تفسير القرآن العظيم - ج ٣

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٣

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٩٥

يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر ، (يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) أي يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكافرين بالمسلمين ، فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى ، فينفعهم ذلك. عند ذلك قال الله تعالى : (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) قال السدي : يعني فتح مكة. وقال غيره : يعني القضاء والفصل ، (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ). قال السدي : يعني ضرب الجزية على اليهود والنصارى ، (فَيُصْبِحُوا) يعني الذين والوا اليهود والنصارى من المنافقين (عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ) من الموالاة ، (نادِمِينَ) أي على ما كان منهم مما لم يجد عنهم شيئا ، ولا دفع عنهم محذورا ، بل كان عين المفسدة ، فإنهم فضحوا وأظهر الله أمرهم في الدنيا لعباده المؤمنين بعد أن كانوا مستورين ، لا يدرى كيف حالهم ، فلما انعقدت الأسباب الفاضحة لهم تبين أمرهم لعباد الله المؤمنين ، فتعجبوا منهم كيف كانوا يظهرون أنهم من المؤمنين ، ويحلفون على ذلك ويتأولون فبان كذبهم وافتراؤهم ، ولهذا قال تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ).

وقد اختلف القرّاء في هذا الحرف فقرأه الجمهور بإثبات الواو في قوله (وَيَقُولُ) ، ثم منهم من رفع ويقول على الابتداء ، ومنهم من نصب عطفا على قوله (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) فتقديره أن يأتي وأن يقول وقرأ أهل المدينة (يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) بغير واو ، وكذلك هو في مصاحفهم على ما ذكره ابن جرير (١). قال ابن جرير عن مجاهد (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) تقديره حينئذ (يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ).

واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآيات الكريمات ، فذكر السدي أنها نزلت في رجلين قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أحد : أما أنا فإني ذاهب إلى ذلك اليهودي فآوي إليه وأتهوّد معه ، لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث. وقال الآخر أما أنا فإني ذاهب إلى فلان النصراني بالشام فآوي إليه وأتنصر معه ، فأنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) الآيات ، وقال عكرمة : نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بني قريظة فسألوه : ماذا هو صانع بنا؟ فأشار بيده إلى حلقه أي أنه الذبح ، رواه ابن جرير (٢).

وقيل : نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول ، كما قال ابن جرير (٣) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن إدريس قال : سمعت أبي عن عطية بن سعد قال : جاء عبادة بن الصامت من بني

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٦٢١.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٦١٦.

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٦١٥.

١٢١

الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إن لي موالي من يهود كثير عددهم ، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود ، وأتولى الله ورسوله ، فقال عبد الله بن أبي : إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد الله بن أبي «يا أبا الحباب ، ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت ، فهو لك دونه» قال : قد قبلت ، فأنزل الله عزوجل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) الآيتين.

ثم قال ابن جرير (١) : حدثنا هناد ، حدثنا يونس بن بكير ، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري : قال : لما انهزم أهل بدر ، قال المسلمون لأوليائهم من اليهود : أسلموا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر ، فقال مالك بن الصيف : أغركم أن أصبتم رهطا من قريش لا علم لهم بالقتال ، أما لو أمررنا (٢) العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يد أن تقاتلونا ، فقال عبادة بن الصامت : يا رسول الله ، إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم كثيرا سلاحهم شديدة شوكتهم ، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولاية يهود ، ولا مولى لي إلا الله ورسوله ، فقال عبد الله بن أبي : لكني لا أبرأ من ولاية يهود إني رجل لا بد لي منهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا أبا الحباب ، أرأيت الذي نفست به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت ، فهو لك دونه» فقال: إذا أقبل ، قال : فأنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ ـ إلى قوله تعالى ـ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

وقال : محمد بن إسحاق (٣) : فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنو قينقاع ، فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال : فحاصرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزلوا على حكمه ، فقام إليه عبد الله بن أبي ابن سلول حين أمكنه الله منهم ، فقال : يا محمد أحسن في موالي وكانوا حلفاء الخزرج ، قال : فأبطأ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا محمد أحسن في موالي ، قال : فأعرض عنه. قال : فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «أرسلني» ، وغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا ، ثم قال «ويحك أرسلني» قال : لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر (٤) ، وثلاثمائة دارع ، قد منعوني من الأحمر والأسود ، تحصدني (٥) في غداة واحدة إني امرؤ أخشى الدوائر ، قال : فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «هم لك».

قال محمد بن إسحاق : فحدثني أبو إسحاق بن يسار عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن

__________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) أي أجمعنا العزيمة.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ / ٤٧.

(٤) الحاسر : الذي لا درع له ، بعكس الدارع.

(٥) في سيرة ابن هشام : «تحصدهم» وهي أوضح.

١٢٢

الصامت ، قال : لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي ، وقام دونهم ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان أحد بني عوف بن الخزرج له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أبي ، فجعلهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم ، وقال : يا رسول الله ، أبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم ، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين ، وأبرأ من حلف الكفار ، وولايتهم ، ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ ـ إلى قوله ـ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (١).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زيادة عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة ، عن أسامة بن زيد قال : دخلت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على عبد الله بن أبي نعوده ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قد كنت أنهاك عن حب يهود» فقال عبد الله : فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات ، وكذا رواه أبو داود (٣) من حديث محمد بن إسحاق.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (٥٦)

يقول تعالى مخبرا عن قدرته العظيمة أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته ، فإن الله يستبدل به من هو خير لها منه ، وأشدّ منعة ، وأقوم سبيلا ، كما قال تعالى : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) [محمد : ٣٨]. وقال تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) [إبراهيم : ١٩ ـ ٢٠]. أي بممتنع ولا صعب. وقال تعالى هاهنا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) أي يرجع عن الحق إلى الباطل. قال محمد بن كعب : نزلت في الولاة من قريش. وقال الحسن البصري : نزلت في أهل الردة أيام أبي بكر (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) قال الحسن : هو والله أبو بكر وأصحابه ، رواه ابن أبي حاتم. وقال أبو بكر بن أبي شيبة : سمعت أبا بكر بن عياش يقول : في قوله (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) هم أهل القادسية. وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : هم قوم من سبأ وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عبد الله بن الأجلح عن محمد بن عمرو ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ / ٤٩ ـ ٥٠ وتفسير الطبري ٤ / ٦١٦.

