تفسير القرآن العظيم - ج ٣

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٣

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٩٥

قال البخاري (١) رحمه‌الله تعالى في قوله تعالى : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) يلبسكم يخلطكم من الالتباس ، يلبسوا يخلطوا شيعا فرقا ، حدثنا أبو النعمان ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن عبد الله ، قال : لما نزلت هذه الآية (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «أعوذ بوجهك» (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال «أعوذ بوجهك» (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هذه أهون ـ أو أيسر».

وهكذا رواه أيضا في كتاب التوحيد ، عن قتيبة عن حماد به ، ورواه النسائي أيضا في التفسير عن قتيبة ، ومحمد بن النضر بن مساور ، ويحيى بن حبيب بن عدي ، أربعتهم عن حماد بن زيد به ، وقد رواه الحميدي في مسنده عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، سمع جابرا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به. ورواه ابن حبان في صحيحه ، عن أبي يعلى الموصلي ، عن أبي خيثمة ، عن سفيان بن عيينة به ، ورواه ابن جرير في تفسيره ، عن أحمد بن الوليد القرشي ، وسعيد بن الربيع ، وسفيان بن وكيع ، كلهم عن سفيان بن عيينة به ، ورواه أبو بكر بن مردويه ، من حديث آدم بن أبي إياس ويحيى بن عبد الحميد ، وعاصم بن علي ، عن سفيان بن عيينة به ، ورواه سعيد بن منصور ، عن حماد بن زيد ، كلاهما عن عمرو بن دينار به.

طريق آخر ـ قال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا مقدام بن داود ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا عبد الله بن لهيعة ، عن خالد بن يزيد ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : لما نزلت (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أعوذ بالله من ذلك» (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «أعوذ بالله من ذلك» (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) قال «هذا أيسر» ولو استعاذه لأعاذه.

ويتعلق بهذه الآية ، أحاديث كثيرة (أحدها) قال الإمام أحمد بن حنبل (٢) في مسنده ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا أبو بكر يعني ابن أبي مريم ، عن راشد هو ابن سعد المقرائي ، عن سعد بن أبي وقاص ، قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه الآية (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) فقال «أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد» وأخرجه الترمذي عن الحسن بن عرفة ، عن إسماعيل بن عياش ، عن أبي بكر بن أبي مريم به ، ثم قال هذا حديث غريب.

__________________

(١) صحيح البخاري (تفسير سورة الأنعام باب ٣)

(٢) مسند أحمد ١ / ١٧٠ ـ ١٧١.

٢٤١

حديث آخر ـ قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يعلى هو ابن عبيد ، حدثنا عثمان بن حكيم ، عن عامر بن سعيد بن أبي وقاص ، عن أبيه ، قال : أقبلنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى مررنا على مسجد بني معاوية ، فدخل فصلى ركعتين ، فصلينا معه ، فناجى ربه عزوجل طويلا ثم قال «سألت ربي ثلاثا : سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها ، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة (٢) فأعطانيها ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» انفرد بإخراجه مسلم ، فرواه في كتاب الفتن ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن محمد بن عبد الله بن نمير ، كلاهما عن عبد الله بن نمير ، وعن محمد بن يحيى بن أبي عمرو ، عن مروان بن معاوية ، كلاهما عن عثمان بن حكيم به.

حديث آخر ـ قال الإمام أحمد (٣) : قرأت على عبد الرحمن بن مهدي ، عن مالك ، عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك ، عن جابر بن عتيك ، أنه قال : جاءنا عبد الله بن عمر في حرة بني معاوية ـ قرية من قرى الأنصار ـ فقال لي : هل تدري أين صلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسجدكم هذا؟ فقلت : نعم ، فأشرت إلى ناحية منه ، فقال : هل تدري ما الثلاث التي دعاهن فيه؟ فقلت : نعم ، فقال : أخبرني بهن ، فقلت : دعا أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم ، ولا يهلكهم بالسنين فأعطيهما : ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعها ، قال : صدقت فلا يزال الهرج إلى يوم القيامة. ليس هو في شيء من الكتب الستة ، وإسناده جيد قوي ، ولله الحمد والمنة.

حديث آخر ـ قال محمد بن إسحاق : عن حكيم بن حكيم بن عباد ، عن خصيف ، عن عبادة بن حنيف ، عن علي بن عبد الرحمن ، أخبرني حذيفة بن اليمان ، قال : خرجت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حرة بني معاوية ، قال : فصلى ثماني ركعات فأطال فيهن ، ثم التفت إلي فقال «حبستك يا حذيفة» قلت الله ورسوله أعلم ، قال «إني سألت الله ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة : سألته أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم فأعطاني ، وسألته أن لا يهلكهم بغرق فأعطاني ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني» ، رواه ابن مردويه من حديث محمد بن إسحاق.

حديث آخر ـ قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا عبيدة بن حميد ، حدثني سليمان بن الأعمش ، عن رجاء الأنصاري ، عن عبد الله بن شداد ، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ، قال أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل لي : خرج قبل ، قال : فجعلت لا أمر بأحد إلا قال : مر قبل ، حتى مررت

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ١٧٥.

(٢) أي بالجدب والقحط.

(٣) مسند أحمد ٥ / ٤٤٥.

(٤) مسند أحمد ٥ / ٢٤٠.

٢٤٢

فوجدته قائما يصلي ، قال : فجئت حتى قمت خلفه ، قال : فأطال الصلاة ، فلما قضى صلاته قلت : يا رسول الله ، قد صليت صلاة طويلة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إني صليت صلاة رغبة ورهبة ، إني سألت الله عزوجل ثلاثا ، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة : سألته أن لا يهلك أمتي غرقا فأعطاني ، وسألته أن لا يظهر عليهم عدوا ليس منهم فأعطانيها ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فردها علي» ورواه ابن ماجة في الفتن عن محمد بن عبد الله بن نمير ، وعلي بن محمد ، كلاهما عن أبي معاوية ، عن الأعمش به ، ورواه ابن مردويه : من حديث أبي عوانة ، عن عبد الله بن عمير ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن معاذ بن جبل ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثله أو نحوه.

حديث آخر ـ قال الإمام أحمد (١) : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث ، عن بكير بن الأشج ، أن الضحاك بن عبد الله القرشي حدثه ، عن أنس بن مالك ، أنه قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر ، صلى سبحة (٢) الضحى ثماني ركعات ، فلما انصرف ، قال «إني صليت صلاة رغبة ورهبة ، وسألت ربي ثلاثا ، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة : سألته أن لا يبتلي أمتي بالسنين ففعل ، وسألته أن لا يظهر عليهم عدوهم ففعل ، وسألته أن لا يلبسهم شيعا فأبى علي» ، ورواه النسائي في الصلاة عن محمد بن سلمة ، عن ابن وهب به.

