تفسير القرآن العظيم - ج ٣

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٣

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٩٥

وتعملوا بما فيها ، ومما فيها الأمر باتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإيمان بمبعثه ، والاقتداء بشريعته ، ولهذا قال ليث بن أبي سليم عن مجاهد : في قوله (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) : يعني القرآن العظيم ، وقوله (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) تقدم تفسيره ، (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي فلا تحزن عليهم ، ولا يهيدنّك ذلك منهم ، ثم قال (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) وهم المسلمون ، (وَالَّذِينَ هادُوا) وهم حملة التوراة ، (وَالصَّابِئُونَ) لما طال الفصل حسن العطف بالرفع ، والصابئون طائفة بين النصارى والمجوس ليس لهم دين ، قاله مجاهد ، وعنه : بين اليهود والمجوس ، وقال سعيد بن جبير : بين اليهود والنصارى ، وعن الحسن والحكم : إنهم كالمجوس ، وقال قتادة : هم قوم يعبدون الملائكة ، ويصلون إلى غير القبلة ، ويقرءون الزبور.

وقال وهب بن منبه : هم قوم يعرفون الله وحده ، وليست لهم شريعة يعملون بها ، ولم يحدثو كفرا ، وقال ابن وهب : أخبرني ابن أبي الزناد عن أبيه ، قال : الصابئون هم قوم مما يلي العراق ، وهم بكوثى ، وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ، ويصومون كل سنة ثلاثين يوما ، ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات ، وقيل غير ذلك ، وأما النصارى فمعروفون وهم حملة الإنجيل ، والمقصود أن كل فرقة آمنت بالله واليوم الآخر وهو الميعاد والجزاء يوم الدين ، وعملت عملا صالحا ، ولا يكون ذلك كذلك حتى يكون موافقا للشريعة المحمدية بعد إرسال صاحبها المبعوث إلى جميع الثقلين فمن اتصف بذلك فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه ، ولا على ما تركوا وراء ظهورهم ، ولا هم يحزنون ، وقد تقدم الكلام على نظيرتها في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا.

(لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (٧١)

يذكر تعالى أنه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل على السمع والطاعة لله ولرسوله ، فنقضوا تلك العهود والمواثيق واتبعوا آراءهم وأهواءهم ، وقدموها على الشرائع ، فما وافقهم منها قبلوه وما خالفهم ردوه ، ولهذا قال تعالى : (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي وحسبوا أن لا يترتب لهم شر على ما صنعوا ، فترتب ، وهو أنهم عموا عن الحق وصموا فلا يسمعون حقا ولا يهتدون إليه ، ثم تاب الله عليهم ، أي مما كانوا فيه ، ثم (عَمُوا وَصَمُّوا) أي بعد ذلك ، (كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي مطلع عليهم وعليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية منهم

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ

١٤١

رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ(٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٧٥)

يقول تعالى حاكما بتكفير فرق النصارى من الملكية واليعقوبية والنسطورية ، ممن قال منهم : بأن المسيح هو الله ، تعالى الله عن قولهم وتنزه وتقدس علوا كبيرا ، هذا وقد تقدم لهم أن المسيح عبد الله ورسوله ، وكان أول كلمة نطق وهو صغير في المهد أن قال : إني عبد الله ، ولم يقل أنا الله ولا ابن الله ، بل قال (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) إلى أن قال (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) [مريم : ٣٠ ـ ٣٦] وكذلك قال لهم في حال كهولته ونبوته آمرا لهم بعبادة ربه وربهم ، وحده لا شريك له ، ولهذا قال تعالى : (وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) أي فيعبد معه غيره (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ) أي فقد أوجب له النار وحرم عليه الجنة كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨]. وقال تعالى : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) [الأعراف : ٥٠] ، وفي الصحيح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث مناديا ينادي في الناس : إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة ، وفي لفظ : مؤمنة ، وتقدم في أول سورة النساء عند قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ، حديث يزيد بن بابنوس عن عائشة : الدواوين ثلاثة ، فذكر منه ديوانا لا يغفره الله ، وهو الشرك بالله ، قال الله تعالى : (مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) ، والحديث في مسند أحمد ، ولهذا قال تعالى إخبارا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أي وما له عند الله ناصر ولا معين ولا منقذ مما هو فيه.

وقوله (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسن الهسنجاني ، حدثنا سعيد بن الحكم بن أبي مريم ، حدثنا الفضل ، حدثني أبو صخر في قول الله تعالى (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) قال : هو قول اليهود عزير ابن الله ، وقول النصارى : المسيح ابن الله ، فجعلوا الله ثالث ثلاثة ، وهذا قول غريب في تفسير الآية أن المراد بذلك طائفتا اليهود والنصارى ، والصحيح أنها أنزلت في النصارى خاصة ، قاله مجاهد وغير واحد ، ثم اختلفوا في ذلك فقيل : المراد بذلك كفارهم في قولهم بالأقانيم الثلاثة : وهو أقنوم الأب ، وأقنوم الابن ، وأقنوم الكلمة المنبثقة من الأب إلى الابن ، تعالى الله عن قولهم علوا

١٤٢

كبيرا ، قال ابن جرير وغيره : والطوائف الثلاثة من الملكية واليعقوبية والنسطورية تقول بهذه الأقانيم ، وهم مختلفون فيها اختلافا متباينا ليس هذا موضع بسطه ، وكل فرقة منهم تكفر الأخرى ، والحق أن الثلاثة كافرة (١).

وقال السدي وغيره : نزلت في جعلهم المسيح وأمه إلهين مع الله ، فجعلوا الله ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار ، قال السدي : وهي كقوله تعالى في آخر السورة (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ) [المائدة : ١١٦] (٢) ، وهذا القول هو الأظهر ـ والله أعلم ـ قال الله تعالى : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) أي ليس متعددا بل هو وحده لا شريك له ، إله جميع الكائنات وسائر الموجودات ، ثم قال تعالى متوعدا لهم ومتهددا (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) أي من هذا الافتراء والكذب (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي في الآخرة من الأغلال والنكال ، ثم قال (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وهذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه مع هذا الذنب العظيم ، وهذا الافتراء والكذب والإفك ، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة ، فكل من تاب إليه تاب عليه.

