تفسير القرآن العظيم - ج ٣

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٣

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٩٥

يضل به من يشاء ، ويهدي من يشاء. ولهذا قال هاهنا وكذلك نصرف الآيات وليقولوا دارست ولنبينه لقوم يعلمون وقرأ بعضهم (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ).

قال التميمي عن ابن عباس : درست أي قرئت وتعلمت ، وكذا قال مجاهد ، والسدي ، والضحاك ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد ، وقال عبد الرزاق : عن معمر ، قال الحسن (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) يقول تقادمت وانمحت ، وقال عبد الرزاق أيضا : أنبأنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، سمعت ابن الزبير يقول : إن صبيانا يقرءون ها هنا دارست ، وإنما هي درست (١) ، وقال شعبة : حدثنا أبو إسحاق الهمداني قال : هي في قراءة ابن مسعود درست ، يعني بغير ألف ، بنصب السين ووقف على التاء ، قال ابن جرير : ومعناه انمحت وتقادمت ، أي إن هذا الذي تتلوه علينا ، قد مر بنا قديما وتطاولت مدته ، وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة ، أنه قرأها درست ، أي قرئت وتعلمت ، وقال معمر عن قتادة : درست قرئت ، وفي حرف ابن مسعود : درس ، وقال عبيد (٢) القاسم بن سلام : حدثنا حجاج ، عن هارون ، قال : هي في حرف أبي بن كعب ، وابن مسعود وليقولوا درس ، قال يعنون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قرأ ، وهذا غريب ، فقد روي عن أبي بن كعب خلاف هذا : قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا الحسن بن ليث ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا أحمد بن أبي بزة المكي ، حدثنا وهب بن زمعة ، عن أبيه ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب ، قال : أقرأني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) ورواه الحاكم في مستدركه من حديث وهب بن زمعة ، وقال : يعني بجزم السين ونصب التاء ، ثم قال صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

(اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (١٠٧)

يقول تعالى آمرا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولمن اتبع طريقته (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) اي اقتد به واقتف أثره ، واعمل به ، فإن ما أوحي إليك من ربك هو الحق ، الذي لا مرية فيه ، لأنه لا إله إلا هو (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) أي اعف عنهم واصفح واحتمل أذاهم ، حتى يفتح الله لك ، وينصرك ويظفرك عليهم ، واعلم أن لله حكمة في إضلالهم ، فإنه لو شاء لهدى الناس كلهم جميعا ، ولو شاء لجمعهم على الهدى (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) أي بل له المشيئة والحكمة ، فيما يشاؤه ويختاره ، لا يسأل عما يفعل ، وهم يسألون ، وقوله تعالى : (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي حافظا ، تحفظ أقوالهم وأعمالهم (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي موكل على أرزاقهم وأمورهم إن عليك إلا البلاغ كما قال تعالى : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ

__________________

(١) الأثر في الطبري ٥ / ٣٠٢.

(٢) في الطبري : «أبو عبيدة».

٢٨١

بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية : ٢١ ـ ٢٢] وقال (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) [الرعد : ٤٠]

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٠٨)

يقول الله تعالى ناهيا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين عن سبّ آلهة المشركين ، وإن كان فيه مصلحة ، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها ، وهي مقابلة المشركين بسبّ إله المؤمنين ، وهو الله لا إله إلا هو كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية : قالوا : يا محمد لتنتهين عن سبك آلهتنا ، أو لنهجون ربك ، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (١). وقال عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة : كان المسلمون يسبون أصنام الكفار ، فيسب الكفار الله عدوا بغير علم ، فأنزل الله (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) (٢).

وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنه قال في تفسيره هذه الآية لما حضر أبا طالب الموت : قالت قريش : انطلقوا فلندخل على هذا الرجل ، فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه ، فإنا نستحي أن نقتله بعد موته ، فتقول العرب : كان يمنعه ، فلما مات قتلوه.

فانطلق أبو سفيان ، وأبو جهل ، والنضر بن الحارث ، وأمية وأبي ابنا خلف ، وعقبة بن أبي معيط ، وعمرو بن العاص ، والأسود بن البختري ، وبعثوا رجلا منهم يقال له المطلب ، قالوا :

استأذن لنا على أبي طالب ، فأتى أبا طالب فقال : هؤلاء مشيخة قومك ، يريدون الدخول عليك ، فأذن لهم عليه ، فدخلوا عليه ، فقالوا : يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا ، وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا ، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ، ولندعه وإلهه ، فدعاه فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له أبو طالب : هؤلاء قومك وبنو عمك ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما تريدون؟» قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا ، ولندعك وإلهك ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة ، إن تكلمتم بها ملكتم العرب ، ودانت لكم بها العجم ، وأدت لكم الخراج» قال أبو جهل : وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها قالوا : فما هي؟ قال قولوا «لا إله إلا الله» فأبوا واشمأزوا ، قال أبو طالب : يا ابن أخي قل غيرها ، فإن قومك قد فزعوا منها ، قال «يا عم ما أنا بالذي يقول غيرها ، حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي ، ولو أتوا بالشمس فوضعوها في يدي ، ما قلت غيرها» إرادة أن يؤيسهم فغضبوا ، وقالوا : لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك ونشتمن من يأمرك ، فذلك قوله (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (٣).

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٣٠٤.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٣٠٥.

(٣) الأثر عن السدي في تفسير الطبري ٥ / ٣٠٤ ـ ٣٠٥.

٢٨٢

ومن هذا القبيل ، وهو ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها ، ما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ملعون من سب والديه» قالوا : يا رسول الله وكيف يسب الرجل والديه؟ قال «يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه» (١) أو كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) أي وكما زينا لهؤلاء القوم حب أصنامهم ، والمحاماة لها والانتصار ، كذلك زينا لكل أمة من الأمم الخالية على الضلال عملهم الذي كانوا فيه ، ولله الحجة البالغة ، والحكمة التامة ، فيما يشاؤه ويختاره (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ) أي معادهم ومصيرهم (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي يجازيهم بأعمالهم ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١١٠)

يقول تعالى إخبارا عن المشركين ، أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم ، أي حلفوا أيمانا مؤكدة (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ) أي معجزة وخارقة (لَيُؤْمِنُنَّ بِها) أي ليصدقنها (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) أي قل : يا محمد هؤلاء الذين يسألونك الآيات ، تعنتا وكفرا وعنادا ، لا على سبيل الهدى والاسترشاد ، إنما مرجع هذه الآيات إلى الله ، إن شاء جاءكم بها ، وإن شاء ترككم.