حديث آخر ـ قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب بن أبي حمزة ، قا : قال الزهري ، حدثني عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن عبد الله بن خباب ، عن أبيه ، خباب بن الأرت مولى بني زهرة ، وكان قد شهد بدرا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : وافيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ليلة صلاها كلها ، حتى كان مع الفجر ، فسلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من صلاته ، فقلت : يا رسول الله لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت مثلها ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «أجل إنها صلاة رغب ورهب ، سألت ربي عزوجل فيها ثلاث خصال ، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة ، سألت ربي عزوجل أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا فأعطانيها ، وسألت ربي عزوجل أن لا يظهر علينا عدوا من غيرنا فأعطانيها ، وسألت ربي عزوجل أن لا يلبسنا شيعا فمنعنيها» ورواه النسائي : من حديث شعيب بن أبي حمزة به. ومن وجه آخر وابن حبان في صحيحه بإسناديهما ، عن صالح بن كيسان والترمذي ، في الفتن ، من حديث النعمان بن راشد ، كلاهما عن الزهري به ، وقال : حسن صحيح.

__________________

(١) مسند أحمد ٢ / ١٤٦.

(٢) السبحة : صلاة النفل.

(٣) مسند أحمد ٥ / ١٠٨ ـ ١٠٩.

٢٤٣

حديث آخر ـ قال أبو جعفر بن جرير في تفسيره (١) : حدثني زياد بن عبد الله المزني ، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري ، حدثنا أبو مالك ، حدثني نافع بن خالد الخزاعي ، عن أبيه ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، صلى صلاة خفيفة تامة الركوع والسجود ، فقال «قد كانت صلاة رغبة ورهبة ، سألت الله عزوجل فيها ثلاثا أعطاني اثنتين ومنعني واحدة : سألت الله أن لا يصيبكم بعذاب أصاب به من كان قبلكم فأعطانيها ، وسألت الله أن لا يسلط عليكم عدوا يستبيح بيضتكم فأعطانيها ، وسألت الله أن لا يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض فمنعنيها» قال أبو مالك : فقلت له أبوك سمع هذا من في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : نعم ، سمعته يحدث بها القوم ، أنه سمعها من في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

حديث آخر ـ قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الرزاق قال : قال معمر : أخبرني أيوب عن أبي قلابة ، عن الأشعث الصنعاني ، عن أبي أسماء الرحبي ، عن شداد بن أوس ، أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الله زوى (٣) لي الأرض ، حتى رأيت مشارقها ومغاربها ، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها ، وإني أعطيت الكنزين الأبيض والأحمر ، وإني سألت ربي عزوجل أن لا يهلك أمتي بسنة عامة ، وأن لا يسلط عليهم عدوا فيهلكهم بعامة ، وأن لا يلبسهم شيعا ، وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض ، فقال : يا محمد إني إذا قضيت قضاء ، فإنه لا يرد ، وإني قد أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة ، وأن لا أسلط عليهم عدوا ممن سواهم ، فيهلكهم بعامة حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ، وبعضهم يقتل بعضا ، وبعضهم يسبي بعضا ، قال : وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين ، فإذا وضع السيف في أمتي ، لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة».

ليس في شيء من الكتب الستة ، وإسناده جيد قوي ، وقد رواه ابن مردويه من حديث حماد بن زيد ، وعباد بن منصور ، وقتادة ، ثلاثتهم عن أيوب عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء ، عن ثوبان ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه والله أعلم.

حديث آخر ـ قال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم الهاشمي ، وميمون بن إسحاق بن الحسن الحنفي ، قالا : حدثنا أحمد بن عبد الجبار ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن أبي مالك الأشجعي ، عن نافع بن خالد الخزاعي عن أبيه ، قال : وكان أبوه من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان من أصحاب الشجرة ، قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صلى والناس حوله ، صلى صلاة خفيفة تامة الركوع والسجود ، قال فجلس يوما فأطال الجلوس ، حتى أومأ بعضنا إلى بعض أن اسكتوا إنه ينزل عليه ، فلما فرغ ، قال له بعض القوم :

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٢٢٠.

(٢) مسند أحمد ٤ / ١٢٣.

(٣) أي جمعها وضمّها.

٢٤٤

يا رسول الله لقد أطلت الجلوس ، حتى أومأ بعضنا إلى بعض أنه ينزل عليك ، قال «لا ولكنها كانت صلاة رغبة ورهبة ، سألت الله فيها ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألت الله أن لا يعذبكم بعذاب عذب به من كان قبلكم فأعطانيها ، وسألت الله أن لا يسلط على أمتي عدوا يستبيحها فأعطانيها ، وسألته أن لا يلبسكم شيعا وأن لا يذيق بعضكم بأس بعض فمنعنيها» قال : قلت له : أبوك سمعها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : نعم سمعته يقول : إنه سمعها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عدد أصابعي هذه عشر أصابع.

حديث آخر ـ قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يونس هو ابن محمد المؤدب ، حدثنا ليث هو ابن سعد ، عن أبي وهب الخولاني ، عن رجل قد سماه ، عن أبي بصرة الغفاري صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «سألت ربي عزوجل أربعا فأعطاني ثلاثا ، ومنعني واحدة ، سألت الله أن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها ، وسألت الله أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها ، وسألت الله أن لا يهلكهم بالسنين كما أهلك الأمم قبلهم فأعطانيها ، وسألت الله عزوجل أن لا يلبسهم شيعا وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها» لم يخرجه أحد من أصحاب الكتاب الستة.

حديث آخر ـ قال الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا منجاب بن الحارث ، حدثنا أبو حذيفة الثعلبي ، عن زياد بن علاقة ، عن جابر بن سمرة السوائي ، عن علي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سألت ربي ثلاث خصال فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة ، فقلت : يا رب لا تهلك أمتي جوعا فقال هذه لك قلت : يا رب لا تسلط عليهم عدوا من غيرهم يعني أهل الشرك فيجتاحهم قال : ذلك لك ، قلت : يا رب لا تجعل بأسهم بينهم ـ قال ـ فمنعني هذه».

حديث آخر قال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، عن أحمد بن محمد بن عاصم ، حدثنا أبو الدرداء المروزي ، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن كيسان ، حدثني أبي عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «دعوت ربي عزوجل أن يرفع عن أمتي أربعا ، فرفع الله عنهم اثنتين ، وأبى عليّ أن يرفع عنهم اثنتين دعوت ربي أن يرفع الرجم من السماء ، والغرق من الأرض ، وأن لا يلبسهم شيعا ، وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض ، فرفع الله عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض ، وأبى الله أن يرفع اثنتين القتل والهرج» (٢).

طريق أخرى عن ابن عباس أيضا ، قال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن محمد بن يزيد ،

__________________

(١) مسند أحمد ٦ / ٣٩٦.

(٢) الدر المنثور ٣ / ٣٣.

