تفسير القرآن العظيم - ج ٣

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٣

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٩٥

وقال : «لعن الله اليهود يحرمون شحوم الغنم ويأكلون أثمانها» وفي رواية «حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها» وفي لفظ لأبي داود عن ابن عباس مرفوعا «إن الله إذا حرم أكل شيء حرم عليهم ثمنه».

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (١٤٧)

يقول تعالى : فإن كذبك يا محمد مخالفوك من المشركين واليهود ومن شابههم ، (فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) وهذا ترغيب لهم في ابتغاء رحمة الله الواسعة واتباع رسوله ، (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) ترهيب لهم من مخالفتهم الرسول خاتم النبيين ، وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين الترغيب والترهيب في القرآن ، كما قال تعالى في آخر هذه السورة (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام : ١٦٥] وقال (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) [الرعد : ٦] وقال تعالى : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) [الحجر : ٤٩ ـ ٥٠] وقال تعالى : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ) [غافر : ٣] وقال (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) [البروج : ١٢ ـ ١٤] والآيات في هذا كثيرة جدا.

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١٥٠)

هذه مناظرة ذكرها الله تعالى ، وشبهة تشبث بها المشركون في شركهم وتحريم ما حرموا ، فإن الله مطلع على ما هم فيه من الشرك والتحريم لما حرموه ، وهو قادر على تغييره بأن يلهمنا الإيمان ويحول بيننا وبين الكفر فلم يغيره ، فدل على أنه بمشيئته وإرادته ورضاه منا بذلك ، ولهذا قالوا (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) كما في قوله تعالى ، (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) [الزخرف : ٢٠] الآية ، وكذلك الآية التي في النحل مثل هذه سواء.

قال الله تعالى : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي بهذه الشبهة ضل من ضل قبل هؤلاء وهي حجة داحضة باطلة ، لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه ودمر عليهم وأدال عليهم رسله الكرام وأذاق المشركين من أليم الانتقام ، (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ) أي بأن الله راض عنكم فيما أنتم فيه (فَتُخْرِجُوهُ لَنا) أي فتظهروه لنا وتبينوه وتبرزوه (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي

٣٢١

الوهم والخيال ، والمراد بالظن هاهنا الاعتقاد الفاسد (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) تكذبون على الله فيما ادعيتموه.

قال علي بن أبي طلحة : عن ابن عباس (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) وقال (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ثم قال (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) [الأنعام : ١٠٧] فإنهم قالوا : عبادتنا الآلهة تقربنا إلى الله زلفى فأخبرهم الله أنها لا تقربهم ، فقوله (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) يقول تعالى لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين (١).

وقوله تعالى : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) يقول تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ) لهم يا محمد (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) أي له الحكمة التامة والحجة البالغة في هداية من هدى وإضلال من ضل ، (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) فكل ذلك بقدرته ومشيئته واختياره ، وهو مع ذلك يرضى عن المؤمنين ويبغض الكافرين ، كما قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) [الأنعام : ٣٥] وقال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) [يونس : ٩٩] وقوله (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود : ١١٨ ـ ١١٩] قال الضحاك : لا حجة لأحد عصى الله ولكن لله الحجة البالغة على عباده.

وقوله تعالى : (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ) أي أحضروا شهداءكم (الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) أي هذا الذي حرمتموه وكذبتم وافتريتم على الله فيه (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أي لأنهم إنما يشهدون والحالة هذه كذبا وزورا (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي يشركون به ويجعلون له عديلا.

(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (١٥١)

قال داود الأودي عن الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ـ إلى قوله ـ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا بكر بن محمد الصيرفي بمرو ، حدثنا عبد الصمد بن الفضل حدثنا مالك بن إسماعيل النهدي ، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة ، قال : سمعت ابن عباس يقول : في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب ، ثم قرأ (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) الآيات ،

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٣٨٧.

٣٢٢

ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه. قلت : ورواه زهير وقيس بن الربيع ، كلاهما عن أبي إسحاق عن عبد الله بن قيس عن ابن عباس به ، والله أعلم.

وروى الحاكم أيضا في مسنده ، من حديث يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي إدريس عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أيكم يبايعني على ثلاث» ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) حتى فرغ من الآيات «فمن وفي فأجره على الله ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته ، ومن أخر إلى الآخرة فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه» (١) ثم قال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وإنما اتفقا على حديث الزهري عن أبي إدريس عن عبادة ، «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا» الحديث.

وقد روى سفيان بن حسين كلا الحديثين ، فلا ينبغي أن ينسب إلى الوهم في أحد الحديثين إذا جمع بينهما ، والله أعلم.

وأما تفسيرها فيقول تعالى : لنبيه ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله وحرموا ما رزقهم الله وقتلوا أولادهم ، وكل ذلك فعلوه بآرائهم وتسويل الشياطين لهم (قُلْ) لهم (تَعالَوْا) أي هلموا وأقبلوا (أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) أي أقص عليكم وأخبركم بما حرم ربكم عليكم حقا لا تخرصا ولا ظنا بل وحيا منه وأمرا من عنده (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) وكأن في الكلام محذوفا دل عليه السياق ، وتقديره وأوصاكم (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) ولهذا قال في آخر الآية (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وكما قال الشاعر : [الرجز]

حجّ وأوصى بسليمى الأعبدا

أن لا ترى ولا تكلم أحدا

ولا يزل شرابها مبرّدا (٢)

وتقول العرب : أمرتك أن لا تقوم. وفي الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئا من أمتك دخل الجنة ، قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق ، قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق ، قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق وإن شرب الخمر» وفي بعض الروايات : أن قائل ذلك إنما هو أبو ذر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه عليه الصلاة والسلام قال في الثالثة «وإن رغم أنف أبي ذر» فكان أبو ذر يقول بعد تمام الحديث «وإن رغم أنف أبي ذر» (٣).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ / ١٠٣.

