تفسير القرآن العظيم - ج ٣

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٣

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٩٥

في ذلك ، فتكون طيرا بإذني أي فتنفخ في تلك الصورة التي شكلتها بإذني لك في ذلك فتكون طيرا ذا روح تطير بإذن الله وخلقه.

وقوله تعالى : (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي) قد تقدم الكلام عليه في سورة آل عمران بما أغنى عن إعادته. وقوله (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) أي تدعوهم فيقومون من قبورهم بإذن الله وقدرته وإرادته ومشيئته ، وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن طلحة يعني ابن مصرف ، عن أبي بشر ، عن أبي الهذيل ، قال : كان عيسى ابن مريم عليه‌السلام إذا أراد أن يحيي الموتى صلّى ركعتين ، يقرأ في الأولى (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) [الملك : ١] ، وفي الثانية (الم تَنْزِيلُ) [السجدة : ١] السجدة ، فإذا فرغ منهما مدح الله وأثنى عليه ، ثم دعا بسبعة أسماء : يا قديم ، يا خفي ، يا دائم ، يا فرد ، يا وتر ، يا أحد ، يا صمد ، وكان إذا أصابته شديدة دعا بسبعة أخر : يا حي ، يا قيوم ، يا الله ، يا رحمن ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا نور السموات والأرض وما بينهما ، ورب العرش العظيم ، يا رب ، وهذا أثر عجيب جدا.

وقوله تعالى : (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي واذكر نعمتي عليك في كفي إياهم عنك حين جئتهم بالبراهين والحجج القاطعة على نبوتك ورسالتك من الله إليهم ، فكذبوك واتهموك بأنك ساحر ، وسعوا في قتلك وصلبك فنجيتك منهم ، ورفعتك إلي ، وطهرتك من دنسهم ، وكفيتك شرهم ، وهذا يدل على أن هذا الامتنان كان من الله إليه بعد رفعه إلى السماء الدنيا ، أو يكون هذا الامتنان واقعا يوم القيامة ، وعبر عنه بصيغة الماضي دلالة على وقوعه لا محالة ، وهذا من أسرار الغيوب التي أطلع الله عليها نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) وهذا أيضا من الامتنان عليه ، عليه‌السلام ، بأن جعل له أصحابا وأنصارا ، ثم قيل : إن المراد بهذا الوحي وحي إلهام ، كما قال تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) [القصص : ٧] الآية ، وهو وحي إلهام بلا خلاف ، وكما قال تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً) [النحل : ٦٨] الآية ، وهكذا قال بعض السلف في هذه الآية (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) أي ألهموا ذلك ، فامتثلوا ما ألهموا. قال الحسن البصري : ألهمهم الله عزوجل ذلك. وقال السدي : قذف في قلوبهم ذلك (١) ، ويحتمل أن يكون المراد وإذ أوحيت إليهم بواسطتك فدعوتهم إلى الإيمان بالله وبرسوله واستجابوا لك وانقادوا وتابعوك ، فقالوا (آمَنَّا

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ١٢٩.

٢٠١

بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).

(إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) (١١٥)

هذه قصة المائدة وإليها تنسب السورة ، فيقال سورة المائدة ، وهي مما امتنّ الله به على عبده ورسوله عيسى لما أجاب دعاءه بنزولها ، فأنزلها الله آية باهرة وحجة قاطعة ، وقد ذكر بعض الأئمة أن قصتها ليست مذكورة في الإنجيل ، ولا يعرفها النصارى إلا من المسلمين ، فالله أعلم ، فقوله تعالى : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ) وهم أتباع عيسى عليه‌السلام (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) هذه قراءة كثيرين ، وقرأ آخرون هل تستطيع ربك أي هل تستطيع أن تسأل ربك (أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) والمائدة هي الخوان عليه الطعام ، وذكر بعضهم : أنهم إنما سألوا ذلك لحاجتهم وفقرهم ، فسألوه أن ينزل عليهم مائدة كل يوم يقتاتون منها ويتقوون بها على العبادة (قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي فأجابهم المسيح عليه‌السلام قائلا لهم : اتقوا الله ولا تسألوا هذا فعساه أن يكون فتنة لكم ، وتوكلوا على الله في طلب الرزق إن كنتم مؤمنين ، (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) أي نحن محتاجون إلى الأكل منها ، (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) إذا شاهدنا نزولها رزقا لنا من السماء ، (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) أي ونزداد إيمانا بك وعلما برسالتك (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي ونشهد أنها الآية من عند الله ، ودلالة وحجة على نبوتك وصدق ما جئت به. (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) قال السدي : أي نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا ، وقال سفيان الثوري : يعني يوما نصلي فيه. وقال قتادة : أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم. وعن سلمان الفارسي : عظة لنا ولمن بعدنا. وقيل : كافية لأولنا وآخرنا (وَآيَةً مِنْكَ) أي دليلا تنصبه على قدرتك على الأشياء وعلى إجابتك لدعوتي ، فيصدقوني فيما أبلغه عنك ، (وَارْزُقْنا) أي من عندك رزقا هنيئا بلا كلفة ولا تعب (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) أي فمن كذب بها من أمتك يا عيسى وعاندها ، (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي من عالمي زمانكم ، كقوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر : ٤٦] ، وكقوله (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء : ١٤٥] ، وقد روى ابن جرير من طريق عوف الأعرابي عن أبي المغيرة القواس ، عن عبد الله بن عمرو قال : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة ثلاثة : المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون.

٢٠٢

ذكر أخبار رويت عن السلف

في نزول المائدة على الحواريين

قال أبو جعفر بن جرير (١) : حدثنا القاسم : حدثنا الحسين ، حدثني حجاج عن ليث ، عن عقيل ، عن ابن عباس أنه كان يحدث عن عيسى أنه قال لبني إسرائيل : هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوما ، ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم ، فإن أجر العامل على من عمل له ، ففعلوا ثم قالوا : يا معلم الخير ، قلت لنا : إن أجر العامل على من عمل له ، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوما ففعلنا ، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوما إلا أطعمنا حين نفرغ طعاما ، فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ قال عيسى (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) قال : فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات ، وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم ، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم ، كذا رواه ابن جرير ، ورواه ابن أبي حاتم عن يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب ، عن الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب قال : كان ابن عباس يحدث ، فذكر نحوه.

وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا أبو زرعة وهبة الله بن راشد ، حدثنا عقيل بن خالد أن ابن شهاب أخبره عن ابن عباس أن عيسى ابن مريم قالوا له : ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء ، قال : فنزلت الملائكة بالمائدة يحملونها ، عليها سبعة أحوات ، وسبعة أرغفة ، حتى وضعتها بين أيديهم ، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن قزعة الباهلي ، حدثنا سفيان بن حبيب ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس ، عن عمار بن ياسر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : نزلت المائدة من السماء عليها خبز ولحم ، وأمروا أن لا يخونوا ولا يرفعوا لغد ، فخانوا وادخروا ورفعوا ، فمسخوا قردة وخنازير ، وكذا رواه ابن جرير عن الحسن بن قزعة ، ثم رواه ابن جرير عن ابن بشار ، عن ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن جلاس ، عن عمار قال : نزلت المائدة وعليها ثمر من ثمار الجنة ، فأمروا أن لا يخونوا ولا يخبأوا ولا يدخروا ، قال : فخان القوم وخبأوا وادخروا ، فمسخهم الله قردة وخنازير.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود عن سماك بن

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ١٣١.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ١٣٤.

٢٠٣

حرب ، عن رجل من بني عجل ، قال : صليت إلى جانب عمار بن ياسر ، فلما فرغ قال : هل تدري كيف كان شأن مائدة بني إسرائيل؟ قال : قلت : لا. قال : إنهم سألوا عيسى ابن مريم مائدة يكون عليها طعام يأكلون منه لا ينفد ، قال : فقيل لهم : فإنها مقيمة لكم ما لم تخبأوا أو تخونوا أو ترفعوا ، فإن فعلتم فإني معذبكم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين. قال : فما مضى يومهم حتى خبأوا ورفعوا وخانوا ، فعذبوا عذابا لم يعذبه أحد من العالمين. وإنكم يا معشر العرب كنتم تتبعون أذناب الإبل والشاء ، فبعث الله فيكم رسولا من أنفسكم تعرفون حسبه ونسبه ، وأخبركم أنكم ستظهرون على العجم ، ونهاكم أن تكنزوا الذهب والفضة ، وأيم الله لا يذهب الليل والنهار حتى تكنزوهما ويعذبكم الله عذابا أليما.

وقال (١) : حدثنا القاسم ، حدثنا حسين ، حدثني حجاج عن أبي معشر ، عن إسحاق بن عبد الله أن المائدة ، نزلت على عيسى ابن مريم ، عليها سبعة أرغفة ، وسبعة أحوات ، يأكلون منها ما شاؤوا. قال : فسرق بعضهم منها وقال : لعلها لا تنزل غدا ، فرفعت.

وقال العوفي عن ابن عباس : نزلت على عيسى ابن مريم والحواريين خوان عليه خبز وسمك ، يأكلون منه أينما نزلوا إذا شاؤوا. وقال خصيف ، عن عكرمة ومقسم ، عن ابن عباس : كانت المائدة سمكة وأرغفة ، وقال مجاهد : هو طعام كان ينزل عليهم حيث نزلوا. وقال أبو عبد الرحمن السلمي : نزلت المائدة خبزا وسمكا. وقال عطية العوفي : المائدة سمك فيه طعم كل شيء. وقال وهب بن منبه : أنزلها الله من السماء على بني إسرائيل ، فكان ينزل عليهم في كل يوم في تلك المائدة من ثمار الجنة ، فأكلوا ما شاؤوا من ضروب شتى ، فكان يقعد عليها أربعة آلاف ، وإذا أكلوا أنزل الله مكان ذلك لمثلهم ، فلبثوا على ذلك ما شاء الله عزوجل. وقال وهب بن منبه : نزل عليهم قرصة من شعير وأحوات ، وحشا الله بين أضعافهن البركة ، فكان قوم يأكلون ثم يخرجون ، ثم يجيء آخرون فيأكلون ثم يخرجون ، حتى أكل جميعهم وأفضلوا.

وقال الأعمش ، عن مسلم ، عن سعيد بن جبير : أنزل عليها كل شيء إلا اللحم. وقال سفيان الثوري ، عن عطاء بن السائب عن زاذان وميسرة وجرير ، عن عطاء ، عن ميسرة ، قال : كانت المائدة إذا وضعت لبني إسرائيل اختلفت عليها الأيدي بكل طعام إلا اللحم وعن عكرمة : كان خبز المائدة من الأرز ، رواه ابن أبي حاتم.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن علي فيما كتب إلي ، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس ، حدثني أبو عبد الله عبد القدوس بن إبراهيم بن أبي عبيد الله بن مرداس العبدري مولى بني عبد الدار ، عن إبراهيم بن عمر ، عن وهب بن منبه ، عن أبي عثمان النهدي ، عن سلمان

__________________

(١) المصدر السابق.

