تفسير القرآن العظيم - ج ٣

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٣

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٩٥

الْمُشْرِكِينَ) أي أخلصت ديني ، وأفردت عبادتي (لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق (حَنِيفاً) أي في حال كوني حنيفا ، أي مائلا عن الشرك إلى التوحيد ، ولهذا قال (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

وقد اختلف المفسرون في هذا المقام : هل هو مقام نظر أو مناظرة؟ فروى ابن جرير : من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، ما يقتضي أنه مقام نظر ، واختاره ابن جرير مستدلا بقوله (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) الآية (١).

وقال محمد بن إسحاق : قال ذلك حين خرج من السرب (٢) الذي ولدته فيه أمه ، حين تخوفت عليه من نمروذ بن كنعان ، لما كان قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه ، فأمر بقتل الغلمان عامئذ ، فلما حملت أم إبراهيم به وحان وضعها ذهبت به إلى سرب ظاهر البلد فولدت فيه إبراهيم ، وتركته هناك ، وذكر أشياء من خوارق العادات ، كما ذكرها غيره من المفسرين من السلف والخلف.

والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، كان في هذا المقام مناظرا لقومه ، مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام ، فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية ، التي هي على صور الملائكة السماوية ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم ، الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه ، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته ، ليشفعوا لهم عنده في الرزق والنصر ، وغير ذلك مما يحتاجون إليه. وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل ، وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة ، وهي : القمر وعطارد والزهرة والشمس والمريخ والمشتري وزحل ، وأشدهن إضاءة وأشرفهن عندهم الشمس ، ثم القمر ثم الزهرة ، فبين أولا صلوات الله وسلامه عليه أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية ، فإنها مسخرة مقدرة بسير معين ، لا تزيغ عنه يمينا ولا شمالا ، ولا تملك لنفسها تصرفا ، بل هي جرم من الأجرام خلقها الله منيرة ، لما له في ذلك من الحكم العظيمة ، وهي تطلع من المشرق ثم تسير فيما بينه وبين المغرب حتى تغيب عن الأبصار فيه ، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال ، ومثل هذه لا تصلح للإلهية ، ثم انتقل إلى القمر فبين فيه مثل ما بين في النجم ، ثم انتقل إلى الشمس كذلك ، فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار ، وتحقق ذلك بالدليل القاطع ، (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أي أنا بريء من عبادتهن وموالاتهن ، فإن كانت آلهة فكيدوني بها جميعا ثم لا تنظرون (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي إنما أعبد خالق هذه الأشياء ومخترعها

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٢٤٤ ـ ٢٤٥.

(٢) في الأثر عن ابن إسحاق (تفسير الطبري ٥ / ٢٤٥) أن أم إبراهيم ولدته في مغارة.

٢٦١

ومسخرها ومقدرها ومدبرها ، الذي بيده ملكوت كل شيء وخالق كل شيء ، وربه ومليكه وإلهه ، كما قال تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ٥٤] وكيف يجوز أن يكون إبراهيم ناظرا في هذا المقام. وهو الذي قال الله في حقه (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) [الأنبياء : ٥١ ـ ٥٢] الآيات ، وقال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل : ١٢٠ ـ ١٢٣] وقال تعالى : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٦١].

وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كل مولود يولد على الفطرة» (١) وفي صحيح مسلم ، عن عياض بن حماد ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله إني خلقت عبادي حنفاء» (٢) وقال الله في كتابه العزيز (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) [الروم : ٣٠] وقال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] ومعناه على أحد القولين كقوله (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) كما سيأتي بيانه. فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة ، فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله أمة قانتا لله حنيفا ، ولم يك من المشركين ، ناظرا في هذا المقام ، بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة والسجية المستقيمة ، بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلا شك ولا ريب ، ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظرا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظرا قوله تعالى.

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٨٣)

يقول تعالى مخبرا عن خليله إبراهيم ، حين جادله قومه فيما ذهب إليه من التوحيد وناظروه بشبه من القول ، أنه قال (أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ) أي تجادلونني في أمر الله ، وأنه لا إله

__________________

(١) صحيح البخاري (جنائز باب ٩٢) وصحيح مسلم (قدر حديث ٢٥)

(٢) صحيح مسلم (جنة حديث ٦٣)

٢٦٢

إلا هو ، وقد بصرني وهداني إلى الحق ، وأنا على بينة منه ، فكيف ألتفت إلى أقوالكم الفاسدة وشبهكم الباطلة.

وقوله (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) أي ومن الدليل على بطلان قولكم فيما ذهبتم إليه ، أن هذه الآلهة التي تعبدونها لا تؤثر شيئا ، وأنا لا أخافها ولا أباليها ، فإن كان لها كيد فكيدوني بها ، ولا تنظرون بل عاجلوني بذلك. وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) استثناء منقطع ، أي لا يضر ولا ينفع إلا الله عزوجل (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي أحاط علمه بجميع الأشياء فلا يخفى عليه خافية (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) أي فيما بينته لكم أفلا تعتبرون أن هذه الآلهة باطلة فتنزجروا عن عبادتها ، وهذه الحجة نظير ما احتج بها نبي الله هود عليه‌السلام على قومه عاد ، فيما قص عنهم في كتابه ، حيث يقول (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) [هود : ٥٣ ـ ٥٦] الآية.

وقوله (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) أي كيف أخاف من هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله ، (وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) قال ابن عباس وغير واحد من السلف : أي حجة وهذا كقوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) [الشورى : ٢١] وقوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) [النجم : ٢٣].

وقوله (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي فأي طائفتين أصوب ، الذي عبد من بيده الضر والنفع ، أو الذي عبد من لا يضر ولا ينفع ، بلا دليل أيهما أحق بالأمن من عذاب الله يوم القيامة ، قال الله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أي هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له ، ولم يشركوا به شيئا ، هم الآمنون يوم القيامة ، المهتدون في الدنيا والآخرة.