قال ابن جرير (٢) : حدثنا هناد ، حدثنا يونس بن بكير ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : كلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريش ، فقالوا : يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى ، وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة ، فآتنا من الآيات حتى نصدقك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أي شيء تحبون أن آتيكم به» ، قالوا : تجعل لنا الصفا ذهبا ، فقال لهم «فإن فعلت تصدقوني؟» قالوا : نعم ، والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو ، فجاءه جبريل عليه‌السلام ، فقال له : ما شئت إن شئت أصبح الصفا ذهبا ، ولئن أرسل آية فلم يصدقوا عند ذلك ليعذبنهم ، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بل يتوب تائبهم» فأنزل الله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) إلى قوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ).

وهذا مرسل ، وله شواهد من وجوه أخر. وقال الله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) [الإسراء : ٥٩] الآية.

وقوله تعالى : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) قيل المخاطب بما يشعركم

__________________

(١) صحيح مسلم (إيمان حديث ١٤٥) ومسند أحمد ٢ / ١٦٤ ، ١٩٥ ، ٢١٤ ، ٢١٦ وسنن الترمذي (برّ باب ٤)

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٣٠٦.

٢٨٣

المشركون وإليه ذهب مجاهد وكأنه يقول لهم ، وما يدريكم بصدقكم ، في هذه الأيمان التي تقسمون بها ، وعلى هذا فالقراءة (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) بكسر أنها على استئناف الخبر عنهم بنفي الإيمان عن مجيء الآيات التي طلبوها ، وقرأ بعضهم أنها إذا جاءت لا تؤمنون بالتاء المثناة من فوق وقيل المخاطب بقوله وما يشعركم المؤمنون ، يقول وما يدريكم أيها المؤمنون ، وعلى هذا فيجوز في قوله (أَنَّها) الكسر كالأول والفتح على أنه معمول يشعركم ، وعلى هذا فتكون لا في قوله (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) صلة كقوله (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [الأعراف : ١٢] وقوله (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [الأنبياء : ٩٥] أي ما منعك أن تسجد إذ أمرتك ، وحرام أنهم يرجعون ، وتقديره في هذه الآية ، وما يدريكم أيها المؤمنون الذين تودون لهم ذلك ، حرصا على إيمانهم ، أنها إذا جاءتهم الآيات يؤمنون ، قال بعضهم أنها بمعنى لعلها. قال ابن جرير (١) : وذكروا أن ذلك كذلك في قراءة أبي بن كعب ، قال : وقد ذكر عن العرب سماعا اذهب إلى السوق ، أنك تشتري لنا شيئا ، بمعنى لعلك تشتري ، قال وقد قيل إن قول عدي بن زيد العبادي من هذا : [الطويل]

أعاذل ما يدريك أن منيتي

إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد (٢)

وقد اختار هذا القول ابن جرير ، وذكر عليه من شواهد من أشعار من العرب والله أعلم. وقوله تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) قال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية : لما جحد المشركون ما أنزل الله ، لم تثبت قلوبهم على شيء ، وردّت عن كل أمر ، وقال مجاهد في قوله (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ) ونحول بينهم وبين الإيمان ، ولو جاءتهم كل آية فلا يؤمنون ، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة ، وكذا قال عكرمة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقال ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنه ، أنه قال : أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوه ، وعملهم قبل أن يعملوه ، وقال (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) جل وعلا وقال (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) إلى قوله (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) فأخبر الله سبحانه ، أنهم لو ردوا لم يقدروا على الهدى ، وقال : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) وقال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) وقال : ولو ردوا إلى الدنيا ، لحيل بينهم وبين الهدى ، كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا ، وقوله (وَنَذَرُهُمْ) أي نتركهم (فِي طُغْيانِهِمْ) قال ابن عباس والسدي : في كفرهم. وقال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة : في ضلالهم (يَعْمَهُونَ) قال الأعمش : يلعبون ، وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو العالية ، والربيع ، وأبو

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٣٠٨.

(٢) البيت لعدي بن زيد في ديوانه ص ١٠٣ ؛ ولسان العرب (أنن) وتاج العروس (أنن) ؛ ومعاهد التنصيص ١ / ٣١٦ ؛ وتفسير الطبري ٥ / ٣٠٨.

٢٨٤

مالك ، وغيره : في كفرهم يترددون.

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) (١١١)

يقول تعالى : ولو أننا أجبنا سؤال هؤلاء ، الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم ، لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ، فنزلنا عليهم الملائكة تخبرهم بالرسالة من الله بتصديق الرسل ، كما سألوا فقالوا (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [الإسراء : ٩٢] و (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) [الأنعام : ١٢٤] (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) [الفرقان : ٢١] (وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) أي فأخبروهم بصدق ما جاءتهم به الرسل (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) قرأ بعضهم ، قبلا بكسر القاف وفتح الباء ، من المقابلة والمعاينة ، وقرأ آخرون بضمهما ، قيل معناه من المقابلة والمعاينة أيضا ، كما رواه علي بن أبي طلحة ، والعوفي عن ابن عباس ، وبه قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقال مجاهد قبلا أي أفواجا ، قبيلا قبيلا ، أي تعرض عليهم كل أمة بعد أمة ، فيخبرونهم بصدق الرسل فيما جاءوهم به (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي أن الهداية إليه لا إليهم ، بل يهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، وهو الفعال لما يريد ، (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) لعلمه وحكمته وسلطانه وقهره وغلبته ، وهذه الآية كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧].

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) (١١٣)

يقول تعالى : وكما جعلنا لك يا محمد أعداء يخالفونك ويعادونك ويعاندونك ، جعلنا لكل نبي من قبلك أيضا أعداء فلا يحزنك ذلك ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا) [الأنعام : ٣٤] الآية ، وقال تعالى : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) [فصلت : ٤٣] وقال تعالى: (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) [الفرقان : ٣١] الآية ، وقال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي (١).

