تفسير القرآن العظيم - ج ٣

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٣

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٩٥

موقوفا ، والله أعلم.

وقوله (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) أي في حال إحرامكم يحرم عليكم الاصطياد ، ففيه دلالة على تحريم ذلك فإذا اصطاد المحرم الصيد متعمدا ، أثم وغرم ، أو مخطئا ، غرم وحرم عليه أكله ، لأنه في حقه كالميتة ، وكذا في حق غيره من المحرمين والمحلين ، عند مالك والشافعي في أحد قوليه ، وبه يقول عطاء والقاسم وسالم وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وغيرهم ، فإن أكله أو شيئا منه فهل يلزمه جزاء ثان؟ فيه قولان للعلماء [أحدهما] نعم ، قال : عبد الرزاق عن ابن جريج ، عن عطاء قال : إن ذبحه ثم أكله فكفارتان ، وإليه ذهب طائفة. [والثاني] لا جزاء عليه في أكله ، نص عليه مالك بن أنس. قال أبو عمر بن عبد البر : وعلى هذا مذاهب فقهاء الأمصار وجمهور العلماء ، ثم وجهه أبو عمر بما لو وطئ ، ثم وطئ ، ثم وطئ قبل أن يحد ، فإنما عليه حد واحد ، وقال أبو حنيفة : عليه قيمة ما أكل. وقال أبو ثور : إذا قتل المحرم الصيد فعليه جزاؤه وحلال أكل ذلك الصيد ، إلا أنني أكرهه للذي قتله للخبر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أن يصد لكم» وهذا الحديث سيأتي بيانه ، وقوله بإباحته للقاتل غريب. وأما لغيره ففيه خلاف قد ذكرنا المنع عمن تقدم ، وقال آخرون بإباحته لغير القاتل سواء المحرمون والمحلون لهذا الحديث ، والله أعلم.

وأما إذا صاد حلال صيدا ، فأهداه إلى محرم ، فقد ذهب ذاهبون إلى إباحته مطلقا ، ولم يستفصلوا بين أن يكون قد صاده من أجله أم لا ، حكى هذا القول أبو عمر بن عبد البر ، عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة والزبير بن العوام وكعب الأحبار ومجاهد وعطاء في رواية ، وسعيد بن جبير ، وبه قال الكوفيون. قال ابن جرير (١) : حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، حدثنا بشر بن الفضل ، حدثنا سعيد عن قتادة أن سعيد بن المسيب حدثه عن أبي هريرة أنه سئل عن لحم صيد صاده حلال ، أيأكله المحرم؟ قال : فأفتاهم بأكله ، ثم لقي عمر بن الخطاب فأخبره بما كان من أمره ، فقال : لو أفتيتهم بغير هذا لأوجعت لك رأسك. وقال آخرون : لا يجوز أكل الصيد للمحرم بالكلية ، ومنعوا من ذلك مطلقا لعموم هذه الآية الكريمة.

وقال عبد الرزاق عن معمر ، عن ابن طاوس ، وعبد الكريم عن ابن أبي آسية عن طاوس ، عن ابن عباس أنه كره أكل الصيد للمحرم ، وقال : هي مبهمة يعني قوله (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) قال : وأخبرني معمر عن الزهري ، عن ابن عمر أنه كان يكره للمحرم أن يأكل من لحم الصيد على كل حال. قال معمر : وأخبرني أيوب عن نافع ، عن ابن عمر مثله ، قال ابن عبد البر : وبه قال طاوس وجابر بن زيد ، وإليه ذهب الثوري وإسحاق بن راهويه في

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٧٣.

١٨١

رواية ، وقد روي نحوه عن علي بن أبي طالب ، رواه ابن جرير من طريق سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب أن عليا كره أكل لحم الصيد للمحرم على كل حال.

وقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه في رواية والجمهور : إن كان الحلال قد قصد المحرم بذلك الصيد لم يجز للمحرم أكله لحديث الصعب بن جثامة أنه أهدى للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودّان ، فرده عليه ، فلما رأى ما في وجهه قال «إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم» وهذا الحديث مخرج في الصحيحين ، وله ألفاظ كثيرة ، قالوا : فوجهه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ظن أن هذا إنما صاده من أجله ، فرده لذلك ، فأما إذا لم يقصده بالاصطياد فإنه يجوز له الأكل منه لحديث أبي قتادة حين صاد حمار وحش ، وكان حلالا لم يحرم ، وكان أصحابه محرمين ، فتوقفوا في أكله ثم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «هل كان منكم أحد أشار إليها أو أعان في قتلها؟» قالوا : لا. قال «فكلوا» وأكل منها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذه القصة ثابتة أيضا في الصحيحين بألفاظ كثيرة.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد ، قالا : حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن عمرو بن أبي عمرو ، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال قتيبة في حديثه : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «صيد البر لكم حلال» قال سعيد ـ «وأنتم حرم ـ ما لم تصيدوه أو يصد لكم» ، وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي ، جميعا عن قتيبة. وقال الترمذي : لا نعرف للمطلب سماعا من جابر ، ورواه الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه من طريق عمرو بن أبي عمرو ، عن مولاه المطلب ، عن جابر ، ثم قال : وهذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس. وقال مالك (٢) رضي الله عنه ، عن عبد الله بن أبي بكر. عن عبد الله بن عامر بن ربيعة ، قال : رأيت عثمان بن عفان بالعرج وهو محرم في يوم صائف قد غطى وجهه بقطيفة أرجوان ، ثم أتى بلحم صيد ، فقال لأصحابه : كلوا ، فقالوا : أو لا تأكل أنت؟ فقال : إني لست كهيئتكم إنما صيد من أجلي (٣).

(قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) (١٠٢)

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ٣٦٢.

(٢) موطأ مالك (حج حديث ٨٤)

(٣) لم يكمل الحافظ ابن كثير تفسير الآيات ٩٧ ، ٩٨ ، ٩٩. فانظر تفسير الطبري ٥ / ٧٣ ـ ٨٠.

١٨٢

يقول تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ) يا محمد (لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ) أي يا أيها الإنسان (كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) يعني أن القليل الحلال النافع خير من الكثير الحرام الضار ، كما جاء في الحديث «ما قل وكفى خير مما كثر وألهى» وقال أبو القاسم البغوي في معجمه : حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا الحوطي ، حدثنا محمد بن شعيب ، حدثنا معان بن رفاعة عن أبي عبد الملك علي بن يزيد عن القاسم ، عن أبي أمامة أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري قال : يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقني مالا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قليل تؤدي شكره ، خير من كثير لا تطيقه» (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي يا ذوي العقول الصحيحة المستقيمة ، وتجنبوا الحرام ودعوه واقنعوا بالحلال واكتفوا به ، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، أي في الدنيا والآخرة.