٢٠٤

الخير ، أنه قال : لما سأل الحواريون عيسى ابن مريم المائدة ، كره ذلك جدا ، فقال : اقنعوا بما رزقكم الله في الأرض ، ولا تسألوا المائدة من السماء ، فإنها إن نزلت عليكم كانت آية من ربكم ، وإنما هلكت ثمود حين سألوا نبيهم آية فابتلوا بها حتى كان بوارهم فيها ، فأبوا إلا أن يأتيهم بها ، فلذلك (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) الآية ، فلما رأى عيسى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها ، قام فألقى عنه الصوف ، ولبس الشعر الأسود ، وجبة من شعر ، وعباءة من شعر ، ثم توضأ واغتسل ، ودخل مصلاه فصلى ما شاء الله ، فلما قضى صلاته ، قام قائما مستقبل القبلة ، وصف قدميه حتى استويا ، فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع ، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره ، وغض بصره ، وطأطأ رأسه خشوعا ، ثم أرسل عينيه بالبكاء ، فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه من خشوعه ، فلما رأى ذلك دعا الله فقال : (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) فأنزل الله عليهم سفرة حمراء بين غمامتين : غمامة فوقها ، وغمامة تحتها ، وهم ينظرون إليها في الهواء منقضّة من فلك السماء تهوي إليهم ، وعيسى يبكي خوفا من أجل الشروط التي أخذها الله عليهم فيها ، أنه يعذب من يكفر بها منهم بعد نزولها عذابا لم يعذبه أحدا من العالمين ، وهو يدعو الله في مكانه ويقول : اللهم اجعلها رحمة لهم ، ولا تجعلها عذابا ، إلهي كم من عجيبة سألتك فأعطيتني ، إلهي اجعلنا لك شاكرين ، اللهم إني أعوذ بك أن تكون أنزلتها غضبا ورجزا ، إلهي اجعلها سلامة وعافية ، ولا تجعلها فتنة ومثلة. فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يدي عيسى والحواريين وأصحابه حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا فيما مضى رائحة مثلها قط ، وخر عيسى والحواريون لله سجدا شكرا له لما رزقهم من حيث لم يحتسبوا ، وأراهم فيه آية عظيمة ذات عجب وعبرة ، وأقبلت اليهود ينظرون ، فرأوا أمرا عجيبا أورثهم كمدا وغما ، ثم انصرفوا بغيظ شديد ، وأقبل عيسى والحواريون وأصحابه حتى جلسوا حول السفرة ، فإذا عليها منديل مغطى فقال عيسى : من أجرؤنا على كشف المنديل عن هذه السفرة ، وأوثقنا بنفسه وأحسننا بلاء عند ربه. فليكشف عن هذه الآية حتى نراها ، ونحمد ربنا ، ونذكر باسمه ، ونأكل من رزقه الذي رزقنا؟ فقال الحواريون : يا روح الله وكلمته ، أنت أولانا بذلك ، وأحقنا بالكشف عنها ، فقام عيسى عليه‌السلام واستأنف وضوءا جديدا ، ثم دخل مصلاه ، فصلى كذلك ركعات ، ثم بكى بكاء طويلا ، ودعا الله أن يأذن له في الكشف عنها ، ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقا ، ثم انصرف وجلس إلى السفرة وتناول المنديل ، وقال : بسم الله خير الرازقين ، وكشف عن السفرة ، فإذا هو عليها بسمكة ضخمة مشوية ، ليس عليها بواسير ، ليس في جوفها شوك ، يسيل السمن منها سيلا ، قد نضّد بها بقول من كل صنف غير الكراث ، وعند رأسها خل ، وعند ذنبها ملح ، وحول البقول خمسة أرغفة ، على واحد منها زيتون ، وعلى الآخر تمرات ، وعلى الآخر خمس رمانات ، فقال شمعون رأس الحواريين لعيسى : يا روح الله

٢٠٥

وكلمته ، أمن طعام الدنيا هذا ، أم من طعام الجنة؟ فقال عيسى : أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات وتنتهوا عن تنقير المسائل؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب نزول هذه الآية؟ فقال له شمعون : لا وإله إسرائيل ما أردت بها سؤالا يا ابن الصديقة ، فقال عيسى عليه‌السلام : ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الجنة ، إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة ، فقال له : كن فكان أسرع من طرفة عين ، فكلوا مما سألتم باسم الله واحمدوا عليه ربكم ، يمدكم منه ويزدكم ، فإنه بديع قادر شاكر ، فقالوا : يا روح الله وكلمته ، إنا نحب ان يرينا الله آية في هذه الآية ، فقال عيسى : سبحان الله أما اكتفيتم بما رأيتم من هذه الآية حتى تسألوا فيها آية أخرى؟ ثم أقبل عيسى عليه‌السلام على السمكة ، فقال : يا سمكة عودي بإذن الله حية كما كنت ، فأحياها الله بقدرته ، فاضطربت وعادت بإذن الله حية طرية ، تلمظ كما يتلمظ الأسد ، تدور عيناها ، لها بصيص ، وعادت عليها بواسيرها ، ففزع القوم منها وانحازوا ، فلما رأى عيسى منهم ذلك قال : ما لكم تسألون الآية فإذا أراكموها ربكم كرهتموها؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون ، يا سمكة عودي بإذن الله كما كنت ، فعادت بإذن الله مشوية كما كانت في خلقها الأول ، فقالوا : يا عيسى كن أنت يا روح الله الذي تبدأ بالأكل منها ثم نحن بعد ، فقال عيسى : معاذ الله من ذلك ، يبدأ بالأكل من طلبها ، فلما رأى الحواريون وأصحابه امتناع عيسى منها ، خافوا أن يكون نزولها سخطة وفي أكلها مثلة ، فتحاموها ، فلما رأى ذلك عيسى منهم دعا لها الفقراء والزمنى وقال : كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم ، واحمدوا الله الذي أنزلها لكم فيكون مهنؤها لكم وعقوبتها على غيركم ، وافتتحوا أكلكم باسم الله واختتموه بحمد الله ، ففعلوا فأكل منها ألف وثلاثمائة إنسان بين رجل وامرأة ، يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ ، ونظر عيسى والحواريون فإذا ما عليها كهيئته إذ نزلت من السماء لم ينقص منها شيء ، ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون ، فاستغنى كل فقير أكل منها ، وبرىء كل زمن أكل منها ، فلم يزالوا أغنياء أصحاء حتى خرجوا من الدنيا ، وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سالت منها أشفارهم ، وبقيت حسرتها في قلوبهم إلى يوم الممات ، قال : وكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبل بنو إسرائيل إليها يسعون من كل مكان يزاحم بعضهم بعضا ، الأغنياء والفقراء ، والصغار والكبار ، والأصحاء والمرضى ، يركب بعضهم بعضا ، فلما رأى ذلك جعلها نوبا بينهم تنزل يوما ولا تنزل يوما ، فلبثوا على ذلك أربعين يوما تنزل عليهم غبا عند ارتفاع الضحى ، فلا تزال موضوعة يؤكل منها حتى إذا قاموا ، ارتفعت عنهم إلى جو السماء بإذن الله ، وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى تتوارى عنهم. قال : فأوحى الله إلى نبيه عيسى عليه‌السلام : أن اجعل رزقي في المائدة للفقراء واليتامى ، والزمنى دون الأغنياء من الناس ، وغمطوا ذلك حتى شكوا فيها في أنفسهم ، وشككوا فيها الناس ، وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر ، وأدرك الشيطان

٢٠٦

منهم حاجته وقذف وسواسه في قلوب الربانيين حتى قالوا لعيسى ، أخبرنا عن المائدة ونزولها من السماء أحق ، فإنه قد ارتاب بها منا بشر كثير؟ فقال عيسى عليه‌السلام : هلكتم وإله المسيح ، طلبتم المائدة إلى نبيكم أن يطلبها لكم إلى ربكم ، فلما أن فعل وأنزلها عليكم رحمة لكم ورزقا ، وأراكم فيها الآيات والعبر ، كذبتم بها ، وشككتم فيها ، فأبشروا بالعذاب فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله ، فأوحى الله إلى عيسى : إني آخذ المكذبين بشرطي فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين. قال : فلما أمسى المرتابون بها وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين ، فلما كان في آخر الليل ، مسخهم الله خنازير ، فأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات ، هذا أثر غريب جدا ، قطعه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة ، وقد جمعته أنا ليكون سياقه أتم وأكمل ، والله سبحانه وتعالى أعلم. وكل هذه الآثار دالة على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل أيام عيسى ابن مريم ، إجابة من الله لدعوته ، كما دل على ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم (قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) الآية.

