تفسير القرآن العظيم - ج ٣

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٣

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٩٥

التقوى خشية الله ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ولباس التقوى يتقي الله فيواري عورته فذاك لباس التقوى ، وكلها متقاربة.

ويؤيد ذلك الحديث الذي رواه ابن جرير (١) حيث قال : حدثني المثنى حدثنا إسحاق بن الحجاج ، حدثني إسحاق بن إسماعيل عن سليمان بن أرقم عن الحسن ، قال : رأيت عثمان بن عفان رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه قميص فوهي محلول الزر ، وسمعته يأمر بقتل الكلاب وينهى عن اللعب بالحمام ، ثم قال : يا أيها الناس اتقوا الله في هذه السرائر ، فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «والذي نفس محمد بيده ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر» ثم قرأ هذه الآية (وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) قال : السمت الحسن ، هكذا رواه ابن جرير من رواية سليمان بن أرقم ، وفيه ضعف.

وقد روى الأئمة الشافعي وأحمد والبخاري في كتاب الأدب من طرق صحيحة عن الحسن البصري ، أنه سمع أمير المؤمنين عثمان بن عفان يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام يوم الجمعة على المنبر (٢) ، وأما المرفوع منه فقد روى الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير له شاهدا من وجه آخر حيث قال حدثنا (٣) (....).

(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٢٧)

يحذر تعالى بني آدم من إبليس وقبيله ، مبينا لهم عداوته القديمة لأبي البشر آدم عليه‌السلام ، في سعيه في إخراجه من الجنة التي هي دار النعيم إلى دار التعب والعناء ، والتسبب في هتك عورته بعد ما كانت مستورة عنه ، وما هذا إلا عن عداوة أكيدة ، وهذا كقوله تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) [الكهف : ٥٠]

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٠)

قال مجاهد : كان المشركون يطوفون بالبيت عراة يقولون نطوف كما ولدتنا أمهاتنا فتضع

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٤٥٩.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٧٢.

(٣) بياض بالأصل.

٣٦١

المرأة على قبلها النسعة (١) أو الشيء وتقول : [رجز]

اليوم يبدو بعضه أو كلّه

وما بدا منه فلا أحلّه (٢)

فأنزل الله (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) الآية ، قلت : كانت العرب ما عدا قريشا لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها ، وكانت قريش وهم الحمس يطوفون في ثيابهم ، ومن أعاره أحمسي ثوبا طاف فيه ، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه فلا يتملكه أحد ، ومن لم يجد ثوبا جديدا ، ولا أعاره أحمسي ثوبا طاف عريانا ، وربما كانت امرأة فتطوف عريانة فتجعل على فرجها شيئا ليستره بعض الستر فتقول : [رجز]

اليوم يبدو بعضه أو كلّه

وما بدا منه فلا أحلّه

وأكثر ما كان النساء يطفن عراة بالليل ، وكان هذا شيئا قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم واتبعوا فيه آباءهم ، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع ، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك ، فقال (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) فقال تعالى ردا عليهم (قُلْ) أي يا محمد لمن ادعى ذلك (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) أي هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة ، والله لا يأمر بمثل ذلك (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي أتسندون إلى الله من الأقوال ما لا تعلمون صحته ، وقوله تعالى : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) أي بالعدل والاستقامة (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات ، فيما أخبروا به عن الله وما جاءوا به من الشرائع وبالإخلاص له في عبادته ، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين ، أن يكون صوابا موافقا للشريعة وأن يكون خالصا من الشرك.

وقوله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) إلى قوله (الضَّلالَةُ) اختلف في معنى قوله (ما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) فقال ابن أبي نجيح : عن مجاهد (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) يحييكم بعد موتكم (٣) ، وقال الحسن البصري : كما بدأكم في الدنيا كذلك تعودون يوم القيامة أحياء ، وقال قتادة (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) قال : بدأ فخلقهم ولم يكونوا شيئا ثم ذهبوا ثم يعيدهم ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كما بدأكم أولا كذلك يعيدكم آخرا ، واختار هذا القول أبو جعفر بن جرير ، وأيده بما رواه من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج كلاهما عن

__________________

(١) النسعة : قصعة من جلد ، توضع على صدر البعير.

(٢) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (حرم) ، وتاج العروس (ضبع) ، وتهذيب اللغة ٥ / ٤٨ ، وتفسير الطبري ٥ / ٤٦٣.

(٣) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٦٧.

٣٦٢

المغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بموعظة فقال «يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين» (١).

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث شعبة ، وفي صحيح البخاري أيضا من حديث الثوري به ، وقال ورقاء بن إياس أبو يزيد عن مجاهد (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) قال يبعث المسلم مسلما والكافر كافرا وقال أبو العالية (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) ردّوا إلى علمه فيهم وقال سعيد بن جبير كما بدأكم تعودون كما كتب عليكم تكونون ، وفي رواية كما كنتم عليه تكونون ، وقال محمد بن كعب القرظي : في قوله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه وإن عمل بأعمال أهل السعادة ، ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إلى ما ابتدئ خلقه عليه وإن عمل بأعمال أهل الشقاء ، كما أن السحرة عملوا بأعمال أهل الشقاء ثم صاروا إلى ما ابتدءوا عليه ، وقال السدي (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) يقول (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) كما خلقناكم فريق مهتدون وفريق ضلال ، كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم (٢).