وقوله (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) بدل من (عَدُوًّا) أي لهم أعداء من شياطين الإنس والجن ، والشيطان كل من خرج عن نظيره بالشر ، ولا يعادي الرسل إلا الشياطين من هؤلاء وهؤلاء ، قبحهم الله ولعنهم ، قال عبد الرزاق : حدثنا معمر ، عن قتادة ، في قوله (شَياطِينَ

__________________

(١) صحيح البخاري (بدء الوحي باب ٣) وصحيح مسلم (إيمان حديث ٢٥٢) ومسند أحمد ٦ / ٢٢٣.

٢٨٥

الْإِنْسِ وَالْجِنِ) قال من الجن شياطين ، ومن الإنس شياطين ، يوحي بعضهم إلى بعض ، قال قتادة : وبلغني أن أبا ذر ، كان يوما يصلي ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تعوذ يا أبا ذر من شياطين الإنس والجن» فقال : أو إن من الإنس شياطين؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نعم» (١).

وهذا منقطع بين قتادة وأبي ذر. وقد روي من وجه آخر ، عن أبي ذر رضي الله عنه ، قال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا أبو صالح ، حدثني معاوية بن صالح ، عن أبي عبد الله محمد بن أيوب ، وغيره من المشيخة ، عن ابن عائذ ، عن أبي ذر ، قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مجلس ، قد أطال فيه الجلوس ، قال ، فقال «يا أبا ذر هل صليت» قلت : لا يا رسول الله ، قال «قم فاركع ركعتين» قال : ثم جئت فجلست إليه ، فقال «يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شياطين الإنس والجن» قال : قلت : لا يا رسول الله ، وهل للإنس من شياطين؟ قال «نعم هم شر من شياطين الجن» (٢).

وهذا أيضا فيه انقطاع ، وروي متصلا.

كما قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا وكيع ، حدثنا المسعودي ، أنبأنا أبو عمر الدمشقي ، عن عبيد بن الخشخاش ، عن أبي ذر ، قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في المسجد ، فجلست فقال «يا أبا ذر هل صليت؟» قلت : لا ، قال «قم فصلّ» قال : فقمت فصليت ثم جلست ، فقال «يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن» قال : قلت : يا رسول الله وللإنس شياطين؟ قال «نعم» وذكر تمام الحديث بطوله. وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره، من حديث جعفر بن عون ، ويعلى بن عبيد ، وعبيد الله بن موسى ، ثلاثتهم عن المسعودي به.

طريق أخرى عن أبي ذر : قال ابن جرير (٤) : حدثنا المثنى ، حدثنا الحجاج ، حدثنا حماد ، عن حميد بن هلال ، حدثني رجل من أهل دمشق ، عن عوف بن مالك ، عن أبي ذر ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن» قال : قلت : يا رسول الله هل للإنس من شياطين؟ قال «نعم».

طريق أخرى للحديث : قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف الحمصي ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا معان بن رفاعة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا أبا ذر تعوذت من شياطين الإنس والجن» قال : قلت يا رسول وهل للإنس شياطين؟ قال «نعم» (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً)

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٣١٤ ـ ٣١٥ في حديثين بإسنادين مختلفين.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٣١٥.

(٣) مسند أحمد ٥ / ١٧٨.

(٤) تفسير الطبري ٥ / ٣١٤ ـ ٣١٥.

٢٨٦

فهذه طرق لهذا الحديث ، ومجموعها يفيد قوته وصحته ، والله أعلم.

قال ابن جرير (١) : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا أبو نعيم ، عن شريك ، عن سعيد بن مسروق ، عن عكرمة (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) قال : ليس من الإنس شياطين ، ولكن شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس ، وشياطين الإنس يوحون إلى شياطين الجن ، قال : وحدثنا الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا إسرائيل ، عن السدي ، عن عكرمة ، في قوله (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) قال : للإنسي شيطان ، وللجني شيطان ، فيلقى شيطان الإنس شيطان الجن ، فيوحي بعضهم إلى بعض ، زخرف القول غرورا ، وقال أسباط عن السدي عن عكرمة في قوله (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) : أما شياطين الإنس ، فالشياطين التي تضل الإنس ، وشياطين الجن التي تضل الجن ، يلتقيان ، فيقول كل واحد منهما لصاحبه : إني أضللت صاحبي بكذا وكذا ، فأضل أنت صاحبك بكذا وكذا ، فيعلم بعضهم بعضا.

ففهم ابن جرير من هذا ، أن المراد بشياطين الإنس ، عند عكرمة والسدي ، الشياطين من الجن الذين يضلون الناس ، لا أن المراد منه شياطين الإنس منهم ، ولا شك أن هذا ظاهر من كلام عكرمة ، وأما كلام السدي فليس مثله في هذا المعنى ، وهو محتمل ، وقد روى ابن أبي حاتم نحو هذا عن ابن عباس ، من رواية الضحاك عنه ، قال : إن للجن شياطين يضلونهم ، مثل شياطين الإنس يضلونهم ، قال : فيلتقي شياطين الإنس وشياطين الجن ، فيقول هذا لهذا أضلله بكذا ، فهو قوله (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) وعلى كل حال ، فالصحيح ما تقدم من حديث أبي ذر ، إن للإنس شياطين منهم ، وشيطان كل شيء ما رده ، ولهذا جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «الكلب الأسود شيطان» (٢) ومعناه والله أعلم ـ شيطان في الكلاب.

وقال ابن جريج : قال مجاهد : في تفسير هذه الآية ، كفار الجن شياطين ، يوحون إلى شياطين الإنس ، كفار الإنس ، زخرف القول غرورا.

وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : قدمت على المختار فأكرمني وأنزلني ، حتى كاد يتعاهد مبيتي بالليل ، قال : فقال لي : اخرج إلى الناس فحدثهم ، قال : فخرجت ، فجاء رجل فقال : ما تقول في الوحي ، فقلت : الوحي وحيان ، قال الله تعالى : (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) وقال تعالى : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) قال فهمّوا بي أن يأخذوني ، فقلت لهم : ما لكم ذاك ، إني مفتيكم وضيفكم فتركوني وإنما عرض عكرمة بالمختار ، وهو ابن أبي عبيد قبحه الله ، وكان يزعم أنه يأتيه الوحي ،

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٣١٤.

