تفسير القرآن العظيم - ج ٣

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٣

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٩٥

(إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) (١) وروي من وجه آخر عن سعيد عن ابن عباس مثله سواء وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) يعني طعام الجنة وشرابها(٢).

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا نصر بن علي أخبرنا موسى بن المغيرة حدثنا أبو موسى الصفار في دار عمرو بن مسلم قال : سألت ابن عباس أو سئل أي الصدقة أفضل؟ فقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أفضل الصدقة الماء ألم تسمع إلى أهل النار لما استغاثوا بأهل الجنة قالوا أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله» وقال أيضا : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح قال لما مرض أبو طالب قالوا له لو أرسلت إلى ابن أخيك هذا فيرسل إليك بعنقود من الجنة لعله أن يشفيك به ، فجاءه الرسول وأبو بكر عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أبو بكر (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ).

ثم وصف تعالى الكافرين بما كانوا يعتمدونه في الدنيا باتخاذهم الدين لهوا ولعبا واغترارهم بالدنيا وزينتها وزخرفها عما أمروا به من العمل للآخرة ، وقوله (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) أي يعاملهم معاملة من نسيهم ، لأنه تعالى لا يشذ عن علمه شيء ولا ينساه كما قال تعالى : (فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) [طه : ٥٢] وإنما قال تعالى هذا من باب المقابلة كقوله (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧] وقال (كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) [طه : ١٢٦] وقال تعالى : (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) [الجاثية : ٣٤] وقال العوفي عن ابن عباس في قوله (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) قال نسيهم الله من الخير ولم ينسهم من الشر ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال نتركهم كما تركوا لقاء يومهم هذا ، وقال مجاهد نتركهم في النار ، وقال السدي نتركهم من الرحمة كما تركوا أن يعملوا للقاء يومهم هذا ، وفي الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول بلى فيقول أظننت أنك ملاقي؟ فيقول لا فيقول الله تعالى فاليوم أنساك كما نسيتني (٣)؟

(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٥٣)

يقول تعالى مخبرا عن إعذاره إلى المشركين بإرسال الرسل إليهم بالكتاب الذي جاء به

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٥٠٩.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٥٠٩.

(٣) أخرجه مسلم في الزهد حديث ١٦ ، والترمذي في القيامة باب ٦.

٣٨١

الرسول وأنه كتاب مفصل مبين كقوله (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) [هود : ١] الآية ، وقوله (فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ) للعالمين أي على علم منا بما فصلناه به كقوله (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) [النساء : ١٦٦] قال ابن جرير وهذه الآية مردودة على قوله (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) [الأعراف : ٢] الآية ، (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ) الآية ، وهذا الذي قاله فيه نظر فإنه قد طال الفصل ولا دليل عليه وإنما الأمر أنه لما أخبر بما صاروا إليه من الخسارة في الآخرة ذكر أنه قد أزاح عللهم في الدنيا بإرسال الرسل وإنزال الكتب كقوله (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] ولهذا قال (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) أي ما وعدوا به من العذاب والنكال والجنة والنار قاله مجاهد وغير واحد ، وقال مالك : ثوابه.

وقال الربيع : لا يزال يجيء من تأويله أمر حتى يتم يوم الحساب حتى يدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار فيتم تأويله يومئذ وقوله (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) أي يوم القيامة قاله ابن عباس (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) أي تركوا العمل به وتناسوه في الدار الدنيا (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) أي في خلاصنا مما صرنا إليه مما نحن فيه (أَوْ نُرَدُّ) إلى الدار الدنيا (فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) كقوله (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الأنعام : ٢٧ ـ ٢٨] كما قال هاهنا (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي خسروا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيها (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي ذهب عنهم ما كانوا يعبدونهم من دون الله فلا يشفعون فيهم ولا ينصرونهم ولا ينقذونهم مما هم فيه.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٥٤)

يخبر تعالى أنه خلق العالم سماواته وأرضه وما بين ذلك في ستة أيام كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن ، والستة الأيام هي : الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة وفيه اجتمع الخلق كله وفيه خلق آدم عليه‌السلام واختلفوا في هذه الأيام هل كل يوم منها كهذه الأيام كما هو المتبادر إلى الأذهان أو كل يوم كألف سنة كما نص على ذلك مجاهد والإمام أحمد بن حنبل ويروى ذلك من رواية الضحاك عن ابن عباس ، فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق لأنه اليوم السابع ومنه سمي السبت وهو القطع.

فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد (١) في مسنده حيث قال : حدثنا حجاج حدثنا ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أبي

__________________

(١) المسند ٢ / ٣٢٧.

٣٨٢

هريرة قال أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدي فقال «خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل» (١) فقد رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه والنسائي من غير وجه عن حجاج وهو ابن محمد الأعور عن ابن جريج به وفيه استيعاب الأيام السبعة والله تعالى قد قال في ستة أيام ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار ليس مرفوعا والله أعلم.

وأما قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا ليس هذا موضع بسطها وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله لا يشبهه شيء من خلقه و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) بل الأمر كما قال الأئمة منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قال من شبه الله بخلقه كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله ونفى عن الله تعالى النقائص فقد سلك سبيل الهدى.

وقوله تعالى (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) أي يذهب ظلام هذا بضياء هذا وضياء هذا بظلام هذا وكل منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا أي سريعا لا يتأخر عنه بل إذا ذهب هذا جاء هذا وعكسه كقوله (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس : ٣٧ ـ ٤٠] فقوله (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) أي لا يفوته بوقت يتأخر عنه بل هو في أثره بلا واسطة بينهما ولهذا قال (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) منهم من نصب ومنهم من رفع وكلاهما قريب المعنى أي الجميع تحت قهره وتسخيره ومشيئته ولهذا قال منبها (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) أي له الملك والتصرف (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) كقوله (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) [الفرقان : ٦١] الآية.

