تفسير القرآن العظيم - ج ٣

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٣

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٩٥

بكر بن عبيد الله بن أنس عن جده أنس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من هم بحسنة كتب الله له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا ، ومن هم بسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها فإن عملها كتبت عليه سيئة ، فإن تركها كتبت له حسنة يقول الله تعالى إنما تركها من مخافتي» ، هذا لفظ حديث مجاهد يعني ابن موسى.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن ، عن الركين بن الربيع عن أبيه عن عمه فلان بن عميلة ، عن خريم بن فاتك الأسدي ، أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الناس أربعة والأعمال ستة ، فالناس موسع له في الدنيا والآخرة وموسع له في الدنيا مقتور عليه في الآخرة ، ومقتور عليه في الدنيا موسع له في الآخرة وشقي في الدنيا والآخرة ، والأعمال موجبتان ومثل بمثل وعشرة أضعاف وسبعمائة ضعف ، فالموجبتان من مات مسلما مؤمنا لا يشرك بالله شيئا وجبت له الجنة ، ومن مات كافرا وجبت له النار ، ومن هم بحسنة فلم يعملها فعلم الله أنه قد أشعرها قلبه وحرص عليها كتبت له حسنة ، ومن هم بسيئة لم تكتب عليه ومن عملها كتبت واحدة ولم تضاعف عليه ، ومن عمل حسنة كانت عليه بعشر أمثالها ، ومن أنفق نفقة في سبيل الله عزوجل كانت بسبعمائة ضعف» ورواه الترمذي والنسائي من حديث الركين بن الربيع عن أبيه عن بشير بن عميلة عن خريم بن فاتك به ببعضه ، والله أعلم.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا حبيب بن المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «يحضر الجمعة ثلاثة نفر ، رجل حضرها بلغو فهو حظه منها ، ورجل حضرها بدعاء فهو رجل دعا الله فإن شاء أعطاه وإن شاء منعه ، ورجل حضرها بإنصات وسكون ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا فهي كفارة له إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام» ، وذلك لأن الله عزوجل يقول (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها).

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا هاشم بن مرثد ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثني أبي ، حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام ، وذلك لأن الله تعالى قال (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها).

وعن أبي ذر رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدهر كله» رواه الإمام أحمد (٢) وهذا لفظه والنسائي وابن ماجة والترمذي ، وزاد «فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) اليوم بعشرة أيام» ثم قال

__________________

(١) مسند أحمد ٤ / ٣٤٥.

(٢) مسند أحمد ٥ / ١٤٥.

٣٤١

هذا حديث حسن (١).

وقال ابن مسعود (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) من جاء بلا إله إلا الله ، ومن جاء بالسيئة يقول بالشرك (٢) ، وهكذا جاء عن جماعة من السلف رضي الله عنهم أجمعين ، وقد ورد فيه حديث مرفوع الله أعلم بصحته ، لكني لم أروه من وجه يثبت ، والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدا وفيما ذكر كفاية إن شاء الله وبه الثقة.

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (١٦٣)

يقول تعالى آمرا نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيد المرسلين أن يخبر بما أنعم به عليه من الهداية إلى صراطه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف (دِيناً قِيَماً) أي قائما ثابتا (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كقوله (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) [البقرة : ١٣٠] وقوله (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) [الحج : ٧٨] وقوله (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل : ١٢٠ ـ ١٢٣] وليس يلزم من كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر باتباع ملة إبراهيم الحنيفية ، أن يكون إبراهيم أكمل منه فيها لأنه عليه‌السلام قام بها قياما عظيما وأكملت له إكمالا تاما لم يسبقه أحد إلى هذا الكمال ، ولهذا كان خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم على الإطلاق ، وصاحب المقام المحمود الذي يرغب إليه الخلق حتى الخليل عليه‌السلام.

وقد قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن عبد الله بن حفص ، حدثنا أحمد بن عصام ، حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا شعبة أنبأنا سلمة بن كهيل ، سمعت ذر بن عبد الله الهمداني يحدث عن ابن أبزى عن أبيه ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أصبح قال «أصبحنا على ملة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد وملة أبينا إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين».

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا يزيد أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي الأديان أحب إلى الله تعالى؟ قال «الحنيفية السمحة».

__________________

(١) سنن الترمذي (صوم باب ٤٠)

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٤١٦.

(٣) مسند أحمد ١ / ٢٣٦.

٣٤٢

وقال أحمد (١) أيضا : حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذقني على منكبه ، لأنظر إلى زفن (٢) الحبشة حتى كنت التي مللت فانصرفت عنه. قال عبد الرحمن عن أبيه قال : قال لي عروة إن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ «لتعلم يهود أن في ديننا فسحة ، إني أرسلت بحنيفية سمحة».

أصل الحديث مخرج في الصحيحين والزيادة لها شواهد من طرق عدة ، وقد استقصيت طرقها في شرح البخاري ولله الحمد والمنة.

وقوله تعالى (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله ويذبحون لغير اسمه أنه مخالف لهم في ذلك ، فإن صلاته لله ونسكه على اسمه وحده لا شريك له ، وهذا كقوله تعالى (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر : ٢] أي أخلص له صلاتك وذبحك ، فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها ، فأمره الله تعالى بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى ، قال مجاهد في قوله (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) النسك الذبح في الحج والعمرة ، وقال الثوري عن السدي عن سعيد بن جبير (وَنُسُكِي) قال ذبحي ، وكذا قال السدي والضحاك.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف ، حدثنا أحمد بن خالد الذهبي ، حدثنا محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله قال : ضحّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في يوم عيد النحر بكبشين وقال حين ذبحهما (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ... (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).