وقد قال قائلون : إنها لم تنزل ، فروى ليث بن أبي سليم عن مجاهد في قوله : أنزل علينا مائدة من السماء ، قال : هو مثل ضربه الله ولم ينزل شيء ، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير (١) ، ثم قال ابن جرير : حدثنا الحارث ، حدثنا القاسم هو ابن سلام ، حدثنا حجاج عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : مائدة عليها طعام أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا ، فأبوا أن تنزل عليهم ، وقال أيضا : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن منصور بن زاذان عن الحسن أنه قال في المائدة : إنها لم تنزل ، وحدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد عن قتادة قال : كان الحسن يقول لما قيل لهم (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) قالوا : لا حاجة لنا فيها فلم تنزل ، وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن ، وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا يعرفه النصارى ، وليس هو في كتابهم ، ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما تتوفر الدواعي على نقله ، وكان يكون موجودا في كتابهم متواترا ، ولا أقل من الآحاد ، والله أعلم ، ولكن الذي عليه الجمهور أنها نزلت ، وهو الذي اختاره ابن جرير ، قال: لأن الله تعالى أخبر بنزولها في قوله تعالى (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) قال : ووعد الله ووعيده حق وصدق ، وهذا القول هو ـ والله أعلم ـ الصواب كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم.

وقد ذكر أهل التاريخ أن موسى بن نصير نائب بني أمية في فتوح بلاد المغرب ، وجد المائدة هنالك مرصعة باللآلئ وأنواع الجواهر ، فبعث بها إلى أمير المؤمنين الوليد بن

__________________

(١) هذا الأثر والآثار بعده رواها ابن جرير في تفسيره ٥ / ١٣٥.

٢٠٧

عبد الملك باني جامع دمشق ، فمات وهي في الطريق ، فحملت إلى أخيه سليمان بن عبد الملك الخليفة بعده ، فرآها الناس فتعجبوا منها كثيرا لما فيها من اليواقيت النفيسة والجواهر اليتيمة ، ويقال : إن هذه المائدة كانت لسليمان بن داود عليهما‌السلام ، فالله أعلم. وقد قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن عمران بن الحكم ، عن ابن عباس قال : قالت قريش للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك. قال «وتفعلون؟» قالوا نعم. قال فدعا ، فأتاه جبريل فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك : إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبا ، فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة. قال «بل باب التوبة والرحمة» ثم رواه أحمد وابن مردويه ، والحاكم في مستدركه من حديث سفيان الثوري به.

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١١٨)

هذا أيضا مما يخاطب الله به عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه‌السلام قائلا له يوم القيامة بحضرة من اتخذه وأمه إلهين من دون الله (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) وهذا تهديد للنصارى وتوبيخ وتقريع على رؤوس الأشهاد ، هكذا قاله قتادة وغيره ، واستدل قتادة على ذلك بقوله تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) وقال السدي : هذا الخطاب والجواب في الدنيا ، وقال ابن جرير : وكان ذلك حين رفعه إلى سماء الدنيا واحتج ابن جرير على ذلك بمعنيين [أحدهما] أن الكلام بلفظ المضي. [والثاني] قوله : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) و (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) (٢).

وهذان الدليلان فيهما نظر ، لأن كثيرا من أمور يوم القيامة ذكر بلفظ المضي ليدل على الوقوع والثبوت. ومعنى قوله (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) الآية ، التبري منهم ، ورد المشيئة فيهم إلى الله ، وتعليق ذلك على الشرط لا يقتضي وقوعه كما في نظائر ذلك من الآيات ، والذي قاله قتادة وغيره هو الأظهر ، والله أعلم ، أن ذلك كائن يوم القيامة ليدل على تهديد النصارى وتقريعهم وتوبيخهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة.

وقد روي بذلك حديث مرفوع ، رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله مولى

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٢٤٢.

(٢) انظر تفسير الطبري ٥ / ١٣٨ وفيه شرح للمعنيين المشار إليهما بأوضح مما هنا.

٢٠٨

عمر بن عبد العزيز ، وكان ثقة ، قال : سمعت أبا بردة يحدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا كان يوم القيامة ، دعي بالأنبياء وأممهم ، ثم يدعى بعيسى فيذكره الله نعمته عليه فيقرّ بها ، فيقول (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) الآية ، ثم يقول (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) فينكر أن يكون قال ذلك ، فيؤتى بالنصارى فيسألون فيقولون : نعم هو أمرنا بذلك. قال : فيطول شعر عيسى عليه‌السلام فيأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده ، فيجاثيهم بين يدي الله عزوجل مقدار ألف عام حتى ترفع عليهم الحجة ، ويرفع لهم الصليب ، وينطلق بهم إلى النار» وهذا حديث غريب عزيز.

وقوله (سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) هذا توفيق للتأدب في الجواب الكامل ، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان عن عمرو ، عن طاوس ، عن أبي هريرة قال : يلقّى عيسى حجته ، ولقاه الله تعالى في قوله (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) قال أبو هريرة ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : فلقاه الله (سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) إلى آخر الآية ، وقد رواه الثوري عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن طاوس بنحوه.

وقوله (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) أي إن كان صدر مني هذا فقد علمته يا رب ، فإنه لا يخفى عليك شيء ، فما قلته ولا أردته في نفسي ولا أضمرته ، ولهذا قال (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) بإبلاغه (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أي ما دعوتهم إلا إلى الذي أرسلتني به وأمرتني بإبلاغه (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أي هذا هو الذي قلت لهم. وقوله (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) أي كنت أشهد على أعمالهم حين كنت بين أظهرهم (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة قال : انطلقت أنا وسفيان الثوري إلى المغيرة بن النعمان ، فأملى على سفيان وأنا معه ، فلما قام انتسخت من سفيان فحدثنا قال : سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بموعظة فقال «يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله عزوجل حفاة ، عراة ، غرلا (١) (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم ، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فيقال : إن

__________________

(١) غرل : جمع أغرل ، وهو الذي لم يختن.

