تفسير القرآن العظيم - ج ٣

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٣

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٩٥

فَيَحْلِفُونَ لَهُ) [المجادلة : ١٨] الآية ، وهكذا قال في حق هؤلاء (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) كقوله (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) [غافر : ٧٣ ـ ٧٤] الآية.

وقوله (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) أي يجيئون ليستمعوا قراءتك ، ولا تجزي عنهم شيئا لأن الله جعل على قلوبهم أكنة أي أغطية ، لئلا يفقهوا القرآن (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي صمما عن السماع النافع لهم ، كما قال تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) [البقرة : ١٧١] الآية ، وقوله (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) أي مهما رأوا من الآيات والدلالات والحجج البينات والبراهين ، لا يؤمنوا بها فلا فهم عندهم ولا إنصاف ، كقوله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) [الأنفال : ٢٣] الآية.

وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) أي يحاجونك ويناظرونك ، في الحق بالباطل ، (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي ما هذا الذي جئت به ، إلا مأخوذا من كتب الأوائل ، ومنقول عنهم.

وقوله (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) في معنى ينهون عنه قولان ، [أحدهما] : أن المراد أنهم ينهون الناس عن اتباع الحق وتصديق الرسول والانقياد للقرآن ، (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) أي ويبعدونهم عنه ، فيجمعون بين الفعلين القبيحين ، لا ينتفعون ولا يدعون أحدا ينتفع ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) يردون الناس عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن يؤمنوا به. وقال محمد ابن الحنفية : كان كفار قريش لا يأتون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وينهون عنه ، وكذا قال قتادة ومجاهد والضحاك وغير واحد ، وهذا القول أظهر ، والله أعلم ، وهو اختيار ابن جرير [والقول الثاني] رواه سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت ، عمن سمع ابن عباس يقول في قوله (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) قال : نزلت في أبي طالب ، كان ينهى الناس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يؤذى ، وكذا قال القاسم بن مخيمرة ، وحبيب بن أبي ثابت ، وعطاء بن دينار ، وغيره ، أنها نزلت في أبي طالب وقال سعيد بن أبي هلال : نزلت في عمومة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانوا عشرة ، فكانوا أشد الناس معه في العلانية ، وأشد الناس عليه في السر ، رواه ابن أبي حاتم ، وقال محمد بن كعب القرظي (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) أي ينهون الناس عن قتله ، وقوله (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) أي يتباعدون منه (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) أي وما يهلكون بهذا الصنيع ، ولا يعود وباله إلا عليهم ، وهم لا يشعرون.

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ

٢٢١

بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٣٠)

يذكر تعالى حال الكفار ، إذا وقفوا يوم القيامة على النار ، وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال ، ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال ، فعند ذلك ، قالوا (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا ، ليعملوا عملا صالحا ، ولا يكذبوا بآيات ربهم ، ويكونوا من المؤمنين.

قال الله تعالى : (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) أي بل ظهر لهم حينئذ ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر والتكذيب والمعاندة ، وإن أنكروها في الدنيا أو في الآخرة ، كما قال قبله بيسير (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) ويحتمل أنهم ظهر لهم ما كانوا يعلمونه من أنفسهم ، من صدق ما جاءتهم به الرسل في الدنيا ، وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه ، كقوله مخبرا عن موسى ، أنه قال لفرعون (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) [الإسراء : ١٠٢] الآية ، وقوله تعالى مخبرا عن فرعون وقومه (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل : ١٤] ويحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المنافقين ، الذين كانوا يظهرون الإيمان للناس ويبطنون الكفر ، ويكون هذا إخبارا عما يكون يوم القيامة ، من كلام طائفة من الكفار ، ولا ينافي هذا كون هذه السورة مكية ، والنفاق إنما كان من بعض أهل المدينة ومن حولها من الأعراب ، فقد ذكر الله وقوع النفاق في سورة مكية ، وهي العنكبوت ، فقال (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) [العنكبوت : ١١] وعلى هذا فيكون إخبارا عن قول المنافقين في الدار الآخرة ، حين يعاينون العذاب ، فظهر لهم حينئذ غب ما كانوا يبطنون من الكفر والنفاق والشقاق ، والله أعلم.

وأما معنى الإضراب ، في قوله (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) فإنهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان ، بل خوفا من العذاب الذي عاينوه ، جزاء على ما كانوا عليه من الكفر ، فسألوا الرجعة إلى الدنيا ، ليتخلصوا مما شاهدوا من النار ، ولهذا قال (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي في طلبهم الرجعة ، رغبة ومحبة في الإيمان.

ثم قال مخبرا عنهم أنهم لو ردوا إلى الدار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه ، من الكفر والمخالفة (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي في قولهم : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) ، (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) ، أي لعادوا لما نهوا عنه ، ولقالوا (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) أي ما هي إلا هذه الحياة الدنيا ثم لا معاد بعدها ، ولهذا قال وما نحن بمبعوثين ثم قال (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) أي أوقفوا بين يديه قال (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) أي أليس هذا المعاد بحق ، وليس بباطل كما كنتم تظنون ، (قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ

٢٢٢

بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي بما كنتم تكذبون به ، فذوقوا اليوم مسه (أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) [الطور : ١٥].

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٣٢)

يقول تعالى مخبرا عن خسارة من كذب بلقائه ، وعن خيبته إذا جاءته الساعة بغتة ، وعن ندامته على ما فرط من العمل ، وما أسلف من قبيح الفعل ، ولهذا قال (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) وهذا الضمير يحتمل عوده على الحياة ، وعلى الأعمال وعلى الدار الآخرة ، أي في أمرها.