قال ابن جرير (٢) : حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق حدثنا هشام أبو عبد الرحمن ، حدثنا

__________________

(١) أخرجه مسلم في المنافقين حديث ٢٧.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٥١٤.

٣٨٣

بقية بن الوليد ، حدثنا عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاري عن عبد العزيز الشامي عن أبيه وكانت له صحبة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح وحمد نفسه فقد كفر وحبط عمله ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئا فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه» لقوله (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

وفي الدعاء المأثور عن أبي الدرداء وروي مرفوعا «اللهم لك الملك كله ولك الحمد كله وإليك يرجع الأمر كله ، أسألك من الخير كله وأعوذ بك من الشر كله».

(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٥٦)

أرشد تبارك وتعالى عباده إلى دعائه الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم فقال (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) قيل معناه تذللا واستكانة ، وخفية كقوله (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) [الأعراف : ٢٠٥] الآية وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال رفع الناس أصواتهم بالدعاء فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إن الذي تدعون سميع قريب» (١) الحديث.

وقال ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله (تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) قال السر وقال ابن جرير (٢) تضرعا تذللا واستكانة لطاعته وخفية يقول بخشوع قلوبكم وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه لا جهرا مراءاة وقال عبد الله بن المبارك عن المبارك بن فضالة عن الحسن قال : إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدا ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم وذلك أن الله تعالى يقول (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا رضي فعله فقال (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) (٣) [مريم : ٣] وقال ابن جريج يكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء ويؤمر بالتضرع والاستكانة (٤).

ثم روي عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) في الدعاء ولا في

__________________

(١) أخرجه البخاري في المغازي باب ٣٨ ، والجهاد باب ١٣١ ، والدعوات باب ٥١ ، والقدر باب ٧ ، والتوحيد باب ٩ ، ومسلم في الذكر حديث ٤٤ ، ٤٥ ، وأبو داود في الوتر باب ٢٦.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٥١٤.

(٣) انظر تفسير الطبري ٥ / ٥١٤.

(٤) انظر تفسير الطبري ٥ / ٥١٥.

٣٨٤

غيره وقال أبو مجلز (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) لا يسأل منازل الأنبياء (١).

وقال أحمد (٢) حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا شعبة عن زياد بن مخراق سمعت أبا نعامة عن مولى لسعد أن سعدا سمع ابنا له يدعو وهو يقول : اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحوا من هذا وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها فقال لقد سألت الله خيرا كثيرا وتعوذت به من شر كثير وإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء ـ وفي لفظ ـ يعتدون في الطهور والدعاء ـ وقرأ هذه الآية (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً) الآية ـ وإن بحسبك أن تقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرّب إليها من قول أو عمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل» (٣) ورواه أبو داود من حديث شعبة عن زياد بن مخراق عن أبي نعامة عن مولى لسعد عن سعد فذكره والله أعلم.

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا الحريري عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال يا بني سل الله الجنة وعُذ به من النار فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور» (٥) وهكذا رواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفان به وأخرجه أبو داود عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن سعيد بن إياس الجريري عن أبي نعامة واسمه قيس بن عباية الحنفي البصري وهو إسناد حسن لا بأس به والله أعلم.

وقوله تعالى (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض وما أضره بعد الإصلاح فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد ثم وقع الإفساد بعد ذلك كان أضر ما يكون على العباد فنهى تعالى عن ذلك وأمر بعبادته ودعائه والتضرع إليه والتذلل لديه فقال (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) أي خوفا مما عنده من وبيل العقاب وطمعا فيما عنده من جزيل الثواب ثم قال (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي إن رحمته مرصدة للمحسنين الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره كما قال تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) [الأعراف : ١٥٦] الآية وقال قريب ولم يقل قريبة لأنه ضمن الرحمة معنى الثواب أو لأنها مضافة إلى الله فلهذا قال قريب من المحسنين وقال مطر الوراق تنجزوا موعود الله بطاعته فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين. رواه ابن أبي حاتم.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٥ / ٥١٥.

(٢) المسند ١ / ١٧٢.

(٣) أخرجه أبو داود في الوتر باب ٢٣.

(٤) المسند ٥ / ٥٥.

(٥) أخرجه أبو داود في الطهارة باب ٤٥ ، وابن ماجة في الدعاء باب ١٢.

٣٨٥

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) (٥٨)

لما ذكر تعالى أنه خالق السموات والأرض وأنه المتصرف الحاكم المدبر المسخر وأرشد إلى دعائه لأنه على ما يشاء قادر نبه تعالى على أنه الرزاق وأنه يعيد الموتى يوم القيامة فقال وهو الذي يرسل الرياح نشرا أي منتشرة بين يدي السحاب الحامل للمطر ومنهم من قرأ (بُشْراً) كقوله (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ).

وقوله (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي بين المطر كما قال (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) [الشورى : ٢٨] وقال (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الروم : ٥٠] وقوله (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً) أي حملت الرياح سحابا ثقالا أي من كثرة ما فيها من الماء تكون ثقيلة قريبة من الأرض مدلهمة كما قال زيد بن عمرو بن نفيل رحمه‌الله : [المتقارب]

وأسلمت وجهي لمن أسلمت

له المزن تحمل عذبا زلالا (١)

وأسلمت وجهي لمن أسلمت

له الأرض تحمل صخرا ثقالا

وقوله (سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) أي إلى أرض ميتة مجدبة لا نبات فيها كقوله (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) الآية ولهذا قال (فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى) أي كما أحيينا هذه الأرض بعد موتها كذلك نحيي الأجساد بعد صيرورتها رميما يوم القيامة ينزل الله سبحانه وتعالى ماء من السماء فتمطر الأرض أربعين يوما فتنبت منه الأجساد في قبورها كما ينبت الحب في الأرض وهذا المعنى كثير في القرآن يضرب الله مثلا ليوم القيامة بإحياء الأرض بعد موتها ولهذا قال (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

وقوله (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) أي والأرض الطيبة يخرج نباتها سريعا حسنا كقوله (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً)(وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) قال مجاهد وغيره كالسباخ ونحوها وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية : هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر (٢).

