تفسير القرآن العظيم - ج ٣

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٣

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٩٥

فذكره (١).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن عمرو بن قيس ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن المسوّر ، قال : تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) قالوا : يا رسول الله ما هذا الشرح؟ قال «نور يقذف به في القلب» قالوا : يا رسول الله فهل لذلك من أمارة تعرف؟ قال «نعم» قالوا : وما هي؟ قال «الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل الموت».

وقال ابن جرير (٢) أيضا : حدثني هلال بن العلاء ، حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن أبي عبد الرحيم عن زيد بن أبي أنيسة ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله «إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح» قالوا : فهل لذلك من علامة يعرف بها؟ قال «الإنابة إلى دار الخلود والتنحي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت» وقد رواه من وجه آخر عن ابن مسعود متصلا مرفوعا فقال : حدثني ابن سنان القزاز ، حدثنا محبوب بن الحسن الهاشمي ، عن يونس ، عن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عتبة ، عن عبد الله بن مسعود ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) قالوا : يا رسول الله وكيف يشرح صدره؟ قال «يدخل فيه النور فينفسح» قالوا : وهل لذلك علامة يا رسول الله؟ قال «التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل أن ينزل الموت» (٣) فهذه طرق لهذا الحديث مرسلة ومتصلة ، يشد بعضها بعضا ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) قرئ بفتح الضاد وتسكين الياء ، والأكثرون ضيقا بتشديد الياء وكسرها ، وهما لغتان كهين وهين ، وقرأ بعضهم حرجا بفتح الحاء وكسر الراء قيل بمعنى آثم ، قاله السدي ، وقيل : بمعنى القراءة الأخرى حرجا بفتح الحاء والراء ، وهو الذي لا يتسع لشيء من الهدى ، ولا يخلص إليه شيء ما ينفعه من الإيمان ، ولا ينفذ فيه.

وقد سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا من الأعراب من أهل البادية من مدلج عن الحرجة ، فقال : هي الشجرة تكون بين الأشجار ، لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء ، فقال عمر رضي الله عنه : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير. وقال العوفي : عن ابن عباس ، يجعل الله عليه الإسلام ضيقا ، والإسلام واسع ، وذلك حين يقول (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٣٣٥.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٣٣٦.

(٣) المصدر السابق.

٣٠١

فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) يقول : ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق ، وقال مجاهد والسدي : ضيقا حرجا شاكا ، وقال عطاء الخراساني : ضيقا حرجا أي ليس للخير فيه منفذ ، وقال ابن المبارك عن ابن جريج : ضيقا حرجا بلا إله إلا الله حتى لا يستطيع أن تدخل قلبه ، (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) من شدة ذلك عليه. وقال سعيد بن جبير : يجعل صدره ضيقا حرجا ، قال: لا يجد فيه مسلكا إلا صعدا. وقال السدي (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) من ضيق صدره.

وقال عطاء الخراساني (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) يقول مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد إلى السماء ، وقال الحكم بن أبان : عن عكرمة عن ابن عباس (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) يقول : فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء ، فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه ، حتى يدخله الله في قلبه ، وقال الأوزاعي (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) كيف يستطيع من جعل الله صدره ضيقا أن يكون مسلما.

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير (١) : وهذا مثل ضربه الله لقلب هذا الكافر في شدة ضيقه عن وصول الإيمان إليه ، يقول : فمثله في امتناعه من قبول الإيمان وضيقه عن وصوله إليه ، مثل امتناعه عن الصعود إلى السماء وعجزه عنه ، لأنه ليس في وسعه وطاقته ، وقال : في قوله (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) يقول : كما يجعل الله صدر من أراد إضلاله ضيقا حرجا ، كذلك يسلط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ، ممن أبى الإيمان بالله ورسوله فيغويه ويصده عن سبيل الله ، وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : الرجس الشيطان ، وقال مجاهد : الرجس : كل ما لا خير فيه ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الرجس العذاب (٢).

(وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢٧)

لما ذكر تعالى طريق الضالين عن سبيله الصادين عنها ، نبه على شرف ما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق ، فقال تعالى : (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) منصوب على الحال ، أي هذا الدين الذي شرعناه لك يا محمد بما أوحينا إليك هذا القرآن هو صراط الله المستقيم ، كما تقدم في حديث الحارث عن علي في نعت القرآن : هو صراط الله المستقيم وحبل الله المتين وهو الذكر الحكيم ، رواه أحمد والترمذي بطوله.

(قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) أي وضحناها وبيناها وفسرناها (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) أي لمن له فهم ووعي يعقل عن الله ورسوله (لَهُمْ دارُ السَّلامِ) وهي الجنة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي يوم القيامة ، وإنما وصف الله الجنة هاهنا بدار السلام ، لسلامتهم فيما سلكوه من الصراط المستقيم المقتفي أثر

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٣٣٩.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٣٤٠ ـ ٣٤١.

٣٠٢

الأنبياء وطرائقهم ، فكما سلموا من آفات الاعوجاج أفضوا إلى دار السلام (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) أي حافظهم وناصرهم ومؤيدهم (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي جزاء على أعمالهم الصالحة ، تولاهم وأثابهم الجنة بمنه وكرمه.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (١٢٨)

يقول تعالى واذكر يا محمد فيما تقصه عليهم وتنذرهم به (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) يعني الجن وأولياءهم من الإنس الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ، ويعوذون بهم ويطيعونهم ، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ، (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي ثم يقول : يا معشر الجن ، وسياق الكلام يدل على المحذوف ، ومعنى قوله (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي من إغوائهم ، وإضلالهم ، كقوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) [يس : ٦٠ ـ ٦٢] وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) يعني أضللتم منهم كثيرا (١) ، وكذا قال مجاهد والحسن وقتادة ، (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) يعني أن أولياء الجن من الإنس قالوا : مجيبين لله تعالى عن ذلك بهذا.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الأشهب هوذة بن خليفة ، حدثنا عوف عن الحسن في هذه الآية ، قال استكثرتم من أهل النار يوم القيامة ، فقال أولياؤهم من الإنس : ربنا استمتع بعضنا ببعض ، قال الحسن وما كان استمتاع بعضهم ببعض ، إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس.