(٢) الرجز بلا نسبة أيضا في تفسير الطبري ٥ / ٣٩١. قال الطبري : فجعل قوله : «أن لا ترى» خبرا ، ثم عطف بالنهي فقال : «ولا تكلم» «ولا يزل».

(٣) صحيح البخاري (لباس باب ٢٤) وصحيح مسلم (إيمان حديث ١٥٣ ، ١٥٤) ومسند أحمد ٥ / ١٦٦.

٣٢٣

وفي بعض المسانيد والسنن عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول تعالى : «يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني فإني أغفر لك على ما كان منك ولا أبالي ، ولو أتيتني بقراب الأرض خطيئة أتيتك بقرابها مغفرة ما لم تشرك بي شيئا ، وإن أخطأت حتى تبلغ خطاياك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك» (١).

ولهذا شاهد في القرآن قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة» والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدا ، وروى ابن مردويه : من حديث عبادة وأبي الدرداء «لا تشركوا بالله شيئا وإن قطعتم أو صلبتم أو حرقتم».

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف الحمصي ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا نافع بن يزيد ، حدثني سيار بن عبد الرحمن عن يزيد بن قوذر عن سلمة بن شريح عن عبادة بن الصامت ، قال : أوصانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبع خصال «ألا تشركوا بالله شيئا وإن حرقتم وقطعتم وصلبتم».

وقوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي وأوصاكم وأمركم بالوالدين إحسانا أي أن تحسنوا إليهم كما قال تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء: ٢٣] وقرأ بعضهم : ووصى ربك : ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ، أي أحسنوا إليهم ، والله تعالى كثيرا ما يقرن بين طاعته وبر الوالدين كما قال (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [لقمان : ١٤ ـ ١٥] فأمر بالإحسان إليهما وإن كانا مشركين بحسبهما ، وقال تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [البقرة : ٨٣] الآية ، والآيات في هذا كثيرة.

وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي العمل أفضل؟ قال «الصلاة على وقتها» قلت ثم أي؟ قال «بر الوالدين» قلت ثم أي؟ قال «الجهاد في سبيل الله» ، قال ابن مسعود : حدثني بهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو استزدته لزادني (٢).

وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه بسنده عن أبي الدرداء وعن عبادة بن الصامت كل منهما يقول أوصاني خليلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أطع والديك وإن أمراك أن تخرج لهما من الدنيا فافعل» ولكن في إسناديهما ضعف ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) لما أوصى تعالى

__________________

(١) مسند أحمد ٥ / ١٥٤.

(٢) صحيح البخاري (مواقيت باب ٥) وصحيح مسلم (إيمان حديث ٣٩) وسنن أبي داود (طهارة باب ٦١)

٣٢٤

بالوالدين والأجداد عطف على ذلك الإحسان إلى الأبناء والأحفاد ، فقال تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) وذلك أنهم كانوا يقتلون أولادهم كما سولت لهم الشياطين ذلك ، فكانوا يئدون البنات خشية العار ، وربما قتلوا بعض الذكور خشية الافتقار ، ولهذا ورد في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي الذنب أعظم؟ قال «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» قلت : ثم أي؟ قال «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك» قلت : ثم أي؟ قال : «أن تزاني حليلة جارك» ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) [الفرقان : ٦٨] الآية (١).

وقوله تعالى : (مِنْ إِمْلاقٍ) قال ابن عباس وقتادة والسدي وغيره : هو الفقر (٢) ، أي ولا تقتلوهم من فقركم الحاصل ، وقال في سورة الإسراء (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) [الإسراء : ٣١] أي لا تقتلوهم خوفا من الفقر في الآجل ، ولهذا قال هناك (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) فبدأ برزقهم للاهتمام بهم ، أي لا تخافوا من فقركم بسبب رزقهم فهو على الله ، وأما في هذه الآية فلما كان الفقر حاصلا قال (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) لأنه الأهم هاهنا ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) كقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٣٣] وقد تقدم تفسيرها في قوله تعالى : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) [الأنعام : ١٢٠].

وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا أحد أغير من الله ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن» (٣) وقال عبد الملك بن عمير عن ورّاد عن مولاه المغيرة قال : قال سعد بن عبادة لو رأيت مع امرأتي رجلا لضربته بالسيف غير مصفح ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أتعجبون من غيرة سعد؟ فو الله لأنا أغير من سعد ، والله أغير مني ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن» (٤) أخرجاه ، وقال كامل أبو العلاء عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قيل يا رسول الله إنا نغار قال «والله إني لأغار والله أغير مني ، ومن غيرته نهى عن الفواحش» رواه ابن مردويه ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب

__________________

(١) صحيح البخاري (تفسير سورة ٢ باب ٣ وأدب باب ٢٠) وصحيح مسلم (إيمان حديث ١٤١ ، ١٤٢)

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٣٩١.

(٣) صحيح البخاري (توحيد باب ١٥ و٢٠ ونكاح باب ١٠٧ وتفسير سورة الأنعام باب ٧ وتفسير سورة الأعراف باب ١) وصحيح مسلم (توبة حديث ٣٢ ـ ٣٦)

(٤) صحيح البخاري (نكاح باب ١٠٧ وحدود باب ٤٠ وتوحيد باب ٢٠) وصحيح مسلم (لعان حديث ١٦ و١٧)

٣٢٥

الستة (١) ، وهو على شرط الترمذي فقد روي بهذا السند «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين».

وقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) وهذا مما نص تبارك وتعالى على النهي عنه تأكيدا وإلا فهو داخل في النهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن فقد جاء في الصحيحين : عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (٢) ، وفي لفظ لمسلم «والذي لا إله غيره لا يحل دم رجل مسلم» وذكره ، قال الأعمش : فحدثت به إبراهيم ، فحدثني عن الأسود عن عائشة بمثله.

وروى أبو داود والنسائي : عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال : زان محصن يرجم ، ورجل قتل متعمدا فيقتل ، ورجل يخرج من الإسلام حارب الله ورسوله ، فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض» وهذا لفظ النسائي.

وعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال وهو محصور : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إسلامه ، أو زنى بعد إحصانه ، أو قتل نفسا بغير نفس» فو الله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام. ولا تمنيت أن لي بديني بدلا منه إذ هداني الله ، ولا قتلت نفسا ، فبم تقتلونني؟» رواه الإمام أحمد (٣) والترمذي والنسائي وابن ماجة ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن.

وقد جاء النهي والزجر والوعيد في قتل المعاهد وهو المستأمن من أهل الحرب ، فروى البخاري : عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرفوعا «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما» (٤) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من قتل معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله ، فلا يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا» رواه ابن ماجة والترمذي (٥) ، وقال : حسن صحيح ، وقوله (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي هذا مما وصاكم به لعلكم تعقلون عن الله أمره ونهيه.

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٢ / ٣٢٦.

(٢) صحيح البخاري (ديات باب ٦) وصحيح مسلم (قسامة حديث ٢٥ ، ٢٦)

(٣) مسند أحمد ١ / ٦٣.

(٤) صحيح البخاري (جزية باب ٥ وديات باب ٣٠)

(٥) سنن ابن ماجة (ديات باب ٣٢) وسنن الترمذي (ديات باب ١١)

٣٢٦

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (١٥٢)

قال عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما أنزل الله (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) و (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) الآية ، فانطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله ، ويفسد ، فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) قال : فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم رواه أبو داود (١).

وقوله تعالى : (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) قال الشعبي ومالك وغير واحد من السلف : يعني حتى يحتلم ، وقال السدي : حتى يبلغ ثلاثين سنة ، وقيل أربعون سنة ، وقيل ستون سنة ، قال : وهذا كله بعيد ها هنا والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء ، كما توعد على تركه في قوله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [المطففين : ١ ـ ٦] وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال والميزان.

وفي كتاب الجامع لأبي عيسى الترمذي : من حديث الحسين بن قيس أبي علي الرحبي ، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحاب الكيل والميزان «إنكم وليتم أمرا (٢) هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم» ثم قال : لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحسين وهو ضعيف في الحديث. وقد روي بإسناد صحيح عن ابن عباس موقوفا (٣).

قلت وقد رواه ابن مردويه في تفسيره من حديث شريك عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنكم معشر الموالي قد بشركم الله بخصلتين بهما هلكت القرون المتقدمة : المكيال والميزان».

وقوله تعالى : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي من اجتهد في أداء الحق وأخذه ، فإن أخطأ

__________________

(١) سنن أبي داود (وصايا باب ٧)

(٢) عبارة الترمذي «إنكم قد وليتم أمرين ...».

(٣) سنن الترمذي (بيوع باب ٩)

٣٢٧

بعد استفراغ وسعه وبذل جهده فلا حرج عليه ، وقد روى ابن مردويه من حديث بقية عن ميسرة بن عبيد عن عمرو بن ميمون بن مهران عن أبيه عن سعيد بن المسيب ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآية (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) فقال «من أوفى على يده في الكيل والميزان والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما لم يؤاخذ وذلك تأويل وسعها» هذا مرسل غريب.

وقوله (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) كقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) [المائدة : ٨] الآية ، وكذا التي تشبهها في سورة النساء ، يأمر تعالى بالعدل في الفعال والمقال على القريب والبعيد ، والله تعالى يأمر بالعدل لكل أحد في كل وقت وفي كل حال.

وقوله (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) قال ابن جرير (١) : يقول وبوصية الله التي أوصاكم بها فأوفوا ، وإيفاء ذلك أن تطيعوه فيما أمركم ونهاكم وتعملوا بكتابه وسنة رسوله ، وذلك هو الوفاء بعهد الله.

(ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) يقول تعالى : هذا أوصاكم به وأمركم به وأكد عليكم فيه (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه قبل هذا ، وقرأ بعضهم بتشديد الذال وآخرون بتخفيفها.

(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٥٣)

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) وفي قوله (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى : ١٣] ونحو هذا في القرآن ، قال : أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والتفرقة ، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله (٢) ونحو هذا ، قاله مجاهد وغير واحد.

وقال الإمام أحمد بن حنبل (٣) : حدثنا الأسود بن عامر شاذان ، حدثنا أبو بكر هو ابن عياش ، عن عاصم هو ابن أبي النجود ، عن أبي وائل ، عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه : قال : خط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطا بيده ، ثم قال «هذا سبيل الله مستقيما» وخط عن يمينه وشماله ثم قال «هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٣٩٥.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٣٩٧.

(٣) مسند أحمد ١ / ٤٦٥.