قال البخاري (١) : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة عن سليمان ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : لما نزلت (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) قال أصحابه وأينا لم يظلم نفسه؟ فنزلت (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : لما نزلت هذه الآية (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) شق ذلك على

__________________

(١) صحيح البخاري (تفسير سورة الأنعام باب ٤)

(٢) مسند أحمد ١ / ٣٧٨.

٢٦٣

الناس ، فقالوا : يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ قال «إنه ليس الذي تعنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) إنما هو الشرك.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وكيع وابن إدريس ، عن الأعمش ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : لما نزلت (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليس كما تظنون ، إنما قال لابنه (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) وحدثنا عمر بن شبّة النمري ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا سفيان عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : لما نزلت هذه الآية ، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) رواه البخاري ، وفي لفظ قالوا : أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليس بالذي تعنون ، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) إنما هو الشرك» ولابن أبي حاتم عن عبد الله مرفوعا ، قال (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) قال «بشرك» قال وروي عن أبي بكر الصديق ، وعمر ، وأبي بن كعب ، وسلمان ، وحذيفة ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعمرو بن شرحبيل ، وأبي عبد الرحمن السلمي ، ومجاهد ، وعكرمة ، والنخعي ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وغير واحد نحو ذلك.

وقال ابن مردويه : حدثنا الشافعي ، حدثنا محمد بن شداد المسمعي ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : لما نزلت (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قيل لي أنت منهم».

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا إسحاق بن يوسف ، حدثنا أبو جناب ، عن زاذان ، عن جرير بن عبد الله ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما برزنا من المدينة ، إذا راكب يوضع (٢) نحونا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كأن هذا الراكب إياكم يريد» فانتهى إلينا الرجل ، فسلم فرددنا عليه ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أين أقبلت؟» قال من أهلي وولدي وعشيرتي ، قال : «فأين تريد؟» قال : أريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «فقد أصبته» قال : يا رسول الله علمني ما الإيمان؟ قال : «أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان وتحج البيت» قال : قد أقررت ، قال ثم إن بعيره دخلت يده في جحر جرذان ، فهوى بعيره وهوى الرجل ، فوقع على هامته فمات ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «علي بالرجل» فوثب إليه عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان فأقعداه فقالا : يا رسول الله قبض الرجل قال فأعرض عنهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أما رأيتما إعراضي عن الرجل ، فإني رأيت ملكين

__________________

(١) مسند أحمد ٤ / ٣٥٩.

(٢) أوضع يوضع : حمل بعيره على سرعة السير.

٢٦٤

يدسان في فيه من ثمار الجنة ، فعلمت أنه مات جائعا» ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هذا من الذين قال الله عزوجل فيهم (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) الآية ، ثم قال «دونكم أخاكم» فاحتملناه إلى الماء ، فغسلناه وحنطناه وكفناه ، وحملناه إلى القبر ، فجاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى جلس على شفير القبر ، فقال «ألحدوا ولا تشقوا فإن اللحد لنا والشق لغيرنا».

ثم رواه أحمد عن أسود بن عامر ، عن عبد الحميد بن جعفر الفراء ، عن ثابت ، عن زاذان ، عن جرير بن عبد الله ، فذكر نحوه وقال فيه : هذا ممن عمل قليلا وأجر كثيرا.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا يوسف بن موسى القطان ، حدثنا مهران بن أبي عمر ، حدثنا علي بن عبد الله ، عن أبيه عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسير ساره ، إذ عرض له أعرابي فقال : يا رسول الله والذي بعثك بالحق ، لقد خرجت من بلادي وتلادي ومالي لأهتدي بهداك ، وآخذ من قولك ، وما بلغتك حتى ما لي طعام إلا من خضر الأرض ، فاعرض علي ، فعرض عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقبل ، فازدحمنا حوله فدخل خف بكره في بيت جرذان ، فتردى الأعرابي فانكسرت عنقه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صدق والذي بعثني بالحق لقد خرج من بلاده وتلاده وماله ، ليهتدي بهداي ويأخذ من قولي وما بلغني حتى ما له طعام إلا من خضر الأرض ، أسمعتم بالذي عمل قليلا وأجر كثيرا؟ هذا منهم. أسمعتم بالذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ، أولئك لهم الأمن وهم مهتدون؟ فإن هذا منهم» وفي لفظ قال «هذا عمل قليلا وأجر كثيرا» وروى ابن مردويه من حديث محمد بن يعلى الكوفي ، وكان نزل الري ، حدثنا زياد بن خيثمة ، عن أبي داود ، عن عبد الله بن سخبرة ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أعطي فشكر ، ومنع فصبر ، وظلم فاستغفر ، وظلم فغفر» وسكت ، قال : فقالوا يا رسول الله ما له؟ قال (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ).

وقوله (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) أي وجهنا حجته عليهم ، قال مجاهد وغيره : يعني بذلك قوله (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) الآية ، وقد صدقه الله وحكم له بالأمن والهداية فقال (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) ثم قال بعد ذلك كله (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) قرئ بالإضافة وبلا إضافة (١) ، كما في سورة يوسف ، وكلاهما قريب في المعنى.