وقوله تعالى : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) أي له سوية أمثاله من سائر المرسلين المتقدمين عليه ، وأنه عبد من عباد الله ورسول من رسله الكرام ، كما قال (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) [الزخرف : ٥٩]. وقوله (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) أي مؤمنة به مصدقة له ، وهذا أعلى مقاماتها ، فدل على أنها ليست بنبية كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق ، ونبوة أم موسى ، ونبوة أم عيسى ، استدلالا منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم ، وبقوله (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) [القصص : ٧] وهذا معنى النبوة ، والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيا إلا من الرجال ، قال الله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) [يوسف : ١٠٩] وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري رحمه‌الله الإجماع على ذلك.

وقوله تعالى : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) أي يحتاجان إلى التغذية به ، وإلى خروجه منهما ، فهما عبدان كسائر الناس ، وليسا بإلهين كما زعمت فرق النصارى الجهلة ، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ، ثم قال تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) أي نوضحها ونظهرها (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي ثم انظر بعد هذا البيان والوضوح والجلاء أين يذهبون ، وبأي قول يتمسكون ، وإلى أي مذهب من الضلال يذهبون.

__________________

(١) قال ابن جرير : وهذا (أي قولهم : إن الله ثالث ثلاثة) قول كان عليه جماهير النصارى قبل افتراق اليعقوبية والملكية والنسطورية. كانوا فيما بلغنا يقولون : الإله القديم جوهر واحد يعمّ ثلاثة أقانيم : أبا والدا غير مولود ، وابنا مولودا غير والد ، وزوجا متتبّعة بينهما. (تفسير الطبري ٤ / ٦٥٢)

(٢) الأثر عن السدي في تفسير الطبري ٤ / ٦٥٣.

١٤٣

(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) (٧٧)

يقول تعالى منكرا على من عبد غيره من الأصنام والأنداد والأوثان ، ومبينا له أنها لا تستحق شيئا من الإلهية ، فقال تعالى : (قُلْ) أي يا محمد لهؤلاء العابدين غير الله من سائر فرق بني آدم ودخل في ذلك النصارى وغيرهم (أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) أي لا يقدر على دفع ضر عنكم ولا إيصال نفع إليكم ، (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي السميع لأقوال عباده ، العليم بكل شيء ، فلم عدلتم عنه إلى عبادة جماد لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئا ولا يملك ضرا ولا نفعا لغيره ولا لنفسه؟ ثم قال (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ) أي لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه عن حيز النبوة إلى مقام الإلهية ، كما صنعتم في المسيح وهو نبي من الأنبياء فجعلتموه إلها من دون الله ، وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخكم ، شيوخ الضلال الذين هم سلفكم ممن ضل قديما ، (وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) أي وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال إلى طريق الغواية والضلال.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : وقد كان قائم قام عليهم فأخذ بالكتاب والسنة زمانا ، فأتاه الشيطان فقال : إنما تركب أثرا أو أمرا قد عمل قبلك ، فلا تحمد عليه ، ولكن ابتدع أمرا من قبل نفسك ، وادع إليه وأجبر الناس عليه ، ففعل ثم ادّكر بعد فعله زمانا ، فأراد أن يتوب منه ، فخلع سلطانه وملكه ، وأراد أن يتعبد ، فلبث في عبادته أياما ، فأتي فقيل له : لو أنك تبت من خطيئة عملتها فيما بينك وبين ربك عسى أن يتاب عليك ، ولكن ضل فلان وفلان وفلان في سببك حتى فارقوا الدنيا وهم على الضلالة ، فكيف لك بهداهم فلا توبة لك أبدا ، ففيه سمعنا وفي أشباهه هذه الآية (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) (١).

(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور ٢ / ٥٣٣.

١٤٤

إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٨١)

يخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل فيما أنزله على داود نبيهعليه‌السلام ، وعلى لسان عيسى ابن مريم ، بسبب عصيانهم لله واعتدائهم على خلقه. قال العوفي ، عن ابن عباس : لعنوا في التوراة والإنجيل وفي الزبور وفي الفرقان ، ثم بين حالهم فيما كانوا يعتمدونه في زمانهم ، فقال تعالى (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي كان لا ينهى أحد منهم أحدا عن ارتكاب المآثم والمحارم ، ثم ذمهم على ذلك ليحذر أن يرتكب مثل الذي ارتكبوه ، فقال : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ).

وقال الإمام أحمد (١) رحمه‌الله : حدثنا يزيد. حدثنا شريك بن عبد الله عن علي بن بذيمة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي ، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا : فجالسوهم في مجالسهم» قال يزيد : وأحسبه قال : «وأسواقهم ، وواكلوهم وشاربوهم ، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ، (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متكئا ، فجلس فقال «لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا» (٢).

وقال أبو داود (٣) : حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي ، حدثنا يونس بن راشد عن علي بن بذيمة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع ، فإنه لا يحل لك ، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ـ ثم قال ـ : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) إلى قوله (فاسِقُونَ) ـ ثم قال ـ : كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يد الظالم ، ولتأطرنه على الحق أطرا ، أو تقصرنه على الحق قصرا» ، وكذا رواه الترمذي وابن ماجة من طريق علي بن بذيمة به ، وقال الترمذي : حسن غريب ، ثم رواه هو وابن ماجة عن پندار ، عن ابن مهدي ، عن سفيان ، عن علي بن بذيمة ، عن أبي عبيدة مرسلا.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، وهارون بن إسحاق الهمداني ، قالا : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن العلاء بن المسيب ، عن عبد الله بن عمرو بن مرة ، عن سالم الأفطس ، عن ابن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الرجل

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٣٩١.

(٢) أصل الأطر العطف والتثنّي : أي لتردوهم إلى الحق وتعطفوهم عليه.

(٣) سنن أبي داود (ملاحم باب ١٧)

١٤٥

من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرا ، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه ، أن يكون أكيله وخليطه وشريكه» وفي حديث هارون «وشريبه» ، ثم اتفقا في المتن «فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض ، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون» ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والذي نفسي بيده ، لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يد المسيء ، ولتأطرنه على الحق أطرا ، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ، أو ليلعنكم كما لعنهم» والسياق لأبي سعيد ، كذا قال في رواية هذا الحديث.