٢٤٥

حدثني الوليد بن أبان ، حدثنا جعفر بن منير ، حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد ، حدثنا عمرو بن قيس ، عن رجل عن ابن عباس ، قال : نزلت هذه الآية (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) قال : فقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتوضأ ثم قال «اللهم لا ترسل على أمتي عذابا من فوقهم ولا من تحت أرجلهم ، ولا تلبسهم شيعا ولا تذق بعضهم بأس بعض» قال : فأتاه جبريل فقال : يا محمد إن الله قد أجار أمتك ، أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم (١).

حديث آخر ـ قال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله البزاز ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن موسى ، حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد ، حدثنا عمرو بن محمد العنقزي ، حدثنا أسباط عن السدي ، عن أبي المنهال ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سألت ربي لأمتي أربع خصال ، فأعطاني ثلاثا ، ومنعني واحدة ، سألته أن لا تكفر أمتي صفقة واحدة فأعطانيها ، وسألته أن لا يعذبهم بما عذب به الأمم قبلهم فأعطانيها ، وسألته أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» (٢) ورواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد بن يحيى بن سعيد القطان ، عن عمرو بن محمد العنقزي به نحوه.

طريق أخرى ـ وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا أبو كريب ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا كثير بن زيد الليثي المدني ، حدثني الوليد بن رباح مولى آل أبي ذباب ، سمع أبا هريرة يقول : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة ، سألته أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم فأعطاني ، وسألته أن لا يهلكهم بالسنين فأعطاني ، وسألته أن لا يلبسهم شيعا وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعني» ثم رواه ابن مردويه بإسناده ، عن سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبيه عن أبي هريرة ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه ، ورواه البزار من طريق عمرو بن أبي سلمة ، عن أبيه عن أبي هريرة ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه.

أثر آخر قال سفيان الثوري ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب ، قال : أربعة في هذه الأمة ، قد مضت اثنتان وبقيت اثنتان ، (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) قال : الرجم (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال : الخسف (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) قال سفيان : يعني الرجم والخسف.

وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب ، (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) الدر المنثور ٣ / ٣٦.

٢٤٦

بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) قال : فهي أربع خلال ، منها اثنتان بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بخمس وعشرين سنة ، ألبسوا شيعا وذاق بعضهم بأس بعض. وبقيت اثنتان لا بد منهما واقعتان ، الرجم والخسف.

ورواه أحمد عن وكيع ، عن أبي جعفر. وقال ابن أبي حاتم : وقال ابن أبي حاتم : حدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا أحمد بن إسحاق ، حدثنا أبو الأشهب عن الحسن في قوله (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ) الآية ، قال : حبست عقوبتها حتى عمل ذنبها ، فلما عمل ذنبها أرسلت عقوبتها.

وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك والسدي ، وابن زيد وغير واحد في قوله (عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) يعني الرجم (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) يعني الخسف وهذا هو اختيار ابن جرير.

وروى ابن جرير (١) : عن يونس ، عن ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال : كان عبد الله بن مسعود يصيح وهو في المسجد أو على المنبر ، يقول : ألا أيها الناس إنه قد نزل بكم ، إن الله يقول (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) لو جاءكم عذاب السماء لم يبق منكم أحدا ، (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) لو خسف بكم الأرض أهلككم ، ولم يبق منكم أحدا ، (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) ألا إنه نزل بكم أسوأ الثلاث.

قول ثان ـ قال ابن جرير وابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، سمعت خلاد بن سليمان يقول : سمعت عامر بن عبد الرحمن يقول : إن ابن عباس كان يقول : في هذه الآية (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) فأئمة السوء (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) فخدم السوء (٢).

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس (عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) يعني أمراءكم (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) يعني عبيدكم وسفلتكم (٣).

وحكى ابن أبي حاتم عن أبي سنان وعمرو بن هانئ ، نحو ذلك. قال ابن جرير : وهذا القول وإن كان له وجه صحيح ، لكن الأول أظهر وأقوى ، وهو كما قال ابن جرير رحمه‌الله ، ويشهد له بالصحة قوله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ أَمْ

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٢١٧ ـ ٢١٨.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٢١٨.

(٣) المصدر السابق.

٢٤٧

أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) [الملك : ١٦ ـ ١٧] وفي الحديث «ليكونن في هذه الأمة قذف وخسف ومسخ» وذلك مذكور مع نظائره في أمارات الساعة وأشراطها ، وظهور الآيات قبل يوم القيامة ، وستأتي في موضعها إن شاء الله تعالى.

وقوله (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) يعني يجعلكم ملتبسين شيعا فرقا متخالفين. قال الوالبي عن ابن عباس : يعني الأهواء ، وكذا قال مجاهد وغير واحد ، وقد ورد في الحديث المروي من طرق عنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة».

وقوله تعالى : (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) قال ابن عباس وغير واحد : يعني يسلط بعضكم على بعض بالعذاب والقتل. وقوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي نبينها ونوضحها مرة ونفسرها ، (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) أي يفهمون ويتدبرون عن الله آياته وحججه وبراهينه.

قال زيد بن أسلم : لما نزلت (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) الآية ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف» قالوا ونحن ونشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، قال «نعم» فقال بعضهم : لا يكون هذا أبدا أن يقتل بعضنا بعضا ونحن مسلمون ، فنزلت (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.

(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٦٩)

يقول تعالى : (وَكَذَّبَ بِهِ) أي بالقرآن الذي جئتهم به ، والهدى والبيان ، (قَوْمُكَ) يعني قريشا (وَهُوَ الْحَقُ) أي الذي ليس وراءه حق (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أي لست عليكم بحفيظ ، ولست بموكل بكم ، كقوله (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] أي إنما عليّ البلاغ ، وعليكم السمع والطاعة ، فمن اتبعني سعد في الدنيا والآخرة ، ومن خالفني فقد شقي في الدنيا والآخرة ، ولهذا قال (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) قال ابن عباس وغير واحد : أي لكل نبأ حقيقة ، أي لكل خبر وقوع ، ولو بعد حين ، كما قال (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) [ص : ٨٨] وقال (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) [الرعد : ٣٧] وهذا تهديد ووعيد أكيد ، ولهذا قال بعده (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).

٢٤٨

وقوله (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) أي بالتكذيب والاستهزاء ، (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) أي حتى يأخذوا في كلام آخر غير ما كانوا فيه من التكذيب ، (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ) والمراد بذلك كل فرد ، فرد من آحاد الأمة ، أن لا يجلس مع المكذبين الذين يحرفون آيات الله ويضعونها على غير مواضعها ، فإن جلس أحد معهم ناسيا ، (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى) بعد التذكر (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ولهذا ورد في الحديث «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».

وقال السدي عن أبي مالك وسعيد بن جبير في قوله (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ) قال : إن نسيت فذكرت (فَلا تَقْعُدْ) معهم ، وكذا قال مقاتل بن حيان (١).

