فجاء عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة ، فقالوا : ماذا أحل لنا يا رسول الله؟ فنزلت الآية ، ورواه الحاكم من طريق سماك عن عكرمة ، وكذا قال محمد بن كعب القرظي في سبب نزول هذه الآية : أنه في قتل الكلاب.

وقوله تعالى : (مُكَلِّبِينَ) يحتمل أن يكون حالا من الفاعل ويحتمل أن يكون حالا من المفعول ، وهو الجوارح ، أي وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلبات للصيد ، وذلك أن تقتنصه بمخالبها أو أظفارها ، فيستدل بذلك والحالة هذه على أن الجارح إذا قتل الصيد بصدمته لا بمخلابه وظفره ، أنه لا يحل له ، كما هو أحد قولي الشافعي وطائفة من العلماء ، ولهذا قال (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) وهو أنه إذا أرسله استرسل ، وإذا أشلاه استشلى (٢) ، وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه ، ولا يمسكه لنفسه ، ولهذا قال تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) فمتى كان الجارح معلما وأمسك على صاحبه ، وكان قد ذكر اسم الله عليه وقت إرساله ، حل الصيد وإن قتله بالإجماع.

وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، كما ثبت في الصحيحين عن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله ، إني أرسل الكلاب المعلمة وأذكر اسم الله! فقال «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك». قلت : وإن قتلن؟ قال «وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها ، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره فأصيب» قلت له : فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب؟ فقال : إذا رميت بالمعراض فخزق فكله ، وإن أصابه بعرض فإنه وقيذ فلا تأكله» وفي لفظ لهما «وإذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله ، فإن أمسك عليك فأدركته حيا ، فاذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله ، فإن أخذ الكلب ذكاته» وفي رواية لهما «فإن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه» (٣) فهذا دليل للجمهور ، وهو الصحيح من مذهب الشافعي ، وهو أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقا ، ولم يستفصلوا كما ورد بذلك الحديث ، وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا : لا يحرم مطلقا.

ذكر الآثار بذلك

قال ابن جرير (٤) : حدثنا هناد ، حدثنا وكيع عن شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ،

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) أي إذا استدعاه إليه تداعى.

(٣) صحيح مسلم (صيد حديث ١ و ٥) وصحيح البخاري (ذبائح باب ٢ و٩٠)

(٤) تفسير الطبري ٤ / ٤٣٤.

٣٠

قال : قال سلمان الفارسي : كل وإن أكل ثلثيه ـ يعني الصيد ـ إذا أكل منه الكلب ، وكذا رواه سعيد بن أبي عروبة وعمر بن عامر عن قتادة ، وكذا رواه محمد بن زيد عن سعيد بن المسيب عن سلمان ، ورواه ابن جرير أيضا عن مجاهد بن موسى ، عن يزيد ، عن حميد ، عن بكر بن عبد الله المزني ، والقاسم بن سلمان قال : إذا أكل الكلب فكل ، وإن أكل ثلثيه ، وقال ابن جرير (١) : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني مخرمة بن بكير عن أبيه ، عن حميد بن مالك بن خيثم الدؤلي أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الصيد يأكل منه الكلب ، فقال : كل وإن لم يبق منه إلا حذية ، يعني بضعة ، ورواه شعبة عن عبد ربه بن سعيد ، عن بكير بن الأشج ، عن سعيد بن المسيب ، عن سعد بن أبي وقاص ، قال : كل وإن أكل ثلثيه.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود عن عامر ، عن أبي هريرة ، قال : إذا أرسلت كلبك فأكل منه ، فإن أكل ثلثيه وبقي ثلثه فكله. وقال ابن جرير(٣) : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر قال : سمعت عبد الله ، وحدثنا هناد ، حدثنا عبدة عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر قال : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك ، أكل أو لم يأكل ، وكذا رواه عبيد الله بن عمر وابن أبي ذئب وغير واحد عن نافع ، فهذه الآثار ثابتة عن سلمان وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وابن عمر ، وهو محكي عن علي وابن عباس ، واختلف فيه عن عطاء والحسن البصري ، وهو قول الزهري وربيعة ومالك ، وإليه ذهب الشافعي في القديم وأومأ إليه في الجديد.