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : قوله (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) قال : إن الله تعالى بدأ خلق ابن آدم مؤمنا وكافرا ، كما قال (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأهم مؤمنا وكافرا (٣) : قلت : ويتأيد هذا القول بحديث ابن مسعود في صحيح البخاري «فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة» (٤).

وقال أبو القاسم البغوي : حدثنا علي بن الجعد ، حدثنا أبو غسان عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن العبد ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل الجنة وإنه من أهل النار ، وإنه ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة وإنما الأعمال بالخواتيم» (٥) هذا قطعة من حديث البخاري من حديث أبي غسان محمد بن مطرف المدني في قصة قزمان يوم أحد.

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٤٦٨.

(٢) انظر هذه الآثار في تفسير الطبري ٥ / ٤٦٦ ، ٤٦٧.

(٣) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٦٥.

(٤) أخرجه البخاري في القدر باب ١.

(٥) أخرجه البخاري في القدر باب ٥ ، والرقاق باب ٣٣.

٣٦٣

وقال ابن جرير (١) : حدثني ابن بشار حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «تبعث كل نفس على ما كانت عليه» وهذا الحديث رواه مسلم وابن ماجة من غير وجه ، عن الأعمش به ، ولفظه «يبعث كل عبد على ما مات عليه» (٢) وعن ابن عباس مثله ، قلت : ويتأيد بحديث ابن مسعود ، قلت : ولا بد من الجمع بين هذا القول إن كان هو المراد من الآية ، وبين قوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) [الروم : ٣٠] وما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» (٣).

وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول الله تعالى «إني خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم» (٤) الحديث ، ووجه الجمع على هذا ، أنه تعالى خلقهم ليكون منهم مؤمن وكافر في ثاني الحال ، وإن كان قد فطر الخلق كلهم على معرفته وتوحيده والعلم بأنه لا إله غيره ، كما أخذ عليهم الميثاق بذلك وجعله في غرائزهم وفطرهم ومع هذا قدر أن منهم شقيا ومنهم سعيدا (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ).

وفي الحديث «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» (٥) وقدر الله نافذ في بريته ، فإنه هو (الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) [الأعلى : ٣] و (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠] وفي الصحيحين «فأما من كان منكم من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة» (٦) ولهذا قال تعالى : (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) ثم علل ذلك فقال (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ) الآية.

قال ابن جرير (٧) : وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحدا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها ، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها فيركبها عنادا منه لربه فيها ، لأنه لو كان كذلك لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه مهتد ، وفريق الهدى فرق ، وقد فرق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية.

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٤٦٦.

(٢) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٨٣ ، وابن ماجة في الزهد باب ٢٦.

(٣) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٨٠ ، وتفسير سورة ٣٠ ، باب ١ ، ومسلم في القدر حديث ٢٢ ، ٢٣ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٣٣ ، ٣٩٣.

(٤) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٦٣.

(٥) أخرجه مسلم في الطهارة حديث ١.

(٦) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٨٢ ، ومسلم في القدر حديث ٦.

(٧) تفسير الطبري ٥ / ٤٦٩.

٣٦٤

(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (٣١)

هذه الآية الكريمة رد على المشركين فيما كانوا يعتمدونه ، من الطواف بالبيت عراة كما رواه مسلم والنسائي وابن جرير ، واللفظ له من حديث شعبة عن سلمة بن كهيل عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : قال : كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء ، الرجال بالنهار والنساء بالليل ، وكانت المرأة تقول : [رجز]

اليوم يبدو بعضه أو كلّه

وما بدا منه فلا أحلّه (١)

فقال الله تعالى (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وقال العوفي : عن ابن عباس في قوله (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) الآية ، قال : كان رجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة. والزينة اللباس وهو ما يواري السوأة وما سوى ذلك من جيد البز والمتاع ، فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد ، وهكذا قال مجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وقتادة والسدي والضحاك ومالك ، عن الزهري وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها أنها نزلت في طواف المشركين بالبيت عراة ، وقد روى الحافظ ابن مردويه من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي ، عن قتادة ، عن أنس مرفوعا ، أنها نزلت في الصلاة في النعال ، ولكن في صحته نظر ، والله أعلم ، ولهذه الآية وما ورد في معناها من السنة يستحب التجمل عند الصلاة ، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد ، والطيب لأنه من الزينة والسواك لأنه من تمام ذلك.

ومن أفضل اللباس البياض كما قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا علي بن عاصم ، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن سعيد بن جبير وصححه عن ابن عباس مرفوعا ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم ، وكفنوا فيها موتاكم وإن خير أكحالكم الإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر» (٣) هذا حديث جيد الإسناد ، رجاله على شرط مسلم ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم به ، وقال الترمذي : حسن صحيح.

وللإمام أحمد أيضا وأهل السنن بإسناد جيد عن سمرة بن جندب قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «عليكم بثياب البياض فالبسوها فإنها أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم» (٤) وروى الطبراني بسند

__________________

(١) تقدم الرجز مع تخريجه قبل قليل في تفسير الآية ٢٨ من هذه السورة.

(٢) المسند ١ / ٢٤٧.