وقوله (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) أي يحملون ، وقال قتادة يعملون ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن عمرو بن قيس ، عن أبي مرزوق ، قال : يستقبل الكافر أو الفاجر عند خروجه من قبره ، كأقبح صورة رأيتها ، وأنتنه ريحا ، فيقول من أنت؟ فيقول أو ما تعرفني ، فيقول : لا والله ، إلا أن الله قبح وجهك ، وأنتن ريحك ، فيقول : أنا عملك الخبيث ، هكذا كنت في الدنيا خبيث العمل منتنه ، فطالما ركبتني في الدنيا هلم أركبك ، فهو قوله (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) الآية.

وقال أسباط عن السدي أنه قال : ليس من رجل ظالم يدخل قبره ، إلا جاءه رجل قبيح الوجه ، أسود اللون ، منتن الريح ، وعليه ثياب دنسة ، حتى يدخل معه قبره ، فإذا رآه قال : ما أقبح وجهك؟ قال : كذلك كان عملك قبيحا ، قال : ما أنتن ريحك؟ قال : كذلك كان عملك منتنا ، قال : ما أدنس ثيابك؟ قال : فيقول : إن عملك كان دنسا ، قال له : من أنت؟ قال : عملك ، قال : فيكون معه في قبره ، فإذا بعث يوم القيامة قال له : إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات ، وأنت اليوم تحملني ، قال : فيركب على ظهره ، فيسوقه حتى يدخله النار ، فذلك قوله (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) (١).

وقوله (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) أي إنما غالبها كذلك (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ).

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ١٧٨ ـ ١٧٩.

٢٢٣

مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (٣٦)

يقول تعالى مسليا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) أي قد أحطنا علما بتكذيبهم لك ، وحزنك وتأسفك عليهم ، كقوله (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨] كما قال تعالى في الآية الأخرى (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) [الكهف : ٧] وقوله (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أي لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أي ولكنهم يعاندون الحق ، ويدفعونه بصدورهم ، كما قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق ، عن ناجية بن كعب ، عن علي ، قال : قال أبو جهل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا لا نكذبك ، ولكن نكذب ما جئت به ، فأنزل الله (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) ورواه الحاكم من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق ، ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن الوزير الواسطي بمكة ، حدثنا بشر بن المبشر الواسطي ، عن سلام بن مسكين ، عن أبي يزيد المدني ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقي أبا جهل فصافحه ، فقال له رجل : ألا أراك تصافح هذا الصابئ؟ فقال : والله إني لأعلم إنه لنبي ، ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعا؟ وتلا أبو يزيد (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام : ٣٣] وقال أبو صالح وقتادة : يعلمون أنك رسول الله ويجحدون ، وذكر محمد بن إسحاق عن الزهري في قصة أبي جهل ، حين جاء يستمع قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الليل ، هو وأبو سفيان صخر بن حرب ، والأخنس بن شريق ، ولا يشعر أحد منهم بالآخر ، فاستمعوها إلى الصباح ، فلما هجم الصبح تفرقوا ، فجمعتهم الطريق ، فقال كل منهم للآخر : ما جاء بك؟ فذكر له ما جاء به ، ثم تعاهدوا أن لا يعودوا لما يخافون من علم شباب قريش بهم ، لئلا يفتتنوا بمجيئهم ، فلما كانت الليلة الثانية جاء كل منهم ، ظنا أن صاحبيه لا يجيئان ، لما سبق من العهود ، فلما أصبحوا جمعتهم الطريق ، فتلاوموا ثم تعاهدوا أن لا يعودوا ، فلما كانت الليلة الثالثة جاءوا أيضا ، فلما أصبحوا تعاهدوا أن لا يعودوا لمثلها ثم تفرقوا ، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته ، فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد ، قال : يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها ، وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها ، قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به ، ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل ، فدخل عليه بيته ، فقال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال : ماذا سمعت؟ قال : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ، أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ،

٢٢٤

وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه ، قال : فقام عنه الأخنس وتركه.

وروى ابن جرير من طريق أسباط عن السدي في قوله (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) لما كان يوم بدر ، قال الأخنس بن شريق لبني زهرة : يا بني زهرة إن محمدا ابن أختكم فأنتم أحق من ذب عن ابن أخته ، فإنه إن كان نبيا لم تقاتلوه اليوم ، وإن كان كاذبا كنتم أحق من كف عن ابن أخته ، قفوا حتى ألقى أبا الحكم ، فإن غلب محمد رجعتم سالمين ، وإن غلب محمد ، فإن قومكم لم يصنعوا بكم شيئا ـ فيومئذ سمي الأخنس وكان اسمه أبيّ ـ فالتقى الأخنس وأبو جهل ، فخلا الأخنس بأبي جهل فقال : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب ، فإنه ليس هاهنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا؟ فقال أبو جهل : ويحك والله إن محمدا لصادق ، وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة ، فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) فآيات الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) هذه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعزية له ، فيمن كذبه من قومه ، وأمر له بالصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ، ووعد له بالنصر كما نصروا ، وبالظفر حتى كانت لهم العاقبة ، بعد ما نالهم من التكذيب من قومهم والأذى البليغ ، ثم جاءهم النصر في الدنيا كما لهم النصر في الآخرة ، ولهذا قال (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) أي التي كتبها بالنصر في الدنيا والآخرة لعباده المؤمنين ، كما قال (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات : ١٧١ ـ ١٧٢ ـ ١٧٣] وقال تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة : ٢١] وقوله (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) أي من خبرهم ، كيف نصروا وأيدوا على من كذبهم من قومهم ، فلك فيهم أسوة وبهم قدوة.