وقوله عزوجل (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) قال قتادة : أي من هذه الأمة ، وهو كما قال فإن جميع الأنبياء قبله كلهم كانت دعوتهم إلى الإسلام ، وأصله عبادة الله وحده لا شريك له كما قال (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥] وقد أخبرنا تعالى عن نوح أنه قال لقومه (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس : ٧٢] وقال تعالى (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ

__________________

(١) مسند أحمد ٦ / ١١٦.

(٢) زفن الحبشة : لعبهم ، كما جاء في المسند.

٣٤٣

فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٠ ـ ١٣٢] وقال يوسف عليه‌السلام (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف : ١٠١] وقال موسى (يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [يونس : ٨٤ ـ ٨٦] وقال تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) [المائدة : ٤٤] الآية ، وقال تعالى (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) [المائدة : ١١١] فأخبر تعالى أنه بعث رسله بالإسلام ، ولكنهم متفاوتون فيه بحسب شرائعهم الخاصة التي ينسخ بعضها بعضا ، إلى أن نسخت بشريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي لا تنسخ أبد الآبدين ، ولا تزال قائمة منصورة وأعلامها منشورة إلى قيام الساعة ، ولهذا قال عليه‌السلام «نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد» فإن أولاد العلات هم الإخوة من أب واحد وأمهات شتى ، فالدين واحد وهو عبادة الله وحده لا شريك له وإن تنوعت الشرائع التي هي بمنزلة الأمهات ، كما أن إخوة الأخياف عكس هذا بنو الأم الواحدة من آباء شتى ، والإخوة الأعيان الأشقاء من أب واحد وأم واحدة. والله أعلم.

وقد قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الماجشون ، حدثنا عبد الله بن الفضل الهاشمي ، عن الأعرج ، عن عبيد الله بن أبي رافع ، عن علي رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا كبر استفتح ثم قال : (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الآية ، «اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت ، أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا لا يغفر الذنوب إلا أنت ، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت ، تباركت وتعاليت ، أستغفرك وأتوب إليك» (٢) ثم ذكر تمام الحديث فيما يقوله في الركوع والسجود والتشهد وقد رواه مسلم في صحيحه.

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (١٦٤)

يقول تعالى (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين بالله في إخلاص العبادة له والتوكل عليه (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) أي أطلب ربا سواه ، (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) يربيني ويحفظني ويكلؤني

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٩٤.

(٢) أخرجه مسلم في المسافرين حديث ٢٠١.

٣٤٤

ويدبر أمري ، أي لا أتوكل إلا عليه ولا أنيب إلا إليه لأنه رب كل شيء ومليكه وله الخلق والأمر. ففي هذه الآية الأمر بإخلاص التوكل كما تضمنت التي قبلها إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له ، وهذا المعنى يقرن بالآخر كثيرا في القرآن كقوله تعالى مرشدا لعباده أن يقولوا له (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥] ، وقوله (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [هود : ١٢٣] وقوله (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) [الملك : ٢٩] وقوله (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) [المزمل : ٩] ، وأشباه ذلك من الآيات.

وقوله تعالى (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ، إخبار عن الواقع يوم القيامة في جزاء الله تعالى وحكمه وعدله ، أن النفوس إنما تجازى بأعمالها إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، وأنه لا يحمل من خطيئة أحد على أحد وهذا من عدله تعالى كما قال (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) [فاطر : ١٨] وقوله تعالى (فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) [طه : ١١٢].

قال علماء التفسير : أي فلا يظلم بأن يحمل عليه سيئات غيره ، ولا يهضم بأن ينقص من حسناته وقال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) [المدثر : ٣٨ ـ ٣٩] معناه كل نفس مرتهنة بعملها السيئ ، إلا أصحاب اليمين فإنه قد يعود بركة أعمالهم الصالحة على ذرياتهم وقراباتهم كما قال في سورة الطور (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ، أي ألحقنا بهم ذريتهم في المنزلة الرفيعة في الجنة وإن لم يكونوا قد شاركوهم في الأعمال ، بل في أصل الإيمان ، وما ألتناهم أي أنقصنا أولئك السادة الرفعاء من أعمالهم شيئا حتى ساويناهم وهؤلاء الذين هم أنقص منهم منزلة ، بل رفعهم تعالى إلى منزلة الآباء ببركة أعمالهم بفضله ومنته ، ثم قال (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) أي من شر.

وقوله (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي اعملوا على مكانتكم إنا عاملون على ما نحن عليه فستعرضون ونعرض عليه ، وينبئنا وإياكم بأعمالنا وأعمالكم وما كنا نختلف فيه في الدار الدنيا ، كقوله (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) [سبأ : ٢٥ ـ ٢٦].

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٦٥)

يقول تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) أي جعلكم تعمرونها جيلا بعد جيل ، وقرنا بعد قرن وخلفا بعد سلف. قاله ابن زيد وغيره ، كقوله تعالى (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) [الزخرف : ٦٠] وكقوله تعالى (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ)

٣٤٥

[النمل : ٦٢] وقوله (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] وقوله (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف : ١٢٩] وقوله (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) أي فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوئ والمناظر والأشكال والألوان ، وله الحكمة في ذلك ، كقوله تعالى (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) [الزخرف : ٣٢] وقوله (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) [الإسراء : ٢١].