وقال محمد بن كعب في قوله (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) قال الصحابة : في الدنيا.

وقال ابن جريج : كان الرجل في الجاهلية ينزل الأرض فيقول : أعوذ بكبير هذا الوادي ، فذلك استمتاعهم فاعتذروا به يوم القيامة ، وأما استمتاع الجن بالإنس فإنه كان فيما ذكر ، ما ينال الجن من الإنس من تعظيمهم إياهم في استعانتهم بهم ، فيقولون : قد سدنا الإنس والجن (٢).

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٣٤٢.

(٢) في تفسير الطبري ٥ / ٣٤٣ : «قد سدنا الجنّ والحن» بجيم منقوطة في الأول وحاء مهملة في الثاني. وعبارة «وأما استمتاع الجن بالإنس ... إلخ» هي لابن جرير مفصوله عن أثر ابن جريج الذي ينتهي عند قوله «يوم القيامة».

٣٠٣

(وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) قال السدي : يعني الموت ، (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ) أي مأواكم ومنزلكم أنتم وإياهم وأولياؤكم ، (خالِدِينَ فِيها) أي ماكثين فيها مكثا مخلدا إلا ما شاء الله ، قال بعضهم : يرجع معنى الاستثناء إلى البرزخ ، وقال بعضهم : هذا رد إلى مد الدنيا ، وقيل غير ذلك من الأقوال التي سيأتي تقريرها ، عند قوله تعالى في سورة هود ، (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [الأنعام : ١٠٧].

وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيره هذه الآية ، من طريق عبد الله بن صالح كاتب الليث ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي حاتم بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) قال : إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا نارا (١).

(وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٢٩)

قال سعيد عن قتادة في تفسيرها : إنما يولي الله الناس بأعمالهم ، فالمؤمن وليّ المؤمن أين كان وحيث كان ، والكافر وليّ الكافر أينما كان وحيثما كان ، وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي واختاره ابن جرير (٢) ، وقال معمر عن قتادة في تفسير الآية : يولي الله بعض الظالمين بعضا في النار ، يتبع بعضهم بعضا (٣). وقال مالك بن دينار : قرأت في الزبور ، إني أنتقم من المنافقين بالمنافقين ، ثم أنتقم من المنافقين جميعا ، وذلك في كتاب الله قول الله تعالى : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : في قوله (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) قال : ظالمي الجن وظالمي الإنس ، وقرأ (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف : ٣٦] قال : ونسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس (٤) ، وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الباقي بن أحمد ، من طريق سعيد بن عبد الجبار الكرابيسي ، عن حماد بن سلمة ، عن عاصم ، عن ذر ، عن ابن مسعود ، مرفوعا «من أعان ظالما سلطه الله عليه» وهذا حديث غريب ، وقال بعض الشعراء : [الطويل]

وما من يد إلا يد الله فوقها

ولا ظالم إلا سيبلى بظالم

ومعنى الآية الكريمة : كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي أغوتهم من الجن ، كذلك نفعل بالظالمين نسلط بعضهم على بعض ونهلك بعضهم ببعض وننتقم من

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٣٤٣ ـ ٣٤٤.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٣٤٤.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق.

٣٠٤

بعضهم ببعض ، جزاء على ظلمهم وبغيهم.

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) (١٣٠)

وهذا أيضا مما يقرع الله به كافري الجن والإنس يوم القيامة ، حيث يسألهم وهو أعلم هل بلغتهم الرسل رسالاته؟ وهذا استفهام تقرير (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) أي من جملتكم ، والرسل من الإنس فقط وليس من الجن رسل ، كما قد نص على ذلك مجاهد وابن جريج وغير واحد من الأئمة من السلف والخلف ، وقال ابن عباس : الرسل من بني آدم ومن الجن نذر. وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم : أنه زعم أن في الجن رسلا واحتج بهذه الآية الكريمة ، وفيه نظر ، لأنها محتملة وليست بصريحة ، وهي ـ والله أعلم ـ كقوله (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن : ١٩ ـ ٢٠] إلى أن قال (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] ومعلوم أن اللؤلؤ والمرجان إنما يستخرجان من الملح لا من الحلو ، وهذا واضح ولله الحمد ، وقد ذكر هذا الجواب بعينه ابن جرير (١) ، والدليل على أن الرسل إنما هم من الإنس ، قوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ـ إلى قوله ـ رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء : ١٦٣ ـ ١٦٥].

وقوله تعالى : عن إبراهيم (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) [العنكبوت : ٢٠] فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته ، ولم يقل أحد من الناس : إن النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم الخليل ، ثم انقطعت عنهم ببعثته ، وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٢٠] وقال (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) [يوسف : ١٠٩] ومعلوم أن الجن تبع للإنس في هذا الباب ، ولهذا قال تعالى إخبارا عنهم (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الأحقاف : ٢٩ ـ ٣٢] وقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا عليهم سورة الرحمن وفيها قوله تعالى : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

وقال تعالى في هذه الآية الكريمة (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ

__________________

(١) جواب ابن جرير وأثر الضحاك بن مزاحم في تفسير الطبري ٥ / ٣٤٥.