٣٢٨

وكذا رواه الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن أبي بكر بن عياش به ، وقال : صحيح ولم يخرجاه ، وهكذا رواه أبو جعفر الرازي وورقاء وعمرو بن أبي قيس ، عن عاصم عن أبي وائل شقيق سلمة عن ابن مسعود مرفوعا به نحوه ، وكذا رواه يزيد بن هارون ومسدد والنسائي ، عن يحيى بن حبيب بن عربي وابن حبان من حديث ابن وهب ، أربعتهم عن حماد بن زيد عن عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود به ، وكذا رواه ابن جرير عن المثنى عن الحماني عن حماد بن زيد به ، ورواه الحاكم عن أبي بكر بن إسحاق عن إسماعيل بن إسحاق القاضي عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد به كذلك ، وقال : صحيح ولم يخرجاه. وقد روى هذا الحديث النسائي والحاكم من حديث أحمد بن عبد الله بن يونس ، عن أبي بكر بن عياش عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود به مرفوعا ، وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث يحيى الحماني عن أبي بكر بن عياش عن عاصم عن زر به ، فقد صححه الحاكم كما رأيت من الطريقين ، ولعل هذا الحديث عن عاصم بن أبي النجود عن زر وعن أبي وائل شقيق بن سلمة ، كلاهما عن ابن مسعود به والله أعلم.

وقال الحاكم : وشاهد هذا الحديث حديث الشعبي ، عن جابر من وجه غير معتمد ، يشير إلى الحديث الذي قال الإمام أحمد وعبد بن حميد واللفظ لأحمد : حدثنا عبد الله بن محمد وهو أبو بكر بن أبي شيبة ، أنبأنا أبو خالد الأحمر عن مجاهد عن الشعبي عن جابر ، قال : كنا جلوسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخط خطاّ هكذا أمامه فقال «هذا سبيل الله» وخطين عن يمينه وخطين عن شماله وقال «هذه سبل الشيطان» ثم وضع يده في الخط الأوسط ، ثم تلا هذه الآية (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١) ورواه أحمد وابن ماجة : في كتاب السنة من سننه ، والبزار عن أبي سعيد عبد الله بن سعيد عن أبي خالد الأحمر به ، قلت : ورواه الحافظ ابن مردويه من طريقين عن أبي سعيد الكندي ، حدثنا أبو خالد عن مجالد عن الشعبي عن جابر ، قال : خط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطا ، وخط عن يمينه خطا وخط عن يساره خطا ، ووضع يده على الخط الأوسط ، وتلا هذه الآية (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) ولكن العمدة على حديث ابن مسعود مع ما فيه من الاختلاف إن كان مؤثرا ، وقد روي موقوفا عليه.

قال ابن جرير (٢) : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن أبان عن عثمان ، أن رجلا قال لابن مسعود ما الصراط المستقيم؟ قال : تركنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أدناه وطرفه في الجنة ، وعن يمينه جواد وعن يساره جواد ثم رجال يدعون من مر بهم ، فمن أخذ في

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ٣٩٧.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٣٩٧.

٣٢٩

تلك الجواد انتهت به إلى النار ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة ، ثم قرأ ابن مسعود (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) الآية.

وقال ابن مردويه : حدثنا أبو عمرو ، حدثنا محمد بن عبد الوهاب ، حدثنا آدم ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا أبان بن عياش عن مسلم بن عمران عن عبد الله بن عمر ، سأل عبد الله عن الصراط المستقيم فقال ابن مسعود : تركنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أدناه وطرفه في الجنة ، وذكر تمام الحديث كما تقدم والله أعلم.

وقد روي من حديث النواس بن سمعان نحوه ، قال الإمام أحمد : حدثني الحسن بن سوار أبو العلاء ، حدثنا ليث يعني ابن سعد عن معاوية بن صالح ، أن عبد الرحمن بن جبير بن نفير حدثه عن أبيه عن النواس بن سمعان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما ، وعن جنبي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يدعو : يا أيها الناس هلموا ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ولا تفرقوا وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه فإنك إن فتحته تلجه فالصراط الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله ، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم» (١) ورواه الترمذي والنسائي عن علي بن حجر ، زاد النسائي وعمرو بن عثمان كلاهما عن بقية بن الوليد عن يحيى بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان به ، وقال الترمذي : حسن غريب (٢).

وقوله تعالى : (فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) إنما وحد سبيله لأن الحق واحد ، ولهذا جمع السبل لتفرقها وتشعبها كما قال تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [البقرة : ٢٥٧] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي إدريس الخولاني عن عبادة بن الصامت ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟» ثم تلا (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) حتى فرغ من ثلاث آيات ثم قال «ومن وفى بهن فأجره على الله ، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه».

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً

__________________

(١) مسند أحمد ٤ / ١٨٢ ـ ١٨٣.

(٢) سنن الترمذي (أدب باب ٧٦)

٣٣٠

لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٥٥)

قال ابن جرير : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) تقديره ثم قل يا محمد مخبرا عنا بأنا آتينا موسى الكتاب ، بدلالة قوله (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) قلت : وفي هذا نظر ، وثم هاهنا إنما هي لعطف الخبر بعد الخبر لا للترتيب هاهنا كما قال الشاعر : [الخفيف]

قل لمن ساد ثم ساد أبوه

ثم قد ساد قبل ذلك جده (١)

وهاهنا لما أخبر الله سبحانه عن القرآن بقوله (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) عطف بمدح التوراة ورسولها ، فقال : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) ، وكثيرا ما يقرن سبحانه بين ذكر القرآن والتوراة ، كقوله تعالى : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا) [الأحقاف : ١٢] وقوله أول هذه السورة (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) [الأنعام : ٩١] الآية ، وبعدها (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) الآية.