(٣) أخرجه أبو داود في اللباس باب ١٣ ، والطب باب ١٤ ، والترمذي في اللباس باب ٢٢ ، والطب باب ٩ ، وابن ماجة في الطب باب ٢٥.

(٤) أخرجه أبو داود في الطب باب ١٤ ، واللباس باب ١٣ ، والترمذي في الجنائز باب ١٨ ، والأدب باب ٤٦ ، والنسائي في الجنائز باب ٣٨ ، والزينة باب ٩٧ ، وابن ماجة في الجنائز باب ١٢ ، واللباس باب ٥ ، ـ

٣٦٥

صحيح عن قتادة عن محمد بن سيرين : أن تميما الداري اشترى رداء بألف وكان يصلي فيه ، وقوله تعالى (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) الآية ، قال بعض السلف جمع الله الطب كله في نصف آية (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) (١) (وَلا تُسْرِفُوا) وقال البخاري قال ابن عباس : كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة ، إسناده صحيح ، وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا بهز ، حدثنا همام عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف ، فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده» ورواه النسائي وابن ماجة من حديث قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة»(٤).

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا سليمان بن سليم الكناني ، حدثنا يحيى بن جابر الطائي سمعت المقدام بن معديكرب الكندي ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان فاعلا لا محالة ، فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه» (٦) ورواه النسائي والترمذي من طرق عن يحيى بن جابر به ، وقال الترمذي : حسن وفي نسخة حسن صحيح.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا سويد بن عبد العزيز ، حدثنا بقية عن يوسف بن أبي كثير عن نوح بن ذكوان عن الحسن عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت» ورواه الدار قطني في الأفراد ، وقال : هذا حديث غريب تفرد به بقية ، وقال السدي : كان الذين يطوفون بالبيت عراة يحرمون عليهم الودك ما أقاموا في الموسم ، فقال الله تعالى لهم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) الآية ، يقول لا تسرفوا في التحريم(٧) ، وقال مجاهد : أمرهم أن يأكلوا ويشربوا مما رزقهم الله ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم

__________________

ـ وأحمد في المسند ٥ / ١٠ ، ١٢ ، ١٣ ، ١٧ ، ١٨ ، ١٩ ، ٢١.

(١) أخرجه البخاري في اللباس باب ١.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٤٧١.

(٣) المسند ٢ / ١٨١ ، ١٨٢.

(٤) أخرجه ابن ماجة في اللباس باب ٢٣ ، والبخاري في اللباس باب ١ ، والنسائي في الزكاة باب ٦٦.

(٥) المسند ٤ / ١٣٢.

(٦) أخرجه الترمذي في الزهد باب ٤٧.

(٧) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٧٢.

٣٦٦

(وَلا تُسْرِفُوا) يقول : ولا تأكلوا حراما ذلك الإسراف ، وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس قوله (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) في الطعام والشراب ، وقال ابن جرير (١) : وقوله (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) يقول الله تعالى : إن الله لا يحب المتعدين حده في حلال أو حرام الغالين فيما أحل بإحلال الحرام أو بتحريم الحلال ، ولكنه يحب أن يحلل ما أحل ويحرم ما حرم وذلك العدل الذي أمر به.

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣٢)

يقول تعالى ردا على من حرم شيئا من المآكل أو المشارب أو الملابس من تلقاء نفسه من غير شرع من الله (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين ، الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم (مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) الآية ، أي هي مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا ، وإن شركهم فيها الكفار حبا في الدنيا فهي لهم خاصة يوم القيامة ، ولا يشركهم فيها أحد من الكفار ، فإن الجنة محرمة على الكافرين.

قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أبو حصين محمد بن الحسين القاضي ، حدثنا يحيى الحماني ، حدثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون ، فأنزل الله (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) فأمروا بالثياب (٢).

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٣)

قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا أحد أغير من الله فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحب إليه المدح من الله» (٣) أخرجاه في الصحيحين من حديث سليمان بن مهران الأعمش ، عن شقيق عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود ، وتقدم الكلام على ما يتعلق بالفواحش ما ظهر منها وما بطن في سورة الأنعام.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٧٢.

(٢) انظر الدر المنثور للسيوطي ٣ / ١٥٠ ، وفيه : فأمروا بالثياب أن يلبسوها.

(٣) أخرجه البخاري في النكاح باب ١٠٧ ، والتوحيد باب ١٥ ، وتفسير سورة ٦ ، باب ٧ ، وسورة ٧ ، باب ١ ، ومسلم في التوبة حديث ٣٢ ، ٣٣ ، ٣٤ ، ٣٥ ، والترمذي في الدعوات باب ٩٥ ، والدارمي في النكاح باب ٣٧ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٨١ ، ٤٢٦ ، ٤٣٦.