٣٠٥

عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) أي أقررنا أن الرسل قد بلغونا رسالاتك وأنذرونا لقاءك ، وأن هذا اليوم كائن لا محالة ، وقال تعالى : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي وقد فرطوا في حياتهم الدنيا ، وهلكوا بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم للمعجزات ، لما اغتروا به من زخرف الحياة الدنيا وزينتها وشهواتها ، (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي يوم القيامة (أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) أي في الدنيا ، بما جاءتهم به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.

(ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (١٣٢)

يقول تعالى : (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ) أي إنما أعذرنا إلى الثقلين بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، لئلا يؤاخذ أحد بظلمه وهو لم تبلغه دعوة ، ولكن أعذرنا إلى الأمم ، وما عذبنا أحدا إلا بعد إرسال الرسل إليهم ، كما قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤] وقال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل : ٣٦] كقوله (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] وقال تعالى : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا) [الملك : ٨ ـ ٩] والآيات في هذا كثيرة.

قال الإمام أبو جعفر بن جرير : ويحتمل قوله تعالى : (بِظُلْمٍ) وجهين [أحدهما] (ذلِكَ) من أجل (أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) أهلها بالشرك ونحوه وهم غافلون ، ويقول : إن لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم رسولا ينبههم على حجج الله عليهم ، ينذرهم عذاب الله يوم معادهم ، ولم يكن بالذي يؤاخذهم غفلة ، فيقولوا : (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) [المائدة : ١٩] [والوجه الثاني] (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) يقول : لم يكن ربك ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل والآيات والعبر فيظلمهم بذلك ، والله غير ظلام لعبيده ، ثم شرع يرجح الوجه الأول ، ولا شك أنه أقوى ، والله أعلم.

قال : وقوله تعالى : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي ولكل عامل في طاعة الله أو معصيته مراتب ومنازل من عمله ، يبلغه الله إياها ويثيبه بها ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، (قلت) ويحتمل أن يعود قوله (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي من كافري الجن والإنس ، أي ولكل درجة في النار بحسبه ، كقوله (قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ) [الأعراف : ٣٨] وقوله (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل : ٨٨] (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) قال ابن جرير : أي وكل ذلك من عملهم يا محمد بعلم من ربك ، يحصيها ويثبتها لهم عنده ، ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه ومعادهم إليه.

(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما

٣٠٦

أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (١٣٥)

يقول تعالى : (وَرَبُّكَ) يا محمد (الْغَنِيُ) أي عن جميع خلقه من جميع الوجوه ، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم ، (ذُو الرَّحْمَةِ) أي وهو مع ذلك رحيم بهم ، كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [البقرة : ١٤٣] (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أي إذا خالفتم أمره (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ) أي قوما آخرين ، أي يعملون بطاعته (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) أي هو قادر على ذلك سهل عليه يسير لديه ، كما أذهب القرون الأولى وأتى بالذي بعدها كذلك هو قادر على إذهاب هؤلاء والإتيان بآخرين ، كما قال تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) [النساء : ١٣٣] وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) [إبراهيم : ١٥ ـ ١٧].

وقال تعالى : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) وقال محمد بن إسحاق ، عن يعقوب بن عتبة قال : سمعت أبان بن عثمان يقول في هذه الآية (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) الذرية الأصل والذرية النسل (١).

وقوله تعالى : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي أخبرهم يا محمد ، أن الذي يوعدون به من أمر المعاد كائن لا محالة ، (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي ولا تعجزون الله ، بل هو قادر على إعادتكم وإن صرتم ترابا رفاتا وعظاما ، هو قادر لا يعجزه شيء.

وقال ابن أبي حاتم في تفسيرها : حدثني أبي ، حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا محمد بن حمير عن أبي بكر بن أبي مريم عن عطاء بن أبي رباح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى والذي نفسي بيده إنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين».

وقوله تعالى : (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) هذا تهديد شديد ووعيد أكيد أي استمروا على طريقتكم وناحيتكم إن كنتم تظنون أنكم على هدى فأنا مستمر على طريقتي ومنهجي كقوله (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) [هود : ١٢١ ـ ١٢٢] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (عَلى مَكانَتِكُمْ) ناحيتكم (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٣ / ٨٨.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٣٤٨.

٣٠٧

(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي أتكون لي أو لكم وقد أنجز الله موعده لرسوله صلوات الله عليه أي فإنه تعالى مكنه في البلاد وحكمه في نواصي مخالفيه من العباد وفتح له مكة وأظهره على من كذبه من قومه وعاداه وناوأه واستقر أمره على سائر جزيرة العرب وكذلك اليمن والبحرين وكل ذلك في حياته ثم فتحت الأمصار والأقاليم والرساتيق بعد وفاته في أيام خلفائه رضي الله عنهم أجمعين ، كما قال الله تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة : ٢١] وقال (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر : ٥١ ـ ٥٢] وقال تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥].

وقال تعالى إخبارا عن رسله (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) [إبراهيم : ١٣ ـ ١٤] وقال تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) [النور : ٥٥] الآية وقد فعل الله ذلك بهذه الأمة المحمدية وله الحمد والمنة أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (١٣٦)

هذا ذم وتوبيخ من الله للمشركين الذين ابتدعوا بدعا وكفرا وشركا ، وجعلوا لله شركاء وجزءا من خلقه وهو خالق كل شيء سبحانه وتعالى ، ولهذا قال تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ) أي مما خلق وبرأ (مِنَ الْحَرْثِ) أي من الزرع والثمار (وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) أي جزءا وقسما (فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) وقوله (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ).