وقال تعالى مخبرا عن المشركين (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) قال تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) [الأنعام : ٩٢] وقال تعالى مخبرا عن الجن أنهم قالوا (يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) [القصص : ٤٨] الآية ، وقوله تعالى : (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً) أي آتيناه الكتاب الذي أنزلناه إليه تماما كاملا جامعا ، لما يحتاج إليه في شريعته كقوله (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [الأعراف : ١٤٥] الآية ، وقوله تعالى : (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) أي جزاء على إحسانه في العمل وقيامه بأوامرنا وطاعتنا كقوله (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) [الرحمن : ٦٠] وكقوله (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) [البقرة : ١٢٤] وكقوله (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) [السجدة : ٢٤].

وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) يقول أحسن فيما أعطاه الله. وقال قتادة من أحسن في الدنيا تمم له ذلك في الآخرة ، واختار ابن جرير أن تقديره (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً) على إحسانه فكأنه جعل الذي مصدرية كما قيل في قوله تعالى : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة : ٦٩] أي كخوضهم وقال ابن رواحة :

__________________

(١) الرواية المشهورة : «إنّ من ساد ... إلخ». والبيت لأبي نواس في ديوانه ١ / ٣٥٥ ، وخزانة الأدب ١١ / ٣٧ ، والدرر ٦ / ٩٣ ، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص ٣٦٤ ، ورصف المباني ص ١٧٤ ، ومغني اللبيب ١ / ١١٧.

٣٣١

[البسيط]

وثبت الله ما آتاك من حسن

في المرسلين ونصرا كالذي نصروا

وقال آخرون : الذي هاهنا بمعنى الذين ، قال ابن جرير : وذكر عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرؤها تماما على الذين أحسنوا (١) ، وقال ابن أبي نجيح : عن مجاهد تماما على الذي أحسن ، قال على المؤمنين والمحسنين ، وكذا قال أبو عبيدة وقال البغوي المحسنون الأنبياء والمؤمنون ، يعني أظهرنا فضله عليهم قلت : كقوله تعالى (قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) [الأعراف : ١٤٤] ولا يلزم اصطفاؤه على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم الأنبياء والخليل عليهما‌السلام لأدلة أخرى.

قال ابن جرير وروى أبو عمرو بن العلاء عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرؤها تماما على الذي أحسن رفعا بتأويل على الذي هو أحسن ثم قال وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها وإن كان لها في العربية وجه صحيح (٢) ، وقيل : معناه تماما على إحسان الله إليه زيادة على ما أحسن إليه حكاه ابن جرير والبغوي ولا منافاة بينه وبين القول الأول ، وبه جمع ابن جرير كما بيناه ، ولله الحمد.

وقوله تعالى : (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً) فيه مدح لكتابه الذي أنزله الله عليه (لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) فيه الدعوة إلى اتباع القرآن يرغب سبحانه عباده في كتابه ويأمرهم بتدبره والعمل به والدعوة إليه ووصفه بالبركة لمن اتبعه وعمل به في الدنيا والآخرة لأنه حبل الله المتين.

(أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ(١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) (١٥٧)

قال ابن جرير : معناه وهذا كتاب أنزلناه لئلا تقولوا (إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) (٣) يعني لينقطع عذركم كقوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) [القصص : ٤٧] الآية.

وقوله تعالى : (عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هم اليهود

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٣٩٩.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٤٠٠. قال : «لخلافها ما عليه الحجة مجمعة من قراءة الأمصار».

(٣) تفسير الطبري ٥ / ٤٠٢.

٣٣٢

والنصارى (١) وكذا قال مجاهد والسدي وقتادة وغير واحد.

وقوله (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) أي وما كنا نفهم ما يقولون لأنهم ليسوا بلساننا ونحن في غفلة وشغل مع ذلك عما هم فيه.

وقوله (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) أي وقطعنا تعللكم أن تقولوا لو أنا أنزل علينا ما أنزل عليهم لكنا أهدى منهم فيما أوتوه كقوله (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) [فاطر : ٤٢] الآية ، وهكذا قال هاهنا (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) يقول : فقد جاءكم من الله على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم النبي العربي قرآن عظيم فيه بيان للحلال والحرام وهدى لما في القلوب ورحمة من الله لعباده الذين يتبعونه ويقتفون ما فيه.

وقوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها) أي لم ينتفع بما جاء به الرسول ولا اتبع ما أرسل به ولا ترك غيره بل صدف عن اتباع آيات الله أي صدف الناس وصدهم عن ذلك قاله السدي ، وعن ابن عباس ومجاهد وقتادة وصدف عنها أعرض عنها وقول السدي هاهنا فيه قوة لأنه قال (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها) كما تقدم في أول السورة (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) [الأنعام : ٢٦] وقال تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) [النحل : ٨٨] وقال في هذه الآية الكريمة (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) وقد يكون المراد فيما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها) أي لا آمن بها ولا عمل بها كقوله تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [القيامة : ٣١ ـ ٣٢] وغير ذلك من الآيات الدالة على اشتمال الكافر على التكذيب بقلبه وترك العمل بجوارحه ولكن كلام السدي أقوى وأظهر ، والله أعلم ، لأن الله قال (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها) كقوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ).

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (١٥٨)

يقول تعالى متوعدا للكافرين به والمخالفين لرسله والمكذبين بآياته والصادين عن سبيله (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) وذلك كائن يوم القيامة (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) وذلك قبل يوم القيامة كائن من أمارات

__________________

(١) المصدر السابق.