٣٦٧

وقوله (وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) قال السدي : أما الإثم فالمعصية والبغي أن تبغي على الناس بغير الحق ، وقال مجاهد ، الإثم المعاصي كلها وأخبر أن الباغي بغيه على نفسه ، وحاصل ما فسر به الإثم أنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه ، والبغي هو التعدي إلى الناس فحرم الله هذا وهذا ، وقوله تعالى : (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي تجعلوا له شركاء في عبادته (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) من الافتراء والكذب من دعوى أن له ولدا ونحو ذلك مما لا علم لكم به ، كقوله (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠] الآية.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٣٦)

يقول تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) أي قرن وجيل (أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) أي ميقاتهم المقدر لهم (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) ثم أنذر تعالى بني آدم أنه سيبعث إليهم رسلا يقصون عليهم آياته وبشر وحذر ، فقال (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ) أي ترك المحرمات وفعل الطاعات (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) أي كذبت بها قلوبهم واستكبروا عن العمل بها (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي ماكثون فيها مكثا مخلدا.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) (٣٧)

يقول (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) أي لا أحد أظلم ، ممن افترى الكذب على الله أو كذب بآياته المنزلة (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) اختلف المفسرون في معناه ، فقال العوفي عن ابن عباس : ينالهم ما كتب عليهم وكتب لمن كذب على الله أن وجهه مسودّ (١) ، وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس يقول : نصيبهم من الأعمال من عمل خيرا جزي به ، ومن عمل شرا جزي به (٢) ، وقال مجاهد : ما وعدوا به من خير وشر (٣) ، وكذا قال قتادة والضحاك وغير واحد. واختاره ابن جرير (٤).

وقال محمد بن كعب القرظي (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) قال : عمله ورزقه

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٨١.

(٢) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٧٩.

(٣) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٨٠.

(٤) تفسير الطبري ٥ / ٤٨٩.

٣٦٨

وعمره (١) ، وكذا قال الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وهذا القول قوي في المعنى ، والسياق يدل عليه وهو قوله (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) ونظير المعنى في هذه الآية كقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) [يونس : ٦٩ ـ ٧٠] وقوله (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً) [لقمان : ٢٣ ـ ٢٤] الآية.

وقوله (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) الآية ، يخبر تعالى أن الملائكة إذا توفت المشركين تفزعهم عند الموت وقبض أرواحهم إلى النار يقولون لهم : أين الذين كنتم تشركون بهم في الحياة الدنيا وتدعونهم وتعبدونهم من دون الله ، ادعوهم يخلصوكم مما أنتم فيه قالوا (ضَلُّوا عَنَّا) أي ذهبوا عنا فلا نرجو نفعهم ولا خيرهم (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي أقروا واعترفوا على أنفسهم (أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ).

(قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (٣٩)

يقول تعالى مخبرا عما يقوله لهؤلاء المشركين به ، المفترين عليه المكذبين بآياته (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) أي من أمثالكم وعلى صفاتكم (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي من الأمم السالفة الكافرة (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) يحتمل أن يكون بدلا من قوله في أمم ويحتمل أن يكون في أمم أي مع أمم ، وقوله (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) كما قال الخليل عليه‌السلام (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) [العنكبوت : ٢٥] الآية ، وقوله تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة : ١٦٦ ـ ١٦٧].

وقوله (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً) أي اجتمعوا فيها كلهم (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) أي أخراهم دخولا ، وهم الأتباع لأولاهم وهم المتبوعون ، لأنهم أشد جرما من أتباعهم فدخلوا قبلهم فيشكوهم الأتباع إلى الله يوم القيامة لأنهم هم الذين أضلوهم عن سواء السبيل فيقولون (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) أي أضعف عليهم العقوبة كما قال تعالى : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٨١.

٣٦٩

سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) [الأحزاب : ٦٦ ـ ٦٨] الآية ، وقوله (قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ) أي قد فعلنا ذلك وجازينا كلا بحسبه ، كقوله (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً) [النحل : ٨٨] الآية.

وقوله (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣] وقوله (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [النحل : ٢٥] الآية ، (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ) أي قال المتبوعون للأتباع (فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) قال السدي : فقد ضللتم كما ضللنا (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) وهذه الحال كما أخبر الله تعالى عنهم في حال محشرهم في قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [سبأ : ٣١ ـ ٣٣].

(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٤١)

قوله (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) قيل المراد لا يرفع لهم منها عمل صالح ولا دعاء ، قاله مجاهد وسعيد بن جبير ورواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وكذا رواه الثوري عن ليث عن عطاء عن ابن عباس ، وقيل المراد لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وقاله السدي وغير واحد ، ويؤيده ما قاله ابن جرير (١) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن المنهال هو ابن عمرو ، عن زاذان عن البراء أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر قبض روح الفاجر ، وأنه يصعد بها إلى السماء فيصعدون بها ، فلا تمر على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون فلان بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا ، حتى ينتهوا بها إلى السماء فيستفتحون بابها له فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) الآية ، هكذا رواه وهو قطعة من حديث طويل رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة من طرق عن المنهال بن عمرو به.

وقد رواه الإمام أحمد (٢) بطوله فقال : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو ، عن زاذان عن البراء بن عازب قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جنازة رجل من

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٤٨٦.

(٢) المسند ٤ / ٢٨٧ ، ٢٨٨.

٣٧٠

الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد ، فجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت به في الأرض ، فرفع رأسه فقال «استعيذوا بالله من عذاب القبر ـ مرتين أو ثلاثة ثم قال ـ إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة ، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مدّ البصر ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان.

قال : فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون : فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا ، فيستفتحون له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة ، فيقول الله عزوجل اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى.