وقال البخاري حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حماد بن أسامة عن يزيد بن عبد الله عن أبي

__________________

(١) البيتان في سيرة ابن هشام ١ / ٢٣١.

(٢) انظر تفسير الطبري ٥ / ٥٢٠.

٣٨٦

بردة عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «مثل ما بعثني الله به من العلم والهدى كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» (١) رواه مسلم والنسائي من طرق عن أبي أسامة حماد بن أسامة به.

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٦٢)

لما ذكر تعالى قصة آدم في أول السورة وما يتعلق بذلك وما يتصل به وفرغ منه شرع تعالى في ذكر قصص الأنبياء عليهم‌السلام الأول فالأول فابتدأ بذكر نوح عليه‌السلام فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم عليه‌السلام وهو نوح بن لامك بن متوشلح بن أخنوخ وهو إدريس النبي عليه‌السلام فيما يزعمون وهو أول من خط بالقلم ابن برد بن مهليل بن قنين بن يانش بن شيث بن آدم عليهم‌السلام هكذا نسبه محمد بن إسحاق وغير واحد من أئمة النسب.

قال محمد بن إسحاق ولم يلق نبي من قومه من الأذى مثل نوح إلا نبي قتل وقال يزيد الرقاشي إنما سمي نوح لكثرة ما ناح على نفسه وقد كان بين آدم إلى زمن نوح عليهما‌السلام عشرة قرون كلهم على الإسلام قال عبد الله بن عباس وغير واحد من علماء التفسير وكان أول ما عبدت الأصنام أن قوما صالحين ماتوا فبنى قومهم عليهم مساجد وصوروا صورة أولئك فيها ليتذكروا حالهم وعبادتهم فيتشبهوا بهم فلما طال الزمان جعلوا أجسادا على تلك الصور فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا.

فلما تفاقم الأمر بعث الله سبحانه وتعالى وله الحمد والمنة رسوله نوحا فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له فقال (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي من عذاب يوم القيامة إذا لقيتم الله وأنتم مشركون به (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) أي الجمهور والسادة والقادة والكبراء منهم (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي في دعوتك إيانا إلى ترك عبادة هذه الأصنام التي وجدنا عليها آباءنا وهكذا حال الفجار إنما يرون الأبرار في ضلالة كقوله (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) [المطففين : ٣٢] (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) [الأحقاف : ١١] إلى غير

__________________

(١) أخرجه البخاري في العلم باب ٢٠ ، ومسلم في الفضائل حديث ١٥ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٩٩.

٣٨٧

ذلك من الآيات.

(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي ما أنا ضال ولكن أنا رسول من رب العالمين رب كل شيء ومليكه (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) وهذا شأن الرسول أن يكون مبلغا فصيحا ناصحا عالما بالله لا يدركهم أحد من خلق الله في هذه الصفات كما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه يوم عرفة وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعا «أيها الناس إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟» قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكسها عليهم ويقول «اللهم اشهد اللهم اشهد» (١).

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) (٦٤)

يقول تعالى إخبارا عن نوح أنه قال لقومه (أَوَعَجِبْتُمْ) الآية ، أي لا تعجبوا من هذا فإن هذا ليس بعجب أن يوحي الله إلى رجل منكم رحمة بكم ولطفا وإحسانا إليكم لينذركم ولتتقوا نقمة الله ولا تشركوا به (وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) قال الله تعالى (فَكَذَّبُوهُ) أي تمادوا على تكذيبه ومخالفته وما آمن معه منهم إلا قليل كما نص عليه في موضع آخر (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) أي السفينة كما قال : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) [العنكبوت : ١٥] (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) كما قال (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) [نوح : ٢٥] وقوله (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) أي عن الحق لا يبصرونه ولا يهتدون له فبين تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه وأنجى رسوله والمؤمنين وأهلك أعداءهم من الكافرين كقوله (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) [غافر : ٥١] الآية.

وهذه سنة الله في عباده في الدنيا والآخرة أن العاقبة فيها للمتقين والظفر والغلب لهم كما أهلك قوم نوح بالغرق ونجى نوحا وأصحابه المؤمنين وقال مالك عن زيد بن أسلم كان قوم نوح قد ضاق بهم السهل والجبل وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ما عذب الله قوم نوح إلا والأرض ملأى بهم وليس بقعة من الأرض إلا ولها مالك وحائز وقال ابن وهب بلغني عن ابن عباس أنه نجا مع نوح في السفينة ثمانون رجلا أحدهم جرهم وكان لسانه عربيا رواه ابن أبي حاتم وروي متصلا من وجه آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ

__________________

(١) أخرجه مسلم في الحج حديث ١٤٧ ، وأبو داود في المناسك باب ٥٦ ، وابن ماجة في المناسك باب ٨٤ ، والدارمي في المناسك باب ٣٤.

٣٨٨

كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٦٩)

يقول تعالى وكما أرسلنا إلى قوم نوح نوحا كذلك أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا قال محمد بن إسحاق هم ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح قلت هؤلاء هم عاد الأولى الذين ذكرهم الله وهم أولاد عاد بن إرم الذين كانوا يأوون إلى العمد في البر كما قال تعالى (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) [الفجر : ٦ ـ ٨] وذلك لشدة بأسهم وقوتهم كما قال تعالى (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) وقد كانت مساكنهم باليمن بالأحقاف وهي جبال الرمل.