قال علي بن أبي طلحة والعوفي ، عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية : إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثا أو كانت لهم ثمرة ، جعلوا لله منه جزءا وللوثن جزءا ، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان ، حفظوه وأحصوه وإن سقط منه شيء فيما سمي للصمد ، ردوه إلى ما جعلوه للوثن ، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقى شيئا جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن ، وإن سقط شيء من الحرث والثمر الذي جعلوه لله فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا هذا فقير ، ولم يردوه إلى ما جعلوه لله ، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله فسقى ما سمي

٣٠٨

للوثن تركوه للوثن ، وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام فيجعلونه للأوثان ، ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله ، فقال الله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) الآية (١).

وهكذا قال مجاهد وقتادة والسدي وغير واحد.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في الآية : كل شيء يجعلونه لله من ذبح يذبحونه لا يأكلونه أبدا حتى يذكروا معه أسماء الآلهة وما كان للآلهة لم يذكروا اسم الله معه ، وقرأ الآية حتى بلغ (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٢).

أي ساء ما يقسمون ، فإنهم أخطئوا أولا في القسم ، لأن الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وخالقه ، وله الملك وكل شيء له وفي تصرفه وتحت قدرته ومشيئته ، لا إله غيره ولا رب سواه ، ثم لما قسموا فيما زعموا القسمة الفاسدة لم يحفظوها بل جاروا فيها ، كقوله جل وعلا : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) [النحل : ٥٧] وقال تعالى : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) [الزخرف : ١٥] وقال تعالى : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) [النجم : ٢١] وقوله (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) [النجم : ٢٢].

(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) (١٣٧)

يقول تعالى : وكما زينت الشياطين لهؤلاء أن يجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ، كذلك زينوا لهم قتل أولادهم خشية الإملاق ووأد البنات خشية العار ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم ، شركاؤهم زينوا لهم قتل أولادهم (٣) ، وقال مجاهد : شركاؤهم شياطينهم يأمرونهم أن يئدوا أولادهم خشية العيلة ، وقال السدي : أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات إما ليردوهم فيهلكوهم ، وإما ليلبسوا عليهم دينهم ، أي فيخلطوا عليهم دينهم ونحو ذلك (٤).

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقتادة : وهذا كقوله تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) [النحل : ٥٨ ـ ٥٩] الآية ، وكقوله (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) [التكوير : ٨ ـ ٩] وقد كانوا أيضا يقتلون الأولاد من الإملاق وهو الفقر أو خشية الإملاق أن يحصل لهم في تلف المال وقد نهاهم عن قتل

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٣٥٠.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٣٥١.

(٣) تفسير الطبري ٥ / ٣٥٢.

(٤) الأثران عن مجاهد والسدي في تفسير الطبري ٥ / ٣٥٢ ـ ٣٥٣.

٣٠٩

أولادهم لذلك وإنما كان هذا كله من تزيين الشياطين وشرعهم ذلك ، قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ) أي كل هذا واقع بمشيئته تعالى وإرادته واختياره لذلك كونا وله الحكمة التامة في ذلك فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) أي فدعهم واجتنبهم وما هم فيه فسيحكم الله بينك وبينهم.

(وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) (١٣٨)

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : الحجر الحرام مما حرموا من الوصيلة وتحريم ما حرموا ، وكذلك قال مجاهد والضحاك والسدي وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما وقال قتادة (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ) تحريم كان عليهم من الشياطين في أموالهم وتغليظ وتشديد ولم يكن من الله تعالى ، وقال ابن زيد بن أسلم (حِجْرٌ) إنما احتجروها لآلهتهم ، وقال السدي (لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ) يقولون حرام أن يطعم إلا من شئنا (١).

وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) [يوسف : ٥٩] وكقوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [المائدة : ١٠٣] وقال السدي أما الأنعام التي حرمت ظهورها فهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، وأما الأنعام التي لا يذكرون اسم الله عليها لا إذا ولدوها ولا إن نحروها.

وقال أبو بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود : قال لي أبو وائل أتدري ما في قوله (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) قلت لا ، قال هي البحيرة كانوا لا يحجون عليها (٢) ، وقال مجاهد كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها ولا في شيء من شأنها لا إن ركبوا ولا إن حلبوا ولا إن حملوا ولا إن نتجوا ولا إن عملوا شيئا (٣).

(افْتِراءً عَلَيْهِ) أي على الله وكذبا منهم في إسنادهم ذلك إلى دين الله وشرعه فإنه لم يأذن لهم في ذلك ولا رضيه منهم (سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي عليه ويسندون إليه.

(وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (١٣٩)

__________________

(١) الآثار المذكورة وردت في تفسير الطبري ٥ / ٣٥٤ ـ ٣٥٥.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٣٥٦.

(٣) المصدر السابق.

٣١٠

قال أبو إسحاق السبيعي عن عبد الله بن أبي الهذيل عن ابن عباس (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا) الآية قال اللبن (١). وقال العوفي عن ابن عباس (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا) فهو اللبن كانوا يحرمونه على إناثهم ويشربه ذكرانهم وكانت الشاة إذا ولدت ذكرا ذبحوه وكان للرجال دون النساء وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء فنهى الله عن ذلك (٢) وكذا قال السدي.