وقد رواه أبو داود أيضا عن خلف بن هشام ، عن أبي شهاب الخياط ، عن العلاء بن المسيب ، عن عمرو بن مرة ، عن سالم وهو ابن عجلان الأفطس ، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه ، ثم قال أبو داود : كذا رواه خالد عن العلاء ، عن عمرو بن مرة به ، ورواه المحاربي عن العلاء بن المسيب ، عن عبد الله بن عمرو بن مرة ، عن سالم الأفطس ، عن أبي عبيدة عن عبد الله ، قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي : وقد رواه خالد بن عبد الله الواسطي عن العلاء بن المسيب ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة عن أبي موسى.

والأحاديث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدا ، ولنذكر منها ما يناسب هذا المقام ، قد تقدم حديث جابر عند قوله (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) [المائدة : ٦٣] وسيأتي عند قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة : ١٠٥] حديث أبي بكر الصديق وأبي ثعلبة الخشني ، فقال الإمام أحمد (١) : حدثنا سليمان الهاشمي ، أنبأنا إسماعيل بن جعفر ، أخبرني عمرو بن أبي عمرو عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهلي ، عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «والذي نفسي بيده ، لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم» ، ورواه الترمذي عن علي بن حجر عن إسماعيل بن جعفر به ، وقال : هذا حديث حسن.

وقال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة (٢) : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا معاوية بن هشام عن هشام بن سعد ، عن عمرو بن عثمان ، عن عاصم بن عمر بن عثمان ، عن عروة ، عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «مروا بالمعروف ، وانهوا عن المنكر ، قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم» تفرد به ، وعاصم هذا مجهول.

وفي الصحيح من طريق الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه ، عن أبي سعيد ، وعن

__________________

(١) مسند أحمد ٥ / ٣٨٨.

(٢) سنن ابن ماجة (فتن حديث ٤٠٠٤)

١٤٦

قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان» رواه مسلم (١).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا ابن نمير ، حدثنا سيف هو ابن أبي سليمان ، سمعت عدي بن عدي الكندي يحدث عن مجاهد قال : حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يعني عدي بن عميرة رضي الله عنه ، يقول : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه ، فإذا فعلوا ذلك ، عذب الله الخاصة والعامة» ، ثم رواه أحمد عن أحمد بن الحجاج ، عن عبد الله بن المبارك ، عن سيف بن أبي سليمان ، عن عيسى بن عدي الكندي ، حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يقول : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ، فذكره ، هكذا رواه الإمام أحمد من هذين الوجهين.

قال أبو داود (٣) : حدثنا أبو العلاء (٤) ، حدثنا أبو بكر ، حدثنا المغيرة بن زياد الموصلي عن عدي بن عدي ، عن العرس يعني ابن عميرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها ، ـ وقال مرة فأنكرها ـ كان كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها» تفرد به أبو داود ، ثم رواه عن أحمد بن يونس ، عن ابن شهاب ، عن مغيرة بن زياد ، عن عدي بن عدي مرسلا. وقال أبو داود : حدثنا سليمان بن حرب وحفص بن عمر ، قالا : حدثنا شعبة وهذا لفظه ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البحتري قال : أخبرني من سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال سليمان ، حدثني رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لن يهلك الناس حتى يعذروا أو يعذروا من أنفسهم».

وقال ابن ماجة (٥) : حدثنا عمران بن موسى ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا علي بن زيد بن جدعان ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام خطيبا ، فكان فيما قال «ألا لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول الحق إذا علمه». قال : فبكى أبو سعيد ، وقال : قد والله رأينا أشياء فهبنا.

وفي حديث إسرائيل عن عطية (٦) عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة ، وقال الترمذي : حسن غريب

__________________

(١) صحيح مسلم (إيمان حديث ٧٨)

(٢) مسند أحمد ٤ / ١٩٢.

(٣) سنن أبي داود (ملاحم باب ١٧)

(٤) في سنن أبي داود : «حدثنا محمد بن العلاء».

(٥) سنن ابن ماجة (فتن حديث ٤٠٠٧)

(٦) في سنن أبي داود : «إسرائيل عن محمد بن جحادة عن عطية .. إلخ».

١٤٧

من هذا الوجه. وقال ابن ماجة : حدثنا راشد بن سعيد الرملي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا حماد بن سلمة عن أبي غالب ، عن أبي أمامة : قال : عرض لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل عند الجمرة الأولى ، فقال : يا رسول الله ، أي الجهاد أفضل؟ فسكت عنه ، فلما رمى الجمرة الثانية سأله فسكت عنه ، فلما رمى جمرة العقبة ووضع رجله في الغرز ليركب فقال «أين السائل؟» قال : أنا يا رسول الله. قال «كلمة حق تقال عند ذي سلطان جائر» تفرد به. وقال ابن ماجة : حدثنا أبو كريب ، حدثنا عبد الله بن نمير وأبو معاوية عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البحتري عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحقر أحدكم نفسه» قالوا يا رسول الله : كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال «يرى أمر الله فيه مقال ثم لا يقول فيه ، فيقول الله له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا وكذا؟ فيقول : خشية الناس ، فيقول : فإياي كنت أحق أن تخشى» تفرد به ، وقال أيضا : حدثنا علي بن محمد ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أبو طوالة ، حدثنا نهار العبدي أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن الله يسأل العبد يوم القيامة حتى يقول : ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن الله عبدا حجته قال : يا رب رجوتك وفرقت الناس» تفرد به أيضا ابن ماجة ، وإسناده لا بأس به.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عمرو بن عاصم عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن الحسن ، عن جندب ، عن حذيفة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه» قيل :

وكيف يذل نفسه؟ قال «يتعرض من البلاء لما لا يطيق» ، وكذا رواه الترمذي وابن ماجة جميعا عن محمد بن بشار ، عن عمرو بن عاصم به ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب.

وقال ابن ماجة (٢) : حدثنا العباس بن الوليد الدمشقي ، حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد الخزاعي ، حدثنا الهيثم بن حميد ، حدثنا أبو معبد حفص بن غيلان الرعيني عن مكحول ، عن أنس بن مالك قال : قيل : يا رسول الله ، متى يترك الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر؟ قال «إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم» قلنا يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال «الملك في صغاركم والفاحشة في كباركم والعلم في رذالكم» قال زيد : تفسير معنى قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والعلم في رذالكم إذا كان العلم في الفساق ، تفرد به ابن ماجة ، وسيأتي في حديث أبي ثعلبة عند قوله (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) شاهد لهذا ، إن شاء الله تعالى وبه الثقة.