وقوله (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي حكيم في أقواله وأفعاله ، عليم أي بمن يهديه ومن يضله ، وإن قامت عليه الحجج والبراهين ، كما قال (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ

__________________

(١) قرأ الكوفيون «درجات» بالتنوين ، وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو بغير تنوين على الإضافة. (تفسير الطبري ٧ / ٣٠)

٢٦٥

لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧] ولهذا قال هاهنا (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) (٩٠)

يذكر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق بعد أن طعن في السن ، وأيس هو وامرأته سارة من الولد ، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط ، فبشروهما بإسحاق فتعجبت المرأة من ذلك ، وقالت (يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) [هود : ٧٢ ـ ٧٣] فبشروهما مع وجوده بنبوته ، وبأن له نسلا وعقبا ، كما قال تعالى : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات : ١١٢] وهذا أكمل في البشارة وأعظم في النعمة ، وقال (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [هود : ٧١] أي ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما ، فتقر أعينكما به ، كما قرت بوالده ، فإن الفرح بولد الولد شديد لبقاء النسل والعقب ، ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يعقب لضعفه ، وقعت البشارة به وبولده باسم يعقوب الذي فيه اشتقاق العقب والذرية ، وكان هذا مجازاة لإبراهيم عليه‌السلام ، حين اعتزل قومه وتركهم ونزح عنهم ، وهاجر من بلادهم ذاهبا إلى عبادة الله في الأرض ، فعوضه الله عزوجل عن قومه وعشيرته ، بأولاد صالحين من صلبه على دينه ، لتقر بهم عينه ، كما قال تعالى : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) [مريم : ٤٩] وقال هاهنا (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا).

وقوله (وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) أي من قبله هديناه كما هديناه ، ووهبنا له ذرية صالحة ، وكل منهما له خصوصية عظيمة ، أما نوح عليه‌السلام ، فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن به ، وهم الذين صحبوه في السفينة ، جعل الله ذريته هم الباقين ، فالناس كلهم من ذريته ، وأما الخليل إبراهيم عليه‌السلام ، فلم يبعث الله عزوجل بعده نبيا ، إلا من ذريته ، كما قال تعالى : (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) [العنكبوت : ٢٧] الآية ، وقال تعالى ، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) [الحديد : ٢٦] وقال تعالى : (أُولئِكَ

٢٦٦

الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) [مريم : ٥٨].

وقوله في هذه الآية الكريمة (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) أي وهدينا من ذريته (داوُدَ وَسُلَيْمانَ) الآية ، وعود الضمير إلى نوح ، لأنه أقرب المذكورين ظاهر لا إشكال فيه ، وهو اختيار ابن جرير(١). وعوده إلى إبراهيم ، لأنه الذي سيق الكلام من أجله حسن ، لكن يشكل عليه لوط ، فإنه ليس من ذرية إبراهيم ، بل هو ابن أخيه ماران بن آزر ، اللهم إلا أن يقال إنه دخل في الذرية تغليبا ، وكما قال في قوله (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي؟ قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فإسماعيل عمه دخل في آبائه تغليبا ، وكما قال في قوله (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ) فدخل إبليس في أمر الملائكة بالسجود ، وذم على المخالفة لأنه كان في تشبه بهم ، فعومل معاملتهم ودخل معهم تغليبا ، وإلا فهو كان من الجن وطبيعته من النار ، والملائكة من النور.

وفي ذكر عيسى عليه‌السلام في ذرية إبراهيم أو نوح ، على القول الآخر ، دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل ، لأن عيسى عليه‌السلام إنما ينسب إلى إبراهيم عليه‌السلام ، بأمه مريم عليها‌السلام ، فإنه لا أب له.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا سهل بن يحيى العسكري ، حدثنا عبد الرحمن بن صالح ، حدثنا علي بن عابس ، عن عبد الله بن عطاء المكي ، عن أبي حرب بن أبي الأسود ، قال : أرسل الحجاج إلى يحيى بن يعمر ، فقال : بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تجده في كتاب الله ـ وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده؟ قال أليس تقرأ سورة الأنعام (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) حتى بلغ (وَيَحْيى وَعِيسى) قال بلى. قال أليس عيسى من ذرية إبراهيم وليس له أب؟ قال صدقت.

فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته ، أو وقف على ذريته ، أو وهبهم ، دخل أولاد البنات فيهم ، فأما إذا أعطى الرجل بنيه ، دخل أولاد البنات فيهم ، فأما إذا أعطى الرجل بنيه ، أو وقف عليهم ، فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه وبنو بنيه ، واحتجوا بقول الشاعر العربي : [الطويل]

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأجانب (٢)

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٢٥٦.

(٢) ويروى «الأباعد» في موضع «الأجانب». والبيت للفرزدق في خزانة الأدب ١ / ٤٤٤ ؛ وبلا نسبة في الإنصاف ١ / ٦٦ ؛ وأوضح المسالك ١ / ١٠٦ ؛ والحيوان ١ / ٣٤٦ ؛ وشرح ابن عقيل ص ١١٩ ؛ ومغني اللبيب ٢ / ٤٥٢ ؛ وهمع الهوامع ١ / ١٠٢.

٢٦٧

وقال آخرون : ويدخل بنو البنات فيهم أيضا ، لما ثبت في صحيح البخاري ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للحسن بن علي «إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» (١) فسماه ابنا ، فدل على دخوله في الأبناء. وقال آخرون : هذا تجوز ، وقوله (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) ذكر أصولهم وفروعهم ، وذوي طبقتهم وأن الهداية والاجتباء شملهم كلهم ، ولهذا قال (وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ثم قال تعالى : (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي إنما حصل لهم ذلك بتوفيق الله وهدايته إياهم ، (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) تشديد لأمر الشرك وتغليظ لشأنه وتعظيم لملابسته ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] الآية ، وهذا شرط ، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع ، كقوله (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) [الزخرف : ٨١] وكقوله (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) [الأنبياء : ١٧] وكقوله (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [الزمر : ٤]. وقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) أي أنعمنا عليه ـ بذلك ، رحمة للعباد بهم ولطفا منا بالخليقة ، (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها) أي بالنبوة ، ويحتمل أن يكون الضمير عائدا على هذه الأشياء الثلاثة ، الكتاب والحكم والنبوة.