قال محمد بن إسحاق عن محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة سمعت عليا يقول لرجل من حضرموت : هل رأيت كثيبا أحمر يخالطه مدرة (١) حمراء ذا أراك وسدر (٢) كثير بناحية كذا وكذا من أرض حضرموت. هل رأيته؟ قال نعم يا أمير المؤمنين؟ والله إنك لتنعته نعت رجل قد رآه ، قال لا ولكني قد حدثت عنه فقال الحضرمي وما شأنه يا أمير المؤمنين؟ قال فيه قبر هود عليه‌السلام رواه ابن جرير (٣). وهذا فيه فائدة أن مساكنهم كانت باليمن فإن هودا عليه‌السلام دفن هناك وقد كان من أشرف قومه نسبا لأن الرسل إنما يبعثهم الله من أفضل القبائل وأشرفهم ولكن كان قومه كما شدد خلقهم شدد على قلوبهم وكانوا من أشد الأمم تكذيبا للحق ولهذا دعاهم هود عليه‌السلام إلى عبادة الله وحده لا شريك له وإلى طاعته وتقواه.

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) والملأ هم الجمهور والسادة والقادة منهم (إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي في ضلالة حيث تدعونا إلى ترك عبادة الأصنام والإقبال على عبادة الله وحده كما تعجب الملأ من قريش من الدعوة إلى إله واحد فقالوا (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) [ص : ٥] الآية. (قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي لست كما تزعمون بل جئتكم بالحق من الله الذي خلق كل شيء فهو رب كل شيء ومليكه (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) وهذه الصفات التي يتصف بها الرسل البلاغ والنصح والأمانة.

__________________

(١) المدرة : الطين رمل فيه.

(٢) الأراك والسدر : نبتتان.

(٣) تفسير الطبري ٥ / ٥٢٣.

٣٨٩

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) أي لا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولا من أنفسكم لينذركم ايام الله ولقاءه بل احمدوا الله على ذاكم (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) أي واذكروا نعمة الله عليكم في جعلكم من ذرية نوح الذي أهلك الله أهل الأرض بدعوته لما خالفوه وكذبوه (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) أي زاد طولكم على الناس بسطة أي جعلكم أطول من أبناء جنسكم كقوله في قصة طالوت (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) [البقرة : ٢٤٧] (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) أي نعمة ومننه عليكم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) والآلاء جمع أل وقيل ألى.

(قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) (٧٢)

يخبر تعالى عن تمردهم وطغيانهم وعنادهم وإنكارهم على هود عليه‌السلام (قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ) الآية كقول الكفار من قريش (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره أنهم كانوا يعبدون أصناما فصنم يقال له صدا وآخر يقال صمود وآخر يقال له الهباء ولهذا قال هود عليه‌السلام (قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) أي قد وجب عليكم بمقالتكم هذه من ربكم رجس قيل هو مقلوب من رجز وعن ابن عباس معناه سخط وغضب.

(أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) أي أتحاجوني في هذه الأصنام التي سميتموها أنتم وآباؤكم الهة وهي لا تضر ولا تنفع ولا جعل الله لكم على عبادتها حجة ولا دليلا ولهذا قال (ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) وهذا تهديد ووعيد من الرسول لقومه ولهذا عقبه بقوله (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ).

وقد ذكر الله سبحانه صفة إهلاكهم في أماكن أخر من القرآن بأنه أرسل عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم كما قال في الآية الأخرى (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) [الحاقة : ٦ ـ ٨] لما تمردوا وعتوا أهلكهم الله بريح عاتية فكانت تحمل الرجل منهم فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أم رأسه فتثلغ رأسه حتى تبينه من بين جثته ولهذا قال (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ).

وقال محمد بن إسحاق كانوا يسكنون باليمن بين عمان وحضرموت وكانوا مع ذلك قد

٣٩٠

فشوا في الأرض وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله فبعث الله إليهم هودا عليه‌السلام وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم موضعا فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يجعلوا معه إلها غيره وأن يكفوا عن ظلم الناس فأبوا عليه وكذبوه وقالوا من أشد منا قوة واتبعه منهم ناس وهم يسير يكتمون إيمانهم فلما عتت عاد على الله وكذبوا نبيه وأكثروا في الأرض الفساد وتجبروا وبنوا بكل ريع آية عبثا بغير نفع كلمهم هود فقال (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) [الشعراء : ١٢٨ ـ ١٣١] (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) أي بجنون (قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود : ٥٣ ـ ٥٦].

قال محمد بن إسحاق : فلما أبوا إلا الكفر به أمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين فيما يزعمون حتى جهدهم ذلك قال : وكان الناس إذا جهدهم أمر في ذلك الزمان وطلبوا من الله الفرج فيه إنما يطلبونه بحرمة ومكان بيته وكان معروفا عند أهل ذلك الزمان وبه العماليق مقيمون وهم من سلالة عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وكان سيدهم إذ ذاك رجلا يقال هل معاوية بن بكر وكانت له أم من قوم عاد واسمها كلهدة ابنة الخيبري قال فبعثت عاد وفدا قريبا من سبعين رجلا إلى الحرم ليستسقوا لهم عند الحرم فمروا بمعاوية بن بكر بظاهر مكة فنزلوا عليه فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان : قينتان لمعاوية وكانوا قد وصلوا إليه في شهر فلما طال مقامهم عنده وأخذته شفقة على قومه واستحيا منهم أن يأمرهم بالانصراف عمل شعرا يعرض لهم بالانصراف وأمر القينتين أن تغنياهم به فقال : [الوافر]

ألا يا قيل ويحك قم فهينم

لعلّ الله يصبحنا غماما (١)

فيسقي أرض عاد إن عادا

قد أمسوا لا يبينون الكلاما

من العطش الشديد وليس نرجو

به الشيخ الكبير ولا الغلاما

وقد كانت نساؤهم بخير

فقد أمست نساؤهم عيامى

وإن الوحش تأتيهم جهارا

ولا تخشى لعادي سهاما

وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم

نهاركم وليلكم التماما

فقبح وفدكم من وفد قوم

ولا لقّوا التحية والسلاما

قال : فعند ذلك تنبه القوم لما جاءوا له فنهضوا على الحرم ودعوا لقومهم فدعا داعيهم وهو فيل بن عنز فأنشأ الله سحابات ثلاثا بيضاء وسوداء وحمراء ثم ناداه مناد من السماء اختر لنفسك

__________________

(١) الأبيات في تفسير الطبري ٥ / ٥٢٥ ، ٥٢٦ ، والبيت الأول في كتاب العين ٤ / ٦٠.