وقوله تعالى : (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال مجاهد : يعني بذلك المنافقين.

__________________

(١) مسند أحمد ٥ / ٤٠٥.

(٢) سنن ابن ماجة (فتن حديث ٤٠١٥)

١٤٨

وقوله (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ) يعني بذلك موالاتهم للكافرين ، وتركهم موالاة المؤمنين التي أعقبتهم نفاقا في قلوبهم ، وأسخطت الله عليهم سخطا مستمرا إلى يوم معادهم ، ولهذا قال (أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) وفسر بذلك ما ذمهم به ، ثم أخبر عنهم أنهم (وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) يعني يوم القيامة. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا مسلم بن علي عن الأعمش بإسناد ذكره ، قال «يا معشر المسلمين ، إياكم والزنا ، فإن فيه ست خصال : ثلاثا في الدنيا ، وثلاثا في الآخرة ، فأما التي في الدنيا فإنه يذهب البهاء ، ويورث الفقر ، وينقص العمر ، وأما التي في الآخرة فإنه يوجب سخط الرب ، وسوء الحساب ، والخلود في النار» ، ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) هكذا ذكره ابن أبي حاتم.

وقد رواه ابن مردويه من طريق هشام بن عمار عن مسلمة ، عن الأعمش ، عن شقيق ، عن حذيفة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره ، وساقه أيضا من طريق سعيد بن غفير عن مسلمة ، عن أبي عبد الرحمن الكوفي ، عن الأعمش ، عن شقيق ، عن حذيفة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر مثله ، وهذا حديث ضعيف على كل حال ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ) أي لو آمنوا حق الإيمان بالله والرسول والقرآن لما ارتكبوا ما ارتكبوه من موالاة الكافرين في الباطن ، ومعاداة المؤمنين بالله والنبي وما أنزل إليه ، (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي خارجون عن طاعة الله ورسوله ، مخالفون لآيات وحيه وتنزيله.

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (٨٦)

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : نزلت هذه الآيات في النجاشي وأصحابه الذين حين تلا عليهم جعفر بن أبي طالب بالحبشة القرآن ، بكوا حتى أخضلوا لحاهم (١) ، وهذا القول فيه نظر ، لأن هذه الآية مدنية ، وقصة جعفر مع النجاشي قبل الهجرة. وقال سعيد بن جبير والسدي وغيرهما : نزلت في وفد بعثهم النجاشي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليسمعوا كلامه ويروا صفاته ، فلما رأوه وقرأ عليهم القرآن أسلموا وبكوا وخشعوا ، ثم رجعوا إلى النجاشي فأخبروه. قال السدي :

__________________

(١) الأثر في الطبري ٥ / ٤.

١٤٩

فهاجر النجاشي فمات بالطريق (١). وهذا من أفراد السدي ، فإن النجاشي مات وهو ملك الحبشة ، وصلّى عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم مات ، وأخبر به أصحابه ، وأخبر أنه مات بأرض الحبشة. ثم اختلف في عدة هذا الوفد ، فقيل : اثنا عشر : سبعة قساوسة وخمسة رهابين. وقيل : بالعكس. وقيل : خمسون. وقيل : بضع وستون. وقيل : سبعون رجلا ، فالله أعلم وقال عطاء بن أبي رباح : هم قوم من أهل الحبشة أسلموا حين قدم عليهم مهاجرة الحبشة من المسلمين وقال قتادة : هم قوم كانوا على دين عيسى ابن مريم ، فلما رأوا المسلمين ، وسمعوا القرآن أسلموا ولم يتلعثموا ، واختار ابن جرير أن هذه الآيات نزلت في صفة أقوام بهذه المثابة ، سواء كانوا من الحبشة أو غيرها (٢).

فقوله تعالى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) ما ذاك إلا لأن كفر اليهود كفر عناد وجحود ومباهتة للحق وغمط للناس وتنقص بحملة العلم ، ولهذا قتلوا كثيرا من الأنبياء حتى هموا بقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مرة ، وسموه وسحروه ، وألبوا عليه أشباههم من المشركين عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.

قال الحافظ أبو بكر بن مردويه عند تفسير هذه الآية : حدثنا أحمد بن محمد بن السري ، حدثنا محمد بن علي بن حبيب الرقي ، حدثنا علي بن سعيد العلاف ، حدثنا أبو النضر عن الأشجعي ، عن سفيان ، عن يحيى بن عبد الله ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما خلا يهودي بمسلم قط إلا همّ بقتله» ، ثم رواه عن محمد بن أحمد بن إسحاق العسكري ، حدثنا أحمد بن سهل بن أيوب الأهوازي ، حدثنا فرج بن عبيد ، حدثنا عباد بن العوام عن يحيى بن عبد الله ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما خلا يهودي بمسلم إلا حدث نفسه بقتله» ، وهذا حديث غريب جدا.

وقوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) أي الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة ، وما ذاك إلا لما في قلوبهم إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة ، كما قال تعالى (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً) وفي كتابهم : من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر. وليس القتال مشروعا في ملتهم ، ولهذا قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي يوجد فيهم القسيسون وهم خطباؤهم وعلماؤهم ، واحدهم قسيس وقس أيضا ، وقد يجمع على قسوس ، والرهبان جمع راهب ، وهو العابد ، مشتق من الرهبة ، وهي الخوف ، كراكب وركبان ، وفرسان.

__________________

(١) الأثر في الطبري ٥ / ٤ والدر المنثور ٢ / ٥٣٨.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٦.

١٥٠

قال ابن جرير (١) : وقد يكون الرهبان واحدا وجمعه رهابين ، مثل قربان وقرابين ، وجردان (٢) وجرادين ، وقد يجمع على رهابنة ، ومن الدليل على أنه يكون عند العرب واحدا قول الشاعر : [الرجز]

لو عاينت رهبان دير في القلل

لا نحدر الرهبان يمشي ونزل (٣)

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا بشر بن آدم. حدثنا نصير بن أبي الأشعث ، حدثني الصلت الدهان عن جاثمة بن رئاب ، قال : سألت سلمان عن قول الله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) فقال : دع القسيسين في البيع والخرب ، أقرأني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا» ، وكذا رواه ابن مردويه من طريق يحيى بن عبد الحميد الخاني عن نضير بن زياد الطائي ، عن صلت الدهان ، عن جاثمة بن رئاب ، عن سلمان به.