وقد روي من طريق سلمان الفارسي مرفوعا ، فقال ابن جرير (٤) : حدثنا عمران بن بكار الكلاعي ، حدثنا عبد العزيز بن موسى اللاجوني ، حدثنا محمد بن دينار وهو الطاجي عن أبي إياس معاوية بن قرة ، عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان الفارسي ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه فليأكل ما بقي» ثم قال ابن جرير : وفي إسناد هذا الحديث نظر ، وسعيد غير معلوم له سماع من سلمان ، والثقات يروونه من كلام سلمان غير مرفوع.

وهذا الذي قاله ابن جرير صحيح ، لكن قد روي هذا المعنى مرفوعا من وجوه أخر ، فقال أبو داود : حدثنا محمد بن منهال الضرير ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن أعرابيا يقال له أبو ثعلبة قال : يا رسول الله ، إن لي كلابا مكلبة ، فأفتني في صيدها ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن كان لك كلاب مكلبة ، فكل مما أمسكن

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٤٣٥.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) تفسير الطبري ٤ / ٤٣٦.

٣١

عليك» فقال : ذكيا وغير ذكي ، وإن أكل منه؟ قال «نعم وإن أكل منه» فقال : يا رسول الله أفتني في قوسي ، قال «كل ما ردت عليك قوسك» قال : ذكيا وغير ذكي؟ «وإن تغيب عنك ما لم يضلّ أو تجد فيه أثر غير سهمك» قال : أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها ، قال «اغسلها وكل فيها» هكذا رواه أبو داود (١) ، وقد أخرجه النسائي ، وكذا رواه أبو داود من طريق يونس (٢) بن سيف ، عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه ، وكل ما ردت عليك يدك» وهذان إسنادان جيدان.

وقد روى الثوري عن سماك بن حرب ، عن عدي قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما كان من كلب ضار أمسك عليك فكل» قلت : وإن أكل؟ قال «نعم». وروى عبد الملك بن حبيب: حدثنا أسد بن موسى عن ابن أبي زائدة ، عن الشعبي ، عن عدي بمثله ، فهذه آثار دالة على أنه يغتفر ، وإن أكل منه الكلب ، وقد احتج بها من لم يحرم الصيد بأكل الكلب وما أشبهه ، كما تقدم عمن حكيناه عنهم ، وقد توسط آخرون فقالوا : إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم لحديث عدي بن حاتم ، وللعلة التي أشار إليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فإن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه» وأما إن أمسكه ثم انتظر صاحبه فطال عليه وجاع فأكل منه لجوعه ، فإنه لا يؤثر في التحريم وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة الخشني. وهذا تفريق حسن ، وجمع بين الحديثين صحيح.

وقد تمنى الأستاذ أبو المعالي الجويني في كتابه «النهاية» أن لو فصل مفصل هذا التفصيل وقد حقق الله أمنيته ، وقال بهذا القول والتفريق طائفة من الأصحاب منهم. وقال آخرون قولا رابعا في المسألة وهو التفرقة بين أكل الكلب فيحرم لحديث عدي ، وبين أكل الصقور ونحوها فلا يحرم لأنه لا يقبل التعليم إلا بالأكل ، وقال ابن جرير (٣) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا أبو إسحاق الشيباني عن حماد ، عن إبراهيم ، عن ابن عباس أنه قال في الطير : إذا أرسلته فقتل فكل ، فإن الكلب إذا ضربته لم يعد وإن تعلم الطير أن يرجع إلى صاحبه وليس يضرب ، فإذا أكل من الصيد ونتف الريش فكل ، وكذا قال إبراهيم النخعي والشعبي وحماد بن أبي سليمان.

وقد يحتج لهؤلاء بما رواه ابن أبي حاتم ، حدثنا أبو سعيد ، حدثنا المحاربي ، حدثنا مجالد عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله ، إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة ، فما

__________________

(١) سنن أبي داود (صيد باب ٢٢)

(٢) ما يأتي رواه أبو داود من طريق بسر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولاني. وفي نفس الباب رواية من طريق يونس بن سيف.