ثم قال تعالى : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) أي إن كان شق عليك إعراضهم عنك (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : النفق السرب ، فتذهب فيه فتأتيهم بآية ، أو تجعل لك سلما في السماء ، فتصعد فيه فتأتيهم بآية ، أفضل مما آتيتهم به فافعل (١).

وكذا قال قتادة والسدي وغيرهما. وقوله (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) كقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩]

__________________

(١) الأثر في تفسير الطبري ٥ / ١٨٣.

٢٢٥

الآية ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) قال: إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ، ويتابعوه على الهدى ، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول (١).

وقوله تعالى (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) أي إنما يستجيب لدعائك يا محمد من يسمع الكلام ويعيه ويفهمه ، كقوله (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) [يس: ٧٠]. وقوله (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) يعني بذلك الكفار ، لأنهم موتى القلوب ، فشبههم الله بأموات الأجساد ، فقال (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) وهذا من باب التهكم بهم والازدراء عليهم.

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣٩)

يقول تعالى مخبرا عن المشركين ، أنهم كانوا يقولون (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ، أي خارق على مقتضى ما كانوا يريدون ، ومما يتعنتون كقولهم (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠] الآيات (قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي هو تعالى قادر على ذلك ، ولكن حكمته تعالى تقتضي تأخير ذلك ، لأنه لو أنزل وفق ما طلبوا ثم لم يؤمنوا ، لعاجلهم بالعقوبة كما فعل بالأمم السالفة ، كما قال تعالى: (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) [الإسراء : ٩٥] وقال تعالى : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) [الشعراء : ٤].

وقوله (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) قال مجاهد : أي أصناف مصنفة تعرف بأسمائها. وقال قتادة : الطير أمة ، والإنس أمة ، والجن أمة ، وقال السدي (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) أي خلق أمثالكم (٢).

وقوله (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) أي الجميع علمهم عند الله ، ولا ينسى واحدا من جميعها من رزقه وتدبيره ، سواء كان بريا أو بحريا ، كقوله (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ

__________________

(١) في تفسير الطبري ٥ / ١٨٤ من حديث علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : «يقول الله سبحانه : لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين».

(٢) الآثار عن مجاهد وقتادة والسدي في تفسير الطبري ٥ / ١٨٦.

٢٢٦

رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [هود : ٦] أي مفصح بأسمائها وأعدادها ومظانها ، وحاصر لحركاتها وسكناتها ، وقال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [العنكبوت : ٦٠] وقد قال الحافظ أبو يعلى ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبيد بن واقد القيسي أبو عباد ، حدثني محمد بن عيسى بن كيسان ، حدثنا محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قل الجراد في سنة من سني عمر رضي الله عنه التي ولي فيها ، فسأل عنه فلم يخبر بشيء ، فاغتم لذلك ، فأرسل راكبا إلى كذا ، وآخر إلى الشام ، وآخر إلى العراق ، يسأل هل رؤي من الجراد شيء أم لا؟ قال : فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد ، فألقاها بين يديه ، فلما رآها كبر ثلاثا ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «خلق الله عزوجل ألف أمة منها ستمائة في البحر وأربعمائة في البر وأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد فإذا هلكت تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه».

وقوله (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) قال : حشرها الموت ، وكذا رواه ابن جرير (١) من طريق إسرائيل ، عن سعيد عن مسروق ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : موت البهائم حشرها ، وكذا رواه العوفي عنه ، قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد والضحاك مثله : (والقول الثاني) إن حشرها بعثها يوم القيامة ، لقوله (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن سليمان ، عن منذر الثوري ، عن أشياخ لهم ، عن أبي ذر ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى شاتين تنتطحان ، فقال «يا أبا ذر هل تدري فيم تنتطحان؟» قال : لا ، قال «لكن الله يدري وسيقضي بينهما».

ورواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الأعمش ، عمن ذكره ، عن أبي ذر ، قال : بينا نحن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ انتطحت عنزان ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتدرون فيم انتطحتا؟» قالوا : لا ندري ، قال «لكن الله يدري وسيقضي بينهما» رواه ابن جرير (٣) ، ثم رواه من طريق منذر الثوري ، عن أبي ذر ، فذكره ، وزاد : قال أبو ذر : ولقد تركنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يقلب طائر جناحيه في السماء ، إلا ذكر لنا منه علما.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند (٤) أبيه : حدثني عباس بن محمد ، وأبو يحيى البزار ، قالا : حدثنا حجاج بن نصير ، حدثنا شعبة ، عن العوام بن مراجم من بني قيس بن

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ١٨٧.

(٢) مسند أحمد ٥ / ١٦٢.

(٣) تفسير الطبري ٥ / ١٨٧.

(٤) مسند أحمد ١ / ٧٢.

٢٢٧

ثعلبة ، عن أبي عثمان النهدي ، عن عثمان رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة».

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن جعفر بن برقان ، عن يزيد بن الأصم ، عن أبي هريرة ، في قوله (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) قال : يحشر الخلق كلهم يوم القيامة ، البهائم والدواب والطير وكل شيء ، فيبلغ من عدل الله يومئذ ، أن يأخذ للجماء من القرناء ، ثم يقول كوني ترابا ، فلذلك يقول الكافر (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) [النبأ : ٤٠] وقد روي هذا مرفوعا في حديث الصور.