وقال ابن أبي حاتم : ذكره أبي ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد الخاني ، حدثنا نضير بن زياد الطائي ، حدثنا صلت الدهان عن جاثمة بن رئاب قال : سمعت سلمان وسئل عن قوله (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) فقال هم الرهبان الذين هم في الصوامع والخرب فدعوهم فيها ، قال سلمان : وقرأت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ) فأقرأني «ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا» فقوله (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) تضمن وصفهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع ، ثم وصفهم بالانقياد للحق واتباعه والإنصاف ، فقال (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) أي مما عندهم من البشارة ببعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي مع من يشهد بصحة هذا ويؤمن به.

وقد روى النسائي عن عمرو بن علي الفلاس ، عن عمر بن علي بن مقدم ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير قال : نزلت هذه الآية في النجاشي وفي أصحابه (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في مستدركه من طريق سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته هم الشاهدون ، يشهدون لنبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قد بلغ ، وللرسل أنهم قد بلغوا ، ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه.

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٥.

(٢) الجردان : الغضيب من ذوات الحافر ، أو هو عام.

(٣) ويروى : «لو كلمت ... يسعى». والرجز بلا نسبة في لسان العرب (رهب) وتهذيب اللغة ٦ / ٢٩٠ وتاج العروس (رهب) وتفسير الطبري ٥ / ٥.

١٥١

وقال الطبراني ، حدثنا أبو شبيل عبد الله بن عبد الرحمن بن واقد ، حدثنا أبي ، حدثنا العباس بن الفضل عن عبد الجبار بن نافع الضبي ، عن قتادة ، وجعفر بن إياس عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قول الله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) قال : إنهم كانوا كرابين يعني فلاحين ، قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة ، فلما قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم القرآن ، آمنوا وفاضت أعينهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لعلكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم إلى دينكم» فقالوا : لن ننتقل عن ديننا ، فأنزل الله ذلك من قولهم وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في مستدركه ، من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله : (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي : مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمته هم الشاهدون ، يشهدون لنبيهم أنه قد بلّغ وللرسل أنهم قد بلغوا. ثم قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

(وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) وهذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ) [آل عمران : ١٩٩] الآية ، وهم الذين قال الله فيهم (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) إلى قوله (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) [القصص : ٥٢ ـ ٥٥] ولهذا قال تعالى هاهنا : (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي فجازاهم على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي ماكثين فيها أبدا لا يحولون ولا يزولون (وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) أي في اتباعهم الحق وانقيادهم له حيث كان وأين كان ومع من كان ، ثم أخبر عن حال الأشقياء فقال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي جحدوا بها وخالفوها ، (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي هم أهلها والداخلون فيها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (٨٨)

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالوا : نقطع مذاكيرنا ، ونترك شهوات الدنيا ، ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك ، فقالوا : نعم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لكني أصوم وأفطر ، وأصلي ، وأنام ، وأنكح النساء ، فمن أخذ بسنتي فهو مني ، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني» رواه ابن أبي حاتم (١) ، وروى ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس نحو ذلك ، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سألوا أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن عمله في السر فقال بعضهم لا آكل اللحم وقال بعضهم لا أتزوج النساء وقال بعضهم لا أنام

__________________

(١) ورواه الطبري في تفسيره ٥ / ١١.

١٥٢

على الفراش فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا ، لكني أصوم وأفطر وأنام وأقوم وآكل اللحم ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (١).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري ، حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد ، عن عثمان يعني ابن سعد ، أخبرني عكرمة عن ابن عباس أن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إني إذا أكلت من هذا اللحم انتشرت إلى النساء ، وإني حرمت عليّ اللحم ، فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ). وكذا رواه الترمذي وابن جرير جميعا عن عمرو بن علي الفلاس عن أبي عاصم النبيل به. وقال ، حسن غريب. وقد روي من وجه آخر مرسلا ، وروي موقوفا على ابن عباس ، فالله أعلم.

وقال سفيان الثوري ووكيع عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : كنا نغزو مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس معنا نساء ، فقلنا : ألا نستخصي؟ فنهانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، ورخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ، ثم قرأ عبد الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) الآية ، أخرجاه من حديث إسماعيل ، وهذا كان قبل تحريم نكاح المتعة ، والله أعلم.

وقال الأعمش ، عن إبراهيم ، عن همام بن الحارث ، عن عمرو بن شرحبيل ، قال : جاء معقل بن مقرن إلى عبد الله بن مسعود فقال : إني حرمت فراشي ، فتلا هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) الآية. وقال الثوري ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، قال : كنا عند عبد الله بن مسعود ، فجيء بضرع فتنحى رجل ، فقال له عبد الله : ادن ، فقال : إني حرمت أن آكله ، فقال عبد الله : ادن فاطعم وكفر عن يمينك ، وتلا هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) الآية : رواهن ابن أبي حاتم ، وروى الحاكم هذا الأثر الأخير في مستدركه من طريق إسحاق بن راهويه ، عن جرير ، عن منصور به ؛ ثم قال : على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ، ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني هشام بن سعد أن زيد بن أسلم حدثه أن عبد الله بن رواحة أضافه ضيف من أهله ، وهو عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارا له ، فقال لامرأته حبست ضيفي من أجلي هو علي حرام ، فقالت امرأته : هو علي حرام. وقال الضيف : هو علي حرام ، فلما رأى ذلك وضع يده وقال : كلوا باسم الله ، ثم ذهب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر الذي كان منهم ، ثم أنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) وهذا أثر منقطع.

وفي صحيح البخاري في قصة الصديق مع أضيافه شبيه بهذا ، وفيه وفي هذه القصة دلالة

__________________

(١) الحديث في صحيح البخاري (نكاح باب ١) وصحيح مسلم (نكاح حديث ٥) عن أنس بن مالك.