وقوله تعالى (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي ليختبركم في الذي أنعم به عليكم وامتحنكم به ، ليختبر الغني في غناه ويسأله عن شكره ، والفقير في فقره ويسأله عن صبره. وفي صحيح مسلم من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» (١).

وقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ترهيب وترغيب أن حسابه وعقابه سريع ، فيمن عصاه وخالف رسله (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن والاه واتبع رسله فيما جاءوا به من خبر وطلب. وقال محمد بن إسحاق : ليرحم العباد على ما فيهم ، رواه ابن أبي حاتم ، وكثيرا ما يقرن الله تعالى في القرآن بين هاتين الصفتين ، كقوله (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) [الرعد : ٦] وقوله (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) [الحجر : ٤٩] إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على الترغيب والترهيب ، فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة وصفة الجنة والترغيب فيما لديه ، وتارة يدعوهم إليه بالرهبة وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها ، وتارة بهما لينجع في كل بحسبه ، جعلنا الله ممن أطاعه فيما أمر ، وترك ما عنه نهى وزجر ، وصدقه فيما أخبر ، إنه قريب مجيب سميع الدعاء جواد كريم وهاب.

وقد قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا زهير عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط أحد من الجنة ، خلق الله مائة رحمة فوضع واحدة بين خلقه يتراحمون بها وعند الله تسعة وتسعون» (٣) ورواه الترمذي عن قتيبة عن عبد العزيز الدراوردي عن العلاء به ، وقال : حسن ، ورواه مسلم ، عن يحيى بن يحيى وقتيبة وعلي بن حجر ، ثلاثتهم عن إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الذكر حديث ٩٩.

(٢) المسند ٢ / ٤٨٤.

(٣) أخرجه مسلم في التوبة حديث ٢٣ ، والترمذي في الدعوات باب ٩٩.

٣٤٦

وعنه أيضا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي» (١) وعنه أيضا قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا وأنزل في الأرض جزءا واحدا ، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية من أن تصيبه» (٢) رواه مسلم.

آخر تفسير سورة الأنعام ، ولله الحمد والمنة.

__________________

(١) أخرجه مسلم في التوبة حديث ١٤ ، ١٦.

(٢) أخرجه مسلم في التوبة حديث ٧ ، ٢٠.

٣٤٧

سورة الأعراف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٣)

قد تقدم الكلام في أول سورة البقرة على ما يتعلق بالحروف وبسطه واختلاف الناس فيه ، قال ابن جرير (١) : حدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا أبي عن شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس (المص) أنا الله أفصل ، وكذا قال سعيد بن جبير (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي هذا كتاب أنزل إليك أي من ربك (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) قال مجاهد وقتادة والسدي : شك منه (٢) ، وقيل : لا تتحرج به في إبلاغه والإنذار به (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) ولهذا قال (لِتُنْذِرَ بِهِ) أي أنزلناه إليك لتنذر به الكافرين (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ).

ثم قال تعالى مخاطبا للعالم (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أي اقتفوا آثار النبي الأمي الذي جاءكم بكتاب أنزل إليكم من رب كل شيء ومليكه (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول إلى غيره ، فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) كقوله (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف : ١٠٣] وقوله (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [الأنعام : ١٤٦] الآية وقوله (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف : ١٠٦].

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ(٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) (٧)

يقول تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) أي بمخالفة رسلنا وتكذيبهم ، فأعقبهم ذلك خزي الدنيا موصولا بذل الآخرة ، كما قال تعالى : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الأنعام : ١٠] وكقوله (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) [الحج : ٤٥] وقال تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٤٢٤.

(٢) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٢٥.

٣٤٨

الْوارِثِينَ) [القصص : ٥٨] وقوله (فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) أي فكان منهم من جاءه أمر الله وبأسه ونقمته بياتا أي ليلا ، أو هم قائلون من القيلولة وهي الاستراحة وسط النهار ، وكلا الوقتين وقت غفلة ولهو ، كما قال (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأعراف : ٩٧ ـ ٩٨] وقال (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [النحل : ٤٥ ـ ٤٧].

وقوله (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي فما كان قولهم عند مجيء العذاب ، إلا أن اعترفوا بذنوبهم وأنهم حقيقون بهذا ، كقوله تعالى : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً ـ إلى قوله ـ خامِدِينَ) [الأنبياء : ١١ ـ ١٥].

قال ابن جرير (١) : في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله «ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم» (٢) ، حدثنا بذلك ابن حميد ، حدثنا جرير عن أبي سنان عن عبد الملك بن ميسرة الزراد ، قال : قال عبد الله بن مسعود ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم» ، قال : قلت لعبد الملك : كيف يكون ذاك؟ قال : فقرأ هذه الآية (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ).

وقوله (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) الآية. كقوله (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) [القصص : ٦٥] وقوله (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [المائدة : ١٠٩] فيسأل الله الأمم يوم القيامة عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به ، ويسأل الرسل أيضا عن إبلاغ رسالاته ، ولهذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) قال عما بلغوا.

وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن ، حدثنا أبو سعيد الكندي ، حدثنا المحاربي عن ليث عن نافع عن ابن عمر ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالإمام يسأل عن رعيته والرجل يسأل عن أهله والمرأة تسأل عن بيت زوجها والعبد يسأل عن مال سيده» (٣) قال الليث : وحدثني ابن طاوس مثله ، ثم قرأ (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) وهذا الحديث مخرج في الصحيحين بدون هذه الزيادة.

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٤٢٩.

(٢) أخرجه أبو داود في الملاحم باب ١٧ ، وأحمد في المسند ٤ / ٢٦٠ ، ٥ / ٢٩٣ ، والطبري في تفسيره ٥ / ٤٢٩.

(٣) أخرجه البخاري في الأحكام باب ١ ، ومسلم في الإمارة حديث ٢٠.

٣٤٩

وقال ابن عباس في قوله (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون (وَما كُنَّا غائِبِينَ) يعني أنه تعالى يخبر عباده يوم القيامة بما قالوا وبما عملوا من قليل وكثير وجليل وحقير ، لأنه تعالى الشهيد على كل شيء لا يغيب عنه شيء ولا يغفل عن شيء بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٥٩].

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) (٩)

يقول تعالى : (وَالْوَزْنُ) أي للأعمال يوم القيامة (الْحَقُ) أي لا يظلم تعالى أحدا كقوله (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء : ٤٧] وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) [النساء : ٤٠] وقال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ) [القارعة : ٦ ـ ١١] وقال تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) [المؤمنون : ١٠٢ ـ ١٠٣].

[فصل] والذي يوضع في الميزان يوم القيامة قيل الأعمال وإن كانت أعراضا إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما ، قال البغوي : يروى نحو هذا عن ابن عباس ، كما جاء في الصحيح من أن البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف (١). ومن ذلك في الصحيح قصة القرآن وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللون فيقول : من أنت؟ فيقول أنا القرآن الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك (٢). وفي حديث البراء في قصة سؤال القبر «فيأتي المؤمن شاب حسن اللون طيب الريح فيقول : من أنت؟ فيقول : أنا عملك الصالح» (٣) ، وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق.

وقيل يوزن كتاب الأعمال كما جاء في حديث البطاقة في الرجل الذي يؤتى به ويوضع له في كفة تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر ، ثم يؤتى بتلك البطاقة فيها لا إله إلا الله فيقول يا رب وما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول الله تعالى إنك لا تظلم. فتوضع تلك البطاقة في كفة الميزان ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فطاشت السجلات وثقلت

__________________

(١) أخرجه مسلم في المسافرين حديث ٢٥٢ ، وأحمد في المسند ٥ / ٢٤٩ ، ٢٥١ ، ٢٥٥ ، ٢٥٧.

(٢) أخرجه ابن ماجة في الأدب باب ٥٢ ، وأحمد في المسند ٥ / ٣٤٨ ، ٣٥٢.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٢٨٧.

٣٥٠

البطاقة» (١) رواه الترمذي بنحو من هذا وصححه.

وقيل يوزن صاحب العمل كما في الحديث «يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة» (٢) ثم قرأ (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) ، وفي مناقب عبد الله بن مسعود : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أتعجبون من دقة ساقيه والذي نفسي بيده لهم في الميزان أثقل من أحد» (٣) وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحا ، فتارة توزن الأعمال وتارة توزن محالها وتارة يوزن فاعلها ، والله أعلم.

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (١٠)

يقول تعالى : ممتنا على عبيده فيما مكن لهم ، من أنه جعل الأرض قرارا وجعل فيها رواسي وأنهارا ، وجعل لهم فيها منازل وبيوتا وأباح لهم منافعها ، وسخر لهم السحاب لإخراج أرزاقهم منها ، وجعل لهم فيها معايش أي مكاسب وأسبابا يكسبون بها ويتجرون فيها ويتسببون أنواع الأسباب وأكثرهم مع هذا قليل الشكر على ذلك كقوله (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم : ٣٤].

وقد قرأ الجميع معايش بلا همز إلا عبد الرحمن بن هرمز الأعرج فإنه همزها (٤) والصواب الذي عليه الأكثرون بلا همز ، لأن معايش جمع معيشة من عاش يعيش عيشا ومعيشة أصلها معيشة ، فاستثقلت الكسرة على الياء فنقلت إلى العين فصارت معيشة ، فلما جمعت رجعت الحركة إلى الياء لزوال الاستثقال فقيل معايش ووزنه مفاعل ، لأن الياء أصلية في الكلمة بخلاف مدائن وصحائف وبصائر ، جمع مدينة وصحيفة وبصيرة من مدن وصحف وأبصر ، فإن الياء فيها زائدة ، ولهذا تجمع على فعائل وتهمز لذلك ، والله أعلم.

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (١١)

ينبه تعالى بني آدم في هذا المقام على شرف أبيهم آدم ، ويبين لهم عداوة عدوهم إبليس ، وما هو منطو عليه من الحسد لهم ولأبيهم آدم ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه ، فقال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا) وهذا كقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الإيمان باب ١٧ ، وابن ماجة في الزهد باب ٣٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢١٣.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٨ ، باب ٦ ، ومسلم في المنافقين حديث ١٨ ، والترمذي في الزهد باب ١٣ ، وابن ماجة في الزهد باب ٣ ، وأحمد في المسند ٥ / ١٥٤ ، ١٧٧.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٤٢٠ ، ٤٢١.

(٤) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٣٥.