٢٠٩

هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» ورواه البخاري (١) عند هذه الآية عن أبي الوليد ، عن شعبة ، وعن محمد بن كثير ، عن سفيان الثوري ، كلاهما عن المغيرة بن النعمان به.

وقوله (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله عزوجل ، فإنه الفعال لما يشاء ، الذي لا يسأل عما يفعل ، وهم يسألون ، ويتضمن التبري من النصارى الذين كذبوا على الله وعلى رسوله ، وجعلوا لله ندا وصاحبة وولدا ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، وهذه الآية لها شأن عظيم ، ونبأ عجيب ، وقد ورد في الحديث : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام بها ليلة حتى الصباح يرددها.

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن فضيل ، حدثني فليت العامري ، عن جسرة العامرية ، عن أبي ذر رضي الله عنه ، قال : صلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة ، فقرأ بآية حتى أصبح ، يركع بها ويسجد بها (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فلما أصبح ، قلت : يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الآية ، حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها؟ قال «إني سألت ربي عزوجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها ، وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئا».

[طريق أخرى وسياق آخر] ـ قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، حدثنا قدامة بن عبد الله ، حدثتني جسرة بنت دجاجة أنها انطلقت معتمرة ، فانتهت إلى الربذة ، فسمعت أبا ذر يقول : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة من الليالي في صلاة العشاء ، فصلى بالقوم ، ثم تخلف أصحاب له يصلون ، فلما رأى قيامهم وتخلفهم ، انصرف إلى رحله ، فلما رأى القوم قد أخلوا المكان ، رجع إلى مكانه يصلي ، فجئت فقمت خلفه ، فأومأ إليّ بيمينه ، فقمت عن يمينه ، ثم جاء ابن مسعود فقام خلفي وخلفه ، فأومأ إليه بشماله فقام عن شماله ، فقمنا ثلاثتنا. يصلي كل واحد منا بنفسه ، ونتلو من القرآن ما شاء الله أن نتلو ، وقام بآية من القرآن يرددها حتى صلّى الغداة ، فلما أصبحنا اومأت إلى عبد الله بن مسعود ، أن سله ما أراد إلى ما صنع البارحة ، فقال ابن مسعود بيده (٣) : لا أسأله عن شيء ، حتى يحدث إليّ ، فقلت : بأبي وأمي ، قمت بآية من القرآن ومعك القرآن ، لو فعل هذا بعضنا لوجدنا عليه ، قال «دعوت لأمتي» ، قلت : فماذا أجبت أو ماذا رد عليك؟ قال «أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلعة تركوا الصلاة» قلت : أفلا أبشر الناس؟ قال «بلى» فانطلقت معنقا ، قريبا من قذفة بحجر ، فقال عمر : يا رسول الله إنك إن تبعث إلى الناس بهذا نكلوا عن العبادات ، فناداه أن «ارجع» فرجع ، وتلك الآية (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

__________________

(١) صحيح البخاري (تفسير سورة المائدة باب ١٣)

(٢) مسند أحمد ٥ / ١٤٩.

(٣) قال بيده : أشار.

٢١٠

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، أن بكر بن سوادة حدثه ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا قول عيسى (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فرفع يديه ، فقال «اللهم أمتي» وبكى ، فقال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد ـ وربك أعلم ـ فاسأله ما يبكيه ، فأتاه جبريل فسأله ، فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما قال وهو أعلم ، فقال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد فقل : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسين قال : حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا ابن هبيرة ، أنه سمع أبا تميم الجيشاني يقول : حدثني سعيد بن المسيب ، سمعت حذيفة بن اليمان يقول : غاب عنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما ، فلم يخرج حتى ظننا أن لن يخرج ، فلما خرج سجد سجدة ظننا أن نفسه قد قبضت فيها ، فلما رفع رأسه قال «إن ربي عزوجل استشارني في أمتي ماذا أفعل بهم؟ فقلت : ما شئت أي رب ، هم خلقك وعبادك ، فاستشارني الثانية فقلت له كذلك ، فقال لي : لا أخزيك في أمتك يا محمد ، وبشرني أن أول من يدخل الجنة من أمتي معي سبعون ألفا ، مع كل ألف سبعون ألفا ليس عليهم حساب. ثم أرسل إليّ فقال : ادع تجب وسل تعط ، فقلت لرسوله : أو معطيّ ربي سؤلي؟ فقال : ما أرسلني إليك إلا ليعطيك ، ولقد أعطاني ربي ولا فخر ، وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر ، وأنا أمشي حيا صحيحا ، وأعطاني أن لا تجوع أمتي ولا تغلب ، وأعطاني الكوثر ، وهو نهر في الجنة يسيل في حوضي ، وأعطاني العز والنصر والرعب يسعى بين يدي أمتي شهرا ، وأعطاني أني أول الأنبياء يدخل الجنة ، وطيب لي ولأمتي الغنيمة ، وأحل لنا كثيرا مما شدد على من قبلنا ، ولم يجعل علينا في الدين من حرج».

(قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٢٠)

يقول تعالى مجيبا لعبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه‌السلام ، فيما أنهاه إليه من التبري من النصارى الملحدين الكاذبين على الله وعلى رسوله ، ومن رد المشيئة فيهم إلى ربه عزوجل ، فعند ذلك يقول تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) قال الضحاك : عن ابن عباس يقول: يوم ينفع الموحدين توحيدهم ، (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي ماكثين فيها لا يحولون ولا يزولون ، رضي الله عنهم ورضوا عنه كما قال تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢] وسيأتي ما يتعلق بتلك الآية من الحديث ، وروى ابن أبي حاتم ها هنا حديثا عن أنس فقال : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا المحاربي عن ليث عن عثمان ، يعني ابن عمير ، أخبرنا اليقظان عن أنس مرفوعا ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ثم يتجلى لهم الرب جل

__________________

(١) مسند أحمد ٥ / ٣٩٣.