٣٣٣

الساعة وأشراطها كما قال البخاري في تفسير هذه الآية حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد حدثنا عمارة حدثنا أبو زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا رآها الناس آمن من عليها» فذلك حين (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ).

حدثنا إسحاق حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها» وفي لفظ «فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل» ثم قرأ هذه الآية (١). هكذا روي هذا الحديث من هذين الوجهين ومن الوجه الأول أخرجه بقية الجماعة في كتبهم إلا الترمذي من طرق عن عمارة بن القعقاع بن شبرمة عن أبي زرعة بن جرير عن أبي هريرة به.

وأمّا الطريق الثاني فرواه عن إسحاق غير منسوب وقيل هو ابن منصور الكوسج وقيل إسحاق بن نصر والله أعلم ، وقد رواه مسلم (٢) عن محمد بن رافع الجنديسابوري كلاهما عن عبد الرزاق به ، وقد ورد هذا الحديث من طرق أخر عن أبي هريرة كما انفرد مسلم بروايته من حديث العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة عن أبيه عن أبي هريرة به.

وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا ابن فضيل عن أبيه عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ، طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض» (٣) ورواه أحمد عن وكيع عن فضيل بن غزوان عن أبي حازم سلمان عن أبي هريرة به وعنده والدخان (٤) ، ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب عن وكيع ورواه هو أيضا والترمذي من غير وجه عن فضيل بن غزوان به ، ورواه إسحاق بن عبد الله الفروي عن مالك بن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ، ولكن لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذا الوجه لضعف الفروي ـ والله أعلم.

وقال ابن جرير (٥) حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا شعيب بن الليث عن أبيه عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت آمن الناس كلهم وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم

__________________

(١) رواه البخاري من الوجهين في صحيحه (تفسير سورة الأنعام باب ١٠)

(٢) صحيح مسلم (إيمان حديث ٢٤٨)

(٣) تفسير الطبري ٥ / ٤١١.

(٤) مسند أحمد ٢ / ٤٤٥ ـ ٤٤٦.

(٥) تفسير الطبري ٥ / ٤٠٨.

٣٣٤

تكن آمنت من قبل» الآية ، ورواه ابن لهيعة عن الأعرج عن أبي هريرة به ورواه وكيع عن فضيل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة به ، أخرج هذه الطرق كلها الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره.

وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن يحيى أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها قبل منه» (١) لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة.

حديث آخر عن أبي ذر الغفاري في الصحيحين وغيرهما من طرق عن إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي عن أبيه عن أبي ذر جندب بن جنادة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أتدري أين تذهب الشمس إذا غربت؟» قلت : لا أدري قال : «إنها تنتهي دون العرش فتخر ساجدة ثم تقوم حتى يقال لها ارجعي فيوشك يا أبا ذر أن يقال لها ارجعي من حيث جئت وذلك حين (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) (٢).

حديث آخر عن حذيفة بن أسيد بن أبي شريحة الغفاري رضي الله عنه ، قال الإمام أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن فرات عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : أشرف علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، وخروج عيسى ابن مريم ، وخروج الدجال ، وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق أو تحشر الناس تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا» (٣) وهكذا رواه مسلم وأهل السنن الأربعة من حديث فرات القزاز عن أبي الطفيل عامر بن واثلة عن حذيفة بن أسيد به وقال الترمذي : حسن صحيح.

حديث آخر عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ، قال الثوري عن منصور عن ربعي عن حذيفة قال سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت يا رسول الله ما آية طلوع الشمس من مغربها؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تطول تلك الليلة حتى تكون قدر ليلتين فينتبه الذين كانوا يصلون فيها فيعملون كما كانوا يعملون قبلها والنجوم لا ترى قد غابت مكانها ثم يرقدون ثم يقومون فيصلون ثم يرقدون ثم يقومون فيطل عليهم جنوبهم حتى يتطاول عليهم الليل فيفزع الناس ولا يصبحون فبينما هم ينتظرون طلوع الشمس من مشرقها إذ طلعت من مغربها فإذا رآها الناس آمنوا فلم ينفعهم إيمانهم» رواه ابن مردويه ، وليس هو في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه ـ والله أعلم ـ.

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٤٠٨.

(٢) صحيح مسلم (إيمان حديث ٢٥٠) وصحيح البخاري (تفسير سورة يس باب ١) ومسند أحمد ٥ / ١٦٥.

(٣) مسند أحمد ٤ / ٧.

٣٣٥

حديث آخر عن أبي سعيد الخدري واسمه سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنه وأرضاه. قال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا ابن أبي ليلى عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) قال : «طلوع الشمس من مغربها» (١) ورواه الترمذي عن سفيان بن وكيع عن أبيه به وقال غريب ، ورواه بعضهم ولم يرفعه.

وفي حديث طالوت بن عباد عن فضال بن جبير عن أبي أمامة صدي بن عجلان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن أول الآيات طلوع الشمس من مغربها».

وفي حديث عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن صفوان بن عسال قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن الله فتح بابا قبل المغرب عرضه سبعون عاما للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه» رواه الترمذي وصححه النسائي وابن ماجة في حديث طويل.