وقوله (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ) أي مثلهم في جهلهم ، وقلة علمهم ، وعدم فهمهم. كمثل أصم ، وهو الذي لا يسمع ، أبكم وهو الذي لا يتكلم ، وهو مع هذا في ظلمات لا يبصر ، فكيف يهتدي مثل هذا إلى الطريق ، أو يخرج مما هو فيه ، كقوله (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [البقرة : ١٧ ـ ١٨] وكما قال تعالى : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور : ٤٠] ولهذا قال (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي هو المتصرف في خلقه بما يشاء.

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٥)

يخبر تعالى أنه الفعّال لما يريد ، المتصرف في خلقه بما يشاء ، وأنه لا معقب لحكمه ، ولا يقدر أحد على صرف حكمه عن خلقه ، بل هو وحده لا شريك له ، الذي إذا سئل يجيب لمن يشاء ، ولهذا قال (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) أي أتاكم هذا أو هذا (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي لا تدعون غيره لعلمكم أنه لا يقدر أحد على رفع ذلك سواه ، ولهذا قال (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي في اتخاذكم آلهة معه (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) أي في وقت الضرورة ، لا تدعون أحدا سواه ، وتذهب عنكم أصنامكم وأندادكم ، كقوله (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧] الآية.

٢٢٨

وقوله (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ) يعني الفقر والضيق في العيش ، (وَالضَّرَّاءِ) وهي الأمراض والأسقام والآلام ، (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) أي يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون.

قال الله تعالى : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) أي فهلا إذ ابتليناهم بذلك ، تضرعوا إلينا وتمسكنوا لدينا ، ولكن (قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أي ما رقت ولا خشعت (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي من الشرك والمعاندة والمعاصي ، (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) أي أعرضوا عنه وتناسوه ، وجعلوه وراء ظهورهم ، (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) أي فتحنا عليهم أبواب الرزق من كل ما يختارون ، وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم ، عياذا بالله من مكره ، ولهذا قال (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا) أي من الأموال والأولاد والأرزاق ، (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) أي على غفلة ، (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) أي آيسون من كل خير.

قال الوالبي عن ابن عباس : المبلس الآيس ، وقال الحسن البصري : من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به ، فلا رأي له ، ومن قتر عليه فلم ير أنه ينظر له ، فلا رأي له ، ثم قرأ (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) قال : مكر بالقوم ورب الكعبة ، أعطوا حاجتهم ثم أخذوا ، رواه ابن أبي حاتم ، وقال قتادة : بغت القوم أمر الله ، وما أخذ الله قوما قط ، إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم ، فلا تغتروا بالله ، فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون ، رواه ابن أبي حاتم أيضا.

وقال مالك عن الزهري (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) قال : رخاء الدنيا ويسرها ، وقد قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يحيى بن غيلان ، حدثنا رشدين ـ يعني ابن سعد أبا الحجاج المهري ـ عن حرملة بن عمران التجيبي ، عن عقبة بن مسلم ، عن عقبة بن عامر ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج» ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) ورواه ابن جرير (٢) وابن أبي حاتم من حديث حرملة وابن لهيعة ، عن عقبة بن مسلم عن عقبة بن عامر به.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا عراك بن خالد بن يزيد ، حدثني أبي عن إبراهيم بن أبي عبلة ، عن عبادة بن الصامت ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : إذا أراد الله بقوم بقاء أو نماء رزقهم القصد والعفاف ، وإذا أراد الله بقوم اقتطاعا ، فتح لهم ـ أو فتح عليهم ـ باب خيانة ، (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) كما قال

__________________

(١) مسند أحمد ٤ / ١٤٥.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ١٩٣.

٢٢٩

(فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ورواه أحمد وغيره.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٤٩)

يقول الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل لهؤلاء المكذبين المعاندين (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ) أي سلبكم إياها كما أعطاكموها. كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) [الملك : ٣٣] الآية ، ويحتمل أن يكون هذا عبارة عن منع الانتفاع بهما ، الانتفاع الشرعي ، ولهذا قال (وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) كما قال (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) [يونس : ٣١] وقال (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) [الأنفال : ٢٤] وقوله (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) أي هل أحد غير الله يقدر على رد ذلك إليكم ، إذا سلبه الله منكم لا يقدر على ذلك أحد سواه ، ولهذا قال (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي نبينها ونوضحها ونفسرها ، دالة على أنه لا إله إلا الله ، وأن ما يعبدون من دونه باطل وضلال ، (ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) أي ثم هم مع هذا البيان ، يصدفون أي يعرضون عن الحق ، ويصدون الناس عن اتباعه ، قال العوفي عن ابن عباس : يصدفون أي يعدلون ، وقال مجاهد وقتادة : يعرضون ، وقال السدي : يصدون (١).

وقوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً) أي وأنتم لا تشعرون به ، حتى بغتكم وفجأكم ، (أَوْ جَهْرَةً) أي ظاهرا عيانا ، (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) أي إنما كان يحيط بالظالمين أنفسهم بالشرك بالله ، وينجوا الذين كانوا يعبدون الله وحده لا شريك له ، (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ، كقوله (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) الآية ، وقوله (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي مبشرين عباد الله المؤمنين بالخيرات ، ومنذرين من كفر بالله النقمات والعقوبات ، ولهذا قال (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ) أي فمن آمن قلبه بما جاءوا به ، وأصلح عمله باتباعه إياهم ، (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أي بالنسبة لما يستقبلونه (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي بالنسبة إلى ما فاتهم وتركوه وراء ظهورهم من أمر الدنيا وصنيعها ، الله وليهم فيما خلفوه ، وحافظهم فيما تركوه ، ثم قال (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي ينالهم العذاب ، بما كفروا بما جاءت به الرسل ، وخرجوا عن أوامر الله وطاعته ، وارتكبوا من مناهيه ومحارمه وانتهاك حرماته.