٢١١

جلاله ، فيقول : سلوني سلوني أعطكم ـ قال ـ فيسألونه الرضا فيقول رضاي فيقول رضاي أحلكم داري ، وأنا لكم كرامتي فسلوني أعطكم ، فيسألونه الرضا ـ قال ـ فيشهدهم أنه قد رضي عنهم سبحانه وتعالى».

وقوله (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي هذا الفوز الكبير الذي لا أعظم منه ، كما قال تعالى : (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) [الصافات : ٦١] وكما قال (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) [المطففين : ٢٦] وقوله (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي هو الخالق للأشياء ، المالك لها ، المتصرف فيها ، القادر عليها ، فالجميع ملكه وتحت قهره وقدرته ، وفي مشيئته ، فلا نظير له ، ولا وزير ، ولا عديل ، ولا والد ، ولا ولد ، ولا صاحبة ، ولا إله غيره ، ولا رب سواه ، قال ابن وهب : سمعت حيي بن عبد الله يحدث عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو ، قال آخر سورة أنزلت سورة المائدة.

[تمّت سورة المائدة]

٢١٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تفسير سورة الأنعام

قال العوفي وعكرمة وعطاء عن ابن عباس ، أنزلت سورة الأنعام بمكة. وقال الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، قال : نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة واحدة ، حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح. وقال سفيان الثوري ، عن ليث ، عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد ، قالت : نزلت سورة الأنعام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جملة ، وأنا آخذة بزمام ناقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة. وقال شريك ، عن ليث ، عن شهر ، عن أسماء قالت : نزلت سورة الأنعام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في مسير في زجل (١) من الملائكة ، وقد طبقوا ما بين السماء والأرض. وقال السدي ، عن مرة عن عبد الله ، قال : نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفا من الملائكة ، وروي نحوه من وجه آخر ، عن ابن مسعود. وقال الحاكم في مستدركه. حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ ، وأبو الفضل الحسن بن يعقوب العدل ، قالا : حدثنا محمد بن عبد الوهاب العبدي ، أخبرنا جعفر بن عون ، حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن السدي ، حدثنا محمد بن المنكدر ، عن جابر ، قال : لما نزلت سورة الأنعام ، سبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال «لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق» ثم قال صحيح على شرط مسلم. وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن معمر ، حدثنا إبراهيم بن درستويه الفارسي ، حدثنا أبو بكر بن أحمد بن محمد بن سالم ، حدثنا ابن أبي فديك ، حدثني عمر بن طلحة الرقاشي ، عن نافع بن مالك بن أبي سهيل ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة ، سد ما بين الخافقين ، لهم زجل بالتسبيح ، والأرض بهم ترتج» ورسول الله يقول «سبحان الله العظيم سبحان الله العظيم» ثم روى ابن مردويه ، عن الطبراني ، عن ابراهيم بن نائلة ، عن إسماعيل بن عمر ، عن يوسف بن عطية ، عن ابن عون ، عن نافع عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة وشيعها سبعون ألفا من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد» (٢).

__________________

(١) الزجل : صوت مرتفع.

(٢) هذا الحديث والآثار السابقة رواها السيوطي في الدر المنثور ٣ / ٣.

٢١٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) (٣)

يقول الله تعالى مادحا نفسه الكريمة وحامدا لها على خلقه السموات والأرض قرارا لعباده.

وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في ليلهم ونهارهم ، فجمع لفظ الظلمات ، ووحد لفظ النور ، لكونه أشرف ، كقوله تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) [النحل : ٤٨] وكما قال في آخر هذه السورة (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام : ١٥٣] ثم قال تعالى : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي ومع هذا كله كفر به بعض عباده ، وجعلوا له شريكا وعدلا ، واتخذوا له صاحبة وولدا ، تعالى الله عزوجل عن ذلك علوا كبيرا.

وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) يعني أباهم آدم ، الذي هو أصلهم ، ومنه خرجوا فانتشروا في المشارق والمغارب! وقوله (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) قال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) يعني الموت (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) يعني الآخرة ، وهكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ، والحسن وقتادة والضحاك ، وزيد بن أسلم وعطية والسدي ، ومقاتل بن حيان وغيرهم ، وقول الحسن في رواية عنه (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) وهو ما بين أن يخلق إلى أن يموت (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) وهو ما بين أن يموت إلى أن يبعث ، هو يرجع إلى ما تقدم ، وهو تقدير الأجل الخاص ، وهو عمر كل إنسان وتقدير الأجل العام ، وهو عمر الدنيا بكمالها ، ثم انتهائها وانقضائها وزوالها ، وانتقالها والمصير إلى الدار الآخرة ، وعن ابن عباس ومجاهد : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) يعني مدة الدنيا ، (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) يعني عمر الإنسان إلى حين موته ، وكأنه مأخوذ من قوله تعالى بعد هذا (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) [الأنعام : ٦٠] الآية ، وقال عطية : عن ابن عباس (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) يعني النوم ، يقبض فيه الروح ، ثم يرجع إلى صاحبه عند اليقظة ، (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) يعني أجل موت الإنسان ، وهذا قول غريب ، ومعنى قوله (عِنْدَهُ) أي لا يعلمه إلا هو ، كقوله (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) [الأعراف : ١٨٧] وكقوله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) [النازعات : ٤٢ ـ ٤٤].

وقوله تعالى : (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) قال السدي وغيره : يعني تشكون في أمر الساعة.

٢١٤

وقوله تعالى : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) اختلف مفسرو هذه الآية على أقوال ، بعد اتفاقهم على إنكار قول الجهمية الأول القائلين ، تعالى عن قولهم علوا كبيرا ، بأنه في كل مكان ، حيث حملوا الآية على ذلك ، فالأصح من الأقوال : إنه المدعو الله في السموات وفي الأرض ، أي يعبده ويوحده ويقرّ له بالإلهية من في السموات ومن في الأرض ، ويسمونه الله ويدعونه رغبا ورهبا ، إلا من كفر من الجن والإنس ، وهذه الآية على هذا القول ، كقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزخرف : ٨٤] أي هو إله من في السماء ، وإله من في الأرض ، وعلى هذا فيكون قوله (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) خبرا أو حالا [والقول الثاني] أن المراد أنه الله الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض ، من سر وجهر ، فيكون قوله يعلم ، متعلقا بقوله (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) تقديره ، وهو الله يعلم سركم وجهركم ، في السموات وفي الأرض ، ويعلم ما تكسبون ، [والقول الثالث] أن قوله (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ) وقف تام ، ثم استأنف الخبر ، فقال (وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) وهذا اختيار ابن جرير ، وقوله (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) أي جميع أعمالكم خيرها وشرها.