وهذه الآية هي المشار إليها في قوله (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) [النساء : ١٤٠] أي إنكم إذا جلستم معهم ، وأقررتموهم على ذلك ، فقد ساويتموهم فيما هم فيه.

وقوله (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي إذا تجنبوهم ، فلم يجلسوا معهم في ذلك ، فقد برئوا من عهدتهم وتخلصوا من إثمهم ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن سعيد بن جبير ، قوله (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) قال : ما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك ، أي إذا تجنبتهم وأعرضت عنهم ، وقال آخرون : بل معناه وإن جلسوا معهم ، فليس عليهم من حسابهم من شيء.

وزعموا أن هذا منسوخ بآية النساء المدنية ، وهي قوله (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) [النساء : ١٤٠] قاله مجاهد والسدي وابن جريج وغيرهم. وعلى قولهم يكون قوله (وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي ولكن أمرناكم بالإعراض عنهم ، حينئذ تذكيرا لهم عما هم فيه ، لعلهم يتقون ذلك ولا يعودون إليه.

(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٧٠)

يقول تعالى : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي دعهم وأعرض عنهم وأمهلهم قليلا فإنهم صائرون إلى عذاب عظيم ، ولهذا قال وذكر به ، أي ذكر

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٢٢٦.

٢٤٩

الناس بهذا القرآن ، وحذرهم نقمة الله وعذابه الأليم ، يوم القيامة.

وقوله تعالى (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) أي لئلا تبسل ، قال الضحاك عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة ، والحسن والسدي : تبسل تسلم ، وقال الوالبي عن ابن عباس : تفتضح. وقال قتادة : تحبس ، وقال مرة وابن زيد : تؤاخذ ، وقال الكلبي : تجزى ، وكل هذه الأقوال والعبارات متقاربة في المعنى ، وحاصلها الإسلام للهلكة ، والحبس عن الخير والارتهان عن درك المطلوب ، كقوله (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) [المدثر : ٣٨ ـ ٣٩] وقوله (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) أي لا قريب ولا أحد يشفع فيها كقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة : ٢٤٥].

وقوله (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها) أي ولو بذلت كل مبذول ما قبل منها ، كقوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) [آل عمران : ٩١] ، وكذا قال هاهنا (أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ).

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (٧٣)

قال السدي : قال المشركون للمسلمين : اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد ، فأنزل الله عزوجل (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) أي في الكفر (بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ) فيكون مثلنا مثل الذي استهوته الشياطين في الأرض ، يقول : مثلكم إن كفرتم بعد إيمانكم ، كمثل رجل خرج مع قوم على الطريق ، فضل الطريق ، فحيرته الشياطين ، واستهوته في الأرض وأصحابه على الطريق فجعلوا يدعونه إليهم يقولون : ائتنا فإنا على الطريق ، فأبى أن يأتيهم ، فذلك مثل من يتبعهم بعد المعرفة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومحمد هو الذي يدعو إلى الطريق ، والطريق هو الإسلام ، رواه ابن جرير (١).

وقال قتادة (اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ) أضلته في الأرض ، يعني استهوته سيرته ، كقوله (تَهْوِي إِلَيْهِمْ) وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، في قوله (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) الآية ، هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها ، والدعاة الذين يدعون

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٢٣٢.

٢٥٠

إلى هدى الله عزوجل ، كمثل رجل ضل عن طريق تائها ، إذ ناداه مناد : يا فلان بن فلان هلم إلى الطريق ، وله أصحاب يدعونه يا فلان هلم إلى الطريق ، فإن اتبع الداعي الأول انطلق به حتى يلقيه إلى الهلكة ، وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى ، اهتدى إلى الطريق ، وهذه الداعية التي تدعو في البرية من الغيلان ، يقول : مثل من يعبد هذه الآلهة من دون الله ، فإنه يرى أنه في شيء ، حتى يأتيه الموت فيستقبل الندامة والهلكة ، وقوله (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ) هم الغيلان (يَدْعُونَهُ) باسمه واسم أبيه وجده ، فيتبعها وهو يرى أنه في شيء فيصبح وقد رمته في هلكة ، وربما أكلته ، أو تلقيه في مضلة من الأرض يهلك فيها عطشا ، فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله عزوجل ، رواه ابن جرير (١).

وقال ابن أبي نجيح : عن مجاهد ، (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ) قال: رجل حيران يدعوه أصحابه إلى الطريق ، وذلك مثل من يضل بعد أن هدي (٢).

وقال العوفي عن ابن عباس قوله (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ) هو الذي لا يستجيب لهدى الله ، وهو رجل أطاع الشيطان ، وعمل في الأرض بالمعصية ، وحاد عن الحق ، وضل عنه ، وله أصحاب يدعونه إلى الهدى ، ويزعمون أن الذي يأمرونه به هدى ، يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس ، (إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) والضلال ما يدعو إليه الجن ، رواه ابن جرير (٣) ، ثم قال : وهذا يقتضي أن أصحابه يدعونه إلى الضلال ويزعمون أنه هدى ، قال وهذا خلاف ظاهر الآية ، فإن الله أخبر أنهم يدعونه إلى الهدى ، فغير جائز أن يكون ضلالا ، وقد أخبر الله أنه هدى.

وهو كما قال ابن جرير ؛ فإن السياق يقتضي أن هذا الذي استهوته الشياطين في الأرض حيران ، وهو منصوب على الحال ، أي في حال حيرته وضلاله وجهله ، وجه المحجة ، وله أصحاب على المحجة سائرون ، فجعلوا يدعونه إليهم وإلى الذهاب معهم على الطريقة المثلى ، وتقدير الكلام فيأبى عليهم ، ولا يلتفت إليهم ، ولو شاء الله لهداه ولرد به إلى الطريق ، ولهذا قال (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) كما قال (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ) [الزمر : ٣٧] وقال (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [النحل : ٣٧].

وقوله (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي نخلص له العبادة ، وحده لا شريك له ، (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ) أي وأمرنا بإقامة الصلاة وبتقواه في جميع الأحوال ، (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي يوم القيامة (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي بالعدل فهو

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٢٣٣.

(٣) المصدر السابق.

٢٥١

خالقهما ومالكهما ، والمدبر لهما ولمن فيهما ، وقوله (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ) يعني يوم القيامة ، الذي يقول الله كن فيكون ، عن أمره كلمح البصر ، أو هو أقرب ، ويوم منصوب إما على العطف على قوله واتقوه ، وتقديره واتقوا يوم يقول كن فيكون ، وإما على قوله (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي وخلق يوم يقول كن فيكون فذكر بدء الخلق وإعادته وهذا مناسب وإما على إضمار فعل تقديره واذكر يوم يقول كن فيكون.

وقوله (قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ) جملتان محلهما الجر على أنهما صفتان لرب العالمين ، وقوله (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) يحتمل أن يكون بدلا من قوله ويوم يقول كن فيكون يوم ينفخ في الصور ويحتمل أن يكون ظرفا لقوله (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) كقوله (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦] كقوله (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) [الفرقان : ٢٦] وما أشبه ذلك.