(٢) مسند أحمد ٥ / ٢٠١.

(٣) سنن أبي داود (جنائز باب ١ في العيادة)

١٢٣

وَيُحِبُّونَهُ) قال : ناس من أهل اليمن ، ثم من كندة ، ثم من السّكون (١).

وحدثنا أبي ، حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا معاوية يعني ابن حفص ، عن أبي زياد الحلفاني ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ). قال «هؤلاء قوم من أهل اليمن ، ثم من كندة ، ثم من السكون ، ثم من تجيب» ، وهذا حديث غريب جدا.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمر بن شبة ، حدثنا عبد الصمد يعني ابن عبد الوارث ، حدثنا شعبة عن سماك ، سمعت عياضا يحدث عن أبي موسى الأشعري ، قال : لما نزلت (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هم قوم هذا». ورواه ابن جرير (٢) من حديث شعبة بنحوه.

وقوله تعالى : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) هذه صفات المؤمنين الكمل أن يكون أحدهم متواضعا لأخيه ووليه ، متعززا على خصمه وعدوه ، كما قال تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) وفي صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه الضحوك القتال ، فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه.

وقوله عزوجل (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) أي لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله ، وإقامة الحدود ، وقتال أعدائه ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لا يردهم عن ذلك راد ، ولا يصدهم عنه صاد ، ولا يحيك فيهم لوم لائم ، ولا عذل عاذل.

قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عفان ، حدثنا سلام أبو المنذر عن محمد بن واسع ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر ، قال : أمرني خليلي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبع : أمرني بحب المساكين والدنو منهم ، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ، ولا أنظر إلى من هو فوقي ، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت ، وأمرني أن لا أسأل أحدا شيئا ، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرا ، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم ، وأمرني أن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ، فإنهن من كنز تحت العرش.

وقال الإمام أحمد (٤) أيضا : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان عن أبي المثنى ، أن أبا ذر رضي الله عنه ، قال : بايعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسا ، وواثقني سبعا ، وأشهد الله علي سبعا ـ أني

__________________

(١) هو بنو السّكون بن أشرس بن ثور. بطن من كندة من القحطانية. (معجم قبائل العرب القديمة والحديثة ٢ / ٥٢٨)

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٦٢٤.

(٣) مسند أحمد ٥ / ١٥٩.

(٤) مسند أحمد ٥ / ١٧٢.

١٢٤

لا أخاف في الله لومة لائم. قال أبو ذر : فدعاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال «هل لك إلى بيعة ، ولك الجنة؟» قلت : نعم ، وبسطت يدي ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يشترط علي «أن لا تسأل الناس شيئا» قلت : نعم. قال «ولا سوطك وإن سقط منك». يعني تنزل إليه فتأخذه.

وقال الإمام أحمد (١) أيضا : حدثنا محمد بن الحسن ، حدثنا جعفر عن المعلى الفردوسي ، عن الحسن ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده ، فإنه لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو أن يذكر بعظيم» تفرد به أحمد.

وقال أحمد (٢) : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان عن زبيد ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمرا لله فيه مقال فلا يقول فيه فيقال له يوم القيامة : ما منعك أن تكون قلت في كذا وكذا؟ فيقول : مخافة الناس ، فيقول : إياي أحق أن تخاف». ورواه ابن ماجة (٣) من حديث الأعمش عن عمرو بن مرة به.

وروى أحمد (٤) وابن ماجة من حديث عبد الله بن عبد الرحمن أبي طوالة ، عن نهار بن عبد الله العبدي المدني ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «إن الله ليسأل العبد يوم القيامة ، حتى إنه ليسأله يقول له : أي عبدي أرأيت منكرا فلم تنكره؟ فإذا لقن الله عبدا حجته ، قال : أي رب وثقت بك ، وخفت الناس».

وثبت في الصحيح «ما ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه» قالوا : وكيف يذل نفسه يا رسول الله؟ قال «يتحمل من البلاء ما لا يطيق».

(ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي من اتصف بهذه الصفات فإنما هو من فضل الله عليه وتوفيقه له ، (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي واسع الفضل ، عليم بمن يستحق ذلك ممن يحرمه إياه.

وقوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي ليس اليهود بأوليائكم ، بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين. وقوله (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي المؤمنون المتصفون بهذه الصفات من إقام الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام ، وهي عبادة الله وحده لا شريك له وإيتاء الزكاة التي هي حق المخلوقين ومساعدة للمحتاجين والمساكين. وأما قوله (وَهُمْ راكِعُونَ) فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة في موضع الحال من قوله

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ٥٠.

(٢) مسند أحمد ٣ / ٧٣.

(٣) سنن ابن ماجة (فتن باب ٢٠)

(٤) مسند أحمد ٣ / ٧٧.