وقوله (هؤُلاءِ) يعني أهل مكة ، قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد ، (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) أي إن يكفر بهذه النعم ، من كفر بها من قريش وغيرهم من سائر أهل الأرض ، من عرب وعجم ، وملّيين وكتابيين ، فقد وكلنا بها قوما آخرين أي المهاجرين والأنصار وأتباعهم إلى يوم القيامة ، (لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) أي لا يجحدون منها شيئا ، ولا يردون منها حرفا واحدا ، بل يؤمنون بجميعها ، محكمها ومتشابهها ، جعلنا الله منهم بمنّه وكرمه وإحسانه ، ثم قال تعالى مخاطبا عبده ورسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أُولئِكَ) يعني الأنبياء المذكورين ، مع من أضيف إليهم من الآباء والذرية والإخوان ، وهم الأشباه ، (الَّذِينَ هَدَى اللهُ) أي هم أهل الهدى لا غيرهم (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) ، أي اقتد واتبع ، وإذا كان هذا أمرا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمته تبع له ، فيما يشرعه ويأمرهم به.

قال البخاري عند هذه الآية : حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا هشام أن ابن جريج أخبرهم قال : أخبرني سليمان الأحول أن مجاهدا أخبره ، أنه سأل ابن عباس أفي (ص) سجدة؟ فقال نعم ، ثم تلا (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) إلى قوله (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) ثم قال هو منهم ، زاد يزيد بن هارون ، ومحمد بن عبيد ، وسهل بن يوسف ، عن العوام عن مجاهد ، قلت لابن عباس فقال نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممن أمر أن يقتدي بهم (٢). وقوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً)

__________________

(١) صحيح البخاري (فتن باب ٢٠ وصلح باب ٩)

(٢) صحيح البخاري (تفسير سورة الأنعام باب ٦)

٢٦٨

أي لا أطلب منكم على إبلاغي إياكم هذا القرآن أجرا أي أجرة ، ولا أريد منكم شيئا ، (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) أي يتذكرون به ، فيرشدوا من العمى إلى الهدى ، ومن الغي إلى الرشاد ، ومن الكفر إلى الإيمان.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) (٩٢)

يقول الله تعالى وما عظموا الله حق تعظيمه ، إذ كذبوا رسله إليهم ، قال ابن عباس ومجاهد وعبد الله بن كثير : نزلت في قريش ، واختاره ابن جرير (١) ، وقيل نزلت في طائفة من اليهود ، وقيل في فنحاص رجل منهم ، وقيل في مالك بن الصيف (قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) والأول أصح ، لأن الآية مكية ، واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء ، وقريش والعرب قاطبة كانوا ينكرون إرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه من البشر ، كما قال (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) [يونس : ٢] وكقوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤ ـ ٩٥] وقال هاهنا (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) قال الله تعالى : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) أي قل يا محمد لهؤلاء المنكرين لإنزال شيء من الكتب من عند الله ، في جواب سلبهم العام ، بإثبات قضية جزئية موجبة ، (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) وهو التوراة التي قد علمتم ، وكل أحد أن الله قد أنزلها على موسى بن عمران ، نورا وهدى للناس ، أي ليستضاء بها في كشف المشكلات ، ويهتدي بها من ظلم الشبهات.

وقوله (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) أي تجعلون جملتها قراطيس ، أي قطعا تكتبونها من الكتاب الأصلي ، الذي بأيديكم ، وتحرفون منها ما تحرفون ، وتبدلون وتتأولون ، وتقولون هذا من عند الله ، أي في كتابه المنزل ، وما هو من عند الله ، ولهذا قال (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً).

وقوله تعالى : (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) أي ومن أنزل القرآن الذي علمكم الله فيه ، من خبر ما سبق ، ونبأ ما يأتي ما لم تكونوا تعلمون ذلك ، لا أنتم ولا آباؤكم ، وقد قال قتادة : هؤلاء مشركو العرب وقال مجاهد هذه للمسلمين.

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٢٦٤.

٢٦٩

وقوله تعالى : (قُلِ اللهُ) قال علي بن أبي طلحة : عن ابن عباس ، أي قل الله أنزله ، وهذا الذي قاله ابن عباس ، هو المتعين في تفسير هذه الكلمة ، لا ما قاله بعض المتأخرين ، من أن معنى (قُلِ اللهُ) أي لا يكون خطابك لهم ، إلا هذه الكلمة ، كلمة «الله» وهذا الذي قاله هذا القائل ، يكون أمرا بكلمة مفردة ، من غير تركيب ، والإتيان بكلمة مفردة لا يفيد في لغة العرب فائدة يحسن السكوت عليها.

وقوله (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) أي ثم دعهم في جهلهم وضلالهم يلعبون ، حتى يأتيهم من الله اليقين ، فسوف يعلمون ألهم العاقبة أم لعباد الله المتقين؟

وقوله (وَهذا كِتابٌ) يعني القرآن (أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) يعني مكة (وَمَنْ حَوْلَها) من أحياء العرب ، ومن سائر طوائف بني آدم ، ومن عرب وعجم ، كما قال في الآية الأخرى (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٨] وقال (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام : ١٩] وقال (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود : ١٧] وقال (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان : ١] وقال (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) [آل عمران : ٢٠] وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي» وذكر منهن «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة» ولهذا قال (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي كل من آمن بالله واليوم الآخر ، يؤمن بهذا الكتاب المبارك ، الذي أنزلناه إليك يا محمد ، وهو القرآن (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) أي يقيمون بما فرض عليهم من أداء الصلوات في أوقاتها.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٩٤)

يقول تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي لا أحد أظلم ، ممن كذب على الله ، فجعل له شركاء أو ولدا ، أو ادعى أن الله أرسله إلى الناس ولم يرسله ، ولهذا قال تعالى : (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) قال عكرمة وقتادة : نزلت في مسيلمة الكذاب.

(وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) أي ومن ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي ، مما يفتريه من القول ، كقوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) [الأنفال : ٣١] الآية ، قال الله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ

٢٧٠

الْمَوْتِ) أي في سكراته ، وغمراته ، وكرباته ، (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) أي بالضرب ، كقوله (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي) [المائدة : ٢٨] الآية ، وقوله (يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) [الممتحنة : ٢] الآية ، وقال الضحاك وأبو صالح باسطو أيديهم أي بالعذاب ، كقوله (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) [الأنفال : ٥٠] ولهذا قال (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) أي بالضرب لهم ، حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم ، ولهذا يقولون لهم (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) وذلك أن الكافر إذا احتضر ، بشرته الملائكة بالعذاب ، والنكال ، والأغلال ، والسلاسل ، والجحيم ، والحميم ، وغضب الرحمن الرحيم ، فتتفرق روحه في جسده ، وتعصي وتأبى الخروج ، فتضربهم الملائكة ، حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم ، قائلين لهم (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِ) الآية ، أي اليوم تهانون غاية الإهانة ، كما كنتم تكذبون على الله ، وتستكبرون عن اتباع آياته والانقياد لرسله.

وقد وردت الأحاديث المتواترة في كيفية احتضار المؤمن والكافر عند الموت وهي مقررة عند قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) [إبراهيم : ٢٧] وقد ذكر ابن مردويه هاهنا حديثا مطولا جدا من طريق غريبة ، عن الضحاك ، عن ابن عباس مرفوعا ، فالله أعلم.

وقوله (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي يقال لهم يوم معادهم هذا كما قال (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي كما بدأناكم أعدناكم ، وقد كنتم تنكرون ذلك وتستبعدونه ، فهذا يوم البعث.

وقوله (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ) أي من النعم والأموال التي اقتنيتموها ، في الدار الدنيا وراء ظهوركم ، وثبت في الصحيح ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يقول ابن آدم مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس» (١).

وقال الحسن البصري : يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بذخ ، فيقول الله عزوجل : أين ما جمعت؟ فيقول يا رب جمعته وتركته أوفر ما كان ، فيقول له : يا ابن آدم أين ما قدمت لنفسك؟ فلا يراه قدم شيئا ، وتلا هذه الآية (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ) الآية (٢) ، رواه ابن أبي حاتم.

وقوله (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) تقريع لهم وتوبيخ على

__________________

(١) مسند أحمد ٢ / ٣٦٨ و٤ / ٢٤ ـ ٢٦.

(٢) سنن الترمذي (قيامة باب ٦). والبذج : ولد الضأن. والمقصود بيان ضعفه.

٢٧١

ما كانوا اتخذوا في الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان ، ظانين أنها تنفعهم في معاشهم ومعادهم ، إن كان ثم معاد ، فإذا كان يوم القيامة تقطعت بهم الأسباب ، وانزاح الضلال ، وضل عنهم ما كانوا يفترون ويناديهم الرب جل جلاله على رؤوس الخلائق (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [القصص : ٦٢ ـ ٧٤] ويقال لهم (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ) [الشعراء : ٩٢ ـ ٦٣] ولهذا قال هاهنا (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) أي في العبادة لهم ، فيكم قسط في استحقاق العبادة لهم.

ثم قال تعالى : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) قرئ بالرفع أي شملكم ، وبالنصب أي لقد تقطع ما بينكم من الأسباب والوصلات والوسائل ؛ (وَضَلَّ عَنْكُمْ) أي ذهب عنكم (ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) من رجاء الأصنام والأنداد ، كقوله تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة : ١٦٦ ـ ١٦٧] وقال تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١] وقال تعالى : (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [العنكبوت : ٢٥] وقال (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) [القصص : ٦٤] الآية ، وقال (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) إلى قوله (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) [الأنعام : ٢٢ ـ ٢٤] والآيات في هذا كثيرة جدا.

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٩٧)

يخبر تعالى أنه فالق الحب والنوى ، أي يشقه في الثرى ، فتنبت منه الزروع على اختلاف أصنافها ، من الحبوب والثمار على اختلاف ألوانها وأشكالها وطعومها من النوى ، ولهذا فسر قوله (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) بقوله (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) أي يخرج النبات الحي من الحب والنوى ، الذي هو كالجماد الميت ، كقوله (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) إلى قوله (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [يس : ٣٣ ـ ٣٦] وقوله (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) معطوف على (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) ثم فسره ثم عطف عليه قوله (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) وقد عبروا عن هذا وهذا بعبارات كلها متقاربة مؤدية للمعنى ، فمن قائل : يخرج الدجاجة من البيضة وعكسه ، ومن قائل : يخرج الولد الصالح من الفاجر وعكسه وغير ذلك من العبارات التي تنتظمها الآية وتشملها.

٢٧٢

ثم قال تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ) أي فاعل هذا ، هو الله وحده لا شريك له (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي كيف تصرفون عن الحق وتعدلون عنه إلى الباطل ، فتعبدون معه غيره. وقوله (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) أي خالق الضياء والظلام ، كما قال في أول السورة (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) أي فهو سبحانه يفلق ظلام الليل عن غرة الصباح ، فيضيء الوجود ، ويستنير الأفق ، ويضمحل الظلام ، ويذهب الليل بسواده وظلام رواقه ، ويجيء النهار بضيائه وإشراقه ، كقوله (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) [الأعراف : ٥٤] فبين تعالى قدرته على خلق الأشياء المتضادة المختلفة ، الدالة على كمال عظمته وعظيم سلطانه ، فذكر أنه فالق الإصباح ، وقابل ذلك بقوله (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) أي ساجيا مظلما ، لتسكن فيه الأشياء ، كما قال (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) [الضحى : ١ ـ ٢] وقال (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) [الليل : ١ ـ ٢] وقال (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) [الشمس : ٣ ـ ٤] وقال صهيب الرومي رضي الله عنه لامرأته وقد عاتبته في كثرة سهره : إن الله جعل الليل سكنا إلا لصهيب ، إن صهيبا إذا ذكر الجنة طال شوقه ، وإذا ذكر النار طار نومه ، رواه ابن أبي حاتم.