واختلف المفسرون في قوله (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) فقال بعضهم : المراد بالصور هنا ، جمع صورة ، أي يوم ينفخ فيها فتحيا. قال ابن جرير : كما يقال : سور لسور البلد ، وهو جمع سورة ، والصحيح أن المراد بالصور القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه‌السلام ، قال ابن جرير : والصواب عندنا ما تظاهرت به الأخبار ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال «إن إسرافيل قد التقم الصور ، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ» (١).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا إسماعيل (٣) ، حدثنا سليمان التيمي ، عن أسلم العجلي ، عن بشر بن شغاف ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال أعرابي يا رسول الله ما الصور؟ قال «قرن ينفخ فيه».

وقد روينا حديث الصور بطوله من طريق الحافظ أبي القاسم الطبراني ، في كتابه «الطوالات» ، قال : حدثنا أحمد بن الحسن المصري الأيلي ، حدثنا أبو عاصم النبيل ، حدثنا إسماعيل بن رافع ، عن محمد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في طائفة من أصحابه ، فقال «إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض ، خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه ، شاخصا بصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر» قلت : يا رسول الله وما الصور؟ قال : «القرن» قلت : كيف هو؟ قال : «عظيم والذي بعثني بالحق إن عظم دارة فيه كعرض السموات والأرض ، ينفخ فيه ثلاث نفخات: النفخة الأولى نفخة الفزع ، والثانية نفخة الصعق ، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين ،

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٢٣٧.

(٢) مسند أحمد ٢ / ١٩٢.

(٣) في المسند «حدثنا يحيى بن سعيد».

٢٥٢

يأمر الله تعالى إسرافيل بالنفخة الأولى ، فيقول : انفخ فينفخ نفخة الفزع ، فيفزع أهل السموات والأرض إلا من شاء الله ، ويأمره فيطيلها ويديمها ولا يفتر ، وهي كقول الله (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) [ص : ١٥] فيسير الله الجبال ، فتمر مرّ السحاب فتكون سرابا ، ثم ترتج الأرض بأهلها رجا ، فتكون كالسفينة المرمية في البحر ، تضربها الأمواج تكفأ بأهلها كالقنديل المعلق في العرش ترجرجه الرياح ، وهو الذي يقول (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) [النازعات : ٦ ـ ٧ ـ ٨] فيميد الناس على ظهرها وتذهل المراضع وتضع الحوامل ، وتشيب الولدان ، وتطير الشياطين هاربة من الفزع ، حتى تأتي الأقطار فتأتيها الملائكة فتضرب وجوهها ، فترجع ويولي الناس مدبرين ، ما لهم من أمن الله من عاصم ، ينادي بعضهم بعضا ، وهو الذي يقول الله تعالى : (يَوْمَ التَّنادِ) فبينما هم على ذلك إذ تصدعت الأرض ، من قطر إلى قطر ، فرأوا أمرا عظيما لم يروا مثله ، وأخذهم لذلك من الكرب والهول ما الله به عليم ، ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل ، ثم انشقت السماء ، فانتثرت نجومها وانخسفت شمسها وقمرها» قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الأموات لا يعلمون بشيء من ذلك» قال أبو هريرة : يا رسول الله من استثنى الله عزوجل حين يقول (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [النمل : ٨٧]؟ قال «أولئك الشهداء» وإنما يصل الفزع إلى الأحياء ، وهم أحياء عند ربهم يرزقون ، وقاهم الله فزع ذلك اليوم وآمنهم منه ، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه ـ قال ـ وهو الذي يقول الله عزوجل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) [الحج : ٢] فيكونون في ذلك العذاب ما شاء الله إلا أنه يطول ، ثم يأمر الله إسرافيل بنفخة الصعق ، فينفخ نفخة الصعق ، فيصعق أهل السموات والأرض ، إلا من شاء الله ، فإذا هم قد خمدوا ، وجاء ملك الموت إلى الجبار عزوجل ، فيقول : يا رب قد مات أهل السموات والأرض ، إلا من شئت ، فيقول الله وهو أعلم ، بمن بقي فمن بقي؟ فيقول : يا رب بقيت أنت الحي الذي لا تموت ، وبقيت حملة العرش ، وبقي جبريل وميكائيل ، وبقيت أنا ، فيقول الله عزوجل : ليمت جبريل وميكائيل فينطق الله العرش ، فيقول يا رب يموت جبريل وميكائيل ، فيقول اسكت ، فإني كتبت الموت على كل من كان تحت عرشي ، فيموتان ، ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار ، فيقول يا رب : قد مات جبريل وميكائيل ، فيقول الله وهو أعلم بمن بقي : فمن بقي؟ فيقول : بقيت أنت الحي الذي لا تموت ، بقيت حملة عرشك ، وبقيت أنا ، فيقول الله : لتمت حملة العرش فتموت ، ويأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل ، ثم يأتي ملك الموت فيقول : يا رب قد مات حملة عرشك ، فيقول الله وهو أعلم بمن بقي : فمن بقي؟ فيقول : يا رب بقيت أنت الحي الذي لا تموت ، وبقيت أنا ، فيقول الله : أنت خلق من خلقي ، خلقتك لما رأيت فمت ،