(٢) صحيح مسلم (صلاة حديث ٢٦٥)

٢٨٧

وقد كانت أخته صفية تحت عبد الله بن عمر ، وكانت من الصالحات ، ولما أخبر عبد الله بن عمر أن المختار يزعم أنه يوحى إليه ، فقال : صدق ، قال الله تعالى : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) وقوله تعالى : (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) أي يلقي بعضهم إلى بعض القول المزين المزخرف ، وهو المزوق الذي يغتر سامعه من الجهلة بأمره.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) أي وذلك كله بقدر الله وقضائه ، وإرادته ومشيئته ، أن يكون لكل نبي عدو من هؤلاء (فَذَرْهُمْ) أي فدعهم ، (وَما يَفْتَرُونَ) أي يكذبون. أي دع أذاهم ، وتوكل على الله في عداوتهم ، فإن الله كافيك وناصرك عليهم ، وقوله تعالى : (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ) أي ولتميل إليه. قاله ابن عباس (١) (أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي قلوبهم وعقولهم وأسماعهم ، وقال السدي : قلوب الكافرين (وَلِيَرْضَوْهُ) أي يحبوه ويريدوه ، وإنما يستجيب ذلك من لا يؤمن بالآخرة ، كما قال تعالى : (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ١٦١ ـ ١٦٣] وقال تعالى : (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) [الذاريات : ٨ ـ ٩].

وقوله (وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : وليكتسبوا ما هم مكتسبون ، وقال السدي وابن زيد : وليعملوا ما هم عاملون (٢).

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١١٥)

يقول تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل لهؤلاء المشركين بالله ، الذين يعبدون غيره (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) أي بيني وبينكم (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) أي مبينا (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي من اليهود والنصارى ، (يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) ، أي بما عندهم من البشارات بك ، من الأنبياء المتقدمين (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) كقوله (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) [يونس : ٩٤] وهذا شرط ، والشرط لا يقتضي وقوعه ، ولهذا جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «لا أشك ولا أسأل».

وقوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) قال قتادة : صدقا فيما قال وعدلا فيما حكم (٣) ، يقول صدقا في الأخبار ، وعدلا في الطلب ، فكل ما أخبر به فحق لا مرية فيه

__________________

(١) أثر ابن عباس في تفسير الطبري ٥ / ٣١٧.

(٢) الآثار عن السدي وابن زيد وعلي بن طلحة في تفسير الطبري ٥ / ٣١٧ ـ ٣١٨.

(٣) تفسير الطبري ٥ / ٣١٩.

٢٨٨

ولا شك ، وكل ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه ، وكل ما نهى عنه فباطل فإنه لا ينهى إلا عن مفسدة ، كما قال تعالى : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) [الأعراف : ١٥٧] إلى آخر الآية (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) أي ليس أحد يعقب حكمه تعالى ، لا في الدنيا ولا في الآخرة (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوال عباده (الْعَلِيمُ) بحركاتهم وسكناتهم ، الذي يجازي كل عامل بعمله.

(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١١٧)

يخبر تعالى : عن حال أكثر أهل الأرض ، من بني آدم أنه الضلال ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) [الصافات : ٧١] وقال تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف : ١٠٣] وهم في ضلالهم ليسوا على يقين من أمرهم ، وإنما هم في ظنون كاذبة وحسبان باطل ، (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) فإن الخرص هو الحزر ، ومنه خرص النخل ، وهو حزر ما عليها من التمر ، وذلك كله عن قدر الله ومشيئته (هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ) فييسره لذلك (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) فييسرهم لذلك ، وكل ميسر لما خلق له.

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) (١١٩)

هذا إباحة من الله ، لعباده المؤمنين ، أن يأكلوا من الذبائح ما ذكر عليه اسمه ، ومفهومه أنه لا يباح ما لم يذكر اسم الله عليه ، كما كان يستبيحه كفار قريش من أكل الميتات ، وأكل ما ذبح على النصب وغيرها ، ثم ندب إلى الأكل مما ذكر اسم الله عليه ، فقال (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) أي قد بين لكم ما حرم عليكم ووضحه ، قرأ بعضهم فصل بالتشديد ، وقرأ آخرون بالتخفيف ، والكل بمعنى البيان والوضوح.

(إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) أي إلا في حال الاضطرار ، فإنه يباح لكم ما وجدتم ، ثم بين تعالى جهالة المشركين ، في آرائهم الفاسدة ، من استحلالهم الميتات ، وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى ، فقال (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) أي هو أعلم باعتدائهم وكذبهم وافترائهم.

(وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) (١٢٠)

قال مجاهد (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) معصية الله في السر والعلانية ، وفي رواية عنه ، هو ما ينوي مما هو عامل ، وقال قتادة (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) أي سره وعلانيته قليله وكثيره ،

٢٨٩

وقال السدي : ظاهره الزنا مع البغايا ذوات الرايات ، وباطنه الزنا مع الخليلة والصدائق والأخدان ، وقال عكرمة : ظاهره نكاح ذوات المحارم (١).

والصحيح أن الآية عامة في ذلك كله ، وهي كقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) [الأعراف : ٣٣] الآية ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) أي سواء كان ظاهرا أو خفيا ، فإن الله سيجزيهم عليه.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن معاوية بن صالح ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه ، عن النواس بن سمعان قال : سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإثم ، فقال «الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه».

