تفسير القرآن العظيم - ج ٣

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٣

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٩٥

عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو قال : سرقت امرأة حليا فجاء الذين سرقتهم ، فقالوا : يا رسول الله ، سرقتنا هذه المرأة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اقطعوا يدها اليمنى» فقالت المرأة : هل من توبة؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك» ، قال : فأنزل الله عزوجل (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

وقد رواه الإمام أحمد (١) بأبسط من هذا فقال : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثني يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء بها إلى الذين سرقتهم ، فقالوا : يا رسول الله ، إن هذه المرأة سرقتنا. قال قومها : فنحن نفديها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اقطعوا يدها» ، فقالوا : نحن نفديها بخمسمائة دينار ، فقال «اقطعوا يدها» فقطعت يدها اليمنى ، فقالت المرأة : هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال «نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك» ، فأنزل الله في سورة المائدة (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

وهذه المرأة هي المخزومية التي سرقت ، وحديثها ثابت في الصحيحين من رواية الزهري عن عروة ، عن عائشة أن قريشا أهمهم شأن المرأة التي سرقت ، في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة الفتح ، فقالوا : من يكلم فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقالوا : ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتى بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكلمه فيها أسامة بن زيد ، فتلون وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «أتشفع في حد من حدود الله عزوجل؟» فقال له أسامة : استغفر لي يا رسول الله ، فلما كان العشي ، قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال «أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت ، لقطعت يدها» ، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها. قالت عائشة : فحسنت توبتها بعد ، وتزوجت وكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا لفظ مسلم (٢). وفي لفظ له عن عائشة قالت : كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقطع يدها.

وعن ابن عمر قال : كانت امرأة مخزومية تستعير متاعا على ألسنة جاراتها وتجحده ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقطع يدها ، رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وهذا لفظه (٣) ، وفي لفظ له أن امرأة كانت تستعير الحلي للناس ثم تمسكه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لتتب هذه المرأة إلى الله وإلى رسوله ، وترد ما تأخذ على القوم» ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قم يا بلال فخذ بيدها

__________________

(١) مسند أحمد ٢ / ١٧٧ ـ ١٧٨.

(٢) صحيح مسلم (حدود حديث ٩) وصحيح البخاري (حدود باب ١٢)

(٣) سنن النسائي (سارق باب ٥) وسنن أبي داود (حدود باب ٤ و١٦) وصحيح مسلم (حدود حديث ١٠)

١٠١

فاقطعها». وقد ورد في أحكام السرقة أحاديث كثيرة مذكورة في كتاب الأحكام ، ولله الحمد والمنة ، ثم قال تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هو المالك لجميع ذلك ، الحاكم فيه ، الذي (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) ، وهو الفعال لما يريد يغفر (لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٤٤)

نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر ، الخارجين عن طاعة الله ورسوله ، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عزوجل (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) أي أظهروا الإيمان بألسنتهم ، وقلوبهم خراب خاوية منه ، وهؤلاء هم المنافقون (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) أعداء الإسلام وأهله ، وهؤلاء كلهم (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) أي مستجيبون له ، منفعلون عنه ، (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) أي يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد ، وقيل : المراد أنهم يتسمعون الكلام وينهونه إلى قوم آخرين ممن لا يحضر عندك من أعدائك (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أي يتأوّلونه على غير تأويله ، ويبدلونه من بعد ما عقلوه ، وهم يعلمون ، (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) قيل : نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلا ، وقالوا : تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد ، فإن حكم بالدية فاقبلوه ، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه ، والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم ، فحرفوه واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة ، والتحميم (١) والإركاب على حمارين مقلوبين ، فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم : تعالوا حتى نتحاكم إليه ، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه

__________________

(١) التحميم : تسويد الوجه بالحمم وهو الفحم.

١٠٢

واجعلوه حجة بينكم وبين الله ، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك ، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك.