٢٥٣

فيموت ، فإذا لم يبق إلا الله ، الواحد القهار الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، كان آخرا كما كان أولا ، طوى السموات والأرض ، طي السجل للكتب ، ثم دحاهما ثم يلقفهما ثلاث مرات ، ثم يقول : أنا الجبار أنا الجبار أنا الجبار ثلاثا ، ثم هتف بصوته (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) ثلاث مرات ، فلا يجيبه أحد ، ثم يقول لنفسه (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) يقول الله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) فيبسطهما ويسطحهما ، ثم يمدهما مد الأديم العكاظي (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة ، فإذا هم في هذه الأرض المبدلة ، مثل ما كانوا فيها من الأولى ، من كان في بطنها كان في بطنها ، ومن كان على ظهرها كان على ظهرها ، ثم ينزل الله عليهم ماء من تحت العرش ، ثم يأمر الله السماء أن تمطر فتمطر أربعين يوما ، حتى يكون الماء فوقهم اثني عشر ذراعا ثم يأمر الله الأجساد أن تنبت فتنبت كنبات الطراثيث (١) ، أو كنبات البقل ، حتى إذا تكاملت أجسادهم فكانت كما كانت ، قال الله عزوجل : ليحي حملة عرشي فيحيون ، ويأمر الله إسرافيل فيأخذ الصور فيضعه على فيه ، ثم يقول : ليحي جبريل وميكائيل ، فيحييان ثم يدعو الله بالأرواح فيؤتى بها تتوهج أرواح المسلمين نورا ، وأرواح الكافرين ظلمة ، فيقبضها جميعا ، ثم يلقيها في الصور ، ثم يأمر الله إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث ، فينفخ نفخة البعث ، فتخرج الأرواح كأنها النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض ، فيقول وعزتي وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده ، فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد ، فتدخل في الخياشيم ثم تمشي في الأجساد ، كما يمشي السم في اللديغ ، ثم تنشق الأرض عنهم ، وأنا أول من تنشق الأرض عنه ، فتخرجون سراعا إلى ربكم تنسلون ، (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) [القمر : ٨] حفاة عراة غلفا غرلا ، فتقفون موقفا واحدا مقداره سبعون عاما لا ينظر إليكم ولا يقضى بينكم ، فتبكون حتى تنقطع الدموع ، ثم تدمعون دما وتعرقون ، حتى يلجمكم العرق أو يبلغ الذقان ، وتقولون : من يشفع لنا إلى ربنا فيقضي بيننا ، فتقولون : من أحق بذلك من أبيكم آدم خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وكلمه قبلا ، فيأتون آدم فيطلبون ذلك إليه فيأبى ، ويقول ما أنا بصاحب ذلك فيستقرءون الأنبياء نبيا نبيا ، كلما جاءوا نبيا أبى عليهم ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يأتوني فأنطلق إلى الفحص ، فأخرّ ساجدا. قال أبو هريرة يا رسول الله وما الفحص؟ قال ـ قدام العرش ، حتى يبعث الله إليّ ملكا فيأخذ بعضدي ويرفعني فيقول لي : يا محمد ، فأقول : نعم يا رب ، فيقول الله عزوجل : ما شأنك؟ وهو أعلم ـ فأقول يا رب وعدتني الشفاعة ، فشفعني في خلقك فاقض بينهم ، قال الله : قد شفعتك ، أنا آتيكم أقضي بينكم ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأرجع فأقف مع الناس ، فبينما نحن وقوف ، إذ سمعنا من السماء حسا شديدا ، فهالنا فينزل أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس ، حتى إذا دنوا من الأرض ، أشرقت

__________________

(١) الطرثيث : نبات رملي طويل مستدق ، يضرب لونه إلى الحمرة.

٢٥٤

الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم وقلنا لهم : أفيكم ربنا؟ فيقولون : لا وهو آت ، ثم ينزل أهل السماء الثانية بمثلي من نزل من الملائكة ، وبمثلي من فيها من الجن والإنس ، حتى إذا دنوا من الأرض ، أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم. وقلنا لهم : أفيكم ربنا؟ فيقولون : لا. وهو آت ، ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف ، حتى ينزل الجبار عزوجل في ظلل من الغمام والملائكة ، فيحمل عرشه يومئذ ، ثمانية ـ وهم اليوم أربعة ـ أقدامهم في تخوم الأرض السفلى ، والأرض والسموات إلى حجزهم (١) ، والعرش على مناكبهم ، ولهم زجل في تسبيحهم يقولون : سبحان ذي العرش والجبروت ، وسبحان ذي الملك والملكوت ، سبحان الحي الذي لا يموت ، سبحان الذي يميت الخلائق ، ولا يموت ، سبوح قدوس قدوس قدوس ، سبحان ربنا الأعلى رب الملائكة والروح ، سبحان ربنا الأعلى الذي يميت الخلائق ولا يموت ، فيضع الله كرسيه حيث يشاء من أرضه ثم يهتف بصوته فيقول : يا معشر الجن والإنس ، إني قد أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا ، أسمع قولكم وأبصر أعمالكم ، فأنصتوا إلي فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ، ثم يأمر الله جهنم. فيخرج منها عنق ساطع ، ثم يقول (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أو ـ بها تكذبون ـ شك أبو عاصم ، (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) [يس : ٦٠ ـ ٦٤] فيميّز الله الناس وتجثو الأمم. يقول الله تعالى : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية : ٢٨] فيقضي الله عزوجل بين خلقه إلا الثقلين الجن والإنس ، فيقضي بين الوحوش والبهائم ، حتى إنه ليقضي للجماء من ذات القرن ، فإذا فرغ من ذلك ، فلم تبق تبعة عند واحدة للأخرى ، قال الله لها : كوني ترابا ، فعند ذلك يقول الكافر (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) [النبأ : ٤٠] ثم يقضي الله بين العباد ، فكان أول ما يقضي فيه الدماء ، ويأتي كل قتيل في سبيل الله ، ويأمر الله عزوجل كل من قتل ، فيحمل رأسه تشخب أوداجه ، فيقول : يا رب فيم قتلني هذا؟ فيقول ـ وهو أعلم ـ فيم قتلتهم؟ فيقول: قتلتهم لتكون العزة لك ، فيقول الله له : صدقت فيجعل الله وجهه مثل نور الشمس ، ثم تمر به الملائكة إلى الجنة ، ثم يأتي كل من قتل على غير ذلك يحمل رأسه وتشخب أوداجه ، فيقول: يا رب فيم قتلني هذا؟ فيقول ـ وهو أعلم ـ لم قتلتهم؟ فيقول : يا رب قتلتهم لتكون العزة لي ، فيقول : تعست ، ثم لا تبقى نفس قتلها إلا قتل بها ، ولا مظلمة ظلمها إلا أخذ بها ، وكان في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء رحمه ، ثم يقضي الله تعالى بين من بقي من خلفه حتى لا تبقى مظلمة لأحد عند أحد إلا أخذها الله للمظلوم من الظالم ، حتى إنه ليكلف شائب اللبن بالماء ثم يبيعه أن يخلص اللبن من الماء ،

__________________

(١) الحجز : معقد الإزار.