(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (١٢١)

استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها ، وإن كان الذابح مسلما ، وقد اختلف الأئمة رحمهم‌الله في هذه المسألة ، على ثلاثة أقوال :

فمنهم من قال لا تحل هذه الذبيحة بهذه الصفة ، وسواء متروك التسمية عمدا أو سهوا ، وهو مروي عن ابن عمر ، ونافع مولاه ، وعامر الشعبي ، ومحمد بن سيرين ، وهو رواية عن الإمام مالك ، ورواية عن أحمد بن حنبل نصرها طائفة من أصحابه المتقدمين والمتأخرين ، وهو اختيار أبي ثور ، وداود الظاهري ، واختار ذلك أبو الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي ، من متأخري الشافعية ، في كتابه «الأربعين» ، واحتجوا لمذهبهم هذا بهذه الآية ، وبقوله في آية الصيد (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) [المائدة : ٤] ثم قد أكد في هذه الآية بقوله (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) والضمير قيل عائد على الأكل ، وقيل عائد على الذبح ، لغير الله ، وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد ، كحديثي عدي بن حاتم وأبي ثعلبة : «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك» (٢) وهما في الصحيحين ، وحديث رافع بن خديج «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه» (٣) وهو في الصحيحين أيضا ، وحديث ابن مسعود : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للجن «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه» (٤) رواه مسلم ، وحديث جندب بن سفيان البجلي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى ، ومن لم يكن ذبح ، حتى صلينا فليذبح باسم

__________________

(١) ينظر تفسير الطبري ٥ / ٣٢٣ ـ ٣٢٤.

(٢) صحيح البخاري (وضوء باب ٣٣) وصحيح مسلم (صيد حديث ١)

(٣) صحيح البخاري (ذبائح باب ١٥) وصحيح مسلم (أضاحي حديث ٢٠)

(٤) صحيح مسلم (صلاة حديث ١٥)

٢٩٠

الله» (١) أخرجاه ، وعن عائشة رضي الله عنها : أن ناسا قالوا : يا رسول الله إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ قال «سموا عليه أنتم وكلوا» قالت : وكانوا حديثي عهد بالكفر (٢) رواه البخاري.

ووجه الدلالة أنهم فهموا أن التسمية لا بد منها ، وخشوا أن لا تكون وجدت من أولئك لحداثة إسلامهم ، فأمرهم بالاحتياط بالتسمية عند الأكل ، لتكون كالعوض عن المتروكة عند الذبح إن لم تكن وجدت ، وأمرهم بإجراء أحكام المسلمين على السداد ، والله أعلم.

والمذهب الثاني في المسألة : أنه لا يشترط التسمية ، بل هي مستحبة ، فإن تركت عمدا أو نسيانا لا يضر ، وهذا مذهب الإمام الشافعي رحمه‌الله ، وجميع أصحابه ، ورواية عن الإمام أحمد نقلها عنه حنبل. وهو رواية عن الإمام مالك ، ونص على ذلك أشهب بن عبد العزيز من أصحابه ، وحكي عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وعطاء بن أبي رباح ، والله أعلم.

وحمل الشافعي الآية الكريمة (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) على ما ذبح لغير الله ، كقوله تعالى : (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [الأنعام : ١٤٥].

وقال ابن جريج عن عطاء (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) قال : ينهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش للأوثان ، وينهى عن ذبائح المجوس ، وهذا المسلك الذي طرقه الإمام الشافعي قوي ، وقد حاول بعض المتأخرين أن يقويه بأن جعل الواو في قوله (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) حالية ، أي : (لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) في حال كونه فسقا ، ولا يكون فسقا حتى يكون قد أهل به لغير الله. ثم ادعى أن هذا متعين ولا يجوز أن تكون الواو عاطفة ، لأنه يلزم منه عطف جملة اسمية خبرية على جملة فعلية طلبية وهذا ينتقض عليه بقوله (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) فإنها عاطفة لا محالة ، فإن كانت الواو التي ادعى أنها حالية صحيحة على ما قال ، امتنع عطف هذه عليها فإن عطفت على الطلبية ورد عليه ما أورد على غيره ، وإن لم تكن الواو حالية بطل ما قال من أصله ، والله أعلم.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، أنبأنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في الآية (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) قال : هي الميتة.

ثم رواه عن أبي زرعة ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن ابن لهيعة ، عن عطاء وهو ابن السائب به ، وقد استدل لهذا المذهب ، بما رواه أبو داود في المراسيل : من حديث ثور بن يزيد ، عن الصلت السدوسي مولى سويد بن منجوف ، أحد التابعين الذين ذكرهم أبو حاتم بن حبان في كتاب الثقات ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر ، إنه إن

__________________

(١) صحيح البخاري (أضاحي باب ١٢ وذبائح باب ١٢ و١٧) وصحيح مسلم (أضاحي ١ ـ ٣)

(٢) صحيح البخاري (ذبائح باب ١)

٢٩١

ذكر لم يذكر إلا اسم الله» وهذا مرسل ، يعضد بما رواه الدار قطني عن ابن عباس أنه قال : «إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل ، فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله» واحتج البيهقي أيضا بحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم ، أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، إن قوما حديثي عهد بجاهلية ، يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال «سموا أنتم وكلوا» قال : فلو كان وجود التسمية شرطا ، لم يرخص لهم إلا مع تحققها ، والله أعلم.

المذهب الثالث في المسألة : إن ترك البسملة على الذبيحة نسيانا لم يضر ، وإن تركها عمدا لم تحل ، هذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل ، وبه يقول أبو حنيفة وأصحابه ، وإسحاق بن راهويه : وهو محكي عن علي ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، وطاوس ، والحسن البصري ، وأبي مالك ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وجعفر بن محمد ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن ، ونقل الإمام أبو الحسن المرغيناني ، في كتابه «الهداية» الإجماع قبل الشافعي على تحريم متروك التسمية عمدا ، فلهذا قال أبو يوسف والمشايخ : لو حكم حاكم بجواز بيعه ، لم ينفذ لمخالفة الإجماع ، وهذا الذي قاله غريب جدا ، وقد تقدم نقل الخلاف عمن قبل الشافعي ، والله أعلم.

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير (١) رحمه‌الله : من حرم ذبيحة الناس فقد خرج من قول جميع الحجة ، وخالف الخير الثابت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ، يعني ما رواه الحافظ أبو بكر البيهقي ، أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا أبو أمية الطرسوسي ، حدثنا محمد بن يزيد ، حدثنا معقل بن عبيد الله ، عن عمرو بن دينار عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «المسلم يكفيه اسمه إن نسي أن يسمي حين يذبح ، فليذكر اسم الله وليأكله».