٣٥١

رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) [الحجر : ٢٨ ـ ٢٩] وذلك أنه تعالى لما خلق آدم عليه‌السلام بيده من طين لازب وصوره بشرا سويا ونفخ فيه من روحه ، أمر الملائكة بالسجود له تعظيما لشأن الله تعالى وجلاله ، فسمعوا كلهم وأطاعوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين ، وقد تقدم الكلام على إبليس في أول تفسير سورة البقرة ، وهذا الذي قررناه هو اختيار ابن جرير (١) ، أن المراد بذلك كله آدم عليه‌السلام.

وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن منهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) قال خلقوا في أصلاب الرجال وصوروا في أرحام النساء ، رواه الحاكم وقال : صحيح على شرطهما ولم يخرجاه ، ونقل ابن جرير (٢) : عن بعض السلف أيضا أن المراد بخلقناكم ثم صورناكم الذرية.

وقال الربيع بن أنس والسدي وقتادة والضحاك في هذه الآية (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) أي خلقنا آدم ثم صورنا الذرية ، وهذا فيه نظر ، لأنه قال بعد ذلك (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) فدل على أن المراد بذلك آدم وإنما قيل ذلك بالجمع ، لأنه أبو البشر ، كما يقول الله تعالى لبني إسرائيل الذين كانوا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) [البقرة : ٥٧] والمراد آباؤهم الذين كانوا في زمن موسى ، ولكن لما كان ذلك منة على الآباء الذين هم أصل ، صار كأنه واقع على الأبناء ، وهذا بخلاف قوله (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) الآية ، فإن المراد من آدم المخلوق من السلالة ، وذريته مخلوقون من نطفة ، وصح هذا لأن المراد من خلقنا الإنسان الجنس لا معينا ، والله أعلم.

(قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (١٢)

قال بعض النحاة في توجيه قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) لا هنا زائدة ، وقال بعضهم زيدت لتأكيد الجحد ، كقول الشاعر : [مجزوء الكامل]

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله (٣)

فأدخل «إن» وهي للنفي على ما النافية لتأكيد النفي ، قالوا : وكذا هاهنا (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) مع تقدم قوله (لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) حكاهما ابن جرير وردهما ، واختار أن

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٤٣٧ ، ٤٣٨.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٤٣٦ ، ٤٣٧.

(٣) يروى البيت بتمامه :

ما إن رأيت ولا سمعت

بمثلهم في العالمينا

والبيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص ٣٢٣ ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٤ / ١١٠.

٣٥٢

منعك مضمن معنى فعل آخر ، تقديره ما أحرجك وألزمك واضطرك أن لا تسجد إذ أمرتك ونحو هذا ، وهذا القول قوي حسن ، والله أعلم.

وقول إبليس لعنه الله (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) من العذر الذي هو أكبر من الذنب ، كأنه امتنع من الطاعة لأنه لا يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول ، يعني لعنه الله وأنا خير منه فكيف تأمرني بالسجود له؟ ثم بين أنه خير منه بأنه خلق من نار ، والنار أشرف مما خلقته منه وهو الطين ، فنظر اللعين إلى أصل العنصر ولم ينظر إلى التشريف العظيم ، وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه ، وقاس قياسا فاسدا في مقابلة نص قوله تعالى : (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) فشذ من بين الملائكة لترك السجود فهذا أبلس من الرحمة أي وأيس من الرحمة فأخطأ ، قبحه الله في قياسه ، ودعواه أن النار أشرف من الطين أيضا ، فإن الطين من شأنه الرزانة والحلم والأناة والتثبت ، والطين محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح ، والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة ، ولهذا خان إبليس عنصره ونفع آدم عنصره بالرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله والاعتراف وطلب التوبة والمغفرة.

وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم» هكذا رواه مسلم (١) ، وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة ، قالت : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «خلق الله الملائكة من نور العرش وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم» قلت لنعيم بن حماد : أين سمعت هذا من عبد الرزاق؟ قال : باليمن ، وفي بعض ألفاظ هذا الحديث في غير الصحيح «وخلقت الحور العين من الزعفران».

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا القاسم حدثنا الحسين ، حدثنا محمد بن كثير عن ابن شوذب عن مطر الوراق عن الحسن في قوله (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ ، وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) قال : قاس إبليس وهو أول من قاس ، إسناده صحيح ، وقال (٣) : حدثني عمرو بن مالك ، حدثني يحيى بن سليم الطائفي عن هشام عن ابن سيرين ، قال : أول من قاس إبليس ، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس إسناد صحيح أيضا.

(قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) (١٥)

__________________

(١) كتاب الزهد حديث ٦٠.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٤٤١.

(٣) تفسير الطبري ٥ / ٤٤١.

٣٥٣

يقول تعالى مخاطبا لإبليس بأمر قدري كوني (فَاهْبِطْ مِنْها) أي بسبب عصيانك لأمري وخروجك عن طاعتي فما يكون لك أن تتكبر فيها ، قال كثير من المفسرين : الضمير عائد إلى الجنة ويحتمل أن يكون عائدا إلى المنزلة التي هو فيها في الملكوت الأعلى (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي الذليلين الحقيرين ، معاملة له بنقيض قصده ومكافأة لمراده بضده ، فعند ذلك استدرك اللعين وسأل النظرة إلى يوم الدين ، قال (أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أجابه تعالى إلى ما سأل ، لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع ، ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.

(قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (١٧)

يخبر تعالى أنه لما أنذر إبليس (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) واستوثق إبليس بذلك ، أخذ في المعاندة والتمرد ، فقال (فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) أي كما أغويتني ، قال ابن عباس : كما أضللتني (١) ، وقال غيره : كما أهلكتني لأقعدن لعبادك الذين تخلقهم من ذرية هذا الذي أبعدتني بسببه على (صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) أي طريق الحق وسبيل النجاة ، ولأضلنهم عنها لئلا يعبدوك ولا يوحدوك بسبب إضلالك إياي ، وقال بعض النحاة : الباء هنا قسمية كأنه يقول فبإغوائك إياي لأقعدن لهم صراطك المستقيم (٢) ، قال مجاهد : صراطك المستقيم يعني الحق (٣) ، وقال محمد بن سوقة عن عون بن عبد الله : يعني طريق مكة ، قال ابن جرير : الصحيح أن الصراط المستقيم أعم من ذلك.

(قلت) لما روى الإمام أحمد (٤) : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا أبو عقيل يعني الثقفي عبد الله بن عقيل ، حدثنا موسى بن المسيب ، أخبرني سالم بن أبي الجعد ، عن سبرة بن أبي الفاكه ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول إن الشيطان قعد لابن آدم بطرقه فقعد له بطريق الإسلام ، فقال : أتسلم وتذر دينك ودين آبائك قال فعصاه وأسلم» قال «وقعد له بطريق الهجرة فقال : أتهاجر وتدع أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول ، فعصاه وهاجر ، ثم قعد له بطريق الجهاد وهو جهاد النفس والمال ، فقال تقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال قال فعصاه وجاهد». وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن فعل ذلك منهم فمات ، كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، وإن

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٤٣.

(٢) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٤٤.

(٣) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٤٤.

(٤) المسند ٣ / ٤٨٣.

٣٥٤

قتل كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة أو وقصته دابة كان حقا على الله أن يدخله الجنة».

وقوله (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) الآية ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) أشككهم في آخرتهم (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أرغبهم في دنياهم (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ) أشبه عليهم أمر دينهم (وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) أشهي لهم المعاصي (١) ، وقال ابن أبي طلحة في رواية والعوفي كلاهما عن ابن عباس : أما من بين أيديهم فمن قبل دنياهم ، وأما من خلفهم فأمر آخرتهم ، وأما عن أيمانهم فمن قبل حسناتهم ، وأما عن شمائلهم فمن قبل سيئاتهم (٢) ، وقال سعيد بن أبي عروبة : عن قتادة ، أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار ، ومن خلفهم من أمر الدنيا فزينها لهم ودعاهم إليها ، وعن أيمانهم من قبل حسناتهم بطأهم عنها ، وعن شمائلهم زين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها وأمرهم بها ، أتاك يا بن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك ، لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله (٣) ، وكذا روي عن إبراهيم النخعي والحكم بن عتيبة والسدي وابن جريج ، إلا أنهم قالوا : من بين أيديهم الدنيا ، ومن خلفهم الآخرة (٤).

وقال مجاهد : من بين أيديهم وعن أيمانهم من حيث يبصرون ، ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون (٥) ، واختار ابن جرير (٦) : أن المراد جميع طرق الخير والشر ، فالخير يصدهم عنه والشر يحسنه لهم ، وقال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس في قوله (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) ولم يقل من فوقهم ، لأن الرحمة تنزل من فوقهم (٧) ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) قال : موحدين (٨) ، وقول إبليس هذا إنما هو ظن منه وتوهم ، وقد وافق في هذا الواقع ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) [سبأ : ٢٠ ـ ٢١].

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٤٥.

(٢) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٤٥ ، ٤٤٦.

(٣) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٤٦.

(٤) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٤٦.

(٥) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٤٦ ، ٤٤٧.

(٦) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٤٧.

(٧) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٤٧.

(٨) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٤٧.

٣٥٥

ولهذا ورد في الحديث الاستعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان من جهاته كلها ، كما قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا نصر بن علي ، حدثنا عمرو بن مجمع ، عن يونس بن خباب عن ابن جبير بن مطعم يعني نافع بن جبير ، عن ابن عباس ، وحدثنا عمر بن الخطاب يعني السجستاني ، حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا عبد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة ، عن يونس بن خباب عن ابن جبير بن مطعم ، عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو «اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي ، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي ، وأعوذ بك اللهم أن أغتال من تحتي» تفرد به البزار وحسنه.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا وكيع ، حدثنا عبادة بن مسلم الفزاري ، حدثني جرير بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم ، سمعت عبد الله بن عمر يقول : لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي «اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة ، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي ، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي ، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي» (٢) ، قال وكيع : من تحتي يعني الخسف ، ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم من حديث عبادة بن مسلم به ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد.

(قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) (١٨)

أكد تعالى عليه اللعنة والطرد والإبعاد والنفي عن محل الملأ الأعلى ، بقوله (اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً) قال ابن جرير (٣) : أما المذؤوم فهو المعيب ، والذأم غير مشدد العيب يقال ذأمه يذأمه ذأما فهو مذءوم ، ويتركون الهمزة فيقول ذمته أذيمه ذيما وذاما ، والذام والذيم أبلغ في العيب من الذم ، قال : والمدحور المقصي ، هو المبعد المطرود ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما نعرف المذؤوم والمذموم إلا واحدا (٤) ، وقال سفيان الثوري : عن أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس : (اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً) قال مقيتا ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : صغيرا مقيتا وقال السدي : مقيتا مطرودا ، وقال قتادة : لعينا مقيتا ، وقال مجاهد : منفيا مطرودا وقال الربيع بن أنس : مذءوما منفيا والمدحور المصغر (٥). وقوله

__________________

(١) المسند ٢ / ٢٥.