٣٩١

أو لقومك من هذا السحاب فقال : اخترت هذه السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماء فناداه مناد اخترت رمادا رمددا ، لا تبقي من عاد أحدا لا والدا تترك ولا ولدا ، إلا جعلته همدا ، إلا بني اللوذية المهندا ، قال وبنو اللوذية بطن من عاد يقيمون بمكة فلم يصبهم ما أصاب قومهم قال وهم من بقي من أنسالهم وذراريهم عاد الآخرة.

قال : وساق الله السحابة السوداء فيما يذكرون التي اختارها قيل بن عنز بما فيها من النقمة إلى عاد حتى تخرج عليهم من واد يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا وقالوا هذا عارض ممطرنا يقول (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) [الأحقاف : ٢٤ ـ ٢٥] أي تهلك كل شيء مرت به فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح فيما يذكرون امرأة من عاد يقال لها مميد فلما تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت فلما أفاقت قالوا ما رأيت يا مميد؟ قالت ريحا فيها شبه النار أمامها رجال يقودونها فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما كما قال الله تعالى. والحسوم الدائمة فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك ، واعتزل هود عليه‌السلام فيما ذكر لي ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه ومن معه إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ الأنفس وإنها لتمر على عاد بالظعن ما بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة (١).

وذكر تمام القصة بطولها وهو سياق غريب فيه فوائد كثيرة وقد قال الله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) [هود : ٥٨].

وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده قريب مما أورده محمد بن إسحاق بن يسار رحمه‌الله.

قال الإمام أحمد (٢) حدثنا زيد بن الحباب حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي حدثنا عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن الحارث البكري قال : خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمررت بالربذة فإذا بعجوز من بني تميم منقطع بها فقالت لي : يا عبد الله إن لي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاجة هل أنت مبلغي إليه قال فحملتها فأتيت المدينة فإذا المسجد غاص بأهله وإذا راية سوداء تخفق وإذا بلال متقلد سيفا بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : ما شأن الناس؟ قالوا : يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها قال فجلست فدخل منزله أو قال رحله فاستأذنت عليه فأذن لي فدخلت وسلمت فقال : هل بينكم وبين تميم شيء قلت : نعم وكانت لنا الدائرة عليهم.

ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها فسألتني أن أحملها إليك وها هي بالباب فأذن لها

__________________

(١) الحديث بتمامه في تفسير الطبري ٥ / ٥٢٤ ، ٥٢٥ ، ٥٢٦ ، ٥٢٧.

(٢) المسند ٣ / ٤٨٢.

٣٩٢

فدخلت فقلت يا رسول الله إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزا فاجعل الدهناء فحميت العجوز واستوفزت وقالت يا رسول الله فإلى أين يضطر مضطرك قال قلت : إن مثلي مثل ما قال الأول : معزى حملت حتفها ، حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما أعوذ بالله وبرسوله أن أكون كوافد عاد قال لي «وما وافد عاد؟» وهو أعلم بالحديث منه ولكن يستطعمه قلت إن عادا قحطوا فبعثوا وافدا لهم يقال له قيل فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان يقال لهما الجرادتان فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مهرة فقال اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه ، ولا إلى أسير فأفاديه. اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه ، فمرت به سحابات سود فنودي منها اختر فأومأ إلى سحابة منها سوداء فنودي منها خذها رمادا رمددا ، لا تبقي من عاد أحدا قال : فما بلغني أنه بعث الله عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا حتى هلكوا. قال أبو وائل وصدق قال : وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدا لهم قالوا لا تكن كوافد عاد (١).

هكذا رواه الإمام أحمد في المسند ، ورواه الترمذي عن عبد بن حميد عن زيد بن الحباب به نحوه ، ورواه النسائي من حديث سلام بن أبي المنذر عن عاصم وهو ابن بهدلة ومن طريقه رواه ابن ماجة أيضا عن أبي وائل عن الحارث بن حسان البكري به ورواه ابن جرير (٢) عن أبي كريب عن زيد بن حباب به ووقع عنده عن الحارث بن يزيد البكري فذكره ورواه أيضا عن أبي كريب عن أبي بكر بن عياش عن عاصم عن الحارث بن حسان البكري فذكره ولم أر في النسخة أبا وائل والله أعلم.

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) (٧٨)

قال علماء التفسير والنسب ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح وهو أخو جديس بن عاثر

__________________

(١) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٥١ ، باب ١.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٥٢٧ ، ٥٢٨.

٣٩٣

وكذلك قبيلة طسم كل هؤلاء كانوا أحياء من العرب العاربة قبل إبراهيم الخليل عليه‌السلام وكانت ثمود بعد عاد ومساكنهم مشهورة فيما بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله وقد مر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على ديارهم ومساكنهم وهو ذاهب إلى تبوك في سنة تسع.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الصمد حدثنا صخر بن جويرية عن نافع عن ابن عمر قال : لما نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالناس على تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود فعجنوا منها ونصبوا لها القدور فأمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأهرقوا القدور وعلفوا العجين الإبل ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا وقال «إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم».

وقال أحمد (٢) أيضا : حدثنا عفان حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بالحجر «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم» (٣) وأصل هذا الحديث مخرج في الصحيحين من غير وجه.

وقال الإمام أحمد (٤) أيضا : حدثنا يزيد بن هارون المسعودي عن إسماعيل بن أوسط عن محمد بن أبي كبشة الأنماري عن أبيه قال لما كان في غزوة تبوك تسارع الناس إلى أهل الحجر يدخلون عليهم فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنادى في الناس «الصلاة جامعة» قال فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ممسك بعنزة وهو يقول «ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم» فناداه رجل منهم نعجب منهم يا رسول الله؟ قال «أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك. رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وبما هو كائن بعدكم فاستقيموا وسددوا فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئا وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا» لم يخرجه أحد من أصحاب السنن وأبو كبشة اسمه عمر بن سعد ويقال عامر بن سعد والله أعلم.