وقد وردت الأحاديث في ذلك فقال مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟» فقالوا : نفضحهم ويجلدون ، قال عبد الله بن سلام : كذبتم ، إن فيها الرجم ، فأتوا بالتوراة فنشروها ، فوضع أحدهم يده على آية الرجم ؛ فقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك فرفع يده ، فإذا آية الرجم ، فقالوا : صدق يا محمد فيها آية الرجم ، فأمر بهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرجما ، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة (١) ، أخرجاه ، وهذا لفظ البخاري وفي لفظ له : فقال لليهود «ما تصنعون بهما؟» قالوا : نسخم وجوههما ونخزيهما ، قال (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [آل عمران : ٩٣] فجاؤوا فقالوا لرجل منهم ممن يرضون أعور : اقرأ فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها ، فوضع يده عليه فقال : ارفع يدك فرفع ، فإذا آية الرجم تلوح ، قال : يا محمد إن فيها آية الرجم ولكنا نتكاتمه بيننا ، فأمر بهما فرجما.

وعند مسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتي بيهودي ويهودية قد زنيا ، فانطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى جاء يهود فقال «ما تجدون في التوراة على من زنى؟» قالوا : نسود وجوههما ونحممهما ، ونحملهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما. قال (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [آل عمران : ٩٣] قال : فجاؤوا بها فقرؤوها حتى إذا مروا بآية الرجم ، وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم ، وقرأ ما بين يديها وما وراءها ، فقال له عبد الله بن سلام وهو مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : مره فليرفع يده فرفع يده ، فإذا تحتها آية الرجم ، فأمر بهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرجما. قال عبد الله بن عمر : كنت فيمن رجمهما ، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه (٢). وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني ، حدثنا ابن وهب ، حدثنا هشام بن سعد أن زيد بن أسلم حدثه عن ابن عمر قال : أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى القف ، فأتاهم في بيت المدارس ، فقالوا : يا أبا القاسم ، إن رجلا منا زنى بامرأة فاحكم. قال : ووضعوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسادة فجلس عليها ، ثم قال «ائتوني بالتوراة» فأتي بها ، فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها ، وقال «آمنت بك وبمن أنزلك» ثم قال «ائتوني بأعلمكم» فأتي بفتى شاب ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع (٣).

وقال الزهري : سمعت رجلا من مزينة ممن يتبع العلم ويعيه ، ونحن عند ابن المسيب ، عن

__________________

(١) صحيح البخاري (توحيد باب ٥١ وتفسير سورة آل عمران باب ٣ و٦) وموطأ مالك (حدود حديث ١)

(٢) صحيح مسلم (حدود حديث ٢٦)

(٣) سنن أبي داود (حدود باب ٢٥)

١٠٣

أبي هريرة قال : زنى رجل من اليهود بامرأة فقال بعضهم لبعض : اذهبوا إلى هذا النبي فإنه بعث بالتخفيف ، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله ، قلنا : فتيا نبي من أنبيائك. قال : فأتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه ، فقالوا : يا أبا القاسم ، ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا؟ فلم يكلمهم بكلمة حتى أتى بيت مدارسهم ، فقام على الباب فقال «أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟» قالوا : يحمم ويجبه ويجلد ، والتجبيه أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما ، قال : وسكت شاب منهم ، فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سكت ، ألظ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم النشدة (١) ، فقال : اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فما أول ما ارتخصتم أمر الله» قال : زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم ، ثم زنى رجل في إثرة من الناس فأراد رجمه ، فحال قومه دونه وقالوا : لا نرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه ، فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فإني أحكم بما في التوراة» فأمر بهما فرجما ، قال الزهري : فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم ، رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه ، وابن جرير (٢).