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (٦)

يقول تعالى مخبرا عن المشركين المكذبين المعاندين ، أنهم مهما أتتهم من آية أي دلالة ومعجزة وحجة من الدلالات ، على وحدانية الله وصدق رسله الكرام ، فإنهم يعرضون عنها ، فلا ينظرون إليها ولا يبالون بها ، قال الله تعالى : (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وهذا تهديد لهم ، ووعيد شديد على تكذيبهم بالحق ، بأنه لا بد أن يأتيهم خبر ما هم فيه من التكذيب ، وليجدن غبه وليذوقن وباله.

ثم قال تعالى واعظا لهم ومحذرا لهم ، أن يصيبهم من العذاب والنكال الدنيوي ما حل بأشباههم ونظرائهم ، من القرون السالفة الذين كانوا أشد منهم قوة ، وأكثر جمعا وأكثر أموالا وأولادا واستغلالا للأرض ، وعمارة لها ، فقال (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) أي من الأموال والأولاد والأعمار ، والجاه العريض والسعة والجنود ، ولهذا قال (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) أي شيئا بعد شيء (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) أي أكثرنا عليهم أمطار السماء وينابيع الأرض ، أي استدراجا وإملاء لهم (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أي بخطاياهم ، وسيئاتهم التي اجترحوها (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً

٢١٥

آخَرِينَ) أي فذهب الأولون كأمس الذاهب ، وجعلناهم أحاديث ، (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) أي جيلا آخر لنختبرهم ، فعملوا مثل أعمالهم ، فأهلكوا كإهلاكهم ، فاحذروا أيها المخاطبون أن يصيبكم مثل ما أصابهم ، فما أنتم بأعز على الله منهم ، والرسول الذي كذبتموه أكرم على الله من رسولهم ، فأنتم أولى بالعذاب ، ومعاجلة العقوبة منهم ، لو لا لطفه وإحسانه.

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (١١)

يقول تعالى مخبرا عن المشركين وعنادهم ومكابرتهم للحق ، ومباهتتهم ومنازعتهم فيه ، (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) أي عاينوه ورأوا نزوله ، وباشروا ذلك ، (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) وهذا كما قال تعالى مخبرا عن مكابرتهم للمحسوسات (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) [الحجر : ١٤ ، ١٥] وكقوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) [الطور : ٤٤].

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) أي ليكون معه نذيرا ، قال الله تعالى : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي لو نزلت الملائكة على ما هم عليه ، لجاءهم من الله العذاب ، كما قال الله تعالى : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) [الحجر : ٨] وقوله (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) الآية.

وقوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) أي ولو أنزلنا مع الرسول البشري ملكا ، أي لو بعثنا إلى البشر رسولا ملكيا ، لكان على هيئة الرجل ليمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ عنه ، ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر ، كما هم يلبسون على أنفسهم في قبول رسالة البشري ، كقوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٥] فمن رحمته تعالى بخلقه ، أنه يرسل إلى كل صنف من الخلائق رسلا منهم ، ليدعو بعضهم بعضا ، وليمكن بعضهم أن ينتفع ببعض ، في المخاطبة والسؤال ، كما قال تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ) [آل عمران : ١٦٤] الآية.

قال الضحاك عن ابن عباس في الآية يقول : لو أتاهم ملك ، ما أتاهم إلا في صورة رجل ، لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من النور ، (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) أي ولخلطنا

٢١٦

عليهم ما يخلطون ، وقال الوالبي عنه : ولشبهنا عليهم (١).

وقوله (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) هذه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تكذيب من كذبه من قومه ، ووعد له وللمؤمنين به بالنصرة والعاقبة الحسنة ، في الدنيا والآخرة.

ثم قال تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي فكروا في أنفسكم ، وانظروا ما أحل الله بالقرون الماضية ، الذين كذبوا رسله ، وعاندوهم ، من العذاب والنكال والعقوبة في الدنيا ، مع ما ادخر لهم من العذاب الأليم ، في الآخرة ، وكيف نجى رسله وعباده المؤمنين.

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) (١٦)

يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض ومن فيهما ، وأنه قد كتب على نفسه المقدسة الرحمة ، كما ثبت في الصحيحين ، من طريق الأعمش : عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله لما خلق الخلق ، كتب كتابا عنده فوق العرش ، إن رحمتي تغلب غضبي» (٢).

وقوله (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) هذه اللام هي الموطئة للقسم ، فأقسم بنفسه الكريمة ، ليجمعن عباده (إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) وهو يوم القيامة الذي لا ريب فيه ، أي لا شك فيه عند عباده المؤمنين ، فأما الجاحدون المكذبون ، فهم في ريبهم يترددون ، وقال ابن مردويه عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا عبيد الله بن أحمد بن عقبة ، حدثنا عباس بن محمد ، حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا محصن بن عتبة اليماني ، عن الزبير بن شبيب ، عن عثمان بن حاضر ، عن ابن عباس ، قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الوقوف بين يدي رب العالمين ، هل فيه ماء؟ قال والذي نفسي بيده إن فيه لماء ، إن أولياء الله ليردون حياض الأنبياء ، ويبعث الله تعالى سبعين ألف ملك ، في أيديهم عصي من نار ، يذودون الكفار عن حياض الأنبياء» ، هذا حديث غريب ، وفي الترمذي «إن لكل نبي حوضا ، وأرجو أن أكون

__________________

(١) الأثر في تفسير الطبري ٥ / ١٥٣.

(٢) صحيح البخاري (توحيد باب ١٥ و٢٢ و٢٨ و٥٥ وبدء الخلق باب ١) وصحيح مسلم (توبة حديث ١٤ ـ ١٦)

٢١٧

أكثرهم واردا» (١).

وقوله (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي يوم القيامة (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي لا يصدقون بالمعاد ، ولا يخافون شر ذلك اليوم ، ثم قال تعالى : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي كل دابة في السموات والأرض الجميع عباده وخلقه ، وتحت قهره وتصرفه وتدبيره ، لا إله إلا هو ، (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي السميع لأقوال عباده ، العليم بحركاتهم وضمائرهم وسرائرهم ، ثم قال تعالى لعبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الذي بعثه بالتوحيد العظيم وبالشرع القويم ، وأمره أن يدعو الناس إلى صراط الله المستقيم (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كقوله (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) [الزمر : ٦٤] والمعنى لا أتخذ وليا إلا الله وحده لا شريك له ، فإنه فاطر السموات والأرض ، أي خالقهما ومبدعهما ، على غير مثال سبق (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) أي وهو الرزاق لخلقه من غير احتياج إليهم ، كما قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] الآية ، وقرأ بعضهم هاهنا (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) (٢) أي لا يأكل.