١٢٥

(وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي في حال ركوعهم ، ولو كان هذا كذلك ، لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره ، لأنه ممدوح ، وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء ممن نعلمه من أئمة الفتوى ، وحتى إن بعضهم ذكر في هذا أثرا عن علي بن أبي طالب أن هذه الآية نزلت فيه ، وذلك أنه مر به سائل في حال ركوعه فأعطاه خاتمه.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الربيع بن سليمان المرادي ، حدثنا أيوب بن سويد عن عتبة بن أبي حكيم في قوله (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) قال : هم المؤمنون وعلي بن أبي طالب ، وحدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا الفضل بن دكين أبو نعيم الأحول ، حدثنا موسى بن قيس الحضرمي عن سلمة بن كهيل ، قال : تصدق علي بخاتمه وهو راكع ، فنزلت (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ).

وقال ابن جرير (١) : حدثني الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا غالب بن عبيد الله ، سمعت مجاهدا يقول في قوله (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) الآية. نزلت في علي بن أبي طالب ، تصدق وهو راكع ، وقال عبد الرزاق : حدثنا عبد الوهاب بن مجاهد ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) الآية ، نزلت في علي بن أبي طالب ، عبد الوهاب بن مجاهد لا يحتج به.

وروى ابن مردويه من طريق سفيان الثوري ، عن أبي سنان ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : كان علي بن أبي طالب قائما يصلي ، فمر سائل وهو راكع ، فأعطاه خاتمه ، فنزلت (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) الآية ، الضحاك لم يلق ابن عباس. وروى ابن مردويه أيضا من طريق محمد بن السائب الكلبي ، وهو متروك ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المسجد والناس يصلون بين راكع وساجد وقائم وقاعد ، وإذا مسكين يسأل ، فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «أعطاك أحد شيئا؟» قال : نعم. قال «من؟» قال : ذلك الرجل القائم. قال «على أي حال أعطاكه؟» قال : وهو راكع ، قال «وذلك علي بن أبي طالب». قال : فكبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ذلك وهو يقول (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) وهذا إسناد لا يفرح به.

ثم رواه ابن مردويه من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه نفسه ، وعمار بن ياسر وأبي رافع ، وليس يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها ، ثم روى بإسناده عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس في قوله (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) نزلت في المؤمنين وعلي بن أبي طالب أولهم ، وقال ابن جرير (٢) : حدثنا هناد ، حدثنا عبدة عن عبد الملك ، عن

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٦٢٩.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٦٢٨.

١٢٦

أبي جعفر قال : سألته عن هذه الآية (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) قلنا : من الذين آمنوا؟ قال : الذين آمنوا. قلنا بلغنا أنها نزلت في علي بن أبي طالب ، قال : علي من الذين آمنوا ، وقال أسباط عن السدي : نزلت هذه الآية في جميع المؤمنين ، ولكن علي بن أبي طالب مر به سائل وهو راكع في المسجد ، فأعطاه خاتمه (١). وقال علي بن أبي طلحة الوالبي ، عن ابن عباس : من أسلم فقد تولى الله ورسوله والذين آمنوا ، رواه ابن جرير.

وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها أن هذه الآيات كلها نزلت في عبادة بن الصامت رضي الله عنه حين تبرأ من حلف اليهود ، ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين ، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) كما قال تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة : ٢١ ـ ٢٢] فكل من رضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين ، فهو مفلح في الدنيا والآخرة ، ومنصور في الدنيا والآخرة ، ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (٥٨)

هذا تنفير من موالاة أعداء الإسلام وأهله من الكتابيين والمشركين ، الذين يتخذون أفضل ما يعمله العاملون : وهي شرائع الإسلام المطهرة المحكمة ، المشتملة على كل خير دنيوي وأخروي ، يتخذونها هزوا يستهزئون بها ، ولعبا يعتقدون أنها نوع من اللعب في نظرهم الفاسد ، وفكرهم البارد ، كما قال القائل : [الوافر]

وكم من عائب قولا صحيحا

وآفته من الفهم السقيم (٢)

وقوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ) من هاهنا لبيان الجنس كقوله (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) وقرأ بعضهم : والكفار بالخفض عطفا ، وقرأ آخرون بالنصب على أنه معمول ، (لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) تقديره ولا (الْكُفَّارَ أَوْلِياءَ) أي لا تتخذوا هؤلاء ولا هؤلاء أولياء ، والمراد بالكفار

__________________

(١) رواه أيضا ابن جرير ٤ / ٦٢٨.

(٢) البيت بلا نسبة في تاج العروس (كفر)

١٢٧

هاهنا المشركون ، وكذلك وقع في قراءة ابن مسعود فيما رواه ابن جرير «لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا» (١).

وقوله (وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي اتقوا الله أن تتخذوا هؤلاء الأعداء لكم ولدينكم أولياء إن كنتم مؤمنين بشرع الله الذي اتخذه هؤلاء هزوا ولعبا ، كما قال تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) [آل عمران : ٢٨].

وقوله : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً) أي وكذلك إذا أذنتم داعين إلى الصلاة التي هي أفضل الأعمال لمن يعقل ويعلم من ذوي الألباب (اتَّخَذُوها) أيضا (هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) معاني عبادة الله وشرائعه ، وهذه صفات أتباع الشيطان الذي «إذا سمع الأذان أدبر وله حصاص ، أي ضراط ، حتى لا يسمع التأذين فإذا قضي التأذين ، أقبل فإذا ثوب للصلاة أدبر ، فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء وقلبه ، فيقول : اذكر كذا اذكر كذا ، لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى ، فإذا وجد أحدكم ذلك ، فليسجد سجدتين قبل السلام» (٢) متفق عليه ، وقال الزهري : قد ذكر الله التأذين في كتابه فقال (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) رواه ابن أبي حاتم.

وقال أسباط عن السدي في قوله (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً) قال : كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي : أشهد أن محمدا رسول الله قال : حرق الكاذب ، فدخلت خادمة ليلة من الليالي بنار وهو نائم ، وأهله نيام ، فسقطت شرارة فأحرقت البيت ، فاحترق هو وأهله ، رواه ابن جرير (٣) وابن أبي حاتم.