(٢) أخرجه أبو داود في الأدب باب ١٠١ ، والنسائي في الاستعاذة باب ٦٠ ، وابن ماجة في الدعاء باب ١٤.

(٣) تفسير الطبري ٥ / ٤٤٨.

(٤) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٤٨.

(٥) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٤٨.

٣٥٦

تعالى : (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) كقوله (قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) [الإسراء : ٦٣ ـ ٦٥].

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (٢١)

يذكر تعالى أنه أباح لآدم عليه‌السلام ولزوجته حواء الجنة أن يأكلا منها من جميع ثمارها إلا شجرة واحدة ، وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة ، فعند ذلك حسدهما الشيطان وسعى في المكر والوسوسة والخديعة ، ليسلبهما ما هما فيه من النعمة واللباس الحسن (وَقالَ) كذبا وافتراء (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) أي لئلا تكونا ملكين أو خالدين ها هنا ، ولو أنكما أكلتما منها لحصل لكما ذلكما ، كقوله (قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) [طه : ١٢٠] أي لئلا تكونا ملكين ، كقوله (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦] أي لئلا تضلوا (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) [النحل : ١٥] أي لئلا تميد بكم ، وكان ابن عباس ويحيى بن أبي كثير يقرآن (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) بكسر اللام ، وقرأه الجمهور بفتحها ، (وَقاسَمَهُما) أي حلف لهما بالله (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) فإني من قبلكما ها هنا وأعلم بهذا المكان ، وهذا من باب المفاعلة ، والمراد أحد الطرفين ، كما قال خالد بن زهير ابن عم أبي ذؤيب : [الطويل]

وقاسمها بالله جهدا لأنتم

ألذّ من السلوى إذ ما نشورها (١)

أي حلف لهما بالله على ذلك حتى خدعهما وقد يخدع المؤمن بالله ، وقال قتادة في الآية :

حلف بالله إني خلقت قبلكما وأنا أعلم منكم فاتبعاني أرشدكما ، وكان بعض أهل العلم يقول من خدعنا بالله انخدعنا له.

(فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢٣)

__________________

(١) البيت لخالد بن زهير في شرح أشعار الهذليين ص ٢١٥ ، ولسان العرب (سلا) ، وتاج العروس (شور) ، (سلا) ، وتهذيب اللغة ١٣ / ٦٩. والمخصص ٥ / ١٥ ، ١٣ / ١٠ ، ١٤ / ٢٤١ ، وتفسير الطبري ٥ / ٤٥٠ ، وبلا نسبة في كتاب العين ٧ / ٢٩٨.

٣٥٧

قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب رضي الله عنه ، قال : كان آدم رجلا طوالا كأنه نخلة سحوق ، كثير شعر الرأس ، فلما وقع فيما وقع به من الخطيئة ، بدت له عورته عند ذلك وكان لا يراها ، فانطلق هاربا في الجنة فتعلقت برأسه شجرة من شجر الجنة ، فقال لها : أرسليني. فقالت : إني غير مرسلتك ، فناداه ربه عزوجل : يا آدم أمني تفر؟ قال يا رب إني استحيتك ، وقد رواه ابن جرير (١) وابن مردويه من طرق ، عن الحسن عن أبي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرفوعا ، والموقوف أصح إسنادا.

وقال عبد الرزاق : عن سفيان بن عيينة وابن المبارك ، أنبأنا الحسن بن عمارة ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته السنبلة ، فلما أكلا منها بدت لهما سوآتهما ، وكان الذي وارى عنهما من سوآتهما أظفارهما ، (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) ورق التين يلزقان بعضه إلى بعض ، فانطلق آدم عليه‌السلام موليا في الجنة ، فعلقت برأسه شجرة من الجنة ، فناداه الله يا آدم أمني تفر؟ قال لا ولكني استحيتك يا رب ، قال : أما كان لك فيما منحتك من الجنة وأبحتك منها مندوحة عما حرمت عليك ، قال : بلى يا رب ولكن وعزتك ما حسبت أن أحدا يحلف بك كاذبا ، قال : وهو قول الله عزوجل (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) قال : فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كدا ، قال : فأهبط من الجنة وكانا يأكلان منها رغدا ، فأهبط إلى غير رغد من طعام وشراب ، فعلم صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث وزرع ثم سقى حتى إذا بلغ حصد ، ثم داسه ثم ذرّاه ثم طحنه ثم عجنه ثم خبزه ثم أكله ، فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء الله أن يبلغ (٢).

وقال الثوري : عن ابن أبي ليلى عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) قال : ورق التين (٣). صحيح إليه. وقال مجاهد : جعلا يخصفان عليهما من ورق الجنة ، قال : كهيئة الثوب (٤) ، وقال وهب بن منبه في قوله ينزع عنهما لباسهما ، قال : كان لباس آدم وحواء نورا على فروجهما لا يرى هذا عورة هذه ولا هذه عورة هذا ، فلما أكلا من الشجرة بدت لهما سوآتهما ، رواه ابن جرير (٥) بسند صحيح إليه ، وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة ، قال : قال آدم أي رب أرأيت إن تبت واستغفرت ، قال : إذا أدخلك الجنة ، وأما إبليس فلم يسأله التوبة وسأله النظرة ، فأعطى كل واحد منهما

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٤٥١.