وفي حديث سهيل بن صالح : عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : دعا رجل من الأنصار ، من أهل قباء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طعام ، فانطلقنا معه ، فلما طعم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغسل يديه ، قال «الحمد لله الذي يطعم ولا يطعم ، ومن علينا فهدانا وأطعمنا ، وسقانا من الشراب ، وكسانا من العري ، وكل بلاء حسن أبلانا الحمد لله غير مودع ربي ولا مكافئ ولا مكفور ، ولا مستغنى عنه ، الحمد لله الذي أطعمنا من الطعام ، وسقانا من الشراب ، وكسانا من العري ، وهدانا من الضلال ، وبصرنا من العمى ، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا ، الحمد لله رب العالمين» (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أي من هذه الأمة (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) يعني يوم القيامة (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) أي العذاب (يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) يعني رحمه‌الله (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) كقوله (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) [آل عمران : ١٨٥] والفوز حصول الربح ، ونفي الخسارة.

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ

__________________

(١) سنن الترمذي (قيامة باب ١٤) وفيه : «واردة» مكان «واردا».

(٢) أي «ولا يطعم» بفتح الياء والعين. وهي قراءة سعيد بن جبير ومجاهد والأعمش. (تفسير الطبري ٦ / ٣٩٧)

٢١٨

لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٢١)

يقول تعالى مخبرا : أنه مالك الضر والنفع ، وأنه المتصرف في خلقه بما يشاء ، لا معقب لحكمه ، ولا راد لقضائه ، (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) كقوله تعالى : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) [فاطر : ٢] الآية ، وفي الصحيح : أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول «اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد»(١) ولهذا قال تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) أي وهو الذي خضعت له الرقاب ، وذلت له الجبابرة ، وعنت له لوجوه ، وقهر كل شيء ، ودانت له الخلائق ، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه ، وعظمته وعلوه ، وقدرته على الأشياء ، واستكانت وتضاءلت بين يديه ، وتحت قهره وحكمه ، (وَهُوَ الْحَكِيمُ) أي في جميع أفعاله (الْخَبِيرُ) بمواضع الأشياء ومحالها ، فلا يعطي إلا من يستحق ، ولا يمنح إلا من يستحق.

ثم قال (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) أي من أعظم الأشياء شهادة (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي هو العالم بما جئتكم به ، وما أنتم قائلون لي ، (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) أي وهو نذير لكل من بلغه ، كقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود : ١٧] قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وكيع وأبو أسامة ، وأبو خالد ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب ، في قوله : (وَمَنْ بَلَغَ) من بلغه القرآن ، فكأنما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، زاد أبو خالد وكلمه.

ورواه ابن جرير (٢) من طريق أبي معشر : عن محمد بن كعب ، قال : من بلغه القرآن ، فقد أبلغه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال عبد الرزاق : عن معمر عن قتادة ، في قوله تعالى : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «بلغوا عن الله فمن بلغته آية من كتاب الله ، فقد بلغه أمر الله» وقال الربيع بن أنس : حق على من اتبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن يدعو كالذي دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن ينذر بالذي أنذر.

وقوله (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ) أيها المشركون (أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ) كقوله (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ)(قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).

ثم قال تعالى مخبرا عن أهل الكتاب : أنهم يعرفون هذا الذي جئتهم به ، كما يعرفون أبناءهم بما عندهم من الأخبار والأنباء ، عن المرسلين المتقدمين والأنبياء ، فإن الرسل كلهم

__________________

(١) صحيح البخاري (أذان باب ١٥٥ واعتصام باب ٣ ودعوات باب ١٧) وصحيح مسلم (صلاة حديث ١٩٤ ومساجد حديث ١٣٧ ـ ١٣٨)

(٢) تفسير الطبري ٥ / ١٦٢.

٢١٩

بشروا بوجود محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعته وصفته ، وبلده ومهاجره وصفة أمته ، ولهذا قال بعده (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي خسروا كل الخسارة (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشرت به الأنبياء ونوهت به في قديم الزمان وحديثه ثم قال (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) أي لا أظلم ممن تقوّل على الله ، فادعى أن الله أرسله ، ولم يكن أرسله ، ثم لا أظلم ممن كذب بآيات الله ، وحججه وبراهينه ودلالاته ، (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي لا يفلح هذا ولا هذا ، لا المفتري ولا المكذب.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٢٦)

يقول تعالى مخبرا عن المشركين (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) يوم القيامة ، فيسألهم عن الأصنام والأنداد ، التي كانوا يعبدونها من دونه ، قائلا لهم (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) كقوله تعالى في سورة القصص (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [القصص : ٦٢] وقوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) أي حجتهم وقال عطاء الخراساني عنه : أي معذرتهم ، وكذا قال قتادة. وقال ابن جريج ، عن ابن عباس : أي قيلهم وكذا قال الضحاك وقال عطاء الخراساني ، (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) بليتهم حين ابتلوا (إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ).

وقال ابن جرير : والصواب ثم لم يكن قيلهم عند فتنتنا إياهم ، اعتذارا عما سلف منهم من الشرك بالله ، (إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو يحيى الرازي ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن مطرف ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أتاه رجل فقال : يا ابن عباس ، سمعت الله يقول (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) قال أما قوله (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فإنهم رأوا أنه لا يدخل الجنة ، إلا أهل الصلاة ، فقالوا : تعالوا فلنجحد فيجحدون ، فيختم الله على أفواههم وتشهد أيديهم وأرجلهم ، ولا يكتمون الله حديثا ، فهل في قلبك الآن شيء؟ إنه ليس من القرآن إلا ونزل فيه شيء ولكن لا تعلمون وجهه.

وقال الضحاك عن ابن عباس : هذه في المنافقين ، وفيه نظر ، فإن هذه الآية مكية ، والمنافقون إنما كانوا بالمدينة ، والتي نزلت في المنافقين آية المجادلة (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً

٢٢٠