وقال الشعبي البحيرة لا يأكل من لبنها إلا الرجال وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء وكذا قال عكرمة وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وقال مجاهد في قوله (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) قال هي السائبة والبحيرة (٣).

وقال أبو العالية ومجاهد وقتادة في قول الله : (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) أي قولهم الكذب في ذلك يعني كقوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ) [النحل : ١١٦ ـ ١١٧] الآية ، (إِنَّهُ حَكِيمٌ) أي في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره (عَلِيمٌ) بأعمال عباده من خير وشر وسيجزيهم عليها أتم الجزاء.

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (١٤٠)

يقول تعالى قد خسر الذين فعلوا هذه الأفاعيل في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فخسروا أولادهم بقتلهم ، وضيقوا عليهم في أموالهم فحرموا أشياء ابتدعوها من تلقاء أنفسهم ، وأما في الآخرة فيصيرون إلى أسوأ المنازل بكذبهم على الله وافترائهم ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) [يونس : ٦٩ ـ ٧٠].

وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن أيوب ، حدثنا عبد الرحمن بن المبارك ، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : إذا سرك أن تعلم جهل العرب ، فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ).

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٣٥٧.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

٣١١

وهكذا رواه البخاري منفردا في كتاب مناقب قريش من صحيحه ، عن أبي النعمان محمد بن الفضل عارم ، عن أبي عوانة واسمه الوضاح بن عبد الله اليشكري ، عن أبي بشر واسمه جعفر بن أبي وحشية ، بن إياس به.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (١٤٢)

يقول تعالى مبينا أنه الخالق لكل شيء من الزروع والثمار والأنعام التي تصرف فيها هؤلاء المشركون بآرائهم الفاسدة ، وقسموها وجزءوها فجعلوا منها حراما وحلالا ، فقال (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ).

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : معروشات مسموكات ، وفي رواية فالمعروشات ما عرش الناس ، وغير معروشات ما خرج في البر والجبال من الثمرات (١).

وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس : معروشات ما عرش من الكرم وغير معروشات ما لم يعرش من الكرم ، وكذا قال السدي (٢).

وقال ابن جريج متشابها وغير متشابه ، قال : متشابها في المنظر وغير متشابه في المطعم(٣).

وقال محمد بن كعب (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) قال : من رطبه وعنبه (٤).

وقوله تعالى : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) قال ابن جرير : قال بعضهم هي الزكاة المفروضة ، حدثنا عمرو ، حدثنا عبد الصمد ، حدثنا يزيد بن درهم ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) قال : الزكاة المفروضة (٥).

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) يعني الزكاة المفروضة يوم يكال ويعلم كيله ، وكذا قال سعيد بن المسيب (٦).

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٣٦١.

(٢) المصدر السابق.

(٣) تفسير الطبري ٥ / ٣٦٢.

(٤) المصدر السابق.

(٥) المصدر السابق.

(٦) تفسير الطبري ٥ / ٣٦٣.

٣١٢

وقال العوفي عن ابن عباس (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) وذلك أن الرجل كان إذا زرع ، فكان يوم حصاده لم يخرج مما حصد شيئا فقال الله تعالى : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) وذلك أن يعلم ما كيله وحقه فيخرج من كل عشرة واحدا ، وما يلقط الناس من سنبله (١).

وقد روى الإمام أحمد وأبو داود في سننه من حديث محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن يحيى بن حبان ، عن عمه واسع بن حبان ، عن جابر بن عبد الله ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر من كل جادّ عشرة أوسق من التمر بقنو يعلق في المسجد للمساكين (٢).

وهذا إسناد جيد قوي ، وقال طاوس وأبو الشعثاء وقتادة والحسن والضحاك وابن جريج :

هي الزكاة ، وقال الحسن البصري : هي الصدقة من الحب والثمار ، وكذا قال ابن زيد بن أسلم ، وقال آخرون : وهو حق آخر سوى الزكاة ، وقال أشعث : عن محمد بن سيرين ونافع عن ابن عمر في قوله (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) قال : كانوا يعطون شيئا سوى الزكاة رواه ابن مردويه وروى عبد الله بن المبارك وغيره عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح في قوله (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) قال : يعطي من حضره يومئذ ما تيسر ، وليس بالزكاة ، وقال مجاهد : إذا حضرك المساكين طرحت لهم منه ، وقال عبد الرزاق عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) قال : عند الزرع يعطي القبضة وعند الصرام يعطي القبضة ، ويتركهم فيتبعون آثار الصرام ، وقال الثوري : عن حماد عن إبراهيم النخعي قال : يعطي مثل الضغث ، وقال ابن المبارك عن شريك عن سالم عن سعيد بن جبير (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) قال : كان هذا قبل الزكاة ، للمساكين القبضة والضغث لعلف دابته ، وفي حديث ابن لهيعة : عن دراج عن أبي الهيثم عن سعيد مرفوعا ، (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) قال ما سقط من السنبل رواه ابن مردويه.

وقال آخرون : هذا شيء كان واجبا ثم نسخه الله بالعشر أو نصف العشر ، حكاه ابن جرير عن ابن عباس ومحمد ابن الحنفية وإبراهيم النخعي والحسن والسدي وعطية العوفي وغيرهم ، واختاره ابن جرير (٣) رحمه‌الله ، قلت : وفي تسمية هذا نسخا نظر ، لأنه قد كان شيئا واجبا في الأصل ثم إنه فصل بيانه وبين مقدار المخرج وكميته ، قالوا : وكان هذا في السنة الثانية من الهجرة ، فالله أعلم.