وذكر محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال ، فأمره أن يؤذن ، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة ، فقال عتاب بن أسيد ، لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه ، وقال الحارث بن هشام : أما والله لو أعلم أنه محق لا تبعته ، فقال أبو سفيان : لا أقول شيئا لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى ، فخرج عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «قد علمت الذي قلتم» ثم ذكر ذلك لهم ، فقال الحارث وعتاب : نشهد أنك رسول الله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول : أخبرك (٤).

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٦٣٠.

(٢) رواه مسلم وأبو داود من حديث أبي هريرة : صحيح مسلم (صلاة حديث ٢٠) وسنن أبي داود (صلاة باب ٣١). وفيهما «إن يدري كم صلى». إن هنا بمعنى ما.

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٦٣١.

(٤) سيرة ابن هشام ٢ / ٤١٣.

١٢٨

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا ابن جريج ، أخبرنا عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة أن عبد الله بن محيريز أخبره وكان يتيما في حجر أبي محذورة ، قال : قلت لأبي محذورة : يا عم إني خارج إلى الشام ، وأخشى أن أسأل عن تأذينك ، فأخبرني أن أبا محذورة قال له : نعم ، خرجت في نفر وكنا في بعض طريق حنين مقفل (٢) رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من حنين ، فلقينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببعض الطريق ، فأذن مؤذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصلاة عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون ، فصرخنا نحكيه ونستهزئ به فسمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع»؟ فأشار القوم كلهم إليّ وصدقوا ، فأرسل كلهم وحبسني ، وقال «قم فأذن» فقمت ولا شيء أكره إليّ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا مما يأمرني به ، فقمت بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فألقى عليّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم التأذين هو بنفسه ، قال «قل الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة حي على الصلاة ، حي على الفلاح حي على الفلاح ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله» ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة ، ثم أمرّها على وجهه ، ثم بين ثدييه ، ثم على كبده ، حتى بلغت يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرة أبي محذورة ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بارك الله فيك وبارك عليك» فقلت : يا رسول الله مرني بالتأذين بمكة ، فقال «قد أمرتك به» ، وذهب كل شيء كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كراهة ، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [بمكة] (٣) فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخبرني ذلك من أدركت من أهلي ممن أدرك أبا محذورة على نحو ما أخبرني عبد الله بن محيريز هكذا رواه الإمام أحمد وقد أخرجه مسلم في صحيحه وأهل السنن الأربعة من طريق عن عبد الله بن محيريز عن أبي محذورة واسمه سمرة بن معير بن لوذان ، أحد مؤذني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأربعة ، وهو مؤذن أهل مكة ، وامتدت أيامه رضي الله عنه وأرضاه.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ(٦٠) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ٤٠٨ ـ ٤٠٩.

(٢) في المسند «فقفل».

(٣) زيادة من المسند.

١٢٩

لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) (٦٣)

يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من أهل الكتاب : (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) أي هل لكم علينا مطعن أو عيب إلا هذا؟ وهذا ليس بعيب ولا مذمة ، فيكون الاستثناء منقطعا ، كما في قوله تعالى : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج : ٨] ، وكقوله : (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) [التوبة : ٧٤] وفي الحديث المتفق عليه «ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرا فأغناه الله» (١) ، وقوله (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) معطوف على (أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) أي وآمنا بأن أكثركم فاسقون ، أي خارجون عن الطريق المستقيم.

ثم قال (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ) أي هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا؟ وهم أنتم الذين هم متصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) أي أبعده من رحمته (وَغَضِبَ عَلَيْهِ) أي غضبا لا يرضى بعده أبدا (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) كما تقدم بيانه في سورة البقرة (٢) ، وكما سيأتي إيضاحه في سورة الأعراف (٣) ، وقد قال سفيان الثوري ، عن علقمة بن مرثد ، عن المغيرة بن عبد الله ، عن المعرور بن سويد ، عن ابن مسعود قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن القردة والخنازير : أهي مما مسخ الله؟ فقال «إن الله لم يهلك قوما ، أو لم يمسخ قوما فيجعل لهم نسلا ولا عقبا ، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك» وقد رواه مسلم (٤) من حديث سفيان الثوري ومسعر ، كلاهما عن مغيرة بن عبد الله اليشكري به.

وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا داود بن أبي الفرات ، عن محمد بن زيد ، عن أبي الأعين العبدي ، عن أبي الأحوص ، عن ابن مسعود قال : سألنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن القردة والخنازير : أهي من نسل اليهود؟ فقال «لا إن الله لم يلعن قوما قط فيمسخهم ، فكان لهم نسل ولكن هذا خلق كان ، فلما غضب الله على اليهود فمسخهم جعلهم مثلهم» ، ورواه أحمد (٥) من حديث داود بن أبي الفرات به.

وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الباقي ، حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا الحسن بن محبوب ، حدثنا عبد العزيز بن المختار عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال

__________________

(١) صحيح البخاري (زكاة باب ٤٩) وصحيح مسلم (زكاة حديث ١١) وسنن أبي داود (زكاة باب ٢٢)

(٢) الآية ٦٥.

(٣) الآية ١٦٦.

(٤) صحيح مسلم (قدر حديث ٣٢)

(٥) مسند أحمد ١ / ٣٩٥.

١٣٠

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الحيات مسخ الجن كما مسخت القردة والخنازير» هذا حديث غريب جدا.