وقال الإمام أحمد (٥) حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الزبير عن جابر قال لما مر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحجر قال «لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح فكانت ـ يعني الناقة ـ ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج فعتوا عن أمر ربهم فعقروها وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما فعقروها فأخذتهم صيحة أهمد الله من تحت أديم السماء

__________________

(١) المسند ٢ / ١١٧.

(٢) المسند ٢ / ٧٤.

(٣) أخرجه البخاري في الصلاة باب ٥٣ ، ومسلم في الزهد حديث ٣٨ ، ٣٩.

(٤) المسند ٤ / ٢٣١.

(٥) المسند ٣ / ٢٩٦.

٣٩٤

منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله» فقالوا : من هو يا رسول الله؟ قال «أبو رغال فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه» وهذا الحديث ليس في شيء من الكتب الستة وهو على شرط مسلم.

قوله تعالى : (وَإِلى ثَمُودَ) أي ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) فجميع الرسل يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥] وقال (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل : ٣٦] وقوله (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) أي قد جاءتكم حجة من الله على صدق ما جئتكم به وكانوا هم الذين سألوا صالحا أن يأتيهم بآية واقترحوا عليه بأن تخرج لهم من صخرة صماء عينوها بأنفسهم وهي صخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاتبة فطلبوا منه أن تخرج لهم منها ناقة عشراء تمخض (١) فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم الله إلى سؤالهم وأجابهم إلى طلبتهم ليؤمنن به وليتبعنه.

فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم قام صالح عليه‌السلام إلى صلاته ودعا الله عزوجل فتحركت تلك الصخرة ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء يتحرك جنينها بين جنبيها كما سألوا فعند ذلك آمن رئيسهم جندع بن عمرو ومن كان معه على أمره وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا فصدهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صمعر بن جلهس وكان لجندع بن عمرو ابن عم يقال له : شهاب بن خليفة بن مخلاة بن لبيد بن جواس وكان من أشراف ثمود وأفاضلها فأراد أن يسلم أيضا فنهاه أولئك الرهط فأطاعهم فقال في ذلك رجل من مؤمني ثمود يقال له مهوش بن عثمة بن الدميل رحمه‌الله : [الوافر]

وكانت عصبة من آل عمرو

إلى دين النبي دعوا شهابا (٢)

عزيز ثمود كلهم جميعا

فهمّ بأن يجيب فلو أجابا

لأصبح صالح فينا عزيزا

وما عدلوا بصاحبهم ذؤابا

ولكن الغواة من آل حجر

تولوا بعد رشدهم ذئابا

وأقامت الناقة وفصيلها بعد ما وضعته بين أظهرهم مدة تشرب من بئرها يوما وتدعه لهم يوما وكانوا يشربون لبنها يوم شربها يحتلبونها فيملئون ما شاؤوا من أوعيتهم وأوانيهم كما قال في الآية الأخرى (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) [القمر : ٢٨] وقال تعالى: (هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الشعراء : ١٥٥] وكانت تسرح في بعض تلك الأودية

__________________

(١) تمخض : أي يأخذها الطلق.

(٢) الأبيات في تفسير الطبري ٥ / ٥٣٢. وفيه : مهوس بن عثمة بن الدميل.

٣٩٥

ترد من فج وتصدر من غيره ليسعها لأنها كانت تتضلع من الماء وكانت على ما ذكر خلقا هائلا ومنظرا رائعا إذا مرت بأنعامهم نفرت منها فلما طال عليهم ذلك واشتد تكذيبهم لصالح النبي عليه‌السلام عزموا على قتلها ليستأثروا بالماء كل يوم فيقال إنهم اتفقوا كلهم على قتلها ، قال قتادة بلغني أن الذي قتلها طاف عليهم كلهم أنهم راضون بقتلها حتى على النساء في خدورهن وعلى الصبيان قلت وهذا هو الظاهر لقوله تعالى : (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها) [الشمس : ١٤] وقال (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها) وقال (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) فأسند ذلك على مجموع القبيلة فدل على رضى جميعهم بذلك والله أعلم.

وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير (١) وغيره من علماء التفسير أن سبب قتلها أن امرأة منهم يقال لها عنيزة ابنة غنم بن مجلز وتكنى أم غنم كانت عجوزا كافرة وكانت من أشد الناس عداوة لصالح عليه‌السلام ، وكانت لها بنات حسان ومال جزيل وكان زوجها ذؤاب بن عمرو أحد رؤساء ثمود وامرأة أخرى يقال لها صدوف بنت المحيا بن زهير بن المختار ذات حسب ومال وجمال وكانت تحت رجل مسلم من ثمود ففارقته فكانتا تجعلان لمن التزم لهما بقتل الناقة ، فدعت صدوف رجلا يقال له الحباب ، فعرضت عليه نفسها إن هو عقر الناقة فأبى عليها فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهرج بن المحيا فأجابها إلى ذلك ودعت عنيزة بنت غنم قدار بن سالف بن جذع وكان رجلا أحمر أزرق قصيرا يزعمون أنه كان ولد زنية وأنه لم يكن من أبيه الذي ينسب إليه وهو سالف ، وإنما هو من رجل يقال له صهياد ولكن ولد على فراش سالف.

وقالت له : أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة فعند ذلك انطلق قدار بن سالف ، ومصدع بن مهرج فاستغويا غواة من ثمود فاتبعهما سبعة نفر فصاروا تسعة رهط وهم الذين قال الله تعالى : (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) [النمل : ٤٨] وكانوا رؤساء في قومهم فاستمالوا القبيلة الكافرة بكمالها فطاوعتهم على ذلك فانطلقوا فرصدوا الناقة حين صدرت من الماء ، وقد كمن لها قدار بن سالف في أصل صخرة على طريقها وكمن لها مصدع في أصل أخرى ، فمرت على مصدع فرماها بسهم ، فانتظم به عضلة ساقها.