حديث آخر عن عبد الله بن أبي أوفى قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن علي بن دحيم ، حدثنا أحمد بن حازم حدثنا ضرار بن صرد ، حدثنا ابن فضيل عن سليمان بن يزيد عن عبد الله بن أبي أوفى قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «ليأتين على الناس ليلة تعدل ثلاث ليالي من لياليكم هذه فإذا كان ذلك يعرفها المتنفلون يقوم أحدهم فيقرأ حزبه ثم ينام ثم يقوم فيقرأ حزبه ثم ينام فبينما هم كذلك إذ صاح الناس بعضهم في بعض فقالوا ما هذا فيفزعون إلى المساجد فإذا هم بالشمس قد طلعت حتى إذا صارت في وسط السماء رجعت وطلعت من مطلعها ـ قال حينئذ ـ لا ينفع نفسا إيمانها» هذا حديث غريب من هذا الوجه وليس هو في شيء من الكتب الستة.

حديث آخر عن عبد الله بن عمرو. قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا أبو حيان عن أبي زرعة عن عمرو بن جرير قال : جلس ثلاثة نفر من المسلمين إلى مروان بالمدينة فسمعوه وهو يحدث عن الآيات يقول إن أولها خروج الدجال قال فانصرفوا إلى عبد الله بن عمرو فحدثوه بالذي سمعوه من مروان في الآيات فقال : لم يقل مروان شيئا حفظت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة ضحى فأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها» ثم قال عبد الله وكان يقرأ الكتب وأظن أولها خروجا طلوع الشمس من مغربها وذلك أنها كلما غربت أتت تحت العرش وسجدت واستأذنت في الرجوع فأذن لها في الرجوع حتى إذا بدا لله أن تطلع من مغربها فعلت كما كانت تفعل ، أتت تحت العرش فسجدت واستأذنت في الرجوع فلم يرد عليها شيء ثم تستأذن في الرجوع فلا يرد عليها شيء حتى إذا ذهب من الليل ما شاء الله أن يذهب وعرفت أنه إذا أذن لها في الرجوع لم

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ٣١.

٣٣٦

تدرك المشرق قالت : رب ما أبعد المشرق من لي بالناس ، حتى إذا صار الأفق كأنه طوق استأذنت في الرجوع فيقال لها : من مكانك فاطلعي فطلعت على الناس من مغربها ، ثم تلا عبد الله هذه الآية (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) الآية (١) ، وأخرجه مسلم في صحيحه وأبو داود وابن ماجة في سننيهما من حديث أبي حيان التيمي واسمه يحيى بن سعيد بن حيان بن أبي زرعة بن عمرو بن جرير به.

حديث آخر عنه قال الطبراني حدثنا أحمد بن يحيى بن خالد بن حيان الرقي حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زريق الحمصي ، حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار ، حدثنا ابن لهيعة عن يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا طلعت الشمس من مغربها خر إبليس ساجدا ينادي ويجهر إلهي مرني أن أسجد لمن شئت ـ قال ـ فيجتمع إليه زبانيته فيقولون كلهم ما هذا التضرع؟ فيقول : إنما سألت ربي أن ينظرني إلى الوقت المعلوم وهذا الوقت المعلوم ـ قال ـ ثم تخرج دابة الأرض من صدع في الصفا ـ قال ـ فأول خطوة تضعها بأنطاكيا فتأتي إبليس فتلطمه» (٢) هذا حديث غريب جدا وسنده ضعيف ولعله من الزاملتين اللتين أصابهما عبد الله بن عمرو يوم اليرموك فأما رفعه فمنكر ، والله أعلم.

حديث آخر عن عبد الله بن عمرو وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين. قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد يرده إلى مالك بن يخامر عن ابن السعدي أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل» فقال معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الهجرة خصلتان إحداهما تهجر السيئات والأخرى تهاجر إلى الله ورسوله ولا تنقطع ما تقبلت التوبة ولا تزال التوبة تقبل حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه وكفي الناس العمل» هذا الحديث حسن الإسناد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ، والله أعلم.

حديث آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه. قال عوف الأعرابي عن محمد بن سيرين حدثني أبو عبيدة عن ابن مسعود أنه كان يقول ما ذكر من الآيات فقد مضى غير أربع. طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض ، وخروج يأجوج ومأجوج. قال وكان يقول الآية التي تختم بها الأعمال طلوع الشمس من مغربها ألم تر أن الله يقول (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ)

__________________

(١) مسند أحمد ٢ / ٢٠١.

(٢) رواه السيوطي في الدر المنثور ٣ / ١١٦ وفيه : «فتخطمه».

(٣) مسند أحمد ١ / ١٩٢.

٣٣٧

الآية كلها يعني طلوع الشمس من مغربها (١). حديث ابن عباس رضي الله عنهما رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من حديث عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب بن منبه عن ابن عباس مرفوعا فذكر حديثا طويلا غريبا منكرا رفعه ، وفيه أن الشمس والقمر يطلعان يومئذ من المغرب مقرونين وإذا انتصفا السماء رجعا ثم عادا إلى ما كانا عليه وهو حديث غريب جدا بل منكر بل موضوع إن ادعي أنه مرفوع ، فأما وقفه على ابن عباس أو وهب بن منبه وهو الأشبه فغير مدفوع ، والله أعلم.

وقال سفيان عن منصور عن عامر عن عائشة رضي الله عنها قالت : إذا خرج أول الآيات طرحت [الأقلام] (٢) وحبست الحفظة وشهدت الأجساد على الأعمال رواه ابن جرير (٣) رحمه‌الله تعالى.

فقوله تعالى : (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) أي إذا أنشأ الكافر إيمانا يومئذ لا يقبل منه فأما من كان مؤمنا قبل ذلك فإن كان مصلحا في عمله فهو بخير عظيم وإن لم يكن مصلحا فأحدث توبة حينئذ لم تقبل منه توبته كما دلت عليه الأحاديث المتقدمة وعليه يحمل قوله تعالى : (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) أي ولا يقبل منها كسب عمل صالح إذا لم يكن عاملا به قبل ذلك.