ثم قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) هذا تأديب من الله تعالى لعباده المؤمنين ، ونهي لهم عن أن يسألوا عن أشياء مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها ، لأنها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم وشق عليهم سماعها ، كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا يبلغني أحد عن أحد شيئا ، إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» (١).

وقال البخاري (٢) : حدثنا منذر بن الوليد بن عبد الرحمن الجارودي ، حدثنا أبي ، حدثنا شعبة عن موسى بن أنس ، عن أنس بن مالك قال : خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط ، وقال فيها «لو تعلمون ما أعلم ، لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا». قال : فغطى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجوههم لهم حنين (٣) ، فقال رجل : من أبي؟ قال «فلان» فنزلت هذه الآية (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) رواه النضر وروح بن عبادة عن شعبة ، وقد رواه البخاري في غير هذا الموضع ، ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي من طرق عن شعبة بن الحجاج به.

وقال ابن جرير (٤) : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد عن قتادة في قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) الآية ، قال : فحدثنا أن أنس بن مالك حدثه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سألوه حتى أحفوه بالمسألة ، فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر ، فقال «لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم» فأشفق أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكون بين يدي أمر قد حضر ، فجعلت لا ألتفت يمينا ولا شمالا إلا وجدت كلا لافا رأسه في ثوبه يبكي ، فأنشأ رجل كان يلاحي فيدعى إلى غير أبيه ، فقال : يا نبي الله ، من أبي؟ قال «أبوك حذافة». قال:

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٣٩٦ وسنن أبي داود (أدب باب ٢٨)

(٢) صحيح البخاري (تفسير سورة المائدة باب ١١)

(٣) في البخاري : «خنين» بالخاء المعجمة. والخنين : نوع من البكاء دون الانتحاب. وهو خروج الصوت من الأنف.

(٤) تفسير الطبري ٥ / ٨٢.

١٨٣

ثم قام عمر ـ أو قال : فأنشأ عمر ـ فقال : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا عائذا بالله ـ أو قال : أعوذ بالله من شر الفتن ـ قال : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لم أر في الخير والشر كاليوم قط ، صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط» ، أخرجاه من طريق سعيد ، ورواه معمر عن الزهري ، عن أنس بنحو ذلك ، أو قريبا منه. قال الزهري : فقالت أم عبد الله بن حذافة : ما رأيت ولدا أعق منك قط ، أكنت تأمن أن تكون أمك قد قارفت ما قارف أهل الجاهلية ، فتفضحها على رؤوس الناس؟ فقال : والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته.

وقال ابن جرير (١) أيضا : حدثنا الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا قيس عن أبي حصين ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو غضبان ، محمار وجهه ، حتى جلس على المنبر فقام إليه رجل فقال : أين أبي؟ قال : «في النار» ، فقام آخر فقال : من أبي؟ فقال «أبوك حذافة» ، فقام عمر بن الخطاب فقال : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيا ، وبالقرآن إماما ، إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك ، والله أعلم من آباؤنا. قال : فسكن غضبه ، ونزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) الآية ، إسناده جيد ، وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من السلف ، منهم أسباط عن السدي أنه قال في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) قال : غضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما من الأيام ، فقام خطيبا فقال «سلوني فإنكم لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به» فقام إليه رجل من قريش من بني سهم يقال له عبد الله بن حذافة ، وكان يطعن فيه ، فقال : يا رسول الله ، من أبي؟ فقال : أبوك فلان ، فدعاه لأبيه ، فقام إليه عمر بن الخطاب ، فقبل رجله وقال : يا رسول الله ، رضينا بالله ربا ، وبك نبيا ، وبالإسلام دينا ، وبالقرآن إماما ، فاعف عنا عفا الله عنك ، فلم يزل به حتى رضي فيومئذ قال «الولد للفراش ، وللعاهر الحجر».

ثم قال البخاري (٢) : حدثنا الفضل بن سهل ، حدثنا أبو النضر ، حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا أبو الجويرية عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : كان قوم يسألون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم استهزاء ، فيقول الرجل : من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته : أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) حتى فرغ من الآية كلها ، تفرد به البخاري.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا منصور بن وردان الأسدي ، حدثنا علي بن عبد الأعلى عن أبيه ، عن أبي البختري وهو سعيد بن فيروز ، عن علي قال : لما نزلت هذه الآية (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) قالوا : يا رسول الله ، أفي كل عام؟ فسكت ، فقالوا :

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٨٣.

(٢) صحيح البخاري (تفسير سورة المائدة باب ١١)

(٣) مسند أحمد ١ / ١١٣.

١٨٤

أفي كل عام؟ فسكت ، قال : ثم قالوا : أفي كل عام؟ فقال «لا» ، ولو قلت : نعم لوجبت ولو وجبت لم استطعتم فأنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) الآية ، وكذا رواه الترمذي وابن ماجة من طريق منصور بن وردان به ، وقال الترمذي : غريب من هذا الوجه ، وسمعت البخاري يقول : أبو البختري لم يدرك عليا.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن إبراهيم بن مسلم الهجري ، عن أبي عياض ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله كتب عليكم الحج» فقال رجل : أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثا ، فقال «من السائل؟» فقال : فلان ، فقال «والذي نفسي بيده ، لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت عليكم ما أطقتموه ، ولو تركتموه لكفرتم» ، فأنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) حتى ختم الآية ، ثم رواه ابن جرير من طريق الحسين بن واقد عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة وقال : فقام محصن الأسدي ، وفي رواية من هذه الطريق عكاشة بن محصن ، وهو أشبه ، وإبراهيم بن مسلم الهجري ضعيف.

وقال ابن جرير (٢) أيضا : حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري ، حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أبي الغمر ، حدثنا ابن مطيع معاوية بن يحيى عن صفوان بن عمرو ، حدثني سليم بن عامر قال : سمعت أبا أمامة الباهلي يقول : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الناس ، فقال «كتب عليكم الحج» فقام رجل من الأعراب فقال : أفي كل عام؟ قال : فغلق كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأسكت ، وأغضب واستغضب ، ومكث طويلا ، ثم تكلم فقال «من السائل؟» فقال الأعرابي : أنا ذا ، فقال «ويحك ماذا يؤمنك أن أقول نعم؟ والله لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت لكفرتم ، ألا إنه إنما أهلك الذين من قبلكم أئمة الحرج ، والله لو أني أحللت لكم جميع ما في الأرض وحرمت عليكم منها موضع خف ، لوقعتم فيه» قال : فأنزل الله عند ذلك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) إلى آخر الآية.