وخرجت أم غنم عنيزة وأمرت ابنتها وكانت من أحسن الناس وجها فسفرت عن وجهها لقدار وذمّرته وشد على الناقة بالسيف فكشف عن عرقوبها فخرت ساقطة إلى الأرض ورغت رغاة واحدة تحذر سقبها ثم طعن في لبتها فنحرها وانطلق سقبها وهو فصيلها حتى أتى جبلا منيعا فصعد أعلى صخرة فيه ورغا ، فروى عبد الرزاق عن معمر عمن سمع الحسن البصري أنه قال : يا رب أين أمي؟ ويقال إنه رغا ثلاث مرات وإنه دخل في صخرة فغاب فيها ، ويقال بل اتبعوه فعقروه مع أمه فالله أعلم ، فلما فعلوا ذلك وفرغوا من عقر الناقة وبلغ الخبر صالحا عليه‌السلام ، فجاءهم وهم مجتمعون ، فلما

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٥٣٣.

٣٩٦

رأى الناقة بكى وقال (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) [هود : ٦٥] الآية.

وكان قتلهم الناقة يوم الأربعاء ، فلما أمسى أولئك التسعة الرهط عزموا على قتل صالح وقالوا : إن كان صادقا عجلناه قبلنا وإن كان كاذبا ألحقناه بناقته (قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ) الآية.

فلما عزموا على ذلك وتواطؤوا عليه وجاءوا من الليل ليفتكوا بنبي الله ، فأرسل الله سبحانه وتعالى وله العزة ولرسوله عليهم حجارة فرضختهم سلفا وتعجيلا قبل قومهم ، وأصبح ثمود يوم الخميس وهو اليوم الأول من أيام النظرة ووجوههم مصفرة كما وعدهم صالح عليه‌السلام ، وأصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل وهو يوم الجمعة ووجوههم محمرة ، وأصبحوا في اليوم الثالث من أيام المتاع وهو يوم السبت ووجوههم مسودة.

فلما أصبحوا من يوم الأحد وقد تحنطوا وقعدوا ينتظرون نقمة الله وعذابه عياذا بالله من ذلك لا يدرون ماذا يفعل بهم ولا كيف يأتيهم العذاب ، وأشرقت الشمس جاءتهم صيحة من السماء ورجفة شديدة من أسفل منهم ، ففاضت الأرواح وزهقت النفوس في ساعة واحدة (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) أي صرعى لا أرواح فيهم ولم يفلت منهم أحد لا صغير ولا كبير لا ذكر ولا أنثى ، قالوا : إلا جارية كانت مقعدة واسمها كلبة ابنة السلق ، ويقال لها الزريقة ، وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه‌السلام ، فلما رأت ما رأت من العذاب أطلقت رجلاها ، فقامت تسعى كأسرع شيء فأتت حيا من الأحياء فأخبرتهم بما رأت وما حل بقومها ثم استسقتهم من الماء ، فلما شربت ماتت.

قال علماء التفسير : ولم يبق من ذرية ثمود أحد سوى صالح عليه‌السلام ومن تبعه رضي الله عنهم ، إلا أن رجلا يقال له أبو رغال كان لما وقعت النقمة بقومه مقيما إذ ذاك في الحرم فلم يصبه شيء فلما خرج في بعض الأيام إلى الحل جاءه حجر من السماء فقتله ، وقد تقدم في أول القصة حديث جابر بن عبد الله في ذلك وذكروا أن أبا رغال هذا هو والد ثقيف الذين كانوا يسكنون الطائف.

قال عبد الرزاق عن معمر : أخبرني إسماعيل بن أمية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بقبر أبي رغال فقال «أتدرون من هذا؟» قالوا الله ورسوله أعلم ، قال «هذا قبر أبي رغال رجل من ثمود كان في حرم الله فمنعه حرم الله عذاب الله ، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن هاهنا ودفن معه غصن من ذهب ، فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم فبحثوا عنه فاستخرجوا الغصن» وقال عبد الرزاق : قال معمر : قال الزهري : أبو رغال أبو ثقيف هذا مرسل من هذا الوجه.

وقد روي متصلا من وجه آخر كما قال محمد بن إسحاق : عن إسماعيل بن أمية عن

٣٩٧

بجير بن أبي بجير قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر ، فقال «هذا قبر أبي رغال وهو أبو ثقيف وكان من ثمود وكان بهذا الحرم فدفع عنه. فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه ، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه ، فابتدره الناس فاستخرجوا منه الغصن» وهكذا رواه أبو داود (١) ، عن يحيى بن معين عن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه عن ابن إسحاق به ، قال شيخنا أبو الحجاج المزي : وهو حديث حسن عزيز.

(قلت) تفرد بوصله بجير بن أبي بجير هذا ، وهو شيخ لا يعرف إلا بهذا الحديث ، قال يحيى بن معين : ولم أسمع أحدا روى عنه غير إسماعيل بن أمية ، (قلت) وعلى هذا فيخشى أن يكون وهم في رفع هذا الحديث. وإنما يكون من كلام عبد الله بن عمرو مما أخذه من الزاملتين ، قال شيخنا أبو الحجاج بعد أن عرضت عليه ذلك وهذا محتمل والله أعلم.