١٥٣

لمن ذهب من العلماء كالشافعي وغيره إلى أن من حرم مأكلا أو ملبسا أو شيئا ما عدا النساء أنه لا يحرم عليه ، ولا كفارة عليه أيضا ، ولقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) ولأن الذي حرم اللحم على نفسه كما في الحديث المتقدم لم يأمره النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بكفارة ، وذهب آخرون منهم الإمام أحمد بن حنبل إلى أن من حرم مأكلا أو مشربا أو ملبسا أو شيئا من الأشياء ، فإنه يجب عليه بذلك كفارة يمين ، كما إذا التزم تركه باليمين ، فكذلك يؤاخذ بمجرد تحريمه على نفسه إلزاما له بما التزمه ، كما أفتى بذلك ابن عباس ، وكما في قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التحريم : ١] ، ثم قال (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) [التحريم : ٢] ، وكذلك هاهنا لما ذكر هذا الحكم ، عقبه بالآية المبينة لتكفير اليمين ، فدل على أن هذا منزل منزلة اليمين في اقتضاء التكفير ، والله أعلم.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا حجاج عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : أراد رجال منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو أن يتبتلوا ، ويخصوا أنفسهم ، ويلبسوا المسوح ، فنزلت هذه الآية إلى قوله (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ). قال ابن جريج ، عن عكرمة : أن عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالما مولى أبي حذيفة في أصحابه تبتلوا ، فجلسوا في البيوت ، واعتزلوا النساء ، ولبسوا المسوح ، وحرموا طيبات الطعام واللباس ، إلا ما يؤكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل ، وهموا بالاختصاء ، وأجمعوا لقيام الليل ، وصيام النهار ، فنزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) يقول لا تسيروا بغير سنة المسلمين ، يريد ما حرموا من النساء والطعام واللباس ، وما أجمعوا له من قيام الليل وصيام النهار ، وما هموا به من الاختصاء ، فلما نزلت فيهم بعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «إن لأنفسكم حقا ، وإن لأعينكم حقا ، صوموا وأفطروا ، وصلوا وناموا ، فليس منا من ترك سنتنا» فقالوا : اللهم سلمنا واتبعنا ما أنزلت.

وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين مرسلة ، ولها شاهد في الصحيحين من رواية عائشة أم المؤمنين كما تقدم ذلك ، ولله الحمد والمنة.

وقال أسباط عن السدي في قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلس يوما فذكر الناس ، ثم قام ولم يزدهم على التخويف ، فقال ناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كانوا عشرة منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون : ما حقنا إن لم نحدث عملا ، فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ١٢.

١٥٤

فنحن نحرم ، فحرم بعضهم أن يأكل اللحم والودك (١) ، وأن يأكل بالنهار ، وحرم بعضهم النوم ، وحرم بعضهم النساء ، فكان عثمان بن مظعون ممن حرم النساء فكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه ، فأتت امرأته عائشة رضي الله عنها وكان يقال لها الحولاء ، فقالت لها عائشة ومن عندها من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما بالك يا حولاء متغيرة اللون ، لا تمتشطين ولا تتطيبين؟ فقالت : وكيف أمتشط وأتطيب وما وقع علي زوجي ، وما رفع عني ثوبا منذ كذا وكذا. قال : فجعلن يضحكن من كلامها ، فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهن يضحكن ، فقال «ما يضحككن؟» قالت : يا رسول الله إن الحولاء سألتها عن أمرها. فقالت : ما رفع عني زوجي ثوبا منذ كذا وكذا ، فأرسل إليه فدعاه فقال «ما لك يا عثمان؟» قال : إني تركته لله لكي أتخلى للعبادة ، وقص عليه أمره ، وكان عثمان قد أراد أن يجب نفسه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أقسمت عليك إلا رجعت فواقعت أهلك». فقال : يا رسول الله إني صائم. فقال «أفطر» فأفطر وأتى أهله ، فرجعت الحولاء إلى عائشة وقد امتشطت واكتحلت وتطيبت ، فضحكت عائشة وقالت : ما لك يا حولاء؟ فقالت: إنه أتاها أمس. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم ، ألا إني أنام وأقوم وأفطر وأصوم وأنكح النساء ، فمن رغب عني فليس مني» فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) يقول لعثمان : لا تجب نفسك ، فإن هذا هو الاعتداء ، أمرهم أن يكفروا عن أيمانهم فقال (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) ، رواه ابن جرير (٢).

وقوله تعالى : (وَلا تَعْتَدُوا) يحتمل أن يكون المراد منه ولا تبالغوا في التضييق على أنفسكم بتحريم المباحات عليكم ، كما قاله من قاله من السلف ، ويحتمل أن يكون المراد كما لا تحرموا الحلال فلا تعتدوا في تناول الحلال ، بل خذوا منه بقدر كفايتكم وحاجتكم ولا تجاوزوا الحد فيه : كما قال تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) [الأعراف : ٣١] الآية ، وقال (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) [الفرقان : ٦٧] فشرع الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه ، لا إفراط ولا تفريط ، ولهذا قال (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) ثم قال (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) أي في حال كونه حلالا طيبا (وَاتَّقُوا اللهَ) أي في جميع أموركم ، واتبعوا طاعته ورضوانه ، واتركوا مخالفته وعصيانه (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ).

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ

__________________

(١) الودك : دسم اللحم ودهنه.

(٢) الأثر عن السدي في تفسير الطبري ٥ / ١١ والدر المنثور ٢ / ٥٤٥.

١٥٥

ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٨٩)

وقد تقدم الكلام على اللغو في اليمين في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا ، ولله الحمد والمنة ، وإنه قول الرجل في الكلام من غير قصد : لا والله وبلى والله. وهذا مذهب الشافعي. وقيل هو في الهزل. وقيل : في المعصية. وقيل : على غلبة الظن ، وهو قول أبي حنيفة وأحمد. وقيل : اليمين في الغضب وقيل : في النسيان. وقيل : هو الحلف على ترك المأكل والمشرب والملبس ونحو ذلك ، واستدلوا بقوله (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) والصحيح أنه اليمين من غير قصد بدليل قوله (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) أي بما صممتم عليه منها وقصدتموها ، (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) يعني محاويج من الفقراء ومن لا يجد ما يكفيه.