في إسناده ضعف ، وظاهر الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته ، فالأولى الإعراض عنها وتركها ، وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد (٣) حيث قال: حدثنا حجاج قال : سمعت إسرائيل بن يونس ، عن الوليد بن أبي هاشم مولى الهمداني ، عن زيد بن زائد ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه «لا يبلغني أحد عن أحد شيئا ، فإني أحب أي أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» الحديث ، وقد رواه أبو داود والترمذي من حديث إسرائيل ، قال أبو داود عن الوليد ، وقال الترمذي عن إسرائيل عن

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٨٣.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٨٤.

(٣) مسند أحمد ١ / ٣٩٥ ـ ٣٩٦.

١٨٥

السدي ، عن الوليد بن أبي هاشم به ، ثم قال الترمذي : غريب من هذا الوجه.

وقوله تعالى : (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) أي وإن تسألوا عن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها حين ينزل الوحي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبين لكم (وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) ، ثم قال (عَفَا اللهُ عَنْها) أي عما كان منكم قبل ذلك (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ). وقيل : المراد بقوله (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) أي لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها ، فلعله قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق ، وقد ورد في الحديث «أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم ، فحرم من أجل مسألته» ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة فسألتم عن بيانها ، تبيت لكم حينئذ لاحتياجكم إليها ، (عَفَا اللهُ عَنْها) أي ما لم يذكره في كتابه فهو مما عفا عنه ، فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها ، وفي الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «ذروني ما تركتكم ، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم» (١) وفي الحديث الصحيح أيضا «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها».

ثم قال تعالى : (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) أي قد سأل هذه المسائل المنهي عنها قوم من قبلكم فأجيبوا عنها ، ثم لم يؤمنوا بها ، فأصبحوا بها كافرين أي بسببها ، أي بيّنت لهم فلم ينتفعوا بها لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد بل على وجه الاستهزاء والعناد. وقال العوفي : عن ابن عباس في الآية : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذن في الناس فقال «يا قوم كتب عليكم الحج» فقام رجل من بني أسد فقال : يا رسول الله ، أفي كل عام؟ فأغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم غضبا شديدا ، فقال «والذي نفسي بيده ، لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، وإذا لكفرتم ، فاتركوني ما تركتكم ، وإذا أمرتكم بشيء فافعلوا ، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه» فأنزل هذه الآية ، نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت عنه النصارى من المائدة ، فأصبحوا بها كافرين ، فنهى الله عن ذلك وقال : لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك ، ولكن انتظروا ، فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم بيانه ، رواه ابن جرير (٢).

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) قال : لما نزلت آية الحج ، نادى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الناس فقال «يا أيها الناس إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا» فقالوا : يا رسول الله ، أعاما

__________________

(١) مسند أحمد ٢ / ٢٤٧.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٨٤.

١٨٦

واحدا ، أم كل عام؟ فقال «لا بل عاما واحدا ، ولو قلت : كل عام لوجبت ، ولو وجبت لكفرتم». ثم قال الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) إلى قوله (ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) رواه ابن جرير (١). وقال خصيف ، عن مجاهد ، عن ابن عباس (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) قال : هي البحيرة والوصيلة والسائبة والحام ، ألا ترى أنه قال بعدها (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) ولا كذا ولا كذا ، قال : وأما عكرمة فقال : إنهم كانوا يسألونه عن الآيات فنهوا عن ذلك ، ثم قال (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) رواه ابن جرير (٢) ، يعني عكرمة رحمه‌الله أن المراد من هذا النهي عن سؤال وقوع الآيات كما سألت قريش أن يجري لهم أنهارا ، وأن يجعل لهم الصفا ذهبا وغير ذلك ، وكما سألت اليهود أن ينزل عليهم كتابا من السماء. وقد قال الله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) [الإسراء : ٥٩] وقال تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) [الأنعام : ١٠٩ ـ ١١٠ ـ ١١١].

(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (١٠٤)

قال البخاري (٣) : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، قال : البحيرة التي يمنع درها للطواغيت ، فلا يحلبها أحد من الناس ، والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء. قال : وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار ، كان أول من سيب السوائب» والوصيلة : الناقة البكر تبكر في أول نتاج إبل ، بل تثني بعد بأنثى ، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينها ذكر ، والحام : فحل الإبل يضرب الضراب المعدود ، فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه عن الحمل ، فلم يحمل عليه شيء ، وسموه الحامي ، وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث إبراهيم بن سعد به ، ثم قال البخاري : قال لي أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن الزهري ، قال : سمعت سعيدا يخبر بهذا. قال : وقال أبو

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٨٥.

(٣) صحيح البخاري (تفسير سورة المائدة باب ١٢)

١٨٧

هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحوه. ورواه ابن الهاد عن ابن شهاب ، عن سعيد ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال الحاكم : أراد البخاري أن يزيد بن عبد الله بن الهاد رواه عن عبد الوهاب بن بخت ، عن الزهري ، كذا حكاه شيخنا أبو الحجاج المزي في الأطراف ، وسكت ولم ينبه عليه ، وفيما قاله الحاكم نظر ، فإن الإمام أحمد وأبو جعفر بن جرير روياه من حديث الليث بن سعد ، عن ابن الهاد ، عن الزهري نفسه ، والله أعلم.