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ

__________________

(١) الآثار عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي في تفسير الطبري ٥ / ١٩٥.

٢٣٠

هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥٤)

يقول الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) أي لست أملكها ولا أتصرف فيها (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أي ولا أقول لكم إني أعلم الغيب ، إنما ذاك من علم الله عزوجل ، ولا أطلع منه إلا على ما أطلعني عليه ، (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) أي ولا أدعي أني ملك ، إنما أنا بشر من البشر ، يوحى إليّ من الله عزوجل ، شرفني بذلك وأنعم عليّ به ، ولهذا قال (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) أي لست أخرج عنه قيد شبر ولا أدنى منه.

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي هل يستوي من اتبع الحق وهدي إليه ، ومن ضل عنه فلم ينقد له ، (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) وهذه كقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) [الرعد : ١٩] وقوله (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) أي وأنذر بهذا القرآن يا محمد (الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) [المؤمنون : ٥٧] الذين (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) [الرعد : ٢١] (الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) أي يوم القيامة (لَيْسَ لَهُمْ) أي يومئذ (مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) أي لا قريب لهم ولا شفيع فيهم ، من عذابه إن أراده بهم ، (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي أنذر هذا اليوم الذي لا حاكم فيه ، إلا الله عزوجل ، (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) فيعملون في هذه الدار ، عملا ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه ، ويضاعف لهم به الجزيل من ثوابه.

وقوله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي لا تبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك ، بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك كقوله (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) [الكهف : ٢٨] وقوله (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) أي يعبدونه ويسألونه (بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) قال سعيد بن المسيب ومجاهد والحسن وقتادة : المراد به الصلاة المكتوبة ، وهذا كقوله (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] أي أتقبل منكم. وقوله (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي يريدون بذلك العمل وجه الله الكريم ، وهم مخلصون فيما هم فيه من العبادات والطاعات.

٢٣١

وقوله (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) كقول نوحعليه‌السلام : في جواب الذين قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ، قال (وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ) [الشعراء : ١١٣] ، أي إنما حسابهم على الله عزوجل ، وليس عليّ من حسابهم من شيء ، كما أنه ليس عليهم من حسابي من شيء ، وقوله (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) أي إن فعلت هذا والحالة هذه.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أسباط هو ابن محمد ، حدثني أشعث عن كردوس ، عن ابن مسعود : قال : مر الملأ من قريش على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار ، فقالوا : يا محمد ، أرضيت بهؤلاء فنزل فيهم القرآن (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ ـ إلى قوله ـ أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ).

ورواه ابن جرير من طريق أشعث ، عن كردوس ، عن ابن مسعود ، قال : مرّ الملأ من قريش برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعنده صهيب وبلال وعمار وخباب وغيرهم ، من ضعفاء المسلمين ، فقالوا : يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نصير تبعا لهؤلاء؟ اطردهم فلعلك إن طردتهم أن نتبعك ، فنزلت هذه الآية (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) إلى آخر الآية (٢).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا عمرو بن محمد العنقزي ، حدثنا أسباط بن نصر ، عن السدي عن أبي سعيد الأزدي ـ وكان قارئ الأزد ـ عن أبي الكنود ، عن خباب ، في قول الله عزوجل : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) قال جاء الأقرع بن حابس التميمي ، وعيينة بن حصن الفزاري ، فوجدوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع صهيب وبلال وعمار وخباب ، قاعدا في ناس من الضعفاء من المؤمنين ، فلما رأوهم حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقروهم فأتوه فخلوا به وقالوا : إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا ، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد ، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا ، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت ، قال : «نعم» ، قالوا : فاكتب لنا عليك كتابا ، قال : فدعا بصحيفة ودعا عليا ليكتب ونحن قعود في ناحية ، فنزل جبريل فقال (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) الآية ، فرمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصحيفة من يده ، ثم دعانا فأتيناه.

ورواه ابن جرير (٣) من حديث أسباط به ، وهذا حديث غريب ، فإن هذه الآية مكية ،

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٤٢٠.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ١٩٩.

(٣) تفسير الطبري ٥ / ١٩٩ والحديث فيه أطول مما هو هنا.

٢٣٢

والأقرع بن حابس وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر.

وقال سفيان الثوري عن المقدام بن شريح عن أبيه ، قال : قال سعد : نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، منهم ابن مسعود ، قال : كنا نستبق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وندنو منه ، فقالت قريش : تدني هؤلاء دوننا ، فنزلت (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) رواه الحاكم في مستدركه من طريق سفيان ، وقال : على شرط الشيخين ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق المقدام بن شريح به.