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٤٣٣.

٣٢

يحل لنا منها؟ قال «يحل لكم ما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله ، فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه» ثم قال «ما أرسلت من كلب وذكرت اسم الله عليه فكل مما أمسك عليك» قلت : وإن قتل؟ قال «وإن قتل ما لم يأكل» قلت : يا رسول الله ، وإن خالطت كلابنا كلابا غيرها؟ قال «فلا تأكل حتى تعلم أن كلبك هو الذي أمسك». قال : قلت : إنا قوم نرمي فما يحل لنا؟ قال «ما ذكرت اسم الله عليه وخزقت فكل». فوجه الدلالة لهم أنه اشترط في الكلب أن لا يأكل ، ولم يشترط ذلك في البزاة ، فدل على التفرقة بينهما في الحكم ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) أي عند إرساله له كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعدي بن حاتم «إذا أرسلت كلبك المعلم ، وذكرت اسم الله ، فكل ما أمسك عليك» وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في الصحيحين أيضا «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله ، وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله» ولهذا اشترط من اشترط من الأئمة كالإمام أحمد رحمه‌الله في المشهور عنه ، التسمية عند إرسال الكلب ، والرمي بالسهم ، لهذه الآية وهذا الحديث ، وهذا القول هو المشهور عن الجمهور أن المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الإرسال كما قال السدي وغيره ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) يقول : إذا أرسلت جارحك فقل : باسم الله ، وإن نسيت فلا حرج (١) ، وقال بعض الناس : المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الأكل ، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علم ربيبه عمر بن أبي سلمة فقال «سمّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك» (٢). وفي صحيح البخاري عن عائشة أنهم قالوا : يا رسول الله ، إن قوما يأتوننا حديث عهدهم بكفر بلحمان لا ندري أذكر اسم الله عليها أم لا؟ فقال «سموا الله أنتم وكلوا» (٣).

حديث آخر ـ وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا يزيد ، حدثنا هشام عن بديل ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، عن عائشة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأكل الطعام في ستة نفر من أصحابه ، فجاء أعرابي فأكله بلقمتين ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أما إنه لو كان ذكر اسم الله لكفاكم ، فإذا أكل أحدكم طعاما فليذكر اسم الله ، فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوله ، فليقل : بسم الله أوله وآخره» ، وهكذا رواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يزيد بن هارون به ، وهذا منقطع بين عبد الله بن عبيد بن عمير وعائشة فإنه لم يسمع منها هذا الحديث بدليل ما رواه الإمام

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٤٣٩.

(٢) صحيح البخاري (أطعمة باب ٢) وصحيح مسلم (أشربة حديث ١٠٨)

(٣) صحيح البخاري (توحيد باب ١٣)

(٤) مسند أحمد ٦ / ١٤٣.

٣٣

أحمد (١) : حدثنا عبد الوهاب ، أخبرنا هشام يعني ابن أبي عبد الله الدستوائي ، عن بديل ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير : أن امرأة منهم يقال لها أم كلثوم حدثته عن عائشة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأكل طعاما في ستة نفر من أصحابه ، فجاء أعرابي جائع فأكله بلقمتين ، فقال «أما إنه لو ذكر اسم الله لكفاكم ، فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله ، فإن نسي اسم الله في أوله ، فليقل بسم الله أوله وآخره» رواه أحمد أيضا وأبو داود والترمذي والنسائي من غير وجه عن هشام الدستوائي به ، وقال الترمذي : حسن صحيح.

حديث آخر ـ وقال أحمد (٢) : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا جابر بن صبح ، حدثني المثنى بن عبد الرحمن الخزاعي وصحبته إلى واسط ، فكان يسمي في أول طعامه ، وفي آخر لقمة يقول : بسم الله أوله وآخره ، فقلت له : إنك تسمي في أول ما تأكل ، أرأيت قولك في آخر ما تأكل بسم الله أوله وآخره ، فقال : أخبرك أن جدي أمية بن مخشي وكان من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمعته يقول : إن رجلا كان يأكل والنبي ينظر فلم يسم حتى كان آخر طعامه لقمة ، قال : بسم الله أوله وآخره ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والله ما زال الشيطان يأكل معه حتى سمى ، فلم يبق شيء في بطنه حتى قاءه» وهكذا رواه أبو داود (٣) والنسائي من حديث جابر بن صبح الراسبي أبي بشر البصري ، ووثقه ابن معين والنسائي ، وقال أبو الفتح الأزدي : لا تقوم به حجة.