وقوله تعالى : (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) قرئ : وعبد الطاغوت على أنه فعل ماض ، والطاغوت منصوب به ، أي وجعل منهم من عبد الطاغوت ، وقرئ : وعبد الطاغوت بالإضافة على أن المعنى وجعل منهم خدم الطاغوت ، أي خدامه وعبيده ، وقرئ : وعبد الطاغوت على أنه جمع الجمع عبد وعبيد وعبد مثل ثمار وثمر ، حكاها ابن جرير (١) عن الأعمش ، وحكي عن بريدة الأسلمي أنه كان يقرؤها وعابد الطاغوت ، وعن أبي وابن مسعود : وعبدوا ، وحكى ابن جرير عن أبي جعفر القارئ أنه كان يقرؤها : وعبد الطاغوت على أنه مفعول ما لم يسم فاعله ، ثم استبعد معناها ، والظاهر أنه لا بعد في ذلك ، لأن هذا من باب التعريض بهم ، أي وقد عبد الطاغوت فيكم وأنتم الذين فعلتموه ، وكل هذه القراءات يرجع معناها إلى أنكم يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا والذي هو توحيد الله وإفراده بالعبادات دون ما سواه ، كيف يصدر منكم هذا ، وأنتم قد وجد منكم جميع ما ذكر؟ ولهذا قال (أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً) أي مما تظنون بنا (وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر مشاركة ، كقوله عزوجل : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً).

وقوله تعالى : (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) وهذه صفة المنافقين منهم أنهم يصانعون المؤمنين في الظاهر وقلوبهم منطوية على الكفر ، ولهذا قال (وَقَدْ دَخَلُوا) أي عندك يا محمد (بِالْكُفْرِ) أي مستصحبين الكفر في قلوبهم ، ثم خرجوا وهو كامن فيها لم ينتفعوا بما قد سمعوا منك من العلم ، ولا نجعت فيهم المواعظ ولا الزواجر ولهذا قال (وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) فخصهم به دون غيرهم ، وقوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) أي والله عالم بسرائرهم وما تنطوي عليه ضمائرهم ، وإن أظهروا لخلقه خلاف ذلك ، وتزينوا بما ليس فيهم ، فإن الله عالم الغيب والشهادة أعلم بهم منهم ، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء وقوله (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) أي يبادرون إلى ذلك من تعاطي المآثم والمحارم والاعتداء على الناس وأكلهم أموالهم بالباطل ، (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، أي لبئس العمل كان عملهم ، وبئس الاعتداء اعتداؤهم.

وقوله تعالى : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) يعني هلا كان ينهاهم الربانيون والأحبار عن تعاطي ذلك ، والربانيون هم العلماء العمال أرباب الولايات عليهم ، والأحبار هم العلماء فقط (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) يعني من تركهم ذلك ، قاله علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: قال لهؤلاء حين لم ينهوا ولهؤلاء حين عملوا ، قال : وذلك الأمر كان ، قال : ويعملون

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٦٣٤.

١٣١

ويصنعون واحد ، رواه ابن أبي حاتم.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن عطية ، حدثنا قيس عن العلاء بن المسيب ، عن خالد بن دينار ، عن ابن عباس ، قال : ما في القرآن آية أشد توبيخا من هذه الآية «لو لا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون» قال : كذا قرأ وكذا قال الضحاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها ، إنا لا ننهى ، رواه ابن جرير(٢).

وقال ابن أبي حاتم ، ذكره يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا محمد بن مسلم بن أبي الوضاح ، حدثنا ثابت أبو سعيد الهمداني قال لقيته بالري فحدث عن يحيى بن يعمر قال : خطب علي بن أبي طالب فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار ، فلما تمادوا في المعاصي أخذتهم العقوبات فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم ، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقا ولا يقرب أجلا.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا شريك عن أبي إسحاق عن المنذر بن جرير ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع ، ولم يغيروا إلا أصابهم الله منه بعذاب» تفرد به أحمد من هذا الوجه ، ورواه أبو داود (٤) عن مسدد ، عن أبي الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن المنذر بن جرير ، عن جرير قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه ، فلا يغيرون إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا» وقد رواه ابن ماجة عن علي بن محمد ، عن وكيع عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبيد الله بن جرير ، عن أبيه به ، قال الحافظ المزي: وهكذا رواه شعبة عن أبي إسحاق به.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) (٦٦)

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٦٣٨.

(٢) المصدر السابق.

(٣) مسند أحمد ٤ / ٣٦٣.

(٤) سنن أبي داود (ملاحم باب ١٧)

١٣٢

يخبر تعالى عن اليهود ـ عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ـ بأنهم وصفوا الله عزوجل وتعالى عن قولهم علوا كبيرا بأنه بخيل ، كما وصفوه بأنه فقير وهم أغنياء وعبروا عن البخل بأن قالوا (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ). قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الطهراني ، حدثنا حفص بن عمر العدني ، حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة قال : قال ابن عباس (مَغْلُولَةٌ) أي بخيلة ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) قال : لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة ، ولكن يقولون : بخيل يعني أمسك ما عنده بخلا تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ، وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي والضحاك ، وقرأ (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) يعني أنه ينهى عن البخل وعن التبذير ، وهو زيادة الإنفاق في غير محله ، وعبر عن البخل بقوله (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) وهذا هو الذي أراد هؤلاء اليهود عليهم لعائن الله ، وقد قال عكرمة : إنها نزلت في فنحاص اليهودي ، عليه لعنة الله ، وقد تقدم أنه الذي قال (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [آل عمران : ١٨١] فضربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

وقال محمد بن إسحاق : حدثنا محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس إن ربك بخيل لا ينفق ، فأنزل الله (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) وقد ردّ الله عزوجل عليهم ما قالوه وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه وائتفكوه ، فقال (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) وهكذا وقع لهم ، فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة أمر عظيم ، كما قال تعالى : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء : ٥٣ ـ ٥٤] ، وقال تعالى : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) [البقرة : ٦١ وآل عمران : ١١٢].