قال : فتعاد روحه فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك؟ فيقول : ربي الله ، فيقولان له : ما دينك؟ فيقول : ديني الإسلام ، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول : هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقولان له : وما عملك؟ فيقول قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت ، فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها ، ويفسح له في قبره مد البصر.

قال : ويأتيه رجل حسن الوجه وحسن الثياب طيب الريح ، فيقول : أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول له : من أنت فوجهك الوجه يجيء بالخير؟ فيقول : أنا عملك الصالح فيقول : رب أقم الساعة رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي.

قال : وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة ، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب ، قال : فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض ، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة فيقولون : فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فلا يفتح له.

٣٧١

ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) فيقول الله عزوجل : اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى ، فتطرح روحه طرحا ـ ثم قرأ ـ (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) [الحج : ٣١] فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان : ما دينك؟ فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول : هاه هاه لا أدري فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر؟ فيقول : أنا عملك الخبيث فيقول رب لا تقم الساعة».

وقال الإمام أحمد (١) أيضا : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن يونس بن خباب عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء بن عازب قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جنازة فذكر نحوه وفيه حتى إذا خرج روحه صلّى عليه كل ملك السماء والأرض وكل ملك في السماء ، وفتحت له أبواب السماء ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله عزوجل أن يعرج بروحه من قبلهم ، وفي آخره ثم يقيض له أعمى أصم أبكم في يده مرزبة لو ضرب بها جبل كان ترابا فيضربه ضربة فيصير ترابا ثم يعيده الله عزوجل كما كان فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين ، قال البراء : ثم يفتح له باب من النار ويمهد له فرش من النار.

وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة وابن جرير واللفظ له من حديث محمد بن عمرو بن عطاء ، عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالوا : اخرجي أيتها النفس المطمئنة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان ، فيقولون ذلك حتى يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال من هذا؟ فيقولون فلان فيقال مرحبا بالنفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب أدخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان.

فيقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عزوجل ، وإذا كان الرجل السوء قالوا اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج ، فيقولون ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء ، فيستفتح لها فيقال من هذا؟ فيقولون فلان فيقولون لا مرحبا بالنفس الخبيثة التي كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة فإنه لم يفتح لك أبواب السماء فترسل بين السماء والأرض فتصير إلى

__________________

(١) المسند ٤ / ٢٩٥ ، ٢٩٦.

٣٧٢

القبر» (١).

وقد قال ابن جريج في قوله (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) لا تفتح لأعمالهم ولا لأرواحهم (٢) وهذا فيه جمع بين القولين ، والله أعلم.

وقوله تعالى (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) هكذا قرأه الجمهور وفسروه بأنه البعير قال ابن مسعود : هو الجمل ابن الناقة ، وفي رواية زوج الناقة (٣) وقال الحسن البصري : حتى يدخل البعير في خرم الإبرة (٤) وكذا قال أبو العالية والضحاك وكذا روى علي بن أبي طلحة العوفي عن ابن عباس ، وقال مجاهد وعكرمة عن ابن عباس : إنه كان يقرؤها (يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) بضم الجيم وتشديد الميم يعني الحبل الغليظ في خرم الإبرة ، وهذا اختيار سعيد بن جبير ، وفي رواية أنه قرأ حتى يلج الجمل يعني قلوس السفن وهي الحبال الغلاظ.

وقوله (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ) قال محمد بن كعب القرظي (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ) قال الفرش (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) قال اللحف (٥) وكذا قال الضحاك بن مزاحم والسدي (وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ).

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣)

لما ذكر تعالى حال الأشقياء عطف بذكر حال السعداء فقال (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي آمنت قلوبهم وعملوا الصالحات بجوارحهم ضد أولئك الذين كفروا بآيات الله واستكبروا عنها ، وينبه تعالى على أنه الإيمان والعمل به سهل لأنه تعالى قال (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) أي من حسد وبغض كما جاء في صحيح البخاري (٦) من حديث قتادة عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في الزهد باب ٣١ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٦٤ ، ٦ / ١٤٠ ، والطبري في تفسيره ٥ / ٤٨٦.

(٢) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٨٦.

(٣) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٨٨.

(٤) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٨٨ ، وفيه : في خرت الإبرة ، بدل : في خرم الإبرة.

(٥) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٩٢.

(٦) كتاب المظالم باب ١ ، والرقاق باب ٤٨.

٣٧٣

الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فو الذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أدل منه بمسكنه كان في الدنيا».

وقال السدي في قوله (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) الآية ، إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فشربوا من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلم يشعثوا ولم يشحبوا بعدها أبدا (١) ، وقد روى أبو إسحاق عن عاصم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب نحوا من هذا كما سيأتي في قوله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) [الزمر : ٧٣] إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.

وقال قتادة : قال علي رضي الله عنه إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) رواه ابن جرير (٢). وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن عيينة عن إسرائيل قال سمعت الحسن يقول قال علي : فينا والله أهل بدر نزلت (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ).