وقوله (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي ابتلينا واختبرنا وامتحنا بعضهم ببعض ، (لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان غالب من اتبعه في أول بعثته ، ضعفاء الناس من الرجال والنساء والعبيد والإماء ، ولم يتبعه من الأشرف إلا قليل ، كما قال قوم نوح لنوح (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) [هود : ٢٧] الآية ، وكما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان حين سأله عن تلك المسائل ، فقال له : فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقال : بل ضعفاؤهم ، فقال : هم أتباع الرسل ، والغرض أن مشركي قريش كانوا يسخرون بمن آمن من ضعفائهم ، ويعذبون من يقدرون عليه منهم ، وكانوا يقولون : أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا؟ أي ما كان الله ليهدي هؤلاء إلى الخير ، لو كان ما صاروا إليه خيرا ويدعنا ، كقولهم (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) وكقوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) [الأحقاف : ١١] قال الله تعالى في جواب ذلك (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) [مريم : ٧٣] وقال في جوابهم حين قالوا : (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) أي أليس هو أعلم بالشاكرين له ، بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم ، فيوفقهم ويهديهم سبل السلام ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ، ويهديهم إلى صراط مستقيم ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت : ٦٩] وفي الحديث الصحيح : «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» (١).

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، عن حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة في قوله : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) الآية ، قال : جاء عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، ومطعم بن عدي ، والحارث بن نوفل ، وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل في أشراف من بني عبد مناف ، من أهل الكفر ، إلى أبي طالب ، فقالوا : يا أبا طالب لو أن ابن

__________________

(١) رواه الإمام أحمد في مسنده ٢ / ٢٨٥ من حديث أبي هريرة. وفيه «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ...».

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٢٠٠ ـ ٢٠١.

٢٣٣

أخيك محمدا يطرد عنه موالينا وحلفاءنا ، فإنما هم عبيدنا وعتقاؤنا (١) ، كان أعظم في صدورنا ، وأطوع له عندنا ، وأدنى لاتباعنا إياه ، وتصديقنا له ، قال : فأتى أبو طالب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فحدثه بذلك ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لو فعلت ذلك حتى تنظر ما الذي يريدون ، وإلى ما يصيرون من قولهم ، فأنزل الله عزوجل هذه الآية (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) إلى قوله (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) قال : وكانوا بلالا وعمار بن ياسر وسالما مولى أبي حذيفة وصبيحا مولى أسيد ، ومن الحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عمرو ومسعود بن القارئ ، وواقد بن عبد الله الحنظلي وعمرو بن عبد عمرو ، وذو الشمالين ، ومرثد بن أبي مرثد ، وأبو مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب ، وأشباههم من الحلفاء ، فنزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء ، (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) الآية ، فلما نزلت ، أقبل عمر رضي الله عنه ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاعتذر من مقالته ، فأنزل الله عزوجل (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا) الآية.

وقوله (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي فأكرمهم بردّ السلام عليهم ، وبشرهم برحمة الله الواسعة الشاملة لهم ، ولهذا قال (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي أوجبها على نفسه الكريمة ، تفضلا منه وإحسانا وامتنانا ، (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) قال بعض السلف : كل من عصى الله فهو جاهل ، وقال معتمر بن سليمان ؛ عن الحكم بن أبان عن عكرمة ، في قوله (مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) قال : الدنيا كلها جهالة ، رواه ابن أبي حاتم (ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ) أي رجع عما كان عليه من المعاصي ، وأقلع وعزم على أن لا يعود ، وأصلح العمل في المستقبل ، (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن همام بن منبه ، قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي غلبت غضبي».

أخرجاه في الصحيحين (٣) ، وهكذا رواه الأعمش عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، ورواه موسى عن عقبة : عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، وكذا رواه الليث وغيره ، عن محمد بن عجلان ، عن أبيه عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك.

وقد روى ابن مردويه من طريق الحكم بن أبان : عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا فرغ الله من القضاء بين الخلق ، أخرج كتابا من تحت العرش ، إن رحمتي

__________________

(١) في الطبري «وعسفاؤنا» : جمع عسيف ، وهو العبد والأجير.

(٢) مسند أحمد ٢ / ٣١٣.

(٣) صحيح البخاري (توحيد باب ١٥ وبدء الخلق باب ١) وصحيح مسلم (توبة حديث ١٤ ـ ١٦)

٢٣٤

سبقت غضبي ، وأنا أرحم الراحمين ، فيقبض قبضة أو قبضتين ، فيخرج من النار خلقا لم يعملوا خيرا ، مكتوب بين أعينهم عتقاء الله».

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن عاصم بن سليمان ، عن أبي عثمان النهدي ، عن سلمان في قوله (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) قال : إنا نجد في التوراة عطفتين ، أن الله خلق السموات والأرض ، وخلق مائة رحمة ، أو جعل مائة رحمة قبل أن يخلق الخلق ، ثم خلق الخلق فوضع بينهم رحمة واحدة ، وأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة ، قال : فبها يتراحمون ، وبها يتعاطفون ، وبها يتباذلون ، وبها يتزاورون ، وبها تحن الناقة ، وبها تبح البقرة ، وبها تثغو الشاة ، وبها تتتابع الطير ، وبها تتتابع الحيتان في البحر ، فإذا كان يوم القيامة ، جمع الله تلك الرحمة إلى ما عنده ، ورحمته أفضل وأوسع.

وقد روي هذا مرفوعا من وجه آخر ، وسيأتي كثير من الأحاديث الموافقة لهذه عند قوله (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف : ١٥٦] ومما يناسب هذه الآية من الأحاديث أيضا ، قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ بن جبل : «أتدري ما حق الله على العباد؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» ثم قال : «أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم» وقد رواه الإمام أحمد(١) : من طريق كميل بن زياد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٥٩)

يقول تعالى : وكما بيّنا ما تقدم بيانه من الحجج والدلائل ، على طريق الهداية والرشاد وذم المجادلة والعناد ، (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي التي يحتاج المخاطبون إلى بيانها ، (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) أي ولتظهر طريق المجرمين المخالفين للرسل ، وقرئ (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) أي ولتستبين يا محمد ، أو يا مخاطب سبيل المجرمين.