ثم قال تعالى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) أي بل هو الواسع الفضل ، الجزيل العطاء ، الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه ، وهو الذي ما بخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له ، الذي خلق لنا كل شيء مما نحتاج إليه ، في ليلنا ونهارنا ، وحضرنا وسفرنا ، وفي جميع أحوالنا ، كما قال (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم : ٣٤] والآيات في هذا كثيرة ، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل (١) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن همام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء (٢) الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ، فإنه لم يغض ما في يمينه ـ قال : وعرشه على الماء وفي يده الأخرى

__________________

(١) مسند أحمد ٢ / ٣١٣ ـ ٣١٤.

(٢) السحّاء : الدائمة الصب والعطاء. لا يغيضها : لا ينقصها.

١٣٣

القبض يرفع ويخفض. وقال : يقول الله تعالى : «أنفق ، أنفق عليك» أخرجاه في الصحيحين ، البخاري في التوحيد عن علي بن المديني ، ومسلم فيه عن محمد بن رافع ، كلاهما عن عبد الرزاق به.

وقوله تعالى : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) أي يكون ما آتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم ، فكما يزداد به المؤمنون تصديقا وعملا صالحا وعلما نافعا ، يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك طغيانا ، وهو المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء ، وكفرا أي تكذيبا ، كما قال تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [فصلت : ٤٤] وقال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [الإسراء : ٨٢] ، وقوله تعالى : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) يعني أنه لا تجتمع قلوبهم بل العداوة واقعة بين فرقهم بعضهم في بعض دائما ، لأنهم لا يجتمعون على حق ، وقد خالفوك وكذبوك ، وقال إبراهيم النخعي : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) ، قال : الخصومات والجدال في الدين ، رواه ابن أبي حاتم.

وقوله (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) أي كلما عقدوا أسبابا يكيدونك بها ، وكلما أبرموا أمورا يحاربونك بها ، أبطلها الله ورد كيدهم عليهم ، وحاق مكرهم السيئ بهم (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) أي من سجيتهم أنهم دائما يسعون في الإفساد في الأرض ، والله لا يحب من هذه صفته ، ثم قال جلا وعلا : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا) أي لو أنهم آمنوا بالله ورسوله واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المآثم والمحارم (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي لأزلنا عنهم المحذور وأنلناهم المقصود ، (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) قال ابن عباس وغيره : هو القرآن ، (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) أي لو أنهم عملوا بما في الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء على ما هي عليه من غير تحريف ولا تبديل ولا تغيير ، لقادهم ذلك إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى ما بعث الله به محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه حتما لا محالة.

وقوله تعالى : (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) يعني بذلك كثرة الرزق النازل عليهم من السماء والنابت لهم من الأرض ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ) يعني لأرسل السماء عليهم مدرارا ، (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) يعني يخرج من الأرض بركاتها ، وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والسدي ، كما قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ٩٦] وقال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) [الروم : ٤١] ، وقال بعضهم معناه (لَأَكَلُوا

١٣٤

مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) يعني من غير كد ولا تعب ولا شقاء ولا عناء. وقال ابن جرير : قال بعضهم : معناه لكانوا في الخير كما يقول القائل : هو في الخير من قرنه إلى قدمه ، ثم رد هذا القول لمخالفته أقوال السلف (١).

وقد ذكر ابن أبي حاتم عند قوله (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) حديث علقمة عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يوشك أن يرفع العلم» فقال زياد بن لبيد : يا رسول الله ، وكيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا؟ فقال «ثكلتك أمك يا ابن لبيد إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة ، أو ليست التوراة. والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى ، فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله» ثم قرأ (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) هكذا أورده ابن أبي حاتم معلقا من أول إسناده مرسلا في آخره.

وقد رواه الإمام أحمد (٢) بن حنبل متصلا موصولا ، فقال : حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد ، عن زياد بن لبيد أنه قال ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا ، فقال «وذاك عند ذهاب العلم» قال : قلنا : يا رسول الله ، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ، ونقرئه أبناءنا ، وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم إلى يوم القيامة؟ فقال «ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد ، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة ، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء» هكذا رواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن وكيع بإسناده نحوه ، وهذا إسناد صحيح.

وقوله تعالى : (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) كقوله (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف : ١٥٩] وكقوله من أتباع عيسى (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) [الحديد : ٢٧] ، فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد وهو أوسط مقامات هذه الأمة وفوق ذلك رتبة السابقين ، كما في قوله عزوجل : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) [فاطر : ٣٢ ، ٣٣] ، والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة كلهم يدخلون الجنة ، وقد قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا أحمد بن يونس الضبي ، حدثنا عاصم بن عدي حدثنا أبو معشر ، عن يعقوب بن يزيد بن طلحة ، عن زيد بن أسلم ، عن أنس بن مالك قال : كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال «تفرقت أمة موسى على إحدى وسبعين ملة : سبعون منها في النار ، وواحدة في الجنة ، وتفرقت أمة عيسى على اثنتين وسبعين ملة : واحدة في الجنة ، وإحدى وسبعون منها في النار ، وتعلو أمتي على الفرقتين جميعا واحدة في الجنة ،

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٦٤٥.

(٢) مسند أحمد ٤ / ١٦٠.

١٣٥

وثنتان وسبعون في النار» قالوا : من هم يا رسول الله؟ قال «الجماعات الجماعات». قال يعقوب بن زيد : كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا فيه قرآنا ، قال (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) إلى قوله تعالى : (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) وتلا أيضا قوله تعالى : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) يعني أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه وبهذا السياق ، وحديث افتراق الأمم إلى بضع وسبعين مروي من طرق عديدة ، وقد ذكرناه في موضع آخر ولله الحمد والمنة.