وروى النسائي وابن مردويه واللفظ له من حديث أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول لو لا أن الله هداني فيكون له شكرا وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول لو أن الله هداني فيكون له حسرة» ولهذا لما أورثوا مقاعد أهل النار من الجنة نودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ، أي بسبب أعمالكم نالتكم الرحمة فدخلتم الجنة وتبوأتم منازلكم بحسب أعمالكم. وإنما وجب الحمل على هذا لما ثبت في الصحيحين عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «واعلموا أن أحدكم لن يدخله عمله الجنة» قالوا ولا أنت يا رسول الله قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» (٣).

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) (٤٥)

يخبر تعالى بما يخاطب به أهل النار على وجه التقريع والتوبيخ إذا استقروا في منازلهم (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا) أن هاهنا مفسرة للقول المحذوف وقد للتحقيق أي قالوا لهم (قَدْ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٩٣.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٤٩٣.

(٣) أخرجه البخاري في الرقاق باب ١٨ ، والمرضى باب ١٩ ، ومسلم في المنافقين حديث ٧١ ، ٧٣ ، ٧٥ ، ٧٦ ، ٧٨.

٣٧٤

وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ) كما أخبر تعالى في سورة الصافات عن الذي كان له قرين من الكفار (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [الصافات : ٥٤ ـ ٥٩] أي : ينكر عليه مقالته التي يقولها في الدنيا ويقرعه بما صار إليه من العذاب والنكال وكذلك تقرعهم الملائكة يقولون لهم : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور : ١٤ ـ ١٦].

وكذلك قرّع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتلى القليب يوم بدر فنادى «يا أبا جهل بن هشام ويا عتبة بن ربيعة ويا شيبة بن ربيعة ـ وسمى رؤوسهم ـ هل وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني وجدت ما وعدني ربي حقا ، وقال عمر : يا رسول الله تخاطب قوما قد جيفوا؟ فقال «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا» (١).

وقوله تعالى : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ) أي أعلم معلم ونادى مناد (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) أي مستقرة عليهم ثم وصفهم بقوله (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي يصدون الناس عن اتباع سبيل الله وشرعه وما جاءت به الأنبياء ويبغون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة حتى لا يتبعها أحد (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) أي وهم بلقاء الله في الدار الآخرة كافرون أي جاحدون مكذبون بذلك لا يصدقونه ولا يؤمنون به فلهذا لا يبالون بما يأتون من منكر من القول والعمل لأنهم لا يخافون حسابا عليه ولا عقابا فهم شر الناس أقوالا وأعمالا.

(وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤٧)

لما ذكر تعالى مخاطبة أهل الجنة مع أهل النار نبه أن بين الجنة والنار حجابا وهو الحاجز المانع من وصول أهل النار إلى الجنة ، قال ابن جرير (٢) : وهو السور الذي قال الله تعالى فيه : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) [الحديد : ١٣] وهو الأعراف. الذي قال الله تعالى فيه : (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ) ثم روى بإسناده عن السدي أنه قال في قوله تعالى : (وَبَيْنَهُما حِجابٌ) وهو السور وهو الأعراف وقال مجاهد الأعراف حجاب بين الجنة والنار سور له باب ، قال ابن جرير (٣) : والأعراف جمع عرف وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى عرفا ، وإنما قيل لعرف الديك عرفا لارتفاعه.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٧٧.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٤٩٧.

(٣) تفسير الطبري ٥ / ٤٩٧.

٣٧٥

وحدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا ابن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد ، سمع ابن عباس يقول: الأعراف هو الشيء المشرف (١). وقال الثوري عن جابر عن مجاهد عن ابن عباس قال : الأعراف سور كعرف الديك (٢). وفي رواية عن ابن عباس : الأعراف جمع تل بين الجنة والنار حبس عليه ناس من أهل الذنوب بين الجنة والنار ، وفي رواية عنه هو سور بين الجنة والنار (٣). وكذا قال الضحاك وغير واحد من علماء التفسير. وقال السدي : إنما سمي الأعراف أعرافا لأن أصحابه يعرفون الناس.

واختلفت عبارات المفسرين في أصحاب الأعراف من هم؟ وكلها قريبة ترجع إلى معنى واحد وهو أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، نص عليه حذيفة وابن عباس وابن مسعود وغير واحد من السلف والخلف رحمهم‌الله ، وقد جاء في حديث مرفوع رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الله بن إسماعيل حدثنا عبيد بن الحسين حدثنا سليمان بن داود حدثنا النعمان بن عبد السلام حدثنا شيخ لنا يقال له أبو عباد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله قال سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمن استوت حسناته وسيئاته فقال «أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون» وهذا حديث غريب من هذا الوجه.

ورواه من وجه آخر عن سعيد بن سلمة عن أبي الحسام عن محمد بن المنكدر عن رجل من مزينة قال سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمن استوت حسناته وسيئاته فقال «إنهم قوم خرجوا عصاة بغير إذن آبائهم فقتلوا في سبيل الله» وقال سعيد بن منصور : حدثنا أبو معشر حدثنا يحيى بن شبل عن يحيى بن عبد الرحمن المزني عن أبيه قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أصحاب الأعراف قال «هم ناس قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم ومنعهم من النار قتلهم في سبيل الله» ورواه ابن مردويه وابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن أبي معشر به ، وكذا رواه ابن ماجة مرفوعا من حديث أبي سعيد الخدري وابن عباس ، والله أعلم بصحة هذه الأخبار المرفوعة ، وقصاراها أن تكون موقوفة وفيه دلالة على ما ذكر.