(٢) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٥١ ، ٤٥٢.

(٣) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٥٢.

(٤) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٥٢.

(٥) تفسير الطبري ٥ / ٤٥٢ ، ٤٥٣.

٣٥٨

الذي سأله.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا عباد بن العوام ، عن سفيان بن الحسين عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : لما أكل آدم من الشجرة ، قيل له : لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال : حواء أمرتني ، قال : فإني قد أعقبتها أن لا تحمل إلا كرها ولا تضع إلا كرها ، قال : فرنت عند ذلك حواء ، فقيل لها الرنة عليك وعلى ولدك ، وقال الضحاك بن مزاحم في قوله (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه (٢).

(قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) (٢٥)

قيل المراد بالخطاب في (اهْبِطُوا) آدم وحواء وإبليس والحية ، ومنهم من لم يذكر الحية ، والله أعلم ، والعمدة في العداوة آدم وإبليس ، ولهذا قال تعالى في سورة طه قال (اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) [طه : ١٢٣] الآية ، وحواء تبع لآدم ، والحية إن كان ذكرها صحيحا فهي تبع لإبليس.

وقد ذكر المفسرون الأماكن التي هبط فيها كل منهم ويرجع حاصل تلك الأخبار إلى الإسرائيليات ، والله أعلم بصحتها ، ولو كان في تعيين تلك البقاع فائدة تعود على المكلفين في أمر دينهم أو دنياهم ، لذكرها الله تعالى في كتابه أو رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي قرار وأعمار مضروبة إلى آجال معلومة ، قد جرى بها القلم وأحصاها القدر وسطرت في الكتاب الأول ، وقال ابن عباس (مُسْتَقَرٌّ) القبور ، وعنه قال (مُسْتَقَرٌّ) فوق الأرض وتحتها ، رواهما ابن أبي حاتم.

وقوله (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) كقوله تعالى : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) [طه : ٥٥] يخبر تعالى ، أنه جعل الأرض دارا لبني آدم مدة الحياة الدنيا ، فيها محياهم وفيها مماتهم وقبورهم ومنها نشورهم ليوم القيامة ، الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين ويجازي كلا بعمله.

(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٢٦)

يمتن تعالى على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش ، فاللباس ستر العورات وهي السوآت ، والرياش والريش ما يتجمل به ظاهرا ، فالأول من الضروريات والريش من التكملات

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٤٥٣.

(٢) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٥٤.

٣٥٩

والزيادات ، قال ابن جرير (١) : الرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من الثياب ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وحكاه البخاري عنه : الرياش المال (٢) وهكذا قال مجاهد وعروة بن الزبير والسدي والضحاك وغير واحد ، وقال العوفي عن ابن عباس : الرياش اللباس والعيش والنعيم (٣) ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الرياش الجمال (٤).

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا إصبع عن أبي العلاء الشامي ، قال: لبس أبو أمامة ثوبا جديدا فلما بلغ ترقوته قال : الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي ، ثم قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من استجد ثوبا فلبسه فقال حين يبلغ ترقوته : الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي ، ثم عمد إلى الثوب الخلق فتصدق به كان في ذمة الله وفي جوار الله وفي كنف الله حيا وميتا» (٦) ورواه الترمذي وابن ماجة من رواية يزيد بن هارون عن إصبع هو ابن زيد الجهني ، وقد وثقه يحيى بن معين وغيره ، وشيخه أبو العلاء الشامي لا يعرف إلا بهذا الحديث ، ولكن لم يخرجه أحد ، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد (٧) أيضا : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا مختار بن نافع التمار عن أبي مطر ، أنه رأى عليا رضي الله عنه أتى غلاما حدثا فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم ولبسه ما بين الرسغين إلى الكعبين ، يقول حين لبسه : الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأواري به عورتي ، فقيل هذا شيء ترويه عن نفسك أو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : هذا شيء سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول عند الكسوة : «الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأواري به عورتي» ورواه الإمام أحمد.

وقوله تعالى : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) قرأ بعضهم ولباس التقوى بالنصب ، وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء ، و (ذلِكَ خَيْرٌ) خبره ، واختلف المفسرون في معناه ، فقال عكرمة : يقال هو ما يلبسه المتقون يوم القيامة ، رواه ابن أبي حاتم ، وقال زيد بن علي والسدي وقتادة وابن جريج : ولباس التقوى الإيمان ، وقال العوفي عن ابن عباس : العمل الصالح ، قال زياد بن عمرو عن ابن عباس : هو السمت الحسن في الوجه ، وعن عروة بن الزبير : لباس

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٤٥٧.

(٢) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٥٧.

(٣) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٥٧.

(٤) انظر تفسير الطبري ٥ / ٤٥٨.

(٥) المسند ١ / ٤٤.

(٦) أخرجه الترمذي في الدعوات باب ١٠٧ ، وابن ماجة في اللباس باب ٢.

(٧) المسند ١ / ١٥٧ ، ١٥٨.

٣٦٠