ثم قال البخاري (١) : حدثنا محمد بن أبي يعقوب أبو عبد الله الكرماني ، حدثنا حسان بن إبراهيم ، حدثنا يونس عن الزهري ، عن عروة أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا ، ورأيت عمرا يجر قصبه وهو أول من سيب السوائب» تفرد به البخاري.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا هناد ، حدثنا يونس بن بكير ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثنا محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لأكثم بن الجون : «يا أكثم ، رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار ، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ، ولا به منك». فقال أكثم : تخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا ، إنك مؤمن وهو كافر ، إنه أول من غير دين إبراهيم ، وبحر البحيرة ، وسيب السائبة ، وحمى الحامي» ، ثم رواه عن هناد ، عن عبدة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه أو مثله ، ليس هذان الطريقان في الكتب.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عمرو بن مجمع ، حدثنا إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر ، وإني رأيته يجر أمعاءه في النار» ، تفرد به أحمد من هذا الوجه. وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن زيد بن أسلم ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إني لأعرف أول من سيب السوائب ، وأول من غير دين إبراهيم عليه‌السلام» قالوا : من هو يا رسول الله؟ قال «عمرو بن لحي أخو بني كعب ، لقد رأيته يجر قصبه في النار ، تؤذي رائحته أهل النار ، وإني لأعرف أول من بحر البحائر» قالوا : ومن هو يا رسول الله؟ قال «رجل من بني مدلج ، كانت له ناقتان ، فجدع آذانهما ، وحرم ألبانهما ، ثم شرب ألبانهما بعد ذلك ، فلقد رأيته في النار وهما يعضانه بأفواههما ، ويطآنه بأخفافهما». فعمروا هذا هو ابن لحي بن قمعة ، أحد رؤساء خزاعة الذين ولوا البيت بعد جرهم وكان أول من غير دين إبراهيم الخليل ، فأدخل الأصنام إلى الحجاز ،

__________________

(١) صحيح البخاري (تفسير سورة المائدة باب ١٢)

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٨٧.

(٣) مسند أحمد ١ / ٤٤٦.

١٨٨

ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها والتقرب بها ، وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها ، كما ذكره الله تعالى في سورة الأنعام عند قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) [الأنعام : ١٣٦] إلى آخر الآيات في ذلك.

فأما البحيرة ، فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : هي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن ، نظروا إلى الخامس ، فإن كان ذكرا ذبحوه ، فأكله الرجال دون النساء ، وإن كان أنثى جدعوا آذانها ، فقالوا : هذه بحيرة. وذكر السدي وغيره قريبا من هذا ، وأما السائبة فقال مجاهد هي من الغنم نحو ما فسر من البحيرة إلا أنها ما ولدت من ولد كان بينها وبينه ستة أولاد ، كانت على هيئتها ، فإذا ولدت السابع ذكرا أو ذكرين ذبحوه ، فأكله رجالهم دون نسائهم وقال محمد بن إسحاق. السائبة هي الناقة إذا ولدت عشر إناث من الولد ليس بينهن ذكر ، سيبت فلم تركب ولم يجز وبرها ولم يحلب لبنها إلا الضيف. وقال أبو روق : السائبة كان الرجل إذا خرج فقضيت حاجته ، سيب من ماله ناقة أو غيرها ، فجعلها للطواغيت ، فما ولدت من شيء كان لها. وقال السدي : كان الرجل منهم إذا قضيت حاجته ، أو عوفي من مرض ، أو كثر ماله ، سيب شيئا من ماله للأوثان ، فمن عرض له من الناس عوقب بعقوبة في الدنيا.

وأما الوصيلة ، فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هي الشاة إذا نتجت سبعة أبطن ، نظروا إلى السابع ، فإن كان ذكرا أو أنثى وهو ميت اشترك فيه الرجال دون النساء ، وإن كان أنثى استحيوها ، وإن كان ذكرا وأنثى في بطن واحد استحيوهما وقالوا : وصلته أخته فحرمته علينا ، رواه ابن أبي حاتم. وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب (وَلا وَصِيلَةٍ) ، قال : فالوصيلة من الإبل كانت الناقة تبتكر بالأنثى ، ثم ثنت بأنثى فسموها الوصيلة ، ويقولون : وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر ، فكانوا يجدعونها لطواغيتهم ، وكذا روي عن الإمام مالك بن أنس رحمه‌الله تعالى. وقال محمد بن إسحاق : الوصيلة من الغنم إذا ولدت عشر إناث في خمسة أبطن ، توأمين توأمين في كل بطن سميت الوصيلة وتركت ، فما ولدت بعد ذلك من ذكر أو أنثى جعلت للذكور دون الإناث ، وإن كانت ميتة اشتركوا فيها.

وأما الحامي : فقال العوفي عن ابن عباس ، قال : كان الرجل إذا لقح فحله عشرا قيل : حام فاتركوه ، وكذا قال أبو روق وقتادة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : وأما الحام فالفحل من الإبل إذا ولد لولده قالوا : حمى هذا ظهره ، فلا يحملون عليه شيئا ولا يجزون له وبرا ، ولا يمنعونه من حمى رعي ، ومن حوض يشرب منه ، وإن كان الحوض لغير صاحبه. وقال ابن وهب : سمعت مالكا يقول : أما الحام فمن الإبل ، كان يضرب في الإبل فإذا انقضى ضرابه جعلوا عليه ريش الطواويس وسيبوه ، وقد قيل غير ذلك في تفسير هذه الآية.

وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي حاتم من طريق أبي إسحاق السبيعي ، عن أبي الأحوص الجشمي ، عن أبيه مالك بن نضلة ، قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خلقان من الثياب ، فقال

١٨٩

لي «هل لك من مال؟» فقلت : نعم. قال «من أي المال؟» قال : فقلت : من كل المال : من الإبل ، والغنم ، والخيل ، والرقيق ، قال «فإذا آتاك الله مالا فكثر عليك» ، ثم قال «تنتج إبلك وافية آذانها؟» قال : قلت : نعم ، وهل تنتج الإبل إلا كذلك؟ قال «فلعلك تأخذ الموسى فتقطع آذان طائفة منها وتقول : هذه بحيرة ، تشق آذان طائفة منها وتقول : هذه حرم» قلت : نعم. قال «فلا تفعل إن كل ما آتاك الله لك حل» ، ثم قال (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ). أما البحيرة ، فهي التي يجدعون آذانها فلا تنتفع امرأته ولا بناته ولا أحد من أهل بيته بصوفها ولا أوبارها ولا أشعارها ولا ألبانها ، فإذا ماتت اشتركوا فيها.

وأما السائبة ، فهي التي يسيبون لآلهتهم ويذهبون إلى آلهتهم فيسيبونها ، وأما الوصيلة ، فالشاة تلد ستة أبطن ، فإذا ولدت السابع جدعت وقطع قرنها ، فيقولون : قد وصلت فلا يذبحونها ، ولا تضرب ولا تمنع مهما وردت على حوض ، هكذا يذكر تفسير ذلك مدرجا في الحديث.