وقال ابن جرير (٤) : حدثني يعقوب حدثنا هشيم أخبرنا حصين عن الشعبي عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف قال فقال : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة وخلفت بهم حسناتهم عن النار ، قال فوقفوا هناك على السور حتى يقضي الله فيهم.

وقد رواه (٥) من وجه آخر أبسط من هذا فقال حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح حدثنا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٩٧.

(٢) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٩٧.

(٣) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٩٨.

(٤) تفسير الطبري ٥ / ٤٩٩.

(٥) تفسير الطبري ٥ / ٤٩٨.

٣٧٦

يونس بن أبي إسحاق قال : قال الشعبي أرسل إليّ عبد الحميد بن عبد الرحمن وعنده أبو الزناد عبد الله بن ذكوان مولى قريش فإذا هما قد ذكرا من أصحاب الأعراف ذكرا ليس كما ذكرا فقلت لهما : إن شئتما أنبأتكما بما ذكر حذيفة فقالا هات فقلت إن حذيفة ذكر أصحاب الأعراف فقال : هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار وقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم ربك فقال لهم اذهبوا فادخلوا الجنة فإني قد غفرت لكم.

وقال عبد الله بن المبارك عن أبي بكر الهذلي قال : قال سعيد بن جبير وهو يحدث ذلك عن ابن مسعود قال : يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار ثم قرأ قول الله : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) الآيتين ، ثم قال : الميزان يخف بمثقال حبة ، ويرجح قال : ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا سلام عليكم وإذا صرفوا أبصارهم إلى يسارهم نظروا أهل النار (قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) تعوذوا بالله من منازلهم قال : فأما أصحاب الحسنات فإنهم يعطون نورا يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم ويعطى كل عبد يومئذ نورا وكل أمة نورا فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون قالوا (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) وأما أصحاب الأعراف فإن النور كان بأيديهم فلم ينزع فهنالك يقول الله تعالى : (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) فكان الطمع دخولا.

قال : فقال ابن مسعود : إن العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشر وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا واحدة ثم يقول : هلك من غلبت واحدته أعشاره. رواه ابن جرير (١) وقال أيضا (٢) : حدثني ابن وكيع وابن حميد قالا : حدثنا جرير عن منصور عن حبيب بن أبي ثابت عن عبد الله بن الحارث عن ابن عباس قال : الأعراف السور الذي بين الجنة والنار وأصحاب الأعراف بذلك المكان حتى إذا بدا الله أن يعافيهم انطلق بهم إلى نهر يقال له نهر الحياة حافتاه قصب الذهب مكلل باللؤلؤ ترابه المسك فألقوا فيه حتى تصلح ألوانهم وتبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها حتى إذا صلحت ألوانهم أتى بهم الرحمن تبارك وتعالى فقال : تمنوا ما شئتم ، فيتمنون حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم : لكم الذي تمنيتم ومثله سبعون ضعفا ، فيدخلون الجنة وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها يسمون مساكين أهل الجنة ، وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن يحيى بن المغيرة عن جرير به ، وقد رواه سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت عن مجاهد وعن عبد الله بن الحارث من قوله وهذا أصح والله أعلم.

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٤٩٩.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٥٠٠.

٣٧٧

وهكذا روي عن مجاهد والضحاك وغير واحد وقال سعيد بن داود : حدثني جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن عمرو بن جرير قال سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أصحاب الأعراف قال «هم آخر من يفصل بينهم من العباد فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار ولم تدخلوا الجنة فأنتم عتقائي فارعوا من الجنة حيث شئتم» وهذا مرسل حسن ، وقيل هم أولاد الزنى حكاه القرطبي وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الوليد بن موسى عن شيبة بن عثمان عن عروة بن رويم عن الحسن عن أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن مؤمني الجن لهم ثواب وعليهم عقاب ، فسألناه عن ثوابهم وعن مؤمنيهم فقال على الأعراف وليسوا في الجنة مع أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألناه وما الأعراف؟ فقال حائط الجنة تجري فيه الأنهار وتنبت فيه الأشجار والثمار وراه البيهقي عن ابن بشران عن علي بن محمد المصري عن يوسف بن يزيد عن الوليد بن موسى به.

وقال سفيان الثوري : عن خصيف عن مجاهد قال أصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء ، وقال ابن جرير (١) ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية عن سليمان التيمي عن أبي مجلز في قوله تعالى : (وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) قال هم رجال من الملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار قال (وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) قال فيقال حين يدخل أهل الجنة الجنة (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) وهذا صحيح إلى أبي مجلز لاحق بن حميد أحد التابعين وهو غريب من قوله وخلاف الظاهر من السياق وقول الجمهور مقدم على قوله بدلالة الآية على ما ذهبوا إليه ، وكذا قول مجاهد إنهم قوم صالحون علماء فقهاء فيه غرابة أيضا ، والله أعلم.