حديث آخر ـ قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن خيثمة عن أبي حذيفة ـ قال أبو عبد الرحمن عبد الله ابن الإمام أحمد واسمه سلمة بن الهيثم بن صهيب ـ من أصحاب ابن مسعود ، عن حذيفة ، قال : كنا إذا حضرنا مع النبي على طعام لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله فيضع يده ، وإنا حضرنا معه طعاما ، فجاءت جارية كأنما تدفع فذهبت تضع يدها في الطعام ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدها ، وجاء أعرابي كأنما يدفع فذهب يضع يده في الطعام فأخذ رسول الله بيده ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الشيطان يستحل الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه ، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها ، فأخذت بيدها ، وجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذت بيده ، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يديهما» يعني الشيطان ، وكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي ، من حديث الأعمش به.

حديث آخر ـ روى مسلم وأهل السنن ، إلا الترمذي من طريق ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند

__________________

(١) مسند أحمد ٦ / ٢٦٥.

(٢) مسند أحمد ٤ / ٣٣٦.

(٣) سنن أبي داود (أطعمة باب ١٥)

(٤) مسند أحمد ٥ / ٣٨٢ ـ ٣٨٣.

٣٤

طعامه ، قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء ، وإذا دخل ولم يذكر اسم الله عند دخوله ، قال الشيطان : أدركتم المبيت ، فإذا لم يذكر اسم الله عند طعامه ، قال : أدركتم المبيت والعشاء» لفظ أبي داود (١).

حديث آخر ـ قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن وحشي بن حرب عن أبيه ، عن جده ، أن رجلا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا نأكل ولا نشبع. قال «فلعلكم تأكلون متفرقين اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه» ورواه أبو داود ، وابن ماجة ، من طريق الوليد بن مسلم.

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٥)

لما ذكر تعالى ما حرمه على عباده المؤمنين ، من الخبائث وما أحله لهم من الطيبات. قال بعده (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) ثم ذكر حكم ذبائح أهل الكتابين ، من اليهود والنصارى فقال (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد بن جبير ، وعكرمة وعطاء والحسن ، ومكحول وإبراهيم النخعي ، والسدي ومقاتل بن حيان : يعني ذبائحهم ، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء ، أن ذبائحهم حلال للمسلمين ، لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله ، وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عنه ، تعالى وتقدس.

وقد ثبت في الصحيح : عن عبد الله بن مغفل ، قال : أدلي بجراب من شحم يوم خيبر فحضنته وقلت : لا أعطي اليوم من هذا أحدا ، والتفت فإذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبتسم (٣) ، فاستدل به الفقهاء ، على أنه يجوز تناول ما يحتاج إليه من الأطعمة ونحوها من الغنيمة ، قبل القسمة ، وهذا ظاهر ، واستدل به الفقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة على أصحاب مالك في منعهم أكل ما يعتقد اليهود تحريمه من ذبائحهم ، كالشحوم ونحوها مما حرم عليهم ، فالمالكية لا يجوزون للمسلمين أكله ، لقوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) قالوا : وهذا ليس من طعامهم ، واستدل عليهم الجمهور بهذا الحديث ، وفي ذلك نظر ، لأنه قضية عين ، ويحتمل أن يكون شحما ، يعتقدون حله كشحم الظهر والحوايا ونحوهما ، والله أعلم ، وأجود منه في الدلالة ، ما ثبت في الصحيح ، أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاة

__________________

(١) سنن أبي داود (أطعمة باب ١٥)

(٢) مسند أحمد ٣ / ٥٠١.

(٣) سنن أبي داود (جهاد باب ١٢٧) ولفظه : «أدلي بجراب ... يبتسم إليّ».