وقد روي وجه آخر عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص عوف بن مالك ، من قوله ، وهو أشبه ، وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة ، عن أبي الزعراء عمرو بن عمرو ، عن عمه أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة ، عن أبيه به ، وليس فيه تفسير هذه ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ، أي ما شرع الله هذه الأشياء ولا هي عنده قربة ، ولكن المشركين افتروا ذلك وجعلوه شرعا لهم ، وقربة يتقربون بها إليه ، وليس ذلك بحاصل لهم بل هو وبال عليهم (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي إذا دعوا إلى دين الله وشرعه وما أوجبه ، وترك ما حرمه ، قالوا : يكفينا ما وجدنا عليه الآباء والأجداد من الطرائق والمسالك. قال الله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً) أي لا يفهمون حقا ولا يعرفونه ولا يهتدون إليه ، فكيف يتبعونهم والحالة هذه ، لا يتبعهم إلا من هو أجهل منهم وأضل سبيلا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٠٥)

يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم ، ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم ، ومخبرا لهم أنه من أصلح أمره لا يضره فساد من فسد من الناس ، سواء كان قريبا منه أو بعيدا. قال العوفي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية يقول تعالى : إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته به من الحلال ، ونهيته عنه من الحرام ، فلا يضره من ضل بعده إذا عمل بما أمرته

١٩٠

به (١) ، كذا روى الوالبي عنه ، وهكذا قال مقاتل بن حيان ، فقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) نصب على الإغراء ، (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي فيجازي كل عامل بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وليس فيها دليل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذا كان فعل ذلك ممكنا.

وقد قال الإمام أحمد (٢) رحمه‌الله : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا زهير يعني ابن معاوية ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، حدثنا قيس قال : قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وإنكم تضعونها على غير موضعها ، وإني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه ، يوشك الله عزوجل أن يعمهم بعقابه». قال: وسمعت أبا بكر يقول : يا أيها الناس إياكم والكذب ، فإن الكذب مجانب للإيمان ، وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة ، وابن حبان في صحيحه ، وغيرهم من طرق كثيرة عن جماعة كثيرة ، عن إسماعيل بن أبي خالد به ، متصلا مرفوعا ، ومنهم من رواه عنه به موقوفا على الصديق ، وقد رجح رفعه الدار قطني وغيره ، وذكرنا طرقه والكلام عليه مطولا في مسند الصديق رضي الله عنه.

وقال أبو عيسى الترمذي (٣) : حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا عتبة بن أبي حكيم ، حدثنا عمرو بن جارية اللخمي عن أبي أمية الشعباني قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له : كيف تصنع في هذه الآية؟ قال : أية آية؟ قلت : قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ، ودع العوام ، فإن من ورائكم أياما ، الصابر فيهن مثل القابض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم» قال عبد الله بن المبارك : وزاد غير عتبة ، قيل : يا رسول الله ، أجر خمسين رجلا منا أو منهم؟ قال «بل أجر خمسين منكم». ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب صحيح ، وكذا رواه أبو داود من طريق ابن المبارك ، ورواه ابن ماجة وابن جرير وابن أبي حاتم عن عتبة بن أبي حكيم.

وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن الحسن أن ابن مسعود رضي الله عنه ، سأله رجل عن قول الله (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ، فقال : إن هذا ليس بزمانها ، إنها

__________________

(١) الأثر في تفسير الطبري ٥ / ٩٧.

(٢) مسند أحمد ١ / ٥.

(٣) سنن الترمذي (تفسير سورة المائدة باب ١٨)

١٩١

اليوم مقبولة ، ولكنه قد أوشك أن يأتي زمانها ، تأمرون فيصنع بكم كذا وكذا ، أو قال : فلا يقبل منكم ، فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل. ورواه أبو جعفر الرازي عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن ابن مسعود في قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَ) الآية ، قال : كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسا ، فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس ، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه ، فقال رجل من جلساء عبد الله : ألا أقوم فآمرهما بالمعروف ، وأنهاهما عن المنكر؟ فقال آخر إلى جنبه : عليك بنفسك ، فإن الله يقول (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) الآية. قال : فسمعها ابن مسعود ، فقال : مه لم يجيء تأويل هذه بعد ، إن القرآن أنزل حيث أنزل ، ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ، ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيسير ، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم ، ومنه آي يقع تأويلهن عند الساعة على ما ذكر من الساعة ، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من الحساب والجنة والنار ، فما دامت قلوبكم واحدة ، وأهواؤكم واحدة ، ولم تلبسوا شيعا ، ولم يذق بعضكم بأس بعض ، فأمروا وانهوا ، وإذا اختلفت القلوب والأهواء ، وألبستم شيعا ، وذاق بعضكم بأس بعض ، فامرؤ ونفسه ، وعند ذلك جاءنا تأويل هذه الآية ، ورواه ابن جرير(١).

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا شبابة بن سوار ، حدثنا الربيع بن صبيح ، عن سفيان بن عقال قال : قيل لابن عمر : لو جلست في هذه الأيام ، فلم تأمر ولم تنه ، فإن الله قال (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) فقال ابن عمر : إنها ليست لي ولا لأصحابي ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ألا فليبلغ الشاهد الغائب» فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب ، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم. وقال أيضا : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر وأبو عاصم ، قالا : حدثنا عوف عن سوار بن شبيب قال : كنت عند ابن عمر إذ أتاه رجل جليد العين شديد اللسان ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ، نفر ستة كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه ، وكلهم مجتهد لا يألو ، وكلهم بغيض إليه أن يأتي دناءة ، وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك ، فقال رجل من القوم : وأي دناءة تريد أكثر من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك؟ فقال رجل : إني لست إياك أسأل ، إنما أسأل الشيخ ، فأعاد على عبد الله الحديث فقال عبد الله : لعلك ترى ـ لا أبا لك ـ إني سآمرك أن تذهب فتقتلهم ، عظهم وانههم ، وإن عصوك فعليك بنفسك ، فإن الله عزوجل يقول (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) الآية.

وقال أيضا : حدثني أحمد بن المقدام ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، سمعت أبي ، حدثنا

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٩٦.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٩٥.