وقد ذم الله سبحانه الذين يصرمون ولا يتصدقون كما ذكر عن أصحاب الجنة في سورة «ن» (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) مسند أحمد ٣ / ٣٥٩ ـ ٣٦٠ ، وسنن أبي داود (زكاة باب ٣٢)

(٣) تفسير الطبري ٥ / ٣٦٨. وقد بسط ابن جرير رأيه في أسباب هذا الاختيار ، فلينظر.

٣١٣

كَالصَّرِيمِ) أي كالليل المدلهم سوداء محترقة (فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ) أي قوة وجلد وهمة (قادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [ن : ١٧ ـ ٣٣].

وقوله تعالى : (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) قيل معناه لا تسرفوا في الإعطاء فتعطوا فوق المعروف ، وقال أبو العالية : كانوا يعطون يوم الحصاد شيئا ثم تباروا فيه وأسرفوا ، فأنزل الله (وَلا تُسْرِفُوا) وقال ابن جريج : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس ، جد نخلا له فقال : لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة ، فأنزل الله تعالى : (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) رواه ابن جرير (١) عنه ، وقال ابن جريج عن عطاء : نهوا عن السرف في كل شيء ، وقال إياس بن معاوية : ما جاوزت به أمر الله فهو سرف ، وقال السدي في قوله (وَلا تُسْرِفُوا) قال : لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء ، وقال سعيد بن المسيب ومحمد بن كعب في قوله (وَلا تُسْرِفُوا) قال : لا تمنعوا الصدقة فتعصوا ربكم ، ثم اختار ابن جرير (٢) قول عطاء ، أنه نهي عن الإسراف في كل شيء ولا شك أنه صحيح ، لكن الظاهر والله أعلم من سياق الآية ، حيث قال تعالى : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا) أن يكون عائدا على الأكل ، أي لا تسرفوا في الأكل لما فيه من مضرة العقل والبدن ، كقوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) [الأعراف : ٣١] الآية.

وفي صحيح البخاري تعليقا «كلوا واشربوا والبسوا وتصدّقوا من غير إسراف ولا مخيلة» (٣) وهذا من هذا ، والله أعلم.

وقوله عزوجل (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) أي وأنشأ لكم من الأنعام ما هو حمولة وما هو فرش ، قيل المراد بالحمولة ما يحمل عليه من الإبل ، والفرش الصغار منها ، كما قال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله في قوله : حمولة ما حمل عليه من الإبل وفرشا الصغار من الإبل ، رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وقال ابن عباس : الحمولة هي الكبار والفرش الصغار من الإبل ، وكذا قال مجاهد ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) أما الحمولة فالإبل والخيل

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٣٧٠.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٣٧١.

(٣) صحيح البخاري (لباس باب ١)

٣١٤

والبغال والحمير وكل شيء يحمل عليه ، وأما الفرش فالغنم ، واختاره ابن جرير قال : وأحسبه إنما سمي فرشا لدنوه من الأرض ، وقال الربيع بن أنس والحسن والضحاك وقتادة وغيره : الحمولة الإبل والبقر والفرش الغنم ، وقال السدي : أما الحمولة فالإبل وأما الفرش فالفصلان والعجاجيل والغنم ، وما حمل عليه فهو حمولة ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الحمولة ما تركبون والفرش ما تأكلون وتحلبون ، شاة لا تحمل تأكلون لحمها وتتخذون من صوفها لحافا وفرشا (١).

وهذا الذي قاله عبد الرحمن : في تفسير هذه الآية الكريمة حسن يشهد له قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) [يس : ٧١ ـ ٧٢] وقال تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) إلى أن قال (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) [النحل : ٦٦ ـ ٨٠].

وقال تعالى : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) [غافر : ٧٩ ـ ٨١] وقوله تعالى : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي من الثمار والزروع والأنعام فكلها خلقها الله وجعلها رزقا لكم (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي طريقه وأوامره كما اتبعها المشركون الذين حرموا ما رزقهم الله ، أي من الثمار والزروع افتراء على الله ، (إِنَّهُ لَكُمْ) أي أن الشيطان أيها الناس لكم (عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي بين ظاهر العداوة ، كما قال تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) [فاطر : ٦] وقال تعالى : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) [الأعراف : ٢٧] الآية ، وقال تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) [الكهف : ٥٠] والآيات في هذا كثيرة في القرآن.

(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٤٤)

هذا بيان لجهل العرب قبل الإسلام ، فيما كانوا حرموا من الأنعام وجعلوها أجزاء وأنواعا بحيرة وسائبة ووصيلة وحاما ، وغير ذلك من الأنواع التي ابتدعوها في الأنعام والزروع

__________________

(١) اختيار ابن جرير والآثار في تأويل «حمولة وفرشا» في تفسير الطبري ٥ / ٣٧٢ ـ ٣٧٤.

٣١٥

والثمار ، فبين تعالى أنه أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ، وأنه أنشأ من الأنعام حمولة وفرشا ، ثم بين أصناف الأنعام إلى غنم وهو بياض وهو الضأن ، وسواد وهو المعز ذكره وأنثاه ، وإلى إبل ذكورها وإناثها وبقر كذلك وأنه تعالى لم يحرم شيئا من ذلك ولا شيئا من أولادها ، بل كلها مخلوقة لبني آدم أكلا وركوبا وحمولة وحلبا وغير ذلك من وجوه المنافع ، كما قال (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزمر : ٦] الآية. وقوله تعالى : (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) رد عليهم في قولهم (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) الآية. وقوله تعالى : (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي أخبروني عن يقين ، كيف حرم الله عليكم ما زعمتم تحريمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك.