٢٥٥

فإذا فرغ الله من ذلك ، نادى مناد يسمع الخلائق كلهم : ألا ليلحق كل قوم بآلهتهم وما كانوا يعبدون من دون الله فلا يبقى أحد عبد من دون الله ، إلا مثلت له آلهته بين يديه ، ويجعل يومئذ ملك من الملائكة على صورة عزير ، ويجعل ملك من الملائكة على صورة عيسى ابن مريم. ثم يتبع هذا اليهود وهذا النصارى ، ثم قادتهم آلهتهم إلى النار ، وهو الذي يقول (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) [الأنبياء : ٩٩] فإذا لم يبق إلا المؤمنون ، فيهم المنافقون ، جاءهم الله فيما شاء من هيئته فقال : يا أيها الناس ، ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون ، فيقولون : والله ما لنا إله إلا الله ، وما كنا نعبد غيره ، فينصرف عنهم ، وهو الله الذي يأتيهم ، فيمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يأتيهم ، فيقول : يا أيها الناس ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون. فيقولون : والله ما لنا إله إلا الله ، وما كنا نعبد غيره ، فيكشف لهم عن ساقه ، ويتجلى لهم من عظمته ، ما يعرفون أنه ربهم فيخرون للأذقان سجدا على وجوههم ، ويخر كل منافق على قفاه ، ويجعل الله أصلابهم كصياصي (١) البقر ، ثم يأذن الله لهم فيرفعون ويضرب الله الصراط بين ظهراني جهنم ، كحد الشفرة أو كحد السيف ، عليه كلاليب وخطاطيف وحسك كحسك السعدان (٢) ، دونه جسر دحض (٣) مزلة ، فيمرون كطرف العين أو كلمح البرق ، أو كمر الريح أو كجياد الخيل ، أو كجياد الركاب ، أو كجياد الرجال ، فناج سالم ، وناج مخدوش ومكردس (٤) على وجهه في جهنم ، فإذا أفضى أهل الجنة إلى الجنة ، قالوا : من يشفع لنا إلى ربنا فندخل الجنة؟ فيقولون : من أحق بذلك من أبيكم آدم عليه‌السلام ، خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قبلا ، فيأتون آدم فيطلب ذلك إليه فيذكر ذنبا ويقول : ما أنا بصاحب ذلك ، ولكن عليكم بنوح فإنه أول رسل الله ، فيؤتى نوح فيطلب ذلك إليه فيذكر ذنبا ويقول : ما أنا بصاحب ذلك ، ويقول : عليكم بإبراهيم فإن الله اتخذه خليلا ، فيؤتى إبراهيم فيطلب ذلك إليه فيذكر ذنبا ويقول : ما أنا بصاحب ذلك ويقول : عليكم بموسى فإن الله قربه نجيا وكلمه وأنزل عليه التوراة. فيؤتى موسى فيطلب ذلك إليه ، فيذكر ذنبا ويقول : لست بصاحب ذلك ، ولكن عليكم بروح الله وكلمته عيسى ابن مريم ، فيؤتى عيسى ابن مريم فيطلب ذلك إليه ، فيقول : «ما أنا بصاحبكم ولكن عليكم بمحمد» قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فيأتوني ولي عند ربي ثلاث شفاعات وعدنيهن ، فأنطلق فآتي الجنة ، فآخذ بحلقة الباب فأستفتح ، فيفتح لي فأحيا ويرحب بي ، فإذا دخلت الجنة فنظرت إلى ربي خررت ساجدا ، فيأذن الله لي من تحميده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد من خلقه ، ثم يقول : ارفع رأسك يا محمد واشفع

__________________

(١) صياصي البقر : قرونها.

(٢) السعدان : نبات شوكي.

(٣) دحض : زلق.

(٤) المكردس : الذي جمعت يداه ورجلاه وألقي في موضع.

٢٥٦

تشفع ، وسل تعطه ، فإذا رفعت رأسي يقول الله ـ وهو أعلم ـ : ما شأنك؟ فأقول : يا رب وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة فيدخلون الجنة ، فيقول الله : قد شفعتك وقد أذنت لهم في دخول الجنة» وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «والذي نفسي بيده ، ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم ، من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم ، فيدخل كل رجل منهم على اثنتين وسبعين زوجة ، سبعين مما ينشئ الله عزوجل ، وثنتين آدميتين من ولد آدم لهما فضل على من أنشأ الله لعبادتهما الله في الدنيا فيدخل على الأولى في غرفة من ياقوتة على سرير من ذهب مكلل باللؤلؤ عليها سبعون زوجا من سندس وإستبرق ، ثم إنه يضع يده بين كتفيها ثم ينظر إلى يده من صدرها ومن وراء ثيابها وجلدها ولحمها ، وإنه لينظر إلى مخ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت ، كبدها له مرآة وكبده لها مرآة. فبينا هو عندها لا يملها ولا تمله ، ما يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء ، ما يفتر ذكره وما تشتكي قبلها ، فبينا هو كذلك إذ نودي إنا قد عرفنا أنك لا تمل ولا تمل ، إلا أنه لا مني ولا منية إلا أن لك أزواجا غيرها ، فيخرج فيأتيهن واحدة واحدة ، كلما أتى واحدة قالت له : والله ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك ، ولا في الجنة شيء أحب إلي منك. وإذا وقع أهل النار في النار ، وقع فيها خلق من خلق ربك ، أوبقتهم أعمالهم ، فمنهم من تأخذه النار قدميه لا تجاوز ذلك ، ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه ، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه ، ومنهم من تأخذه إلى حقويه ، ومنهم من تأخذ جسده كله إلا وجهه ، حرم الله صورته عليها» قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فأقول يا رب شفعني فيمن وقع في النار من أمتي ، فيقول : أخرجوا من عرفتم ، فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد ، ثم يأذن الله في الشفاعة ، فلا يبقى نبي ولا شهيد إلا شفع ، فيقول الله : أخرجوا من وجدتم في قلبه زنة دينار إيمانا فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد. ثم يشفع الله فيقول : أخرجوا من في قلبه إيمانا ثلثي دينار ، ثم يقول : ثلث دينار ، ثم يقول : ربع دينار ، ثم يقول : قيراطا ، ثم يقول : حبة من خردل ، فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد ، وحتى لا يبقى في النار من عمل لله خيرا قط ، ولا يبقى أحد له شفاعة إلا شفع ، حتى إن إبليس يتطاول مما يرى من رحمة الله رجاء أن يشفع له. ثم يقول : بقيت وأنا أرحم الراحمين ، فيدخل يده في جهنم ، فيخرج منها ما لا يحصيه غيره ، كأنهم حمم فيلقون على نهر ، يقال له : نهر الحيوان ، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ، فما يلي الشمس منها أخيضر ، وما يلي الظل منها أصيفر ، فينبتون كنبات الطراثيث ، حتى يكونوا أمثال الذر مكتوب في رقابهم الجهنميون ، عتقاء الرحمن ، يعرفهم أهل الجنة بذلك الكتاب وما عملوا خيرا لله قط ، فيمكثون في الجنة ما شاء الله وذلك الكتاب في رقابهم ، ثم يقولون : ربنا امح عنا هذا الكتاب فيمحوه الله عزوجل عنهم».