وقوله (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) أي يجريان بحساب مقنن مقدر ، لا يتغير ولا يضطرب ، بل لكل منهما منازل يسلكها في الصيف والشتاء ، فيترتب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولا وقصرا ، كما قال (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) الآية ، وكما قال (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس : ٤٠] وقال (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) [الأعراف : ٥٤] وقوله (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي الجميع جار بتقدير العزيز الذي لا يمانع ولا يخالف ، العليم بكل شيء ، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، وكثيرا ما إذا ذكر الله تعالى خلق الليل والنهار والشمس والقمر ، يختم الكلام بالعزة والعلم ، كما ذكر في هذه الآية ، وكما في قوله (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [يس : ٣٧ ـ ٣٨].

ولما ذكر خلق السموات والأرض وما فيهن ، في أول سورة حم السجدة ، قال (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [فصلت : ١٢].

وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) قال بعض السلف : من اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث فقد أخطأ وكذب على الله سبحانه ، أن الله جعلها زينة للسماء ، ورجوما للشياطين ، ويهتدى بها في الظلمات البر والبحر.

وقوله (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) أي قد بيناها ووضحناها (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي يعقلون ويعرفون الحق ، ويتجنبون الباطل.

٢٧٣

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٩٩)

يقول تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) يعني آدم عليه‌السلام ، كما قال (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) [النساء : ١] وقوله (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) اختلفوا في معنى ذلك ، فعن ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي عبد الرحمن السلمي ، وقيس بن أبي حازم ، ومجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم النخعي ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وعطاء الخراساني ، وغيرهم (فَمُسْتَقَرٌّ) أي في الأرحام ، قالوا أو أكثرهم (وَمُسْتَوْدَعٌ) أي في الأصلاب ، وعن ابن مسعود وطائفة عكسه ، وعن ابن مسعود أيضا وطائفة : فمستقر في الدنيا ، ومستودع حيث يموت ، وقال سعيد بن جبير : فمستقر في الأرحام ، وعلى ظهر الأرض ، وحيث يموت ، وقال الحسن البصري : المستقر الذي قد مات ، فاستقر به عمله ، وعن ابن مسعود : ومستودع في الدار الآخرة ، والقول الأول أظهر ، والله أعلم (١).

وقوله تعالى : (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) أي يفهمون ويعون كلام الله ومعناه ، وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي بقدر مباركا ورزقا للعباد وإحياء وغياثا للخلائق ، رحمة من الله بخلقه (فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) كقوله (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء : ٣٠] (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً) أي زرعا وشجرا أخضر ، ثم بعد ذلك نخلق فيه الحب والثمر ، ولهذا قال تعالى : (نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً) أي يركب بعضه بعضا كالسنابل ونحوها ، (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ) أي جمع قنو ، وهي عذوق الرطب (دانِيَةٌ) أي قريبة من المتناول ، كما قال علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس (قِنْوانٌ دانِيَةٌ) يعني بالقنوان الدانية قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض ، رواه ابن جرير (٢). قال ابن جرير : وأهل الحجاز يقولون قنوان ، وقيس يقول قنوان (٣) ، قال امرؤ القيس : [الطويل]

فأثّت أعاليه وآدت أصوله

ومال بقنوان من البسر أحمرا (٤)

__________________

(١) في الآثار المذكورة بنظر تفسير الطبري ٥ / ٢٨١ ـ ٢٨٦.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٢٨٨.

(٣) لغة قيس بضم القاف ، ولغة الحجاز بكسرها (الطبري ٥ / ٢٨٧) وفي لغة تميم وضبّة : قنيان ، بالياء وضم أوله (لسان العرب ١٥ / ٢٠٥)

(٤) كذا في رواية الطبري ٥ / ٢٨٧ وفي لسان العرب (قنو ، أثث) بلفظ «فنيان». والبيت لامرئ القيس في ـ

٢٧٤

قال : وتميم يقولون قنيان بالياء قال : وهي جمع قنو ، كما أن صنوان جمع صنو.

وقوله تعالى : (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) أي ونخرج منه جنات من أعناب ، وهذان النوعان هما أشرف الثمار عند أهل الحجاز ، وربما كانا خيار الثمار في الدنيا كما امتن الله بهما على عباده ، في قوله تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) [النحل : ٦٧] وكان ذلك قبل تحريم الخمر ، وقال (وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) [يس : ٣٤] وقوله تعالى : (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) قال قتادة وغيره : متشابه في الورق والشكل ، قريب بعضه من بعض ، ومتخالف في الثمار شكلا وطعما وطبعا.

وقوله تعالى : (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) أي نضجه ، قاله البراء بن عازب ، وابن عباس ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، والسدي ، وقتادة ، وغيرهم ، أي فكروا في قدرة خالقه من العدم إلى الوجود ، بعد أن كان حطبا ، صار عنبا ورطبا ، وغير ذلك مما خلق سبحانه وتعالى ، من الألوان والأشكال والطعوم والروائح ، كقوله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [الرعد : ٤] الآية ، ولهذا قال هاهنا (إِنَّ فِي ذلِكُمْ) أيها الناس (لَآياتٍ) أي دلالات ، على كمال قدرة خالق هذه الأشياء وحكمته ورحمته (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي يصدقون به ويتبعون رسله.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) (١٠٠)

هذا رد على المشركين ، الذين عبدوا مع الله غيره ، وأشركوا به في عبادته ، أن عبدوا الجن ، فجعلوهم شركاء له في العبادة ، تعالى الله عن شركهم وكفرهم. فإن قيل : فكيف عبدت الجن ، مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام؟ فالجواب : أنهم ما عبدوها ، إلا عن طاعة الجن وأمرهم إياهم بذلك ، كقوله (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) [النساء : ١١٧ ـ ١٢٠] وكقوله تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) [الكهف : ٥٠] الآية.