وقوله (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) (٢) أي على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها الله إلي (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) أي بالحق الذي جاءني من الله (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) أي من العذاب (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي إنما يرجع أمر ذلك إلى الله ، إن شاء عجل لكم ما سألتموه من ذلك ، وإن

__________________

(١) مسند أحمد ٢ / ٣٠٩.

(٢) سقط من تفسير ابن كثير تفسير الآية ٥٦ من هذه السورة ، فلينظر في تفسير الطبري ٥ / ٢٠٨ أو في غيره.

٢٣٥

شاء أنظركم وأجلكم ، لما له في ذلك من الحكمة العظيمة ، ولهذا قال (يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) أي وهو خير من فصل القضايا ، وخير الفاتحين في الحكم بين عباده.

وقوله (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي لو كان مرجع ذلك إلي ، لأوقعت لكم ما تستحقونه من ذلك ، والله أعلم بالظالمين.

فإن قيل : فما الجمع بين هذه الآية وبين ما ثبت في الصحيحين ، من طريق ابن وهب ، عن يونس ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، أنها قالت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله ، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال : لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منه يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب (١) ، فرفعت رأسي ، فإذا أنا بسحابة قد ظللتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه‌السلام ، فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال ، لتأمره بما شئت فيهم ، قال : فناداني ملك الجبال وسلّم علي ، ثم قال : يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك ، وقد بعثني ربك إليك ، لتأمرني بأمرك فيما شئت ، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين (٢) ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم ، من يعبد الله لا يشرك به شيئا» وهذا لفظ مسلم (٣) ، فقد عرض عليهم عذابهم واستئصالهم ، فاستأنى بهم ، وسأل لهم التأخير ، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئا ، فما الجمع بين هذا وبين قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) فالجواب والله أعلم ، أن هذه الآية دلت ، على أنه لو كان إليه وقوع العذاب ، الذي يطلبونه حال طلبهم له ، لأوقعه بهم ، وأما الحديث فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم ، بل عرض عليه ملك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين ، وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها جنوبا وشمالا ، فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم.

وقوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) قال البخاري (٤) : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله» (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ، وَما تَدْرِي

__________________

(١) موضع يقال له أيضا قرن المنازل ، بينه وبين مكة يوم وليلة. وأصل القرن كل جبل صغير ينقطع من جبل كبير.

(٢) الأخشبان هما جبلا مكة : أبو قبيس والجبل الذي يقابله.

(٣) صحيح مسلم (جهاد حديث ١١١) وصحيح البخاري (بدء الخلق باب ٧)

(٤) صحيح البخاري (تفسير سورة الأنعام باب ٢)

٢٣٦

نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

وفي حديث عمر : أن جبريل حين تبدى له في صورة أعرابي ، فسأل عن الإيمان والإسلام والإحسان ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما قاله له : «خمس لا يعلمهن إلا الله» ثم قرأ (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) الآية.

وقوله (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي محيط علمه الكريم بجميع الموجودات ، بريها وبحريها ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، ولا مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، وما أحسن ما قال الصرصري : [الوافر]

فلا يخفى عليه الذر إما

تراءى للنواظر أو توارى

وقوله (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) أي ويعلم الحركات حتى من الجمادات ، فما ظنك بالحيوانات ، ولا سيما المكلفون منهم من جنهم وإنسهم ، كما قال تعالى : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ). وقال ابن أبي حاتم ، حدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن الربيع ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سعيد بن مسروق ، حدثنا حسان النمري ، عن ابن عباس ، في قوله (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) قال : ما من شجرة في بر ولا بحر إلا وملك موكل بها ، يكتب ما يسقط منها ، رواه ابن أبي حاتم.

وقوله (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور الزهري ، حدثنا مالك بن سعير ، حدثنا الأعمش ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث ، قال : ما في الأرض من شجرة ولا مغرز إبرة ، إلا وعليها ملك موكل ، يأتي الله بعلمها ، رطوبتها إذا رطبت ، ويبوستها إذا يبست ، وكذا رواه ابن جرير (١) عن أبي الخطاب زياد بن عبد الله الحساني ، عن مالك بن سعير به. ثم قال ابن أبي حاتم : ذكر عن أبي حذيفة ، حدثنا سفيان عن عمرو بن قيس ، عن رجل ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : خلق الله النون وهي الدواة ، وخلق الألواح ، فكتب فيها أمر الدنيا ، حتى ينقضي ما كان من خلق مخلوق ، أو رزق حلال أو حرام ، أو عمل بر أو فجور ، وقرأ هذه الآية (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) إلى آخر الآية.

قال محمد بن إسحاق : عن يحيى بن النضر ، عن أبيه ، سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص ، يقول : إن تحت الأرض الثالثة وفوق الرابعة من الجن ، ما لو أنهم ظهروا ، يعني لكم ، لم تروا معهم نورا على كل زاوية من زوايا الأرض خاتم من خواتيم الله عزوجل ، على كل خاتم ملك من الملائكة ، يبعث الله عزوجل إليه في كل يوم ملكا من عنده أن احتفظ بما عندك.

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٢١١.