وهذا الحديث رفعه خطأ ، أخطأ فيه معقل بن عبيد الله الجزيري ، فإنه وإن كان من رجال مسلم ، إلا أن سعيد بن منصور ، وعبد الله بن الزبير الحميدي ، روياه : عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن أبي الشعثاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، من قوله فزادا في إسناده أبا الشعثاء ووثقاه ، وهذا أصح ، نص عليه البيهقي وغيره من الحفاظ ، ثم نقل ابن جرير وغيره عن الشعبي ، ومحمد بن سيرين ، أنهما كرها متروك التسمية نسيانا ، والسلف يطلقون الكراهة على التحريم كثيرا ، والله أعلم ، إلا أن من قاعدة ابن جرير أنه لا يعتبر قول الواحد ولا الاثنين مخالفا لقول الجمهور ، فيعده إجماعا ، فليعلم هذا ، والله الموفق.

قال ابن جرير (٢) : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا أبو أسامة ، عن جهير بن يزيد ، قال : سئل

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٣٣٠.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٣٢٩.

٢٩٢

الحسن ، سأله رجل : أتيت بطير كرى (١) ، فمنه ما قد ذبح فذكر اسم الله عليه ، ومنه ما نسي أن يذكر اسم الله عليه ، واختلط الطير ، فقال الحسن كله كله ، قال : وسألت محمد بن سيرين فقال : قال الله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ).

واحتج لهذا المذهب بالحديث المروي من طرق عند ابن ماجة عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وأبي ذر ، وعقبة بن عامر ، وعبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وفيه نظر ، والله أعلم.

وقد روى الحافظ أبو أحمد بن عدي من حديث مروان بن سالم القرقساني ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اسم الله على كل مسلم».

ولكن هذا إسناده ضعيف ، فإن مروان بن سالم القرقساني أبا عبد الله الشامي ضعيف ، تكلم فيه غير واحد من الأئمة ، والله أعلم. وقد أفردت هذه المسألة على حدة ، وذكرت مذاهب الأئمة ومأخذهم وأدلتهم ووجه الدلالات والمناقضات والمعارضات ، والله أعلم.

قال ابن جرير (٢) : وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية : هل نسخ من حكمها شيء أم لا؟ فقال بعضهم : لم ينسخ منها شيء ، وهي محكمة فيما عنيت به ، وعلى هذا قول مجاهد وعامة أهل العلم ، وروي عن الحسن البصري وعكرمة ما حدثنا به ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين بن واقد ، عن عكرمة والحسن البصري ، قالا : قال الله (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) وقال (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) فنسخ واستثنى من ذلك ، فقال (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ).

وقال ابن أبي حاتم : قرئ على العباس بن الوليد بن مزيد ، حدثنا محمد بن شعيب ، أخبرني النعمان ، يعني ابن المنذر ، عن مكحول ، قال : أنزل الله في القرآن (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ثم نسخها الرب ورحم المسلمين فقال (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) فنسخها بذلك ، وأحل طعام أهل الكتاب.

ثم قال ابن جرير : والصواب أنه لا تعارض ، بين حل طعام أهل الكتاب ، وبين تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه ، وهذا الذي قاله صحيح ، ومن أطلق من السلف النسخ هاهنا فإنما أراد التخصيص ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقوله تعالى : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا

__________________

(١) كرى : جمع كروان ، وهو طائر بين الدجاجة والحمامة حسن الصوت.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٣٣٠ ـ ٣٣١.

٢٩٣

أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق ، قال : قال رجل لابن عمر ، إن المختار يزعم أنه يوحى إليه ، قال : صدق ، وتلا هذه الآية (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ).

وحدثنا أبي : حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا عكرمة بن عمار ، عن أبي زميل ، قال : كنت قاعدا عند ابن عباس ، وحج المختار بن أبي عبيد ، فجاءه رجل فقال : يا ابن عباس ، زعم أبو إسحاق أنه أوحي إليه الليلة ، فقال ابن عباس : صدق ، فنفرت ، وقلت يقول ابن عباس : صدق؟ فقال ابن عباس : هما وحيان : وحي الله ووحي الشيطان ، فوحي الله إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووحي الشيطان إلى أوليائه ، ثم قرأ (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) وقد تقدم عن عكرمة في قوله (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) نحو هذا.

وقوله (لِيُجادِلُوكُمْ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عمران بن عيينة عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، قال : خاصمت اليهود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : نأكل مما قتلنا ، ولا نأكل مما قتل الله ، فأنزل الله (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) هكذا رواه مرسلا.

ورواه أبو داود (١) متصلا ، فقال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا عمران بن عيينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : جاءت اليهود إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : نأكل مما قتلنا ، ولا نأكل مما قتل الله ، فأنزل الله (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) الآية ، وكذا رواه ابن جرير : عن محمد بن عبد الأعلى ، وسفيان بن وكيع ، كلاهما عن عمران بن عيينة به.

ورواه البزار عن محمد بن موسى الحرشي ، عن عمران بن عيينة به ، وهذا فيه نظر ، من وجوه ثلاثة : [أحدها] أن اليهود لا يرون إباحة الميتة حتى يجادلوا [الثاني] أن الآية من الأنعام وهي مكية [الثالث] أن هذا الحديث رواه الترمذي عن محمد بن موسى الحرشي ، عن زياد بن عبد الله البكائي ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، ورواه الترمذي بلفظ أتى ناس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكره ، وقال حسن غريب ، وروي عن سعيد بن جبير مرسلا ، وقال الطبراني : حدثنا علي بن المبارك حدثنا زيد بن المبارك ، حدثنا موسى بن عبد العزيز ، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : لما نزلت (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) أرسلت فارس إلى قريش ، أن خاصموا محمدا وقولوا له : فما تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال ، وما ذبح الله عزوجل بشمشير من ذهب ، يعني الميتة ، فهو حرام؟ فنزلت هذه الآية (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) أي وإن

__________________

(١) سنن أبي داود (أضاحي باب ١٢)

٢٩٤

الشياطين من فارس ، ليوحون إلى أوليائهم من قريش.