وقال إبراهيم لأبيه (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) [مريم : ٤٤] وكقوله (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) [يس : ٦٠ ـ ٦١] وتقول الملائكة يوم القيامة (سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ

__________________

ـ ديوانه ص ٥٧ ؛ وتهذيب اللغة ٩ / ٣١٥ ؛ وأساس البلاغة (أيد) ؛ وتاج العروس (أيد)

٢٧٥

كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) [سبأ : ٤١] ولهذا قال تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ) أي وخلقهم ، فهو الخالق وحده لا شريك له ، فكيف يعبد معه غيره ، كقول إبراهيم (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٥ ـ ٩٦] ومعنى الآية ، أنه سبحانه وتعالى هو المستقل بالخلق وحده ، فلهذا يجب أن يفرد بالعبادة ، وحده لا شريك له.

وقوله تعالى : (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ينبه به تعالى عن ضلال من ضل ، في وصفه تعالى بأن له ولدا كما يزعم من قاله من اليهود في عزير ، ومن قال من النصارى في عيسى ، ومن قال من مشركي العرب في الملائكة ، إنها بنات الله تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ومعنى وخرقوا أي اختلقوا وائتفكوا وتخرصوا وكذبوا ، كما قاله علماء السلف : قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : وخرقوا يعني تخرصوا (١) ، وقال العوفي عنه (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ) قال كذبوا وكذا قال الحسن ، وقال الضحاك ، وضعوا ، وقال السدي قطعوا ، قال ابن جرير (٢) : وتأويله إذا وجعلوا لله الجن شركاء في عبادتهم إياهم ، وهو المنفرد بخلقهم بغير شريك ولا معين ولا ظهير ، (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [يقول : وتخرصوا لله كذبا فافتعلوا له بنين وبنات بغير علم منهم] (٣) بحقيقة ما يقولون ، ولكن جهلا بالله وبعظمته ، فإنه لا ينبغي لمن كان إلها ، أن يكون له بنون وبنات ، ولا صاحبة ، ولا أن يشركه في خلقه شريك.

ولهذا قال (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) أي تقدس وتنزه وتعاظم ، عما يصفه هؤلاء الجهلة الضالون ، من الأولاد والأنداد والنظراء والشركاء.

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٠١)

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مبدعهما ، وخالقهما ، ومنشئهما ، ومحدثهما ، على غير مثال سبق ، كما قال مجاهد والسدي : ومنه سميت البدعة بدعة ، لأنه لا نظير لها فيما سلف ، (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) أي كيف يكون ولد ، (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) ، أي والولد إنما يكون متولدا بين شيئين متناسبين ، والله تعالى لا يناسبه ولا يشابهه شيء من خلقه ، لأنه خالق كل شيء ، فلا صاحبة له ولا ولد ، كما قال تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) إلى قوله (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [مريم : ٨٨ ـ ٩٥] (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فبين تعالى أنه الذي خلق كل شيء ، وأنه بكل شيء عليم ، فكيف يكون له صاحبة من خلقه تناسبه ، وهو الذي لا نظير له ، فأنى يكون له ولد ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٢٩٢.

(٢) المصدر السابق.

(٣) الزيادة بين معقوفين من الطبري.

٢٧٦

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٠٣)

يقول تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) أي الذي خلق كل شيء ، ولا ولد له ولا صاحبة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ) أي فاعبدوه وحده ، لا شريك له ، وأقروا له بالوحدانية ، وأنه لا إله إلا هو ، وأنه لا ولد له ، ولا والد ولا صاحبة له ، ولا نظير ولا عديل (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي حفيظ ورقيب ، يدبر كل ما سواه ، ويرزقهم ويكلؤهم بالليل والنهار.

وقوله (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) فيه أقوال للأئمة من السلف [أحدها] لا تدركه في الدنيا ، وإن كانت تراه في الآخرة ، كما تواترت به الأخبار ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من غير ما طريق ثابت ، في الصحاح والمسانيد والسنن ، كما قال مسروق عن عائشة أنها قالت : من زعم أن محمدا أبصر ربه فقد كذب ، وفي رواية على الله ، فإن الله تعالى قال : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) رواه ابن أبي حاتم : من حديث أبي بكر بن عياش ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، ورواه غير واحد عن مسروق ، وثبت في الصحيح وغيره عن عائشة من غير وجه ، وخالفها ابن عباس ، فعنه : إطلاق الرؤية ، وعنه أنه رآه بفؤاده مرتين ، والمسألة تذكر في أول سورة النجم إن شاء الله.

وقال ابن أبي حاتم : ذكر محمد بن مسلم ، حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي ، حدثنا يحيى بن معين ، قال : سمعت إسماعيل ابن علية يقول في قول الله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) قال هذا في الدنيا ، وذكر أبي عن هشام بن عبد الله ، أنه قال نحو ذلك.

وقال آخرون (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) أي جميعها وهذا مخصص بما ثبت من رؤية المؤمنين له في الدار الآخرة.

وقال آخرون من المعتزلة ، بمقتضى ما فهموه من هذه الآية ، أنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة ، فخالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك ، مع ما ارتكبوه من الجهل ، بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله. أما الكتاب ، فقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) وقال تعالى عن الكافرين : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) قال الإمام الشافعي : فدل هذا ، على أن المؤمنين لا يحجبون عنه تبارك وتعالى.

أما السنة ، فقد تواترت الأخبار عن أبي سعيد ، وأبي هريرة ، وأنس ، وجريج ، وصهيب ، وبلال وغير واحد من الصحابة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة ، في العرصات وفي روضات الجنات ، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه آمين.

وقيل المراد بقوله (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) أي العقول ، رواه ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين ، عن الفلاس ، عن ابن مهدي ، عن أبي حصين يحيى بن الحصين ، قارئ أهل مكة ،

٢٧٧

أنه قال ذلك ، وهذا غريب جدا ، وخلاف ظاهر الآية ، وكأنه اعتقد أن الإدراك في معنى الرؤية ، والله أعلم.

وقال آخرون : لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك ، فإن الإدراك أخص من الرؤية ، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم. ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي ما هو؟ فقيل معرفة الحقيقة ، فإن هذا لا يعلمه إلّا هو ، وإن رآه المؤمنون ، كما أن من رأى القمر ، فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته ، فالعظيم أولى بذلك ، وله المثل الأعلى. قال ابن علية في الآية : هذا في الدنيا رواه ابن أبي حاتم.