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٦٧)

يقول تعالى مخاطبا عبده ورسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم باسم الرسالة ، وآمرا له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به ، وقد امتثل عليه أفضل الصلاة والسلام ذلك ، وقام به أتم القيام ، قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان عن إسماعيل ، عن الشعبي عن مسروق ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : من حدثك أن محمدا كتم شيئا مما أنزل الله عليه فقد كذب ، والله يقول (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) الآية (١) ، هكذا رواه هاهنا مختصرا وقد أخرجه في مواضع من صحيحه مطولا ، وكذا رواه مسلم في كتابي الإيمان ، والترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننهما من طرق عن عامر الشعبي ، عن مسروق بن الأجدع ، عنها رضي الله عنها ، وفي الصحيحين عنها أيضا أنها قالت : لو كان محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كاتما شيئا من القرآن لكتم هذه الآية (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) (٢).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي : حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد عن هارون بن عنترة ، عن أبيه قال : كنا عند ابن عباس ، فجاء رجل فقال له : إن ناسا يأتونا فيخبروننا أن عندكم شيئا لم يبده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للناس فقال ابن عباس : ألم تعلم أن الله تعالى قال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) والله ما ورثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوداء في بيضاء ، وهذا إسناد جيد ، وهكذا في صحيح البخاري من رواية أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي قال : قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة ، قلت : وما في هذه الصحيفة؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر (٣).

__________________

(١) صحيح البخاري (تفسير سورة آل عمران باب ٦)

(٢) صحيح البخاري (توحيد باب ٢٢) وصحيح مسلم (إيمان حديث ٢٨٨)

(٣) صحيح البخاري (جهاد باب ١٧١ وجزية باب ١٠ و١١ واعتصام باب ٥ وعلم باب ٣٩ وفرائض باب ٢١ ـ

١٣٦

وقال البخاري : قال الزهري : من الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم ، وقد شهدت له أمته بإبلاغ الرسالة وأداء الأمانة ، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع ، وقد كان هناك من أصحابه نحو من أربعين ألفا ، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في خطبته يومئذ «أيها الناس إنكم مسؤولون عني ، فما أنتم قائلون؟» قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت ، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكسها إليهم ويقول «اللهم هل بلغت» (١)؟.

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا ابن نمير ، حدثنا فضيل يعني ابن غزوان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع. «يا أيها الناس» أي يوم هذا؟ قالوا : يوم حرام ، قال أي بلد هذا؟ قالوا : بلد حرام ، قال أي شهر هذا؟ قالوا : شهر حرام ، قال «فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا» ثم أعادها مرارا ، ثم رفع إصبعه إلى السماء فقال «اللهم هل بلغت؟» مرارا. قال : يقول ابن عباس : والله لوصية إلى ربه عزوجل ، ثم قال «ألا فليبلغ الشاهد الغائب : لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» وقد روى البخاري عن علي بن المديني ، عن يحيى بن سعيد ، عن فضيل بن غزوان به نحوه.

وقوله تعالى : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) يعني وإن لم تؤد إلى الناس ما أرسلتك به ، فما بلغت رسالته ، أي وقد علم ما يترتب على ذلك لو وقع وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) يعني إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا قبيصة بن عقبة ، حدثنا سفيان عن رجل ، عن مجاهد قال : لما نزلت (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) قال : يا رب ، كيف أصنع وأنا وحدي يجتمعون عليّ؟ فنزلت (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) ورواه ابن جرير (٣) من طريق سفيان وهو الثوري به.

وقوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أي بلغ أنت رسالتي وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك ومظفرك بهم ، فلا تخف ولا تحزن فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك ، وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل نزول هذه الآية يحرس ، كما قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا يزيد ، حدثنا يحيى قال : سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث أن عائشة رضي الله عنها كانت

__________________

ـ وديات باب ٢٤)

(١) صحيح مسلم (حج حديث ١٤٧)

(٢) مسند أحمد ١ / ٢٣٠.

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٦٤٧.

(٤) مسند أحمد ٦ / ١٤٠ ـ ١٤١.

١٣٧

تحدث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سهر ذات ليلة وهي إلى جنبه قالت : فقلت ما شأنك يا رسول الله؟ قال «ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة» قالت : فبينا أنا على ذلك ، إذ سمعت صوت السلاح ، فقال «من هذا؟» فقال : أنا سعد بن مالك. فقال : «ما جاء بك؟» قال: جئت لأحرسك يا رسول الله. قالت : فسمعت غطيط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نومه ، أخرجاه في الصحيحين من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري به ، وفي لفظ : سهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة مقدمه المدينة يعني على أثر هجرته بعد دخوله بعائشة رضي الله عنها ، وكان ذلك في سنة ثنتين منها.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا إبراهيم بن مرزوق البصري ، نزيل مصر ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا الحارث بن عبيد يعني أبا قدامة عن الجريري ، عن عبد الله بن شقيق ، عن عائشة قالت : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) قالت : فأخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأسه من القبة وقال «يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله عزوجل» وهكذا رواه الترمذي عن عبد بن حميد ، وعن نصر بن علي الجهضمي ، كلاهما عن مسلم بن إبراهيم به ، ثم قال : وهذا حديث غريب ، وهكذا رواه ابن جرير والحاكم في مستدركه من طريق مسلم بن إبراهيم به ، قال الحاكم : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه ، وكذا رواه سعيد بن منصور عن الحارث بن عبيد أبي قدامة عن الجريري ، عن عبد الله بن شقيق ، عن عائشة به ، ثم قال الترمذي : وقد روى بعضهم هذا عن الجريري عن ابن شقيق ، قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية ، ولم يذكر عائشة. قلت : هكذا رواه ابن جرير من طريق إسماعيل ابن علية ، وابن مردويه من طريق وهيب ، كلاهما عن الجريري عن عبد الله بن شقيق مرسلا ، وقد روي هذا مرسلا عن سعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي ، رواهما ابن جرير ، والربيع بن أنس ، رواه ابن مردويه ، ثم قال : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أحمد بن رشدين المصري ، حدثنا خالد بن عبد السلام الصدفي ، حدثنا الفضل بن المختار عن عبد الله بن موهب ، عن عصمة بن مالك الخطمي قال : كنا نحرس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالليل. حتى نزلت (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فترك الحرس ، حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا حمد بن محمد بن حمد أبو نصر الكاتب البغدادي ، حدثنا كردوس بن محمد الواسطي ، حدثنا يعلى بن عبد الرحمن عن فضيل بن مرزوق عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : كان العباس عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيمن يحرسه ، فلما نزلت هذه الآية (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحرس. حدثنا علي بن أبي حامد المديني ، حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد ، حدثنا محمد بن مفضل بن إبراهيم الأشعري ، حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن معاوية بن عمار ، حدثنا أبي قال : سمعت أبا الزبير المكي يحدث عن جابر بن عبد الله ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه حتى نزلت (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فذهب ليبعث معه ، فقال «يا عم إن الله قد