وقوله تعالى : (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) تهديد شديد للكافرين ووعيد أكيد لمن سوف بإيمانه وتوبته إلى وقت لا ينفعه ذلك وإنما كان هذا الحكم عند طلوع الشمس من مغربها لاقتراب الساعة وظهور أشراطها كما قال (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) [محمد : ١٨] وقوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر : ٨٤ ـ ٨٥] الآية.

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (١٥٩)

قال مجاهد وقتادة والضحاك والسدي نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى وقال العوفي عن ابن عباس في قوله (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) وذلك أن اليهود والنصارى اختلفوا قبل مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتفرقوا فلما بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنزل الله عليه (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) الآية.

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٤٠٩.

(٢) الزيادة من الطبري.

(٣) تفسير الطبري ٥ / ٤١١.

٣٣٨

وقال ابن جرير (١) : حدثني سعيد بن عمر السكوني حدثنا بقية بن الوليد كتب إلي عباد بن كثير حدثنا ليث عن طاوس عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) وليسوا منك هم أهل البدع وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة. لكن هذا إسناد لا يصح فإن عباد بن كثير متروك الحديث ولم يختلق هذا الحديث ولكنه وهم في رفعه فإنه رواه سفيان الثوري عن ليث وهو ابن أبي سليم عن طاوس عن أبي هريرة في الآية أنه قال : نزلت في هذه الأمة.

وقال أبو غالب عن أبي أمامة في قوله (وَكانُوا شِيَعاً) قال هم الخوارج وروي عنه مرفوعا ولا يصح. وقال شعبة عن مجالد عن الشعبي عن شريح عن عمر رضي الله عنه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعائشة رضي الله عنها (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) ـ قال ـ هم أصحاب البدع» وهذا رواه ابن مردويه وهو غريب أيضا ولا يصح رفعه ، والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفا له فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق فمن اختلف فيه (وَكانُوا شِيَعاً) أي فرقا كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات فإن الله تعالى قد برأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما هم فيه وهذه الآية كقوله تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الشورى : ١٣] الآية.

وفي الحديث «نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد» (٢) فهذا هو الصراط المستقيم وهو ما جاءت به الرسل من عبادة الله وحده لا شريك له والتمسك بشريعة الرسول المتأخر وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء والرسل برآء منها كما قال الله تعالى (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) وقوله تعالى (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) كقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الحج : ١٧] الآية ثم بين لطفه سبحانه في حكمه وعدله يوم القيامة فقال تعالى.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١٦٠)

وهذه الآية الكريمة مفصلة لما أجمل في الآية الأخرى وهي قوله (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) وقد وردت الأحاديث مطابقة لهذه الآية كما قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه‌الله : حدثنا عفان حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا الجعد أبو عثمان عن أبي رجاء العطاردي عن ابن

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٤١٤.

(٢) صحيح البخاري (أنبياء باب ٤٨) وصحيح مسلم (فضائل حديث ١٤٣ و١٤٤) وسنن أبي داود (سنة باب ١٣)

٣٣٩

عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى «إن ربكم عزوجل رحيم من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة. ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله عزوجل ولا يهلك على الله إلا هالك» (١) ورواه البخاري ومسلم والنسائي من حديث الجعد أبي عثمان به.

وقال أحمد (٢) أيضا : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول الله عزوجل : من عمل حسنة فله عشر أمثالها وأزيد ومن عمل سيئة فجزاؤها مثلها أو أغفر ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي شيئا جعلت له مثلها مغفرة ، ومن اقترب إلي شبرا اقتربت إليه ذراعا ومن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» ورواه مسلم (٣) عن أبي كريب عن أبي معاوية به ، وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن الأعمش به ، ورواه ابن ماجة عن علي بن محمد الطنافسي عن وكيع به.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا شيبان حدثنا حماد ، حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا ومن هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شيء فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة» واعلم أن تارك السيئة الذي لا يعملها على ثلاثة أقسام تارة يتركها لله فهذا تكتب له حسنة على كفه عنها لله تعالى وهذا عمل ونية ولهذا جاء أنه يكتب له حسنة كما جاء في بعض ألفاظ الصحيح فإنما تركها من جرائي أي من أجلي ، وتارة يتركها نسيانا وذهولا عنها فهذا لا له ولا عليه لأنه لم ينو خيرا ولا فعل شرا ، وتارة يتركها عجزا وكسلا عنها بعد السعي في أسبابها والتلبس بما يقرب منها ، فهذا بمنزلة فاعلها كما جاء في الحديث الصحيح عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قالوا يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال «إنه كان حريصا على قتل صاحبه» (٤).

وقال الإمام أبو يعلى الموصلي : حدثنا مجاهد بن موسى ، حدثنا علي وحدثنا الحسن بن الصباح وابن خيثمة ، قالا : حدثنا إسحاق بن سليمان كلاهما عن موسى بن عبيدة عن أبي

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٢٧٩.

(٢) مسند أحمد ٥ / ١٥٣.

(٣) صحيح مسلم (توبة حديث ١ وذكر حديث ١) وسنن الترمذي (دعاء باب ١٣١) وابن ماجة (أدب باب ٥٨)

(٤) صحيح البخاري (إيمان باب ٢٢ وفتن باب ١٠) وصحيح مسلم (فتن حديث ١٤ و١٥) وسنن ابن ماجة (فتن باب ١١)

٣٤٠