وقال أبو داود (١) : حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا إسرائيل ، حدثنا سماك عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) يقولون : ما ذبح الله فلا تأكلوه ، وما ذبحتم أنتم فكلوه ، فأنزل الله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ورواه ابن ماجة وابن أبي حاتم ، عن عمرو بن عبد الله ، عن وكيع ، عن إسرائيل به ، وهذا إسناد صحيح ، ورواه ابن جرير ، من طرق متعددة ، عن ابن عباس ، وليس فيه ذكر اليهود ، فهذا هو المحفوظ ، لأن الآية مكية ، واليهود لا يحبون الميتة.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) إلى قوله (لِيُجادِلُوكُمْ) قال : يوحي الشياطين إلى أوليائهم تأكلون مما قتلتم ، ولا تأكلون مما قتل الله؟ وفي بعض ألفاظه ، عن ابن عباس ، أن الذي قتلتم ذكر اسم الله عليه ، وأن الذي قد مات ، لم يذكر اسم الله عليه.

وقال ابن جريج (٣) : قال عمرو بن دينار عن عكرمة إن مشركي قريش كاتبوا فارس على الروم ، وكاتبتهم فارس ، فكتبت فارس إليهم : إن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله ، فما ذبح الله بسكين من ذهب فلا يأكلونه وما ذبحوه هم يأكلونه ، فكتب بذلك المشركون إلى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء ، فأنزل الله (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) ونزلت (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً).

وقال السدي : في تفسير هذه الآية : إن المشركين قالوا للمسلمين : كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة الله ، فما قتل الله فلا تأكلونه ، وما ذبحتم أنتم تأكلونه؟ فقال الله تعالى : (إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) فأكلتم الميتة (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (٤) وهكذا قاله مجاهد ، والضحاك ، وغير واحد من علماء السلف.

وقوله تعالى : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) أي حيث عدلتم ، عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره ، فقدمتم عليه غيره ، فهذا هو الشرك ، كقوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [التوبة : ٣١] الآية ، وقد روى الترمذي : في تفسيرها عن عدي بن حاتم ، أنه قال : يا رسول الله ما عبدوهم ، فقال «بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال

__________________

(١) سنن أبي داود (أضاحي باب ١٢)

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٣٢٨.

(٣) الأثر في تفسير الطبري ٥ / ٣٢٦.

(٤) تفسير الطبري ٥ / ٣٢٧.

٢٩٥

فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم»

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢٢)

هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتا ، أي في الضلالة هالكا حائرا ، فأحياه الله أي أحيا قلبه بالإيمان ، وهداه له ووفقه لاتباع رسله ، (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) أي يهتدي كيف يسلك وكيف يتصرف به ، والنور هو القرآن كما رواه العوفي ، وابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وقال السدي ، الإسلام ، والكل صحيح (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) أي الجهالات ، والأهواء والضلالات المتفرقة ، (لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) أي لا يهتدي إلى منفذ ولا مخلص مما هو فيه.

وفي مسند الإمام أحمد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «إن الله خلق خلقه في ظلمة ، ثم رش عليهم من نوره ، فمن أصابه ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضل» (١) كما قال تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [البقرة : ٢٥٧] وقال تعالى : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الملك : ٢٢] وقال تعالى : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [هود : ٢٤] وقال تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) [فاطر : ١٩ ـ ٢٣] ، والآيات في هذا كثيرة ، ووجه المناسبة في ضرب المثلين هاهنا بالنور والظلمات ما تقدم في أول السورة (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ، وزعم بعضهم أن المراد بهذا المثل رجلان معينان ، فقيل عمر بن الخطاب ، هو الذي كان ميتا فأحياه الله ، وجعل له نورا يمشي به في الناس ، وقيل عمار بن ياسر ، وأما الذي في الظلمات ليس بخارج منها أبو جهل عمرو بن هشام لعنه الله ، والصحيح أن الآية عامة يدخل فيها كل مؤمن وكافر.

وقوله تعالى : (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي حسنا لهم ما كانوا فيه من الجهالة والضلالة ، قدرا من الله وحكمة بالغة لا إله إلا هو وحده لا شريك له.

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٢ / ١٩٧ من حديث عبد الله بن عمرو باختلاف في اللفظ غير يسير عما هنا ، ولعل ابن كثير ينقل الحديث بالمعنى ؛ فلينظر.

٢٩٦

رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) (١٢٤)

يقول تعالى ، وكما جعلنا في قريتك يا محمد أكابر من المجرمين ، ورؤساء ودعاة إلى الكفر ، والصد عن سبيل الله ، وإلى مخالفتك وعداوتك ، كذلك كانت الرسل من قبلك يبتلون بذلك ، ثم تكون لهم العاقبة ، كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) [الفرقان: ٣١] الآية ، وقال تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) [الإسراء : ١٦] الآية ، قيل معناه : أمرناهم بالطاعة فخالفوا ، فدمرناهم ، قيل : أمرناهم أمرا قدريا ، كما قال هاهنا (لِيَمْكُرُوا فِيها) وقوله تعالى : (أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس (أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) قال : سلطنا شرارهم فعصوا فيها ، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب.

وقال مجاهد وقتادة (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) عظماؤها (١) ، قلت : وهكذا قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ : ٣٤ ـ ٣٥] وقال تعالى : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣] والمراد بالمكر هاهنا دعاؤهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال كقوله تعالى إخبارا عن قوم نوح (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) [نوح : ٢٢] وقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) [سبأ : ٣١ ـ ٢١] الآية.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، قال : كل مكر في القرآن فهو عمل.

وقوله تعالى : (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) أي وما يعود وبال مكرهم ذلك وإضلالهم من أضلوه إلا على أنفسهم ، كما قال تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣] وقال (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) [النحل : ٢٥].

وقوله تعالى : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) أي إذا جاءتهم آية وبرهان وحجة قاطعة ، قالوا (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) أي حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة ، كما تأتي إلى الرسل ، كقوله جل وعلا (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٣٣٤.

٢٩٧

لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) [الفرقان : ٢١] الآية.