١٣٨

عصمني لا حاجة لي إلى من تبعث» وهذا حديث غريب وفيه نكارة ، فإن هذه الآية مدنية ، وهذا الحديث يقتضي أنها مكية ، ثم قال : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا أبو كريب ، حدثنا عبد الحميد الحماني عن النضر ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرس فكان أبو طالب يرسل إليه كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت عليه هذه الآية (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) قال : فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه ، فقال : «إن الله قد عصمني من الجن والإنس» ، ورواه الطبراني عن يعقوب بن غيلان العماني ، عن أبي كريب به.

وهذا أيضا حديث غريب ، والصحيح أن هذه الآية مدنية بل هي من أواخر ما نزل بها ، والله أعلم ، ومن عصمة الله لرسوله ، حفظه له من أهل مكة وصناديدها وحسادها ومعانديها ومترفيها ، مع شدة العداوة والبغضة ، ونصب المحاربة له ليلا ونهارا ، بما يخلقه الله من الأسباب العظيمة بقدرته وحكمته العظيمة ، فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب إذ كان رئيسا مطاعا كبيرا في قريش ، وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا شرعية ، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها ، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه ، فلما مات عمه أبو طالب ، نال منه المشركون أذى يسيرا ، ثم قيض الله له الأنصار فبايعوه على الإسلام وعلى أن يتحول إلى دارهم وهي المدينة ، فلما صار إليها ، منعوه من الأحمر والأسود ، وكلما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله ، ورد كيده عليه ، كما كاده اليهود بالسحر فحماه الله منهم ، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء ، ولما سمه اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر ، أعلمه الله به وحماه منه ، ولهذا أشباه كثيرة جدا يطول ذكرها ، فمن ذلك ما ذكره المفسرون عند هذه الآية الكريمة :

فقال أبو جعفر بن جرير (١) : حدثنا الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي ، وغيره ، قالوا : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها ، فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ، ثم قال : من يمنعك مني؟ فقال «الله عزوجل» فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه ، وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ، فأنزل الله عزوجل : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا موسى بن عبيدة ، حدثني زيد بن أسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : لما غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني أنمار ، نزل ذات الرقاع بأعلى نخل ، فبينا هو جالس على رأس

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٦٤٨.

١٣٩

بئر قد دلى رجليه ، فقال غورث بن الحارث من بني النجار : لأقتلن محمدا ، فقال له أصحابه : كيف تقتله؟ قال : أقول له : أعطني سيفك ، فإذا أعطانيه ، قتلته به ، قال : فأتاه. فقال : يا محمد ، أعطني سيفك أشيمه ، فأعطاه إياه ، فرعدت يده حتى سقط السيف من يده ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «حال الله بينك وبين ما تريد» ، فأنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، وقصة غورث بن الحارث مشهورة في الصحيح (١).

وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا أبو عمرو بن أحمد بن محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن عبد الوهاب ، حدثنا آدم ، حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : كنا إذا صحبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها ، فينزل تحتها ، فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها ، فجاء رجل فأخذه ، فقال : يا محمد من يمنعك مني؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الله يمنعني منك ضع السيف» فوضعه ، فأنزل الله عزوجل : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) وكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن عبد الله بن محمد ، عن إسحاق بن إبراهيم ، عن المؤمل بن إسماعيل ، عن حماد بن سلمة به.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت أبا إسرائيل ، يعني الجشمي ، سمعت جعدة هو ابن خالد بن الصمة الجشمي رضي الله عنه ، قال : سمعت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ورأى رجلا سمينا ، فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئ إلى بطنه بيده ويقول «لو كان هذا في غير هذا ، لكان خيرا لك» قال : وأتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجل ، فقيل : هذا أراد أن يقتلك ، فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم ترع ولو أردت ذلك لم يسلطك الله علي».

وقوله (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي بلغ أنت والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، كما قال تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [البقرة: ٢٧٢] وقال (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) [الرعد : ٤٠].

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ(٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٩)

يقول تعالى : قل يا محمد (يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) أي من الدين حتى تقيموا التوراة والإنجيل ، أي حتى تؤمنوا بجميع ما بأيديكم من الكتب المنزلة من الله على الأنبياء ،

__________________

(١) انظر صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة ذات الرقاع.

(٢) مسند أحمد ٣ / ٤٧١.

١٤٠