١٩٢

قتادة عن أبي مازن قال : انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة ، فإذا قوم من المسلمين جلوس ، فقرأ أحدهم هذه الآية (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَ) فقال أكثرهم : لم يجيء تأويل هذه الآية اليوم. وقال : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا ابن فضالة عن معاوية بن صالح ، عن جبير بن نفير قال : كنت في حلقة فيها أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإني لأصغر القوم ، فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقلت أنا : أليس الله يقول في كتابه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) فأقبلوا عليّ بلسان واحد ، وقالوا : تنزع آية من القرآن لا تعرفها ولا تدري ما تأويلها؟ فتمنيت أني لم أكن تكلمت ، وأقبلوا يتحدثون فلما حضر قيامهم قالوا : إنك غلام حدث السن ، وإنك نزعت آية ولا تدري ما هي ، وعسى أن تدرك ذلك الزمان ، إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بنفسك ، لا يضرك من ضل إذا اهتديت.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا علي بن سهل ، حدثنا ضمرة بن ربيعة قال : تلا الحسن هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) فقال الحسن : الحمد لله بها ، والحمد لله عليها ، ما كان مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلا وإلى جنبه منافق يكره عمله. وقال سعيد بن المسيب : إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر ، فلا يضرك من ضل إذا اهتديت ، رواه ابن جرير (٢). وكذا روي من طريق سفيان الثوري ، عن أبي العميس ، عن أبي البختري ، عن حذيفة مثله. وكذا قال غير واحد من السلف. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن خالد الدمشقي ، حدثنا الوليد ، حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب ، عن كعب في قوله (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قال : إذا هدمت كنيسة دمشق فجعلت مسجدا ، وظهر لبس العصب ، فحينئذ تأويل هذه الآية.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (١٠٨)

اشتملت هذه الآية الكريمة على حكم عزيز قيل إنه منسوخ ، رواه العوفي عن ابن عباس. وقال حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم : أنها منسوخة. وقال آخرون : وهم الأكثرون فيما قاله

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٩٨.

(٢) المصدر السابق.

١٩٣

ابن جرير ، بل هو محكم ، ومن ادعى نسخه فعليه البيان ، فقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ) هذا هو الخبر لقوله شهادة بينكم ، فقيل : تقديره شهادة اثنين حذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وقيل : دل الكلام على تقدير أن يشهد اثنان. وقوله تعالى : (ذَوا عَدْلٍ) وصف الاثنين بأن يكونا عدلين. وقوله (مِنْكُمْ) أي من المسلمين. قاله الجمهور. قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) قال : من المسلمين ، رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : وروي عن عبيدة وسعيد بن المسيب والحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر والسدي وقتادة ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم نحو ذلك. قال ابن جرير (١) : وقال آخرون : غير ذلك (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي من أهل الموصي ، وذلك قول روي عن عكرمة وعبيدة وعدة غيرهما.

وقوله (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سعيد بن عون ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس في قوله (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) قال : من غير المسلمين ، يعني أهل الكتاب ، ثم قال وروي عن عبيدة وشريح وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين ويحيى بن يعمر وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبي وإبراهيم النخعي وقتادة وأبي مجلز والسدي ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم ، نحو ذلك. وعلى ما حكاه ابن جرير عن عكرمة وعبيدة في قوله منكم ، أن المراد من قبيلة الموصي يكون المراد هاهنا (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أي من غير قبيلة الموصي. وروى ابن أبي حاتم مثله عن الحسن البصري والزهري رحمهما‌الله.

وقوله تعالى : (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي سافرتم (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) وهذان شرطان لجواز استشهاد الذميين عند فقد المؤمنين أن يكون ذلك في سفر ، وأن يكون في وصية ، كما صرح بذلك شريح القاضي. قال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا أبو معاوية ووكيع ، قالا : حدثنا الأعمش عن إبراهيم ، عن شريح قال : لا تجوز شهادة اليهود والنصارى إلا في سفر ، ولا تجوز في سفر إلا في الوصية ، ثم رواه عن أبي كريب ، عن أبي بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق السبيعي قال : قال شريح فذكر مثله. وقد روي نحوه عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه‌الله تعالى ، وهذه المسألة من أفراده ، وخالفه الثلاثة فقالوا : لا يجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين ، وأجازها أبو حنيفة فيما بين بعضهم بعضا.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري قال : مضت السنة أنه لا تجوز شهادة الكافر في حضر ولا سفر ، إنما هي في

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ١٠٢.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ١٠٧.

١٩٤

المسلمين. وقال ابن زيد : نزلت هذه الآية في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام ، وذلك في أول الإسلام ، والأرض حرب ، والناس كفار ، وكان الناس يتوارثون بالوصية ثم نسخت الوصية ، وفرضت الفرائض وعمل الناس بها ، رواه ابن جرير ، وفي هذا نظر ، والله أعلم. وقال ابن جرير : اختلف في قوله (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) هل المراد به أن يوصي إليهما أو يشهدهما؟ على قولين [أحدهما] أن يوصي إليهما ، كما قال محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط قال : سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآية. قال : هذا رجل سافر ومعه مال ، فأدركه قدره ، فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته ، وأشهد عليهما عدلين من المسلمين ، رواه ابن أبي حاتم وفيه انقطاع. [والقول الثاني] أنهما يكونان شاهدين ، وهو ظاهر سياق الآية الكريمة فإن لم يكن وصي ثالث معهما ، اجتمع فيهما الوصفان : الوصاية والشهادة ، كما في قصة تميم الداري وعدي بن بداء ، كما سيأتي ذكرهما آنفا إن شاء الله وبه التوفيق.

وقد استشكل ابن جرير كونهما شاهدين قال : لأنا لا نعلم حكما يحلف فيه الشاهد ، وهذا لا يمنع الحكم الذي تضمنته هذه الآية الكريمة ، وهو حكم مستقل بنفسه لا يلزم أن يكون جاريا على قياس جميع الأحكام ، على أن هذا حكم خاص ، بشهادة خاصة ، في محل خاص ، وقد اغتفر فيه من الأمور ما لم يغتفر في غيره ، فإذا قامت قرينة الريبة ، حلف هذا الشاهد بمقتضى ما دلت عليه هذه الآية الكريمة.

وقوله تعالى (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) قال العوفي ، عن ابن عباس ، يعني صلاة العصر ، وكذا قال سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وقتادة وعكرمة ومحمد بن سيرين. وقال الزهري: يعني صلاة المسلمين. وقال السدي ، عن ابن عباس : يعني صلاة أهل دينهما. وروي عن عبد الرزاق ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة. وكذا قال إبراهيم وقتادة وغير واحد. والمقصود أن يقام هذان الشاهدان بعد صلاة اجتمع الناس فيها بحضرتهم (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) أي فيحلفان بالله (إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي إن ظهرت لكم منهما ريبة أنهما خانا أو غلا ، فيحلفان حينئذ بالله (لا نَشْتَرِي بِهِ) أي بأيماننا ، قاله مقاتل بن حيان (ثَمَناً) أي لا نعتاض عنه بعوض قليل من الدنيا الفانية الزائلة (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي ولو كان المشهود عليه قريبا لنا لا نحابيه (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) أضافها إلى الله تشريفا لها وتعظيما لأمرها ، وقرأ بعضهم (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) مجرورا على القسم رواها ابن جرير ، عن عامر الشعبي ، وحكي عن بعضهم أنه قرأها (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) والقراءة الأولى هي المشهورة (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) أي إن فعلنا شيئا من ذلك من تحريف الشهادة أو تبديلها أو تغييرها أو كتمها بالكلية.