وقوله (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة : أي من أعدل ما تطعمون أهليكم. وقال عطاء الخراساني : من أمثل ما تطعمون أهليكم. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر عن حجاج ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن الحارث ، عن علي قال : خبز ولبن ، وخبز وسمن. وقال ابن أبي حاتم : أنبأنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، حدثنا سفيان بن عيينة عن سليمان يعني ابن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان الرجل يقوت بعض أهله قوت دون ، وبعضهم قوتا فيه سعة ، فقال الله تعالى : (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) أي من الخبز والزيت ، وحدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وكيع ، حدثنا إسرائيل عن جابر ، عن عامر ، عن ابن عباس (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) قال : من عسرهم ويسرهم وحدثنا عبد الرحمن بن خلف الحمصي ، حدثنا محمد بن شعيب يعني ابن شابور ، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن التميمي عن ليث بن أبي سليم عن عاصم الأحول ، عن رجل يقال له عبد الرحمن التميمي ، عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) ، قال : الخبز واللحم ، والخبز والسمن ، والخبز واللبن ، والخبز والزيت ، والخبز والخل.

وحدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا أبو معاوية عن عاصم ، عن ابن سيرين ، عن ابن عمر في قوله (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) قال : الخبز والسمن ، والخبز واللبن ، والخبز والزيت ، والخبز والتمر ، ومن أفضل ما تطعمون أهليكم الخبز واللحم ، ورواه ابن جرير (١) عن هناد وابن وكيع ، كلاهما عن أبي معاوية ، ثم روى ابن جرير عن عبيدة والأسود وشريح القاضي ومحمد بن سيرين والحسن والضحاك وأبي رزين ، أنهم قالوا نحو ذلك ، وحكاه ابن أبي حاتم عن مكحول أيضا.

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ١٩.

١٥٦

واختار ابن جرير أن المراد بقوله (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) أي في القلة والكثرة(١) ، ثم اختلف العلماء في مقدار ما يطعمهم ، فقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا أبو خالد الأحمر عن حجاج ، عن حصين الحارثي ، عن الشعبي ، عن الحارث ، عن علي رضي الله عنه في قوله (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) قال : يغديهم ويعشيهم. وقال الحسن ومحمد بن سيرين : يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلة واحدة خبزا ولحما ، زاد الحسن : فإن لم يجد فخبزا وسمنا ولبنا ، فإن لم يجد فخبزا وزيتا وخلا ، حتى يشبعوا. وقال آخرون : يطعم كل واحد من العشرة نصف صاع من بر أو تمر ونحوهما ، فهذا قول عمر وعلي وعائشة ومجاهد والشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وميمون بن مهران وأبي مالك والضحاك والحكم ومكحول وأبي قلابة ومقاتل بن حيان. وقال أبو حنيفة : نصف صاع بر وصاع مما عداه.

وقد قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الثقفي ، حدثنا عبيد بن الحسن بن يوسف ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا زياد بن عبد الله بن الطفيل بن سخبرة ابن أخي عائشة لأمه ، حدثنا عمر بن يعلى عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كفّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصاع من تمر ، وأمر الناس به ، ومن لم يجد فنصف صاع من بر. ورواه ابن ماجة عن العباس بن يزيد ، عن زياد بن عبد الله البكاء ، عن عمر بن عبد الله بن يعلى الثقفي ، عن المنهال بن عمرو به ، لا يصح هذا الحديث لحال عمر بن عبد الله هذا ، فإنه مجمع على ضعفه ، وذكروا أنه كان يشرب الخمر. وقال الدار قطني : متروك. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن إدريس عن داود يعني ابن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه قال : مدا من بر يعني لكل مسكين ومعه إدامه ، ثم قال : وروي عن ابن عمر وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء وعكرمة وأبي الشعثاء والقاسم وسالم وأبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار والحسن ومحمد بن سيرين والزهري ، نحو ذلك.

وقال الشافعي : الواجب في كفارة اليمين مد بمد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكل مسكين ولم يتعرض للأدم.

واحتج بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للذي جامع في رمضان بأن يطعم ستين مسكينا من مكتل يسع خمسة عشر صاعا ، لكل واحد منهم مد. وقد ورد حديث آخر صريح في ذلك ، فقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا أحمد بن علي بن الحسن المقري ، حدثنا محمد بن إسحاق السراج ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا النضر بن زرارة الكوفي عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقيم كفارة اليمين مدا من حنطة بالمد الأول ، إسناده ضعيف لحال النضر بن زرارة بن عبد الأكرم الذهلي الكوفي نزيل بلخ ، قال فيه أبو حاتم الرازي : هو مجهول مع أنه قد روى عنه غير واحد ، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال : روى عنه قتيبة بن سعيد أشياء

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٢٣.

١٥٧

مستقيمة ، فالله أعلم ، ثم إن شيخه العمري ضعيف أيضا. وقال أحمد بن حنبل : الواجب مد من بر أو مدان من غيره ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) قال الشافعي رحمه‌الله : لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة من قميص أو سراويل أو إزار أو عمامة أو مقنعة ، أجزأه ذلك ، واختلف أصحابه في القلنسوة : هل تجزئ أم لا؟ على وجهين ، فمنهم من ذهب إلى الجواز احتجاجا بما رواه ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج وعمار بن خالد الواسطي : قالا : حدثنا القاسم بن مالك عن محمد بن الزبير ، عن أبيه ، قال : سألت عمران بن الحصين عن قوله (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) قال : لو أن وفدا قدموا على أميركم فكساهم قلنسوة ، قلنسوة قلتم قد كسوا ، ولكن هذا إسناد ضعيف لحال محمد بن الزبير هذا ، والله أعلم. وهكذا حكى الشيخ أبو حامد الإسفراييني : في الخف وجهين أيضا ، والصحيح عدم الإجزاء وقال مالك وأحمد بن حنبل : لا بد أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصح أن يصلي فيه ، إن كان رجلا أو امرأة كل بحسبه ، والله أعلم.

وقال العوفي عن ابن عباس : عباءة لكل مسكين أو شملة ، وقال مجاهد : أدناه ثوب وأعلاه ما شئت. وقال ليث عن مجاهد : يجزئ في كفارة اليمين كل شيء إلا التبان (١). وقال الحسن وأبو جعفر الباقر وعطاء وطاوس وإبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان وأبو مالك. ثوب ثوب. وعن إبراهيم النخعي أيضا : ثوب جامع كالملحفة والرداء ، ولا يرى الدرع والقميص والخمار ونحوه جامعا ، وقال الأنصاري عن أشعث عن ابن سيرين والحسن : ثوبان ثوبان. وقال الثوري عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب : عمامة يلف بها رأسه ، وعباءة يلتحف بها. وقال ابن جرير (٢) : حدثنا هناد ، حدثنا ابن المبارك عن عاصم الأحول ، عن ابن سيرين ، عن أبي موسى أنه حلف على يمين ، فكسا ثوبين من معقدة البحرين. وقال ابن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أحمد بن المعلى ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن مقاتل بن سليمان ، عن أبي عثمان ، عن أبي عياض ، عن عائشة ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) قال «عباءة لكل مسكين» ، حديث غريب.