٢٣٧

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) (٦٢)

يقول تعالى إنه يتوفى عباده في منامهم بالليل ، وهذا هو التوفي الأصغر ، كما قال تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥] وقال تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [الزمر : ٤٢] فذكر في هذه الآية الوفاتين الكبرى والصغرى ، وهكذا ذكر في هذا المقام ، حكم الوفاتين الصغرى ثم الكبرى ، فقال (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) أي ويعلم ما كسبتم من الأعمال بالنهار ، وهذه جملة معترضة دلت على إحاطة علمه تعالى بخلقه في ليلهم ونهارهم ، في حال سكونهم وحال حركتهم ، كما قال (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) وكما قال تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي في الليل (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص : ٧٣] أي في النهار كما قال (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) [النبأ : ١٠ ـ ١١] ولهذا قال تعالى هاهنا (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) أي ما كسبتم من الأعمال فيه (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) أي في النهار ، قاله مجاهد وقتادة والسدي (١).

وقال ابن جريج : عن عبد الله بن كثير ، أي في المنام والأول أظهر ، وقد روى ابن مردويه بسنده عن الضحاك ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مع كل إنسان ملك إذا نام أخذ نفسه ويرده إليه ، فإن أذن الله في قبض روحه قبضه وإلا رد إليه» فذلك قوله : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) (٢).

وقوله (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) يعني به أجل كل واحد من الناس ، (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) أي يوم القيامة (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ) أي فيخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ويجزيكم على ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وقوله (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) أي وهو الذي قهر كل شيء وخضع لجلاله وعظمته وكبريائه كل شيء ، (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) أي من الملائكة يحفظون بدن الإنسان ، كقوله (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الرعد : ١١ وحفظة يحفظون عمله ويحصونه كقوله (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) [الانفطار : ١٠] الآية وكقوله (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ١٧ ـ ١٨] وقوله (إِذْ يَتَلَقَّى

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٢١٣.

(٢) الدر المنثور ٣ / ٢٩.

٢٣٨

الْمُتَلَقِّيانِ) الآية وقوله (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي احتضر وحان أجله (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) أي ملائكة موكلون بذلك ، قال ابن عباس وغير واحد : لملك الموت أعوان من الملائكة ، يخرجون الروح من الجسد فيقبضها ملك الموت إذا انتهت إلى الحلقوم ، وسيأتي عند قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) [إبراهيم : ٢٧] الأحاديث المتعلقة بذلك الشاهدة لهذا المروي عن ابن عباس وغيره بالصحة.

وقوله (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) أي في حفظ روح المتوفى ، بل يحفظونها وينزلونها حيث شاء الله عزوجل ، إن كان من الأبرار ففي عليين ، وإن كان من الفجار ففي سجين ، عياذا بالله من ذلك.

وقوله (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) قال ابن جرير (١) : (ثُمَّ رُدُّوا) يعني الملائكة (إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ).

ونذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا ابن أبي ذئب ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن سعيد بن يسار ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح ، قالوا : اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ، اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان ، فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ، ثم يعرج بها إلى السماء ، فيستفتح لها فيقال من هذا؟ فيقال فلان ، فيقال مرحبا بالنفس الطيبة ، كانت في الجسد الطيب ، ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان ، فلا تزال يقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عزوجل ، وإذا كان الرجل السوء ، قالوا : اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ، اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق ، وآخر من شكله أزواج ، فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ، ثم يعرج بها إلى السماء ، فيستفتح لها فيقال : من هذا؟ فيقال : فلان ، فيقال : لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ، ارجعي ذميمة فإنه لا يفتح لك أبواب السماء فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر ، فيجلس الرجل الصالح ، فيقال له مثل ما قيل في الحديث الأول ، ويجلس الرجل السوء ، فيقال له مثل ما قيل في الحديث الأول» (٢).

هذا حديث غريب ، ويحتمل أن يكون المراد بقوله (ثُمَّ رُدُّوا) يعني الخلائق كلهم إلى الله يوم القيامة ، فيحكم فيهم بعدله ، كما قال (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الواقعة : ٥٠] وقال (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) إلى قوله (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٢١٦.

(٢) مسند أحمد ٢ / ٣٦٤ ـ ٣٦٥.

٢٣٩

أَحَداً) [الكهف : ٤٩] ولهذا قال (مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ).

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) (٦٥)

يقول تعالى ممتنا على عباده ، في إنجائه المضطرين منهم من ظلمات البر والبحر ، أي الحائرين الواقعين في المهامة البرية ، وفي اللجج البحرية ، إذا هاجت الرياح العاصفة ، فحينئذ يفردون الدعاء له وحده لا شريك له ، كقوله (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧] الآية ، وقوله (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [يونس : ٢٢] الآية ، وقوله (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [النمل : ٦٣].

وقال في هذه الآية الكريمة (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) أي جهرا وسرا (لَئِنْ أَنْجانا) أي من هذه الضائقة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي بعدها قال الله (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) أي تدعون معه في حال الرفاهية آلهة أخرى.

وقوله (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) لما قال ثم أنتم تشركون ، عقبه بقوله (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً) أي بعد إنجائه إياكم ، كقوله في سورة سبحان (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) [الإسراء : ٦٦ ـ ٦٩].

قال ابن أبي حاتم : ذكر عن مسلم بن إبراهيم ، حدثنا هارون الأعور ، عن جعفر بن سليمان ، عن الحسن في قوله (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال : هذه للمشركين. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد ، في قوله (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعفا عنهم.

ونذكر هنا الأحاديث ، الواردة في ذلك والآثار ، وبالله المستعان وعليه التكلان وبه الثقة.

٢٤٠