وقال آخرون : الإدراك أخص من الرؤية ، وهو الإحاطة ، ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية ، كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم ، قال تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) وفي صحيح مسلم «لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك» (١) ولا يلزم منه عدم الثناء فكذلك هذا.

قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) قال لا يحيط بصر أحد بالملك ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد ، حدثنا أسباط ، عن سماك ، عن عكرمة ، أنه قيل له (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) قال ألست ترى السماء؟ قال بلى ، قال فكلها ترى ، وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في الآية (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) وهو أعظم من أن تدركه الأبصار.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا خالد بن عبد الرحمن ، حدثنا أبو عرفجة ، عن عطية العوفي في قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ـ ٢٣] قال هم ينظرون إلى الله ، لا تحيط أبصارهم به ، من عظمته ، وبصره محيط بهم ، فذلك قوله (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ).

وورد في تفسير هذه الآية حديث رواه ابن أبي حاتم هاهنا ، فقال : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا منجاب بن الحارث السهمي ، حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) قال «لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا ، صفوا صفا واحدا ، ما أحاطوا بالله أبدا» غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه ، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة ، والله أعلم.

وقال آخرون في الآية بما رواه الترمذي في جامعه ، وابن أبي عاصم في كتاب السنة له ، وابن أبي حاتم في تفسيره ، وابن مردويه أيضا ، والحاكم في مستدركه ، من حديث الحكم بن

__________________

(١) صحيح مسلم (صلاة حديث ٢٢)

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٢٩٤.

٢٧٨

أبان ، قال : سمعت عكرمة يقول : سمعت ابن عباس يقول : رأى محمد ربه تبارك وتعالى ، فقلت: أليس الله يقول : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) الآية ، فقال لي : لا أم لك ، ذلك نوره ، الذي هو نوره ، إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء ، وفي رواية لا يقوم له شيء ، قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وفي معنى هذا الأثر ، ما ثبت في الصحيحين ، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعا «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل النهار قبل الليل ، وعمل الليل قبل النهار ، حجابه النور ـ أو النار ـ لو كشفه ، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» (١).

وفي الكتب المتقدمة : إن الله تعالى قال لموسى لما سأل الرؤية : يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده ، أي تدعثر ، وقال تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) ونفي هذا الأثر الإدراك الخاص لا ينفي الرؤية يوم القيامة يتجلى لعباده. المؤمنين كما يشاء ، فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه ، تعالى وتقدس وتنزه ، فلا تدركه الأبصار.

ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، تثبت الرؤية في الدار الآخرة ، وتنفيها في الدنيا ، وتحتج بهذه الآية (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) فالذي نفته الإدراك ، الذي هو بمعنى رؤية العظمة والجلال ، على ما هو عليه ، فإن ذلك غير ممكن للبشر ، ولا للملائكة ، ولا لشيء.

وقوله (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) أي يحيط بها ويعلمها على ما هي عليه ، لأنه خلقها ، كما قال تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك : ١٤] وقد يكون عبر بالإبصار عن المبصرين ، كما قال السدي : في قوله (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) لا يراه شيء ، وهو يرى الخلائق ، وقال أبو العالية في قوله تعالى (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) قال اللطيف لاستخراجها ، الخبير بمكانها (٢) ، والله أعلم ، وهذا كما قال تعالى إخبارا عن لقمان ، فيما وعظ به ابنه (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان : ١٦].

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١٠٥)

البصائر هي البينات والحجج التي اشتمل عليها القرآن ، وما جاء به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم(فَمَنْ

__________________

(١) صحيح مسلم (إيمان حديث ٢٩٣) وسنن ابن ماجة (مقدمة باب ١٣) ومسند أحمد ٤ / ٤٠١.

(٢) أثر أبي العالية في تفسير الطبري ٥ / ٢٩٩.

٢٧٩

أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ) كقوله (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) [الإسراء : ١٥] ولهذا قال (وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) لما ذكر البصائر ، قال (وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) أي إنما يعود وباله عليه ، كقوله (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي بحافظ ولا رقيب ، بل أنا مبلغ ، والله يهدي من يشاء ويضل من يشاء.

وقوله (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي وكما فصلنا الآيات في هذه السورة ، من بيان التوحيد ، وأنه لا إله إلا هو ، هكذا نوضح الآيات ونفسرها ونبينها في كل موطن لجهالة الجاهلين ، وليقول المشركون والكافرون المكذبون ، دارست يا محمد من قبلك ، من أهل الكتاب وقارأتهم ، وتعلمت منهم ، هكذا قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وغيرهم (١) ، وقال الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا أبي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عمرو بن كيسان ، قال سمعت ابن عباس يقول : دارست : تلوت ، خاصمت ، جادلت.

وهذا كقوله تعالى إخبارا عن كذبهم وعنادهم ، (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها) [الفرقان : ٤ ـ ٥] الآية ، وقال تعالى إخبارا عن زعيمهم وكاذبهم (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) [المدثر : ١٨ ـ ٢٥].

وقوله (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي ولنوضحه لقوم يعلمون الحق فيتبعونه والباطل فيجتنبونه فلله تعالى الحكمة البالغة في إضلال أولئك وبيان الحق لهؤلاء كقوله تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) [البقرة : ٢٦] الآية ، وكقوله (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الحج : ٥٤] وقال تعالى : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر : ٣١] وقال (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [الإسراء : ٨٢] وقال تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [فصلت : ٤٤] إلى غير ذلك من الآيات الدالة ، على أنه تعالى أنزل القرآن هدى للمتقين ، وأنه

__________________

(١) تنظر هذه الآثار في تفسير الطبري ٥ / ٣٠٠.

٢٨٠