وقوله (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أخذ أبو حنيفة بإطلاقها فقال : تجزئ الكافرة كما تجزئ المؤمنة. وقال الشافعي وآخرون : لا بد أن تكون مؤمنة. وأخذ تقييدها بالإيمان من كفارة القتل لاتحاد الموجب وإن اختلف السبب. ومن حديث معاوية بن الحكم السلمي الذي هو في موطأ مالك (٣) ومسند الشافعي وصحيح مسلم أنه ذكر أن عليه عتق رقبة ، وجاء معه بجارية

__________________

(١) التبّان : سراويل صغيرة ، يستر العورة فقط.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٢٦.

(٣) موطأ مالك (عتق حديث ٨). والحديث فيه عن عمر بن الحكم.

١٥٨

سوداء فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أين الله؟». قالت : في السماء. قال «من أنا؟» قالت : رسول الله. قال «أعتقها فإنها مؤمنة» الحديث بطوله. فهذه خصال ثلاث في كفارة اليمين ، أيها فعل الحانث أجزأ عنه بالإجماع ، وقد بدأ بالأسهل ، فالأسهل فالإطعام أسهل وأيسر من الكسوة ، كما أن الكسوة أيسر من العتق ، فترقى فيها من الأدنى إلى الأعلى ، فإن لم يقدر المكلف على واحدة من هذه الخصال الثلاث كفر بصيام ثلاثة أيام ، كما قال تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ).

وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير والحسن البصري ، أنهما قالا : من وجد ثلاثة دراهم لزمه الإطعام وإلا صام ، وقال ابن جرير حاكيا عن بعض متأخري متفقهة زمانه أنه جائز لمن لم يكن له فضل عن رأس مال يتصرف فيه لمعاشه ، ومن الفضل عن ذلك ما يكفر به عن يمينه ، ثم اختار ابن جرير أنه الذي لا يفضل عن قوته وقوت عياله في يومه ذلك ما يخرج به كفارة اليمين(١).

واختلف العلماء : هل يجب فيها التتابع أو يستحب ولا يجب ، ويجزئ التفريق؟ قولان : أحدهما لا يجب وهذا منصوص الشافعي في كتاب الأيمان ، وهو قول مالك لإطلاق قوله (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) وهو صادق على المجموعة والمفرقة ، كما في قضاء رمضان لقوله (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ونص الشافعي في موضع آخر في الأم على وجوب التتابع ، كما هو قول الحنفية والحنابلة ، لأنه قد روي عن أبي بن كعب وغيره أنهم كانوا يقرءونها «فصيام ثلاثة أيام متتابعات». قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» وحكاها مجاهد والشعبي وأبو إسحاق عن عبد الله بن مسعود ، وقال إبراهيم في قراءة أصحاب عبد الله بن مسعود «فصيام ثلاثة أيام متتابعات». وقال الأعمش كان أصحاب ابن مسعود يقرءونها كذلك ، وهذه إذا لم يثبت كونها قرآنا متواترا ، فلا أقل أن يكون خبرا واحدا أو تفسيرا من الصحابة وهو في حكم المرفوع.

وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن علي ، حدثنا محمد بن جعفر الأشعري ، حدثنا الهيثم بن خالد القرشي ، حدثنا يزيد بن قيس عن إسماعيل بن يحيى ، عن ابن جريج ، عن ابن عباس قال : لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة : يا رسول الله نحن بالخيار؟ قال «أنت بالخيار إن شئت أعتقت ، وإن شئت كسوت ، وإن شئت أطعمت ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات» وهذا حديث غريب جدا.

وقوله (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) أي هذه كفارة اليمين الشرعية (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ). قال ابن جرير (٢) : معناه لا تتركوها بغير تكفير (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أي

__________________

(١) تفسير الطبري ٥ / ٣٠ ـ ٣٢.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٣٢ ـ ٣٣.

١٥٩

يوضحها ويفسرها (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (٩٣)

يقوله تعالى : ناهيا عباده المؤمنين عن تعاطي الخمر والميسر وهو القمار ، وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : الشطرنج من الميسر ، ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه ، عن عيسى بن مرحوم ، عن حاتم ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي به. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا وكيع عن سفيان ، عن ليث ، عن عطاء ومجاهد وطاوس ـ قال سفيان : أو اثنين منهم ـ قالوا : كل شيء من القمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز. وروي عن راشد بن سعد وضمرة بن حبيب مثله ، وقالا : حتى الكعاب والجوز والبيض التي تلعب بها الصبيان. وقال موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : الميسر هو القمار. وقال الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : الميسر هو القمار ، كانوا يتقامرون في الجاهلية إلى مجيء الإسلام ، فنهاهم الله عن هذه الأخلاق القبيحة. وقال مالك ، عن داود بن الحصين أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : كان ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين.

وقال الزهري ، عن الأعرج ، قال : الميسر الضرب بالقداح على الأموال والثمار. وقال القاسم بن محمد : كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو من الميسر ، رواهن ابن أبي حاتم ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الزيادي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة ، حدثنا عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد ، عن القاسم عن أبي أمامة ، عن أبي موسى الأشعري ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «اجتنبوا هذه الكعاب الموسومة التي يزجر بها زجرا ، فإنها من الميسر» حديث غريب ، وكأن المراد بهذا هو النرد الذي ورد الحديث به في صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب الأسلمي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من لعب بالنردشير ، فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه» (١) وفي موطأ مالك ومسند أحمد وسنن أبي داود وابن ماجة ، عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله» (٢) وروي موقوفا عن

__________________

(١) صحيح مسلم (شعر حديث ١٠)

(٢) سنن أبي داود (أدب باب ٥٦) وسنن ابن ماجة (أدب باب ٤٣) وموطأ مالك (رؤيا حديث ٦) ومسند أحمد ٤ / ٣٩٤.

١٦٠