وقوله (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) أي هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه ، كقوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف : ٣١ ـ ٣٢] الآية ، يعنون لو لا نزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير جليل مبجل في أعينهم (مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ) أي من مكة والطائف ، وذلك أنهم قبحهم الله كانوا يزدرون بالرسول صلوات الله وسلامه عليه بغيا وحسدا ، وعنادا واستكبارا كقوله تعالى مخبرا عنه : (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً ، أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) [الفرقان : ٤١] وقال تعالى : (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) [الأنبياء : ٣٦] وقال تعالى : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الأنعام : ١٠] هذا وهم معترفون بفضله وشرفه ونسبه ، وطهارة بيته ومرباه ، ومنشئه صلّى الله وملائكته والمؤمنون عليه ، حتى إنهم كانوا يسمونه بينهم قبل أن يوحى إليه «الأمين» وقد اعترف بذلك رئيس الكفار أبو سفيان حين سأله هرقل ملك الروم : وكيف نسبه فيكم؟ قال : هو فينا ذو نسب ، قال هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال : لا ـ الحديث بطوله ، الذي استدل ملك الروم بطهارة صفاته عليه‌السلام على صدق نبوته وصحة ما جاء به.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن مصعب ، حدثنا الأوزاعي ، عن شداد أبي عمار ، عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة واصطفى من بني كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» انفرد بإخراجه مسلم (٢) ، من حديث الأوزاعي وهو عبد الرحمن بن عمرو إمام أهل الشام به نحوه ، وفي صحيح البخاري (٣) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا ، حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه».

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا أبو نعيم ، عن سفيان ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن المطلب بن أبي وداعة ، قال : قال العباس : بلغه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض ما يقول الناس ، فصعد المنبر فقال «من أنا؟» قالوا أنت رسول الله ، فقال «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه ، وجعلهم فريقين فجعلني في خير

__________________

(١) مسند أحمد ٤ / ١٠٧.

(٢) صحيح مسلم (فضائل حديث ١)

(٣) صحيح البخاري (مناقب باب ٢٣)

(٤) مسند أحمد ١ / ٢١٠.

٢٩٨

فرقة ، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة ، وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا ، فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا» صدق صلوات الله وسلامه عليه. وفي الحديث أيضا ، المروي عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قال لي جبريل قلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد ، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم» رواه الحاكم والبيهقي.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو بكر ، حدثنا عاصم ، عن زر بن حبيش ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خير قلوب العباد ، فاصطفاه لنفسه فبعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه ، يقاتلون على دينه ، فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رآه المسلمون سيئا فهو عند الله سيئ. وقال أحمد (٢) : حدثنا شجاع بن الوليد ، قال : ذكر قابوس بن أبي ظبيان ، عن أبيه ، عن سلمان ، قال : قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك» قلت : يا رسول الله كيف أبغضك وبك هدانا الله؟ قال «تبغض العرب فتبغضني» وذكر ابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية : ذكر عن محمد بن منصور الجواز ، حدثنا سفيان عن أبي حسين قال : أبصر رجل ابن عباس وهو داخل من باب المسجد ، فلما نظر إليه راعه فقال : من هذا؟ قالوا ابن عباس ابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «الله أعلم حيث يجعل رسالته» (٣).

وقوله تعالى : (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ) الآية ، هذا وعيد شديد من الله ، وتهديد أكيد لمن تكبر عن اتباع رسله والانقياد لهم فيما جاءوا به ، فإنه سيصيبه يوم القيامة بين يدي الله صغار وهو الذلة الدائمة ، لما أنهم استكبروا فأعقبهم ذلك ذلا يوم القيامة لما استكبروا في الدنيا ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر : ٦٠] أي صاغرين ذليلين حقيرين.

وقوله تعالى : (وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) لما كان المكر غالبا إنما يكون خفيا ، وهو التلطف في التحيل والخديعة ، قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة ، جزاء وفاقا ، (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) كما قال تعالى : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) [الطارق : ٩] أي تظهر المستترات والمكنونات والضمائر.

وجاء في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال «ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٣٧٩.

(٢) مسند أحمد ٥ / ٤٤٠.

(٣) الدر المنثور ٣ / ٨٢.

٢٩٩

القيامة ، فيقال هذه غدرة فلان بن فلان» (١) والحكمة في هذا أنه لما كان الغدر خفيا لا يطلع عليه الناس ، فيوم القيامة يصير علما منشورا على صاحبه بما فعل.

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (١٢٥)

يقول تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) أي ييسره له وينشطه ويسهله ، لذلك فهذه علامات على الخير ، كقوله تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) [الزمر : ٢٢] الآية ، وقال تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) [الحجرات : ٧] وقال ابن عباس رضي الله عنهما : في قوله (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) يقول تعالى : يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به ، وكذا قال أبو مالك وغير واحد وهو ظاهر.

وقال عبد الرزاق ، أخبرنا الثوري عن عمرو بن قيس ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي جعفر ، قال ، سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي المؤمنين أكيس؟ قال «أكثرهم ذكرا للموت وأكثرهم لما بعده استعدادا» قال : وسئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه الآية (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) قالوا : كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال «نور يقذف فيه فينشرح له وينفسح» قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال «الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت» (٢) وقال ابن جرير : حدثنا هناد ، حدثنا قبيصة عن سفيان يعني الثوري ، عن عمرو بن مرة ، عن رجل يكنى أبا جعفر كان يسكن المدائن ، قال : سئل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عن قول الله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) فذكر نحو ما تقدم (٣).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن إدريس ، عن الحسن بن الفرات القزاز ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي جعفر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا دخل الإيمان القلب انفسح له القلب وانشرح» قالوا : يا رسول الله هل لذلك من أمارة؟ قال «نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل الموت» وقد رواه ابن جرير : عن سوار بن عبد الله العنبري ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، سمعت أبي يحدث عن عبد الله بن مرة ، عن أبي جعفر

__________________

(١) صحيح مسلم (جهاد حديث ٨ ، ١٠ ـ ١٧) وصحيح البخاري (جزية باب ٢٢ وأدب باب ٩٩ وحيل باب ٩ وفتن باب ٢١)

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٣٣٦.

(٣) المصدر السابق.

٣٠٠