وقال العوفي عن ابن عباس : قوله (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) فهذه أربعة أزواج (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) يقول لم أحرم شيئا من ذلك (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) يعني هل يشتمل الرحم إلا على ذكر أو أنثى ، فلم تحرمون بعضا وتحلون بعضا؟ (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يقول تعالى كله حلال.

وقوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) تهكم بهم فيما ابتدعوه وافتروه على الله من تحريم ما حرموه من ذلك (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي لا أحد أظلم منهم (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وأول من دخل في هذه الآية عمرو بن لحي بن قمعة ، لأنه أول من غير دين الأنبياء وأول من سيب السوائب ووصل الوصيلة وحمى الحامي ، كما ثبت ذلك في الصحيح.

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٤٥)

يقول تعالى آمرا عبده ورسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الذين حرموا ما رزقهم الله افتراء على الله ، (لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) أي آكل يأكله قيل معناه لا أجد شيئا مما حرمتم حراما سوى هذه ، وقيل معناه لا أجد من الحيوانات شيئا حراما سوى هذه ، فعلى هذا يكون ما ورد من التحريمات بعد هذا في سورة المائدة وفي الأحاديث الواردة رافعا لمفهوم هذه الآية ، ومن الناس من يسمي هذا نسخا والأكثرون من المتأخرين لا يسمونه نسخا لأنه من باب رفع مباح الأصل والله أعلم.

وقال العوفي عن ابن عباس (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) يعني المهراق. وقال عكرمة في قوله (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) لو لا هذه الآية لتتبع الناس ما في العروق كما تتبعه اليهود ، وقال حماد عن عمران بن حدير قال : سألت أبا مجلز عن الدم ، وما يتلطخ من الذبيح من الرأس وعن القدر

٣١٦

يرى فيها الحمرة؟ فقال : إنما نهى الله عن الدم المسفوح ، وقال قتادة : حرم من الدماء ما كان مسفوحا ، فأما اللحم خالطه الدم فلا بأس به ، وقال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا حماد عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها ، أنها كانت لا ترى بلحوم السباع بأسا ، والحمرة والدم يكونان على القدر بأسا ، وقرأت هذه الآية (١) ، صحيح غريب.

وقال الحميدي : حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو بن دينار ، قال : قلت لجابر بن عبد الله : إنهم يزعمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر ، فقال قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن أبى ذلك البحر ، يعني ابن عباس وقرأ (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) الآية ، وكذا رواه البخاري (٢) عن علي بن المديني عن سفيان به ، وأخرجه أبو داود (٣) من حديث ابن جريج عن عمرو بن دينار ، ورواه الحاكم في مستدركه مع أنه في صحيح البخاري كما رأيت.

وقال أبو بكر بن مردويه والحاكم في مستدركه : حدثنا محمد بن علي بن دحيم ، حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين ، حدثنا محمد بن شريك عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس ، قال : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا ، فبعث الله نبيه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه ، فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو ، وقرأ هذه الآية (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) الآية.

وهذا لفظ ابن مردويه ، ورواه أبو داود منفردا به ، عن محمد بن داود بن صبيح عن أبي نعيم به ، وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقالت : يا رسول الله ماتت فلانة تعني الشاة ، قال «فلم لا أخذتم مسكها؟» قالت نأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنما قال الله (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ) وإنكم لا تطعمونه أن تدبغوه فتنتفعوا به» فأرسلت فسلخت مسكها فدبغته فاتخذت منه قربة حتى تخرقت عندها ، رواه أحمد ورواه البخاري والنسائي ، من حديث الشعبي عن عكرمة عن ابن عباس عن سودة بنت زمعة بذلك أو نحوه.

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٣٧٩.

(٢) صحيح البخاري (ذبائح باب ٢٨)

(٣) سنن أبي داود (أطعمة باب ٣٣)

(٤) مسند أحمد ١ / ٣٢٧ ـ ٣٢٨.

٣١٧

وقال سعيد بن منصور : حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عيسى بن نميلة الفزاري عن أبيه ، قال : كنت عند ابن عمر فسأله رجل عن أكل القنفذ فقرأ عليه (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) الآية ، فقال شيخ عنده : سمعت أبا هريرة يقول ذكر عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «خبيثة من الخبائث» فقال ابن عمر : إن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله فهو كما قال ، ورواه أبو داود (١) عن أبي ثور عن سعيد بن منصور به.

وقوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) أي فمن اضطر إلى أكل شيء مما حرم الله في هذه الآية الكريمة ، وهو غير متلبس ببغي ولا عدوان (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي غفور له رحيم به.

وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة بما فيه كفاية ، والغرض من سياق هذه الآية الكريمة الرد على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوه من تحريم المحرمات على أنفسهم ، بآرائهم الفاسدة من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك ، فأمر رسوله أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه الله إليه أن ذلك محرم ، وإنما حرم ما ذكر في هذه الآية من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ، وما عدا ذلك فلم يحرم وإنما هو عفو مسكوت عنه ، فكيف تزعمون أنتم أنه حرام ومن أين حرمتموه ولم يحرمه الله؟ وعلى هذا فلا يبقى تحريم أشياء أخر فيما بعد هذا ، كما جاء النهي عن لحوم الحمر الأهلية ولحوم السباع وكل ذي مخلب من الطير على المشهور من مذاهب العلماء.

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (١٤٦)

قال ابن جرير (٢) ، يقول تعالى وحرمنا على اليهود كل ذي ظفر وهو البهائم والطير ما لم يكن مشقوق الأصابع ، كالإبل والنعام والإوز والبط.