ثم قال تعالى : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) أي فإن اشتهر وظهر وتحقق من الشاهدين الوصيين أنهما خانا أو غلا شيئا من المال الموصى به إليهما ، وظهر عليهما بذلك

١٩٥

(فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) هذه قراءة الجمهور (١) (اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) وروي عن علي وأبي الحسن البصري أنهم قرءوها (اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) (٢) وروى الحاكم في المستدرك من طريق إسحاق بن محمد الفروي عن سليمان بن بلال عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن عبيد الله بن أبي رافع ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) ، ثم قال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه. وقرأ بعضهم ومنهم ابن عباس من الذين استحق عليهم الأولين. وقرأ الحسن من الذين استحق عليهم الأولان حكاه ابن جرير (٣) ، فعلى قراءة الجمهور يكون المعنى بذلك أي متى تحقق ذلك بالخبر الصحيح على خيانتهما ، فليقم اثنان من الورثة المستحقين للتركة ، وليكونا من أولى من يرث ذلك المال (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) أي لقولنا أنهما خانا ، أحق وأصح وأثبت من شهادتهما المتقدمة (وَمَا اعْتَدَيْنا) أي فيما قلنا فيهما من الخيانة ، (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي إن كنا قد كذبنا عليهما ، وهذا التحليف للورثة والرجوع إلى قولهما والحالة هذه ، كما يحلف أولياء المقتول إذا ظهر لوث (٤) في جانب القاتل ، فيقسم المستحقون على القاتل فيدفع برمته إليهم كما هو مقرر في باب القسامة من الأحكام.

وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، فقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسين بن زياد ، حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق ، عن أبي النضر ، عن باذان يعني أبا صالح مولى أم هانئ بنت أبي طالب ، عن ابن عباس ، عن تميم الداري في هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) قال : برىء الناس منها غيري وغير عدي بن بداء ، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام ، فأتيا الشام لتجارتهما ، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة ، معه جام (٥) من فضة يريد به الملك ، وهو أعظم تجارته ، فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله. قال تميم : فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ، واقتسمناه أنا وعدي ، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا ، وفقدوا الجام ، فسألونا عنه ، قلنا : ما ترك غير هذا وما دفع إلينا غيره. قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، تأثمت من ذلك ، فأتيت أهله ، فأخبرتهم

__________________

(١) أي : «استحق» بالبناء للمفعول ، بضمّ التاء. قال الطبري : فقرأ ذلك قراء الحجاز والعراق والشام.

(٢) أي بفتح التاء من «استحق». قال الطبري ورويت عن علي وأبيّ بن كعب والحسن البصري.

(٣) تفسير الطبري ٥ / ١١٩. أي بفتح التاء من «استحقّ».

(٤) اللوث : أن يشهد شاهد واحد على إقرار المقتول قبل أن يموت أن فلانا قتلني ، أو يشهد شاهدان على ذلك على عوادة بينهما.

(٥) الجام : إناء.

١٩٦

الخبر ، ودفعت إليهم خمسمائة درهم ، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها ، فوثبوا عليه ، فأمرهم النبي أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه ، فحلف ، فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) إلى قوله (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم ، فحلفا ، فنزعت الخمسمائة من عدي بن بدّاء ، وهكذا رواه أبو عيسى الترمذي وابن جرير (١) ، كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني ، عن محمد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق به ، فذكره ، وعنده : فأتوا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألهم البينة ، فلم يجدوا ، فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه ، فحلف ، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا ، فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء ، ثم قال : هذا حديث غريب ، وليس إسناده بصحيح ، وأبو النضر الذي روى عنه محمد بن إسحاق هذا الحديث ، هو عندي محمد بن السائب الكلبي ، يكنى أبا النضر ، وقد تركه أهل العلم بالحديث ، وهو صاحب التفسير ، سمعت محمد بن إسماعيل يقول : محمد بن السائب الكلبي يكنى أبا النضر ، ثم قال : ولا نعرف لأبي النضر رواية عن أبي صالح مولى أم هانئ.

وقد روي عن ابن عباس شيء من هذا على الاختصار من غير هذا الوجه ، حدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا يحيى بن آدم عن ابن أبي زائدة ، عن محمد بن أبي القاسم ، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء ، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم ، فلما قدما بتركته ، فقدوا جاما من فضة مخوّصا بالذهب ، فأحلفهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووجد الجام بمكة ، فقيل : اشتريناه من تميم وعدي ، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ، وأن الجام لصاحبهم ، وفيهم نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) الآية (٢) ، وكذا رواه أبو داود (٣) عن الحسن بن علي عن يحيى بن آدم به ، ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، وهو حديث ابن أبي زائدة ، ومحمد بن أبي القاسم كوفي ، قيل : إنه صالح الحديث.

وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من التابعين منهم عكرمة ومحمد بن سيرين وقتادة ، وذكروا أن التحليف كان بعد صلاة العصر ، رواه ابن جرير ، وكذا ذكرها مرسلة مجاهد والحسن والضحاك ، وهذا يدل على اشتهارها في السلف وصحتها ، ومن الشواهد لصحة هذه القصة أيضا ما رواه أبو جعفر بن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا هشيم قال : أخبرنا زكريا عن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه ، قال : فحضرته الوفاة ولم يجد أحدا

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ١١٦.

(٢) رواه الطبري في تفسيره ٥ / ١١٥ ـ ١١٦.

(٣) سنن أبي داود (أقضية باب ١٩)

١٩٧

من المسلمين يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب ، قال : فقدما الكوفة ، فأتيا الأشعري يعني أبا موسى الأشعري رضي الله عنه ، فأخبراه ، وقدما الكوفة بتركته ووصيته ، فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ، ولا كذبا ، ولا بدلا ، ولا كتما ، ولا غيرا ، وأنها لوصية الرجل وتركته. قال: فأمضى شهادتها ، ثم رواه عن عمرو بن علي الفلاس ، عن أبي داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن مغيرة الأزرق ، عن الشعبي أن أبا موسى قضى بدقوقا ، وهذان إسنادان صحيحان إلى الشعبي ، عن أبي موسى الأشعري ، فقوله : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الظاهر ـ والله أعلم ـ أنه إنما أراد بذلك قصة تميم وعدي بن بداء ، وقد ذكروا أن إسلام تميم بن أوس الداري رضي الله عنه ، كان سنة تسع من الهجرة ، فعلى هذا يكون هذا الحكم متأخرا يحتاج مدعي نسخه إلى دليل فاصل في هذا المقام ، والله أعلم.