٣٥

مصلية (١) ، وقد سموا ذراعها وكان يعجبه الذراع ، فتناوله فنهش منه نهشة فأخبره الذراع أنه مسموم فلفظه ، وأثر ذلك في ثنايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي أبهره ، وأكل معه منها بشر بن البراء بن معرور فمات فقتل اليهودية التي سمتها ، وكان اسمها زينب ، فقتلت ببشر بن البراء (٢).

ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه ، ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا. وفي الحديث الآخر : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أضافه يهودي ، على خبز شعير وإهالة سنخة ، يعني ودكا (٣) زنخا.

وقال ابن أبي حاتم : قرئ على العباس بن الوليد بن مزيد ، أخبرنا محمد بن شعيب ، أخبرني النعمان بن المنذر ، عن مكحول قال : أنزل الله (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١٢١] ثم نسخه الرب عزوجل ، ورحم المسلمين فقال (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) فنسخها بذلك ، وأحل طعام أهل الكتاب ، وفي هذا الذي قاله مكحول رحمه‌الله نظر ، فإنه لا يلزم من إباحته طعام أهل الكتاب ، إباحة أكل ما لم يذكر اسم الله عليه لأنهم يذكرون اسم الله على ذبائحهم وقرابينهم ، وهم متعبدون بذلك ، ولهذا لم يبح ذبائح من عداهم من أهل الشرك ، ومن شابههم ، لأنهم لا يذكرون اسم الله على ذبائحهم ، بل ولا يتوقفون فيما يأكلونه من اللحم على ذكاة ، بل يأكلون الميتة بخلاف أهل الكتابين ومن شاكلهم من السامرة والصابئة ومن يتمسك بدين إبراهيم وشيث وغيرهما من الأنبياء ، على أحد قولي العلماء ونصارى العرب ، كبني تغلب وتنوخ وبهرا وجذام ولخم وعاملة ومن أشبههم ، لا تؤكل ذبائحهم عند الجمهور.

وقال أبو جعفر بن جرير (٤) : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد بن عبيدة ، قال : قال علي : لا تأكلوا ذبائح بني تغلب ، لأنهم إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر.

وكذا قال غير واحد من الخلف والسلف. وقال سعيد بن أبي عروبة : عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب والحسن ، أنهما كانا لا يريان بأسا ، بذبيحة نصارى بني تغلب. وأما المجوس ، فإنهم وإن أخذت منهم الجزية تبعا وإلحاقا لأهل الكتاب ، فإنهم لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم ، خلافا لأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي ، أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل. ولما قال ذلك واشتهر عنه ، أنكر عليه الفقهاء ذلك ، حتى قال عنه الإمام أحمد : أبو ثور كاسمه ، يعني في هذه المسألة ، وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلا

__________________

(١) أي مشوبة.

(٢) سنن أبي داود (ديات باب ٦) وسنن الدارمي (مقدمة باب ١١) وصحيح مسلم (سلام حديث ٤٥)

(٣) الودك : دسم الدهن. والإهالة : كل شيء يؤتدم به. والسنخة : المتغيّرة الريح.

(٤) تفسير الطبري ٤ / ٤٤١.

٣٦

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» (١) ولكن لم يثبت بهذا اللفظ ، وإنما الذي في صحيح البخاري ، عن عبد الرحمن بن عوف ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أخذ الجزية من مجوس هجر ، ولو سلّم صحة هذا الحديث ، فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) فدل بمفهومه مفهوم المخالفة على أن طعام من عداهم من أهل الأديان ، لا يحل.

وقوله تعالى : (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) أي ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم ، وليس هذا إخبارا عن الحكم عندهم ، اللهم إلا أن يكون خبرا عما أمروا به ، من الأكل من كل طعام ، ذكر اسم الله عليه ، سواء كان من أهل ملتهم أو غيرها ، والأول أظهر في المعنى ، أي ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم ، وهذا من باب المكافأة والمقابلة والمجازاة ، كما ألبس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثوبه لعبد الله بن أبي ابن سلول ، حين مات ودفنه فيه ، قالوا : لأنه كان قد كسا العباس حين قدم المدينة ثوبه ، فجازاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك بذلك ، فأما الحديث الذي فيه «لا تصحب إلا مؤمنا ، ولا يأكل طعامك إلا تقي» (٢) فمحمول على الندب والاستحباب ، والله أعلم.

وقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) أي وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات ، وذكر هذا توطئة لما بعده ، وهو قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فقيل أراد بالمحصنات الحرائر ، دون الإماء ، حكاه ابن جرير (٣) عن مجاهد ، وإنما قال مجاهد : المحصنات الحرائر ، فيحتمل أن يكون أراد ما حكاه عنه ، ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة ، كما قال في الرواية الأخرى عنه ، وهو قول الجمهور هاهنا ، وهو الأشبه ، لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية ، وهي مع ذلك غير عفيفة ، فيفسد حالها بالكلية ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل : «حشفا وسوء كيلة» (٤) والظاهر من الآية أن المراد من المحصنات العفيفات عن الزنا ، كما قال تعالى في الآية الأخرى (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) [النساء : ٢٥].

ثم اختلف المفسرون والعلماء في قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) هل يعم كل كتابية عفيفة ، سواء كانت حرة أو أمة ، حكاه ابن جرير (٥) عن طائفة من السلف ، ممن فسر المحصنة بالعفيفة ، وقيل : المراد بأهل الكتاب هاهنا الإسرائيليات ، وهو

__________________

(١) موطأ مالك (زكاة حديث ٤٢)

(٢) مسند أحمد ٣ / ٣٨.

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٤٤٤.

(٤) الحشف : التمر الرديء. والمثل يقال في من تجتمع فيه سيئتان ، كمن يبيعك حشفا وينتقص الكيل.

(٥) تفسير الطبري ٤ / ٤٤٤ ـ ٤٤٥.

٣٧

مذهب الشافعي. وقيل : المراد بذلك الذميات دون الحربيات ، لقوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ٢٩] ، وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ، ويقول : لا أعلم شركا أعظم من أن تقول إن ربها عيسى ، وقد قال الله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) [البقرة : ٢٢١].

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن حاتم بن سليمان المؤدب ، حدثنا القاسم بن مالك يعني المزني ، حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي مالك الغفاري ، قال نزلت هذه الآية (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) قال فحجز الناس عنهن حتى نزلت الآية التي بعدها (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فنكح الناس نساء أهل الكتاب ، وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ، ولم يروا بذلك بأسا أخذا بهذه الآية الكريمة (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فجعلوا هذه مخصصة للتي في سورة البقرة (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها ، وإلا فلا معارضة بينها وبينها ، لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع ، كقوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة : ١] وكقوله : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) [آل عمران : ٢٠].

وقوله : (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي مهورهن ، أي كما هن محصنات عفائف فابذلوا لهن المهور عن طيب نفس ، وقد أفتى جابر بن عبد الله وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي والحسن البصري ، بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها أنه يفرق بينهما ، وترد عليه ما بذل لها من المهر ، رواه ابن جرير (١) عنهم.

وقوله : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) فكما شرط الإحصان في النساء ، وهي العفة عن الزنا ، كذلك شرطها في الرجال ، وهو أن يكون الرجل أيضا محصنا عفيفا ، ولهذا قال : غير مسافحين ، وهم الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية ولا يردون أنفسهم عمن جاءهم ، ولا متخذي أخدان ، أي ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلا معهن ، كما تقدم في سورة النساء سواء ، ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه‌الله إلى أنه لا يصح نكاح المرأة البغي حتى تتوب ، وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف ، وكذلك لا يصح عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنا لهذه الآية وللحديث «لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله» (٢).

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٤٤٦ ـ ٤٤٧.

(٢) رواه أحمد في المسند ٢ / ٣٢٤ من حديث أبي هريرة.