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) وهو البعير والنعامة ، وكذا قال مجاهد والسدي في رواية ، وقال سعيد بن جبير : هو الذي ليس منفرج الأصابع ، وفي رواية عنه كل شيء متفرق الأصابع ومنه الديك ، وقال قتادة في قوله (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) وكان يقال للبعير والنعامة وأشياء من الطير والحيتان وفي رواية البعير والنعامة ، وحرم عليهم من الطير البط وشبهه وكل شيء ليس بمشقوق الأصابع ، وقال ابن جريج عن مجاهد : كل ذي ظفر ، قال : النعامة والبعير شقاشقا ، قلت للقاسم بن أبي بزة وحدثته ما شقاشقا؟ قال : كل ما لا ينفرج من قوائم البهائم ، قال وما انفرج أكلته؟ قال

__________________

(١) سنن أبي داود (أطعمة باب ٢٩)

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٣٨١.

٣١٨

انفرجت قوائم البهائم والعصافير قال : فيهود تأكله ، قال : ولم تنفرج قائمة البعير ـ خفه ـ ولا خف النعامة ولا قائمة الوز ، فلا تأكل اليهود الإبل ولا النعامة ولا الوز ولا كل شيء لم تنفرج قائمته ولا تأكل حمار الوحش (١).

وقوله تعالى : (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) قال السدي : يعني الثرب (٢) وشحم الكليتين وكانت اليهود تقول إنه حرمه إسرائيل فنحن نحرمه ، وكذا قال ابن زيد ، وقال قتادة : الثرب وكل شحم كان كذلك ليس في عظم (٣).

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) يعني ما علق بالظهر من الشحوم ، وقال السدي وأبو صالح : الألية مما حملت ظهورهما (٤).

وقوله تعالى : (أَوِ الْحَوايا) قال الإمام أبو جعفر بن جرير الحوايا جمع واحدها حاوياء وحاوية وحوية وهو ما تحوّى من البطن فاجتمع واستدار ، وهي بنات اللبن وهي المباعر وتسمى المرابض ، وفيها الأمعاء ، قال : ومعنى الكلام ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو ما حملت الحوايا (٥).

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أو الحوايا وهي المبعر ، وقال مجاهد : الحوايا المبعر والمربض ، وكذا قال سعيد بن جبير والضحاك وقتادة وأبو مالك والسدي ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد : الحوايا المرابض التي تكون فيها الأمعاء تكون وسطها وهي بنات اللبن ، وهي في كلام العرب تدعى المرابض (٦).

وقوله تعالى : (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) يعني إلا ما اختلط من الشحوم بعظم فقد أحللناه لهم ، وقال ابن جريج : شحم الألية ما اختلط بالعصعص فهو حلال وكل شيء في القوائم والجنب والرأس والعين وما اختلط بعظم فهو حلال ونحوه ، قاله السدي.

وقوله تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) أي هذا التضييق إنما فعلناه بهم وألزمناهم به مجازاة على بغيهم ومخالفتهم أوامرنا ، كما قال تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) وقوله (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أي وإنا لعادلون فيما جازيناهم به ، وقال ابن جرير ، وإنا لصادقون فيما أخبرناك به يا محمد من تحريمنا ذلك

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٣٨٢.

(٢) الثرب : شحم رقيق يغشي الكرش والأمعاء.

(٣) تفسير الطبري ٥ / ٣٨٣.

(٤) تفسير الطبري ٥ / ٣٨٤.

(٥) المصدر السابق.

(٦) الآثار أعلاه في تفسير الطبري ٥ / ٣٨٤ ـ ٣٨٥.

٣١٩

عليهم ، لا كما زعموا من أن إسرائيل هو الذي حرمه على نفسه ، والله أعلم.

وقال عبد الله بن عباس : بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أن سمرة باع خمرا فقال : قاتل الله سمرة ألم يعلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها (١) فباعوها» أخرجاه من حديث سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس عن عمر به.

وقال الليث : حدثني يزيد بن أبي حبيب ، قال : قال عطاء بن أبي رباح : سمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول عام الفتح «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها يدهن بها الجلود وتطلى بها السفن ويستصبح بها الناس فقال «لا هو حرام» ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ذلك «قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه» ورواه الجماعة من طرق عن يزيد بن أبي حبيب به.

وقال الزهري : عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنه» ورواه البخاري ومسلم جميعا ، عن عبدان عن ابن المبارك عن يونس عن الزهري به.

وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم ، حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا وهب ، حدثنا خالد الحذاء عن بركة أبي الوليد عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قاعدا خلف المقام ، فرفع بصره إلى السماء فقال «لعن الله اليهود ـ ثلاثا ـ إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها وإن الله لم يحرم على قوم أكل شيء إلا حرم عليهم ثمنه».

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا علي بن عاصم ، أنبأنا خالد الحذاء عن بركة أبي الوليد ، أنبأنا ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاعدا في المسجد مستقبلا الحجر فنظر إلى السماء فضحك فقال «لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها ، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه» ورواه أبو داود (٣) من حديث خالد الحذاء.

وقال الأعمش : عن جامع بن شداد عن كلثوم عن أسامة بن زيد ، قال : دخلنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مريض نعوده ، فوجدناه نائما قد غطى وجهه ببرد عدني فكشف عن وجهه

__________________

(١) جملوها : أذابوها. والحديث رواه مسلم (مساقاة حديث ٧٢). والبخاري (أنبياء باب ٥٠ وبيوع باب ١٠٣)

(٢) مسند أحمد ١ / ٢٤٧.

(٣) سنن أبي داود (بيوع باب ٦٤)

٣٢٠