وقال أسباط عن السدي في الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) قال : هذا في الوصية عند الموت ، يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ماله وما عليه ، قال : هذا في الحضر (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) في السفر (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) هذا الرجل يدركه الموت في سفره ، وليس بحضرته أحد من المسلمين ، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس ، فيوصي إليهما ويدفع إليهما ميراثه ، فيقبلان به ، فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا ما لصاحبهم ، تركوهما ، وإن ارتابوا ، رفعوهما إلى السلطان ، فذلك قوله تعالى : (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ) قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه : كأني أنظر إلى العلجين حتى انتهى بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره ، ففتح الصحيفة ، فأنكر أهل الميت وخوفوهما ، فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر ، فقلت : إنهما لا يباليان صلاة العصر ، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما ، فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما فيحلفان بالله لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ، ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ، أن صاحبهم بهذا أوصى ، وأن هذه لتركته ، فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا : إنكما إن كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما ، ولم تجز لكما شهادة وعاقبتكما ، فإذا قال لهما ذلك ف (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) رواه ابن جرير.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا هشيم ، أخبرنا مغيرة عن إبراهيم وسعيد بن جبير أنهما قالا في هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) الآية ، قالا : إذا حضر الرجل الوفاة في سفر فليشهد رجلين من المسلمين ، فإن لم يجد رجلين من المسلمين

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ١١١.

١٩٨

فرجلين من أهل الكتاب ، فإذا قدما بتركته فإن صدقهما الورثة قبل قولهما ، وإن اتهموهما حلفا بعد صلاة العصر ، بالله ما كتمنا ولا كذبنا ولا خنا ولا غيرنا ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية : فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد العصر : بالله ما اشترينا بشهادتنا ثمنا قليلا ، فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما قام رجلان من الأولياء فحلفا : بالله إن شهادة الكافرين باطلة وإنا لم نعتد ، فذلك قوله تعالى : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) يقول : إن اطلع على أن الكافرين كذبا (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) يقول : من الأولياء فحلفا بالله إن شهادة الكافرين باطلة ، وإنا لم نعتد ، فترد شهادة الكافرين وتجوز شهادة الأولياء ، وهكذا روى العوفي عن ابن عباس ، رواهما ابن جرير ، وهكذا قرر هذا الحكم على مقتضى هذه الآية غير واحد من أئمة التابعين والسلف رضي الله عنهم ، وهو مذهب الإمام أحمد رحمه‌الله.

وقوله (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) أي شرعية هذا الحكم على هذا الوجه المرضي من تحليف الشاهدين الذميين ، واستريب بهما أقرب إلى إقامتهما الشهادة على الوجه المرضي. وقوله (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) أي يكون الحامل لهم على الإتيان بها على وجهها هو تعظيم الحلف بالله ومراعاة جانبه وإجلاله ، والخوف من الفضيحة بين الناس إن ردت اليمين على الورثة ، فيحلفون ويستحقون ما يدعون ، ولهذا قال (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) ، ثم قال (وَاتَّقُوا اللهَ) أي في جميع أموركم ، (وَاسْمَعُوا) أي وأطيعوا ، (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته.

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) (١٠٩)

هذا إخبار عما يخاطب الله به المرسلين يوم القيامة عما أجيبوا به من أممهم الذين أرسلهم إليهم ، كما قال تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف : ٦] ، وقال تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٢ ـ ٩٣] ، وقول الرسل (لا عِلْمَ لَنا) ، قال مجاهد والحسن البصري والسدي : إنما قالوا ذلك من هول ذلك اليوم. قال عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن الأعمش ، عن مجاهد (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) فيفزعون فيقولون (لا عِلْمَ لَنا) ، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا حكام ، حدثنا عنبسة قال : سمعت شيخا يقول : سمعت الحسن يقول في قوله (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) الآية ، قال : من هول ذلك اليوم (١).

وقال أسباط عن السدي (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا) ذلك أنهم نزلوا منزلا ذهلت فيه العقول فلما سئلوا قالوا (لا عِلْمَ لَنا) ثم نزلوا منزلا آخر ، فشهدوا

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ١٢٦.

١٩٩

على قومهم ، رواه ابن جرير (١) ، ثم قال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا الحجاج عن ابن جريج قوله (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) أي ماذا عملوا بعدكم وماذا أحدثوا بعدكم؟ قالوا (لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) يقولون للرب عزوجل : لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا ، رواه ابن جرير (٢) ، ثم اختاره على هذه الأقوال الثلاثة ، ولا شك أنه قول حسن ، وهو من باب التأدب مع الرب جل جلاله ، أي لا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء ، فنحن وإن كنا أجبنا وعرفنا من أجابنا ، ولكن منهم من كنا إنما نطلع على ظاهره لا علم لنا بباطنه ، وأنت العليم بكل شيء ، المطلع على كل شيء ، فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا علم ، فإنك (أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) (١١١)

يذكر تعالى ما امتنّ به على عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه‌السلام مما أجراه على يديه من المعجزات الباهرات وخوارق العادات ، فقال (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ) أي في خلقي إياك من أم بلا ذكر ، وجعلي إياك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتي على الأشياء ، (وَعَلى والِدَتِكَ) حيث جعلتك لها برهانا على براءتها مما نسبه الظالمون والجاهلون إليها من الفاحشة ، (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) وهو جبريل عليه‌السلام ، وجعلتك نبيا داعيا إلى الله في صغرك وكبرك ، فأنطقتك في المهد صغيرا ، فشهدت ببراءة أمك من كل عيب ، واعترفت لي بالعبودية ، وأخبرت عن رسالتي إياك ودعوت إلى عبادتي ، ولهذا قال (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) أي تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك وضمّن تكلم تدعو ، لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب.

وقوله (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي الخط والفهم (وَالتَّوْراةَ) وهي المنزلة على موسى بن عمران الكليم ، وقد يرد لفظ التوراة في الحديث ، ويراد به ما هو أعم من ذلك. وقوله (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) أي تصوره وتشكله على هيئة الطائر بإذني لك

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ١٢٥.

(٢) هذا الأثر والذي قبله رواهما ابن جرير ٥ / ١٢٦.

٢٠٠