ثم ذكره بطوله ، ثم قال : هذا حديث مشهور ، وهو غريب جدا ، ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرقة ، وفي بعض ألفاظه نكارة ، تفرد به إسماعيل بن رافع قاصّ أهل المدينة ،

٢٥٧

وقد اختلف فيه ، فمنهم من وثقه ومنهم من ضعفه ، ونص على نكارة حديثه غير واحد من الأئمة ، كأحمد بن حنبل ، وأبي حاتم الرازي ، وعمرو بن علي الفلاس ، ومنهم من قال فيه هو متروك ، وقال ابن عدي : أحاديثه كلها فيها نظر ، إلا أنه يكتب حديثه في جملة الضعفاء ، قلت: وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث على وجوه كثيرة قد أفردتها في جزء على حدة ، وأما سياقه فغريب جدا ، ويقال : إنه جمعه من أحاديث كثيرة ، وجعله سياقا واحدا فأنكر عليه بسبب ذلك ، وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول : إنه رأى للوليد بن مسلم مصنفا قد جمعه ، كالشواهد لبعض مفردات هذا الحديث ، فالله أعلم.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٧٩)

قال الضحاك عن ابن عباس : إن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر ، وإنما كان اسمه تارح ، رواه ابن أبي حاتم وقال أيضا : حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل ، حدثنا أبي حدثنا أبو عاصم شبيب ، حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قوله (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) يعني بآزر الصنم ، وأبو إبراهيم اسمه تارح ، وأمه اسمها مثاني ، وامرأته اسمها سارة ، وأم إسماعيل اسمها هاجر ، وهي سرية إبراهيم ، وهكذا قال غير واحد من علماء النسب أن اسمه تارح ، وقال مجاهد والسدي : آزر اسم صنم ، قلت : كأنه غلب عليه آزر ، لخدمته ذلك الصنم فالله أعلم ، وقال ابن جرير وقال آخرون : هو سب وعيب بكلامهم ، ومعناه معوج ، ولم يسنده ولا حكاه عن أحد. وقد قال ابن أبي حاتم : ذكر عن معتمر بن سليمان ، سمعت أبي يقرأ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) قال : بلغني أنها أعوج ، وأنها أشد كلمة قالها إبراهيم عليه‌السلام ، ثم قال ابن جرير (١) : والصواب أن اسم أبيه آزر ، ثم أورد على نفسه قول النسابين أن اسمه تارح ، ثم أجاب بأنه قد يكون له اسمان ، كما لكثير من الناس ، أو يكون أحدهما لقبا ، وهذا الذي قاله جيد قوي والله أعلم.

واختلف القراء في أداء قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) فحكى ابن جرير عن الحسن البصري ، وأبي يزيد المدني ، أنهما كانا يقرآن (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) معناه يا آزر أتتخذ أصناما آلهة ، وقرأ الجمهور بالفتح ، إما على أنه علم أعجمي

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٢٣٩.

٢٥٨

لا ينصرف وهو بدل من قوله لأبيه أو عطف بيان وهو أشبه وعلى قول من جعله نعتا لا ينصرف أيضا ، كأحمر وأسود ، فأما من زعم أنه منصوب ، لكونه معمولا لقوله (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً) تقديره يا أبت أتتخذ آزر أصناما آلهة ، فإنه قول بعيد في اللغة ، فإن ما بعد حرف الاستفهام ، لا يعمل فيما قبله لأن له صدر الكلام ، كذا قرره ابن جرير (١) وغيره ، وهو مشهور في قواعد العربية ، والمقصود أن إبراهيم وعظ أباه في عبادة الأصنام ، وزجره عنها ونهاه فلم ينته ، كما قال (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) أي أتتأله لصنم تعبده من دون الله (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ) أي السالكين مسلكك (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي تائهين لا يهتدون أين يسلكون ، بل في حيرة وجهل وأمركم في الجهالة والضلال بين واضح لكل ذي عقل سليم. وقال تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) [مريم : ٤١ ـ ٤٨] فكان إبراهيم عليه‌السلام ، يستغفر لأبيه مدة حياته ، فلما مات على الشرك وتبين إبراهيم ذلك ، رجع عن الاستغفار له وتبرأ منه ، كما قال تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة : ١١٤] وثبت في الصحيح أن إبراهيم ، يلقى أباه آزر يوم القيامة ، فيقول له آزر يا بني اليوم لا أعصيك ، فيقول إبراهيم أي رب ألم تعدني أنك لا تخزني يوم يبعثون ، وأي خزي أخزى من أبي الأبعد فيقال يا إبراهيم ، انظر ما وراءك فإذا هو بذيخ متلطخ ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار.

قوله (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي نبين له وجه الدلالة في نظره إلى خلقهما ، على وحدانية الله عزوجل ، في ملكه وخلقه ، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه ، كقوله (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [يونس : ١٠١] وقوله (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ١٨٥] وقال. (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) [سبأ : ٩].

وأما ما حكاه ابن جرير وغيره عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والسدي وغيرهم ، قالوا : واللفظ لمجاهد : فرجت له السموات ، فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش ،

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٢٤٠.

٢٥٩

وفرجت له الأرضون السبع ، فنظر إلى ما فيهن ، وزاد غيره فجعل ينظر إلى العباد على المعاصي ، ويدعو عليهم ، فقال الله له إني أرحم بعبادي منك ، لعلهم أن يتوبوا أو يرجعوا. وروى ابن مردويه في ذلك حديثين مرفوعين ، عن معاذ وعلي ، ولكن لا يصح إسنادهما ، والله أعلم.

وروى ابن أبي حاتم من طريق العوفي ، عن ابن عباس ، في قوله (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) فإنه تعالى جلا له الأمر سره وعلانيته ، فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق ، فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب ، قال الله إنك لا تستطيع هذا فرده كما كان قبل ذلك ، فيحتمل أن يكون كشف له عن بصره حتى رأى ذلك عيانا ، ويحتمل أن يكون عن بصيرته ، حتى شاهده بفؤاده وتحققه وعرفه ، وعلم ما في ذلك من الحكم الباهرة ، والدلالات القاطعة كما رواه الإمام أحمد والترمذي ، وصححه عن معاذ بن جبل في حديث المنام «أتاني ربي في أحسن صورة فقال يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت لا أدري يا رب ، فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفت ذلك» (١) وذكر الحديث.

قوله (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) قيل الواو زائدة تقديره وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض ، ليكون من الموقنين ، كقوله (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ). [الأنعام : ٥٥] وقيل بل هي على بابها ، أي نريه ذلك ليكون عالما وموقنا ، وقوله تعالى : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) أي تغشاه وستره (رَأى كَوْكَباً) أي نجما (قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ) أي غاب ، قال محمد بن إسحاق بن يسار : الأفول الذهاب ، وقال ابن جرير: يقال : أفل النجم يأفل ويأفل أفولا وأفلا ، إذا غاب ومنه قول ذي الرمة : [الطويل]

مصابيح ليست باللواتي تقودها

دياج ولا بالآفلات الزوائل (٢)

ويقال : أين أفلت عنا؟ بمعنى أين غبت عنا ، قال (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) قال قتادة : علم أن ربه دائم لا يزول ، (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) أي طالعا (قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي) أي هذا المنير الطالع ربي (هذا أَكْبَرُ) أي جرما من النجم ومن القمر وأكثر إضاءة (فَلَمَّا أَفَلَتْ) أي غابت (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ

__________________

(١) مسند أحمد ٥ / ٢٤٣.

(٢) ويروى عجزه : «نجوم ولا بالآفلات الدوالك».

والبيت لذي الرمة في تتمة ديوانه ص ١٧٣٤ ؛ وتفسير الطبري ٥ / ٢٤٧ ؛ ولسان العرب (ذلك) ؛ وبلا نسبة في تاج العروس (صبح ، ذلك)

٢٦٠