وقد حكى القرطبي وغيره فيهم اثني عشر قولا منها : أنهم شهدوا أنهم صلحاء تهرعوا من فزع الآخرة وخلق يطلعون على أخبار الناس وقيل هم أنبياء وقيل هم ملائكة. وقوله تعالى : (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال يعرفون أهل الجنة ببياض الوجوه وأهل النار بسواد الوجوه وكذا روى الضحاك عنه ، وقال العوفي عن ابن عباس أنزلهم الله تلك المنزلة ليعرفوا من في الجنة والنار وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه. ويتعوذوا بالله أن يجعلوهم مع القوم الظالمين وهم في ذلك يحيون أهل الجنة بالسلام لم يدخلوها وهم يطمعون أن يدخلوها وهم داخلوها إن شاء الله ، وكذا قال مجاهد والضحاك والسدي والحسن

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٥٠١ ، ٥٠٢.

٣٧٨

وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم.

وقال معمر عن الحسن إنه تلا هذه الآية (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) قال والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم وقال قتادة ، قد أنبأكم الله بمكانهم من الطمع ، وقوله (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) قال الضحاك عن ابن عباس إن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل النار وعرفوهم (قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

وقال السدي وإذا مروا بهم يعني بأصحاب الأعراف بزمرة يذهب بها إلى النار (قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). وقال عكرمة تحدد وجوههم للنار فإذا رأوا أصحاب الجنة ذهب ذلك عنهم وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ) فرأوا وجوههم مسودة وأعينهم مزرقة (قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

(وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) (٤٩)

يقول الله تعالى إخبارا عن تقريع أهل الأعراف لرجال من صناديد المشركين وقادتهم يعرفونهم في النار بسيماهم (ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ) أي كثرتكم (وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) أي لا ينفعكم كثرتكم ولا جموعكم من عذاب الله بل صرتم إلى ما أنتم فيه من العذاب والنكال (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني أصحاب الأعراف (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) وقال ابن جرير (١) : حدثني محمد بن سعد حدثني أبي حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس (قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ) الآية ، قال فلما قالوا لهم الذي قضى الله أن يقولوا يعني أصحاب الأعراف لأهل الجنة وأهل النار قال الله لأهل التكبر والأموال (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ).

وقال حذيفة إن أصحاب الأعراف قوم تكاثفت أعمالهم فقصرت بهم حسناتهم عن الجنة وقصرت بهم سيئاتهم عن النار فجعلوا على الأعراف يعرفون الناس بسيماهم فلما قضى الله بين العباد أذن لهم في طلب الشفاعة فأتوا آدم فقالوا : يا آدم أنت أبونا فاشفع لنا عند ربك فقال هل تعلمون أن أحدا خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وسبقت رحمته إليه غضبه وسجدت له الملائكة غيري؟ فيقولون لا فيقول ما علمت كنهه ما أستطيع أن أشفع لكم ولكن ائتوا ابني

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٥٠٦.

٣٧٩

إبراهيم فيأتون إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسألونه أن يشفع لهم عند ربهم فيقول تعلمون من أحد اتخذه الله خليلا هل تعلمون أن أحدا أحرقه قومه بالنار في الله غيري؟ فيقولون لا فيقول ما علمت كنهه ما أستطيع أن أشفع لكم ولكن ائتوا ابني موسى فيأتون موسى عليه‌السلام.

فيقول هل تعلمون من أحد كلمه الله تكليما وقربه نجيا غيري فيقولون لا فيقول ما علمت كنهه ما أستطيع أن أشفع لكم ولكن ائتوا عيسى فيأتونه عليه‌السلام فيقولون له اشفع لنا عند ربك فيقول هل تعلمون أحدا خلقه الله من غير أب فيقولون لا فيقول هل تعلمون من أحد كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله غيري؟ قال : فيقولون لا ، فيقول : أنا حجيج نفسي ما علمت كنهه ما أستطيع أن أشفع لكم ولكن ائتوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيأتوني فأضرب بيدي على صدري.

ثم أقول أنا لها ثم أمشي حتى أقف بين يدي العرش فآتي ربي عزوجل فيفتح لي من الثناء ما لم يسمع السامعون بمثله قط ثم أسجد فيقال لي يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي ثم أثني على ربي عزوجل ثم أخر ساجدا فيقال لي ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول ربي أمتي فيقول هم لك فلا يبقى نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا غبطني بذلك المقام وهو المقام المحمود فآتي بهم الجنة فأستفتح فيفتح لي ولهم فيذهب بهم إلى نهر يقال له نهر الحيوان حافتاه قصب مكلل باللؤلؤ ترابه المسك وحصباؤه الياقوت فيغتسلون منه فتعود إليهم ألوان أهل الجنة وريح أهل الجنة فيصيرون كأنهم الكواكب الدرية ويبقى في صدورهم شامات بيض يعرفون بها يقال مساكين أهل الجنة (١).

(وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) (٥١)

يخبر تعالى عن ذلة أهل النار وسؤالهم أهل الجنة من شرابهم وطعامهم وأنهم لا يجابون إلى ذلك قال السدي (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) يعني الطعام (٢) وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يستطعمونهم ويستسقونهم (٣) ، وقال الثوري عن عثمان الثقفي عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال ، ينادي الرجل أباه أو أخاه فيقول له قد احترقت فأفض علي من الماء فيقال لهم أجيبوهم فيقولون

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٥ / ٥٠٧ ، ٥٠٨.

(٢) انظر تفسير الطبري ٥ / ٥٠٩.

(٣) تفسير الطبري ٥ / ٥٠٩.

٣٨٠