(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) (٧٩)

هذا تقريع من صالح عليه‌السلام لقومه ، لما أهلكهم الله بمخالفتهم إياه وتمردهم على الله وإبائهم عن قبول الحق وإعراضهم عن الهدى إلى العمى ، قال لهم صالح ذلك بعد هلاكهم ، تقريعا وتوبيخا وهم يسمعون ذلك ، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما ظهر على أهل بدر أقام هناك ثلاثا ، ثم أمر براحلته فشدت بعد ثلاث من آخر الليل فركبها ثم سار حتى وقف على القليب قليب بدر ، فجعل يقول «يا أبا جهل بن هشام يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة ويا فلان هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ، فإني وجدت ما وعدني ربي حقا» فقال له عمر : يا رسول الله ما تكلم من أقوام قد جيفوا؟ فقال «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكن لا يجيبون» (٢).

وفي السيرة أنه عليه‌السلام قال لهم «بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم كذبتموني وصدقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس ، وقاتلتموني ونصرني الناس ، فبئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم».

وهكذا صالح عليه‌السلام قال لقومه (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) أي فلم تنتفعوا بذلك لأنكم لا تحبون الحق ولا تتبعون ناصحا ، ولهذا قال (وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) وقد ذكر بعض المفسرين : أن كل نبي هلكت أمته كان يذهب فيقيم في الحرم حرم مكة ، والله أعلم.

__________________

(١) كتاب الإمارة باب ٤١.

(٢) تقدم الحديث مع تخريجه في تفسير الآية ٤٤ من هذه السورة.

٣٩٨

وقد قال الإمام أحمد (١) : حدثنا وكيع ، حدثنا زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما مر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوادي عسفان حين حج قال «يا أبا بكر أي راد هذا؟» قال هذا وادي عسفان ، قال «لقد مر به هود وصالح عليهما‌السلام على بكرات خطمهن الليف أزرهم العباء وأرديتهم النمار ، يلبون يحجون البيت العتيق» هذا حديث غريب من هذا الوجه لم يخرجه أحد منهم.

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (٨١)

يقول تعالى (وَ) لقد أرسلنا (لُوطاً) أو تقديره واذكر لوطا (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) ولوط هو ابن هاران بن آزر وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليهما‌السلام ، وكان قد آمن مع إبراهيم عليه‌السلام وهاجر معه إلى أرض الشام فبعثه الله إلى أهل سدوم وما حولها من القرى ، يدعوهم إلى الله عزوجل ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والمحارم والفواحش التي اخترعوها لم يسبقهم بها أحد من بني آدم ولا غيرهم ، وهو إتيان الذكور دون الإناث ، وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه ولا يخطر ببالهم ، حتى صنع ذلك أهل سدوم عليهم لعائن الله.

قال عمرو بن دينار في قوله (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) قال : ما نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط (٢) ، وقال الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي باني جامع دمشق : لو لا أن الله عزوجل قص علينا خبر قوم ولوط ما ظننت أن ذكرا يعلو ذكرا ، ولهذا قال لهم لوط عليه‌السلام (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) أي عدلتم عن النساء وما خلق لكم ربكم منهن إلى الرجال وهذا إسراف منكم وجهل لأنه وضع الشيء في غير محله ، ولهذا قال لهم في الآية الأخرى (هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) [الحجر : ٧١] فأرشدهم إلى نسائهم فاعتذروا إليه بأنهم لا يشتهونهن ، (قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) [هود : ٧٩] أي لقد علمت أنه لا أرب لنا في النساء ولا إرادة ، وإنك لتعلم مرادنا من أضيافك ، وذكر المفسرون أن الرجال كانوا قد استغنى بعضهم ببعض وكذلك نساؤهم كن قد استغنين بعضهن ببعض أيضا.

(وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (٨٢)

__________________

(١) المسند ١ / ٢٣٤.

(٢) انظر تفسير الطبري ٥ / ٥٤٠.

٣٩٩

أي ما أجابوا لوطا إلا أن هموا بإخراجه ونفيه ومن معه من بين أظهرهم ، فأخرجه الله تعالى سالما وأهلكهم في أرضهم صاغرين مهانين ، وقوله تعالى : (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) قال قتادة : عابوهم بغير عيب (١) ، وقال مجاهد : إنهم أناس يتطهرون من أدبار الرجال وأدبار النساء. وروي مثله عن ابن عباس أيضا (٢).

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (٨٤)

يقول تعالى فأنجينا لوطا وأهله ولم يؤمن به أحد منهم سوى أهل بيته فقط ، كما قال تعالى : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الذاريات : ٣٥ ـ ٣٦] إلا امرأته فإنها لم تؤمن به ، بل كانت على دين قومها تمالئهم عليه وتعلمهم بمن يقدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم ، ولهذا لما أمر لوط عليه‌السلام ليسري بأهله أمر أن لا يعلمها ولا يخرجها من البلد ، ومنهم من يقول : بل اتبعتهم فلما جاء العذاب التفتت هي فأصابها ما أصابهم ، والأظهر أنها لم تخرج من البلد ولا أعلمها لوط بل بقيت معهم ، ولهذا قال هاهنا (إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أي الباقين ، وقيل من الهالكين وهو تفسير باللازم.

وقوله (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) مفسر بقوله (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) [هود : ٨٢ ـ ٨٣] ولهذا قال (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) أي انظر يا محمد كيف كان عاقبة من يجترئ على معاصي الله عزوجل ويكذب رسله.

وقد ذهب الإمام أبو حنيفة رحمه‌الله إلى أن اللائط يلقى من شاهق ويتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط ، وذهب آخرون من العلماء إلى أنه يرجم سواء كان محصنا أو غير محصن وهو أحد قولي الشافعي رحمه‌الله والحجة ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو بن أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (٣) وقال آخرون هو كالزاني فإن كان محصنا رجم ، وإن لم يكن محصنا جلد مائة جلدة ، وهو القول الآخر للشافعي ، وأما إتيان النساء في الأدبار فهو اللوطية الصغرى ، وهو حرام بإجماع العلماء إلا قولا شاذا لبعض السلف ، وقد ورد في النهي عنه أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد تقدم

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٥ / ٥٤١.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٥٤١.

(٣) أخرجه الترمذي في الحدود باب ٢٤ ، وابن ماجة في الحدود باب ١٢.

٤٠٠