٣٨

وقال ابن جرير (١) : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا أبو هلال عن قتادة ، عن الحسن ، قال : قال عمر بن الخطاب : لقد هممت أن لا أدع أحدا أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة ، فقال له أبي بن كعب : يا أمير المؤمنين ، الشرك أعظم من ذلك ، وقد يقبل منه إذا تاب ، وسيأتي الكلام على هذه المسألة مستقصى عند قوله : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [النور : ٦] ، ولهذا قال تعالى هاهنا (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٦)

قال كثيرون من السلف في قوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) : يعني وأنتم محدثون ، وقال آخرون : إذا قمتم من النوم إلى الصلاة ، وكلاهما قريب. وقال آخرون : بل المعنى أعم من ذلك ، فالآية آمرة بالوضوء عند القيام إلى الصلاة ، ولكن هو في حق المحدث واجب ، وفي حق المتطهر ندب ، وقد قيل : إن الأمر بالوضوء لكل صلاة كان واجبا في ابتداء الإسلام ، ثم نسخ ، وقال الإمام أحمد بن حنبل (٢) : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ، قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ عند كل صلاة ، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلّى الصلوات بوضوء واحد ، فقال له عمر : يا رسول الله ، إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله. قال «إني عمدا فعلته يا عمر» ، وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد ، ووقع في سنن ابن ماجة عن سفيان ، عن محارب بن دثار بدل علقمة بن مرثد ، كلاهما عن سليمان بن بريدة به ، وقال الترمذي : حسن صحيح.

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا محمد بن عباد بن موسى ، أخبرنا زياد بن عبد الله بن الطفيل البكائي ، حدثنا الفضل بن المبشر قال : رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات بوضوء واحد ، فإذا بال أو أحدث ، توضأ ومسح بفضل طهوره الخفين ، فقلت : أبا عبد الله ، أشيء تصنعه برأيك؟ قال : بل رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصنعه ، فأنا أصنعه كما رأيت رسول الله يصنعه ، وكذا رواه

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٤٤٥.

(٢) مسند أحمد ٥ / ٣٥٨.

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٤٥٢.

٣٩

ابن ماجة عن إسماعيل بن توبة ، عن زياد البكائي به.

وقال أحمد (١) : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي عن ابن إسحاق ، حدثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، قال : أرأيت وضوء عبد الله بن عمر لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر ، عمن هو؟ قال : حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن الغسيل ، حدثها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر ، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة ، ووضع عنه الوضوء إلا من حدث ، فكان عبد الله يرى أن به قوة على ذلك كان يفعله حتى مات.

وهكذا رواه أبو داود (٢) عن محمد بن عوف الحمصي (٣) عن أحمد بن خالد الذهني ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، ثم قال أبو داود : ورواه إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق ، فقال عبيد الله بن عمر : يعني كما تقدم في رواية الإمام أحمد.

وأيا ما كان ، فهو إسناد صحيح ، وقد صرح ابن إسحاق فيه بالتحديث والسماع من محمد بن يحيى بن حبان ، فزال محذور التدليس ، لكن قال الحافظ ابن عساكر : رواه سلمة بن الفضل وعلي بن مجاهد عن ابن إسحاق ، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة ، عن محمد بن يحيى بن حبان به ، والله اعلم ، وفي فعل ابن عمر هذا ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة دلالة على استحباب ذلك ، كما هو مذهب الجمهور.

وقال ابن جرير (٤) : حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، حدثنا أزهر عن ابن عون ، عن ابن سيرين : أن الخلفاء كانوا يتوضؤون لكل صلاة ، وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت مسعود بن علي الشيباني ، سمعت عكرمة يقول : كان علي رضي الله عنه يتوضأ عند كل صلاة ويقرأ هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) الآية ، وحدثنا ابن المثنى ، حدثني وهب بن جرير ، أخبرنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة ، عن النزال بن سبرة قال : رأيت عليا صلّى الظهر ثم قعد للناس في الرحبة ، ثم أتى بماء فغسل وجهه ويديه ، ثم مسح برأسه ورجليه ، وقال : هذا وضوء من لم يحدث ، وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم : أن عليا اكتال من حب ، فتوضأ وضوءا فيه تجوز ، فقال : هذا وضوء من لم يحدث ، وهذه طرق جيدة عن علي يقوي بعضها بعضا.

__________________

(١) مسند أحمد ٥ / ٢٢٥.

(٢) سنن أبي داود (طهارة باب ٢٥)

(٣) في أبي داود : «الطائي».

(٤) تفسير الطبري ٤ / ٤٥٣.

٤٠