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة ، عن البراء بن عازب ، قال : مرّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهودي محمم مجلود ، فدعاهم ، فقال «أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟» فقالوا : نعم ، فدعا رجلا من علمائهم فقال «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟» فقال : لا والله ، ولو لا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك ، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا فكنّا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فقلنا : تعالوا حتى نجعل شيئا نقيمه على الشريف والوضيع ، فاجتمعنا على التحميم والجلد ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه» قال : فأمر به فرجم ، قال : فأنزل الله عزوجل (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) إلى قوله (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ) أي يقولون : ائتوا محمدا فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا ، إلى قوله (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) قال في اليهود ، إلى قوله (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة : ٤٥] قال في اليهود (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [المائدة : ٤٧] قال : في الكفار كلها ، انفرد بإخراجه مسلم (٤) دون البخاري وأبو

__________________

(١) ألظ به النشدة : ألحّ في سؤاله.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٥٨٩ وسنن أبي داود (حدود باب ٢٥)

(٣) مسند أحمد ٤ / ٢٨٦.

(٤) صحيح مسلم (حدود حديث ٢٨)

١٠٤

داود والنسائي وابن ماجة من غير وجه عن الأعمش به.

وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده : حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا مجالد بن سعيد الهمداني عن الشعبي ، عن جابر بن عبد الله ، قال : زنى رجل من أهل فدك ، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة ، أن سلوا محمدا عن ذلك ، فإذا أمركم بالجلد فخذوه عنه ، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه ، فسألوه عن ذلك ، فقال «أرسلوا إلي أعلم رجلين فيكم» فجاؤوا برجل أعور يقال له ابن صوريا ، وآخر ، فقال لهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنتما أعلم من قبلكما» فقالا : قد دعانا قومنا لذلك ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهما «أليس عندكما التوراة فيها حكم الله» قالا : بلى ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل ، وظلل عليكم الغمام ، وأنجاكم من آل فرعون ، وأنزل المن والسلوى على بني إسرائيل ، ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقال أحدهما للآخر : ما نشدت بمثله قط ، ثم قالا : نجد ترداد النظر زنية ، والاعتناق زنية ، والتقبيل زنية ، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدئ ويعيد ، كما يدخل الميل في المكحلة ، فقد وجب الرجم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هو ذاك» فأمر به فرجم ، فنزلت (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث مجالد به نحوه (١). ولفظ أبي داود عن جابر ، قال : جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا ، فقال «ائتوني بأعلم رجلين منكم» فأتوه بابني صوريا ، فنشدهما «كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟» قالا : نجد إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة ، رجما ، قال «فما يمنعكم أن ترجموهما؟» قالا : ذهب سلطاننا فكرهنا القتل ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشهود ، فجاء أربعة ، فشهدوا أنهم رأوا ذكره مثل الميل في المكحلة ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجمهما ، ثم رواه أبو داود عن الشعبي وإبراهيم النخعي مرسلا ، ولم يذكر فيه : فدعا بالشهود فشهدوا.

فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حكم بموافقة حكم التوراة ، وليس هذا من باب الإكرام لهم بما يعتقدون صحته ، لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة ، ولكن هذا بوحي خاص من الله عزوجل إليه بذلك ، وسؤاله إياهم عن ذلك ، ليقررهم على ما بأيديهم مما تواطؤوا على كتمانه وجحده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة ، فلما اعترفوا به مع علمهم على خلافه بان زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، وعدولهم إلى تحكيم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما كان عن هوى منهم ، وشهوة لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به ، ولهذا قالوا (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا) أي : الجلد والتحميم ، فخذوه ،

__________________

(١) سنن أبي داود (حدود باب ٢٥) وسنن ابن ماجة (حدود باب ١٠)

١٠٥

أي اقبلوه ، (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) أي من قبوله واتباعه.

وقال الله تعالى : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) أي الباطل (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) أي الحرام ، وهو الرشوة ، كما قاله ابن مسعود وغير واحد ، أي ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه وأنى يستجيب له ، ثم قال لنبيه (فَإِنْ جاؤُكَ) أي يتحاكمون إليك (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) أي فلا عليك أن لا تحكم بينهم ، لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم ، قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني والحسن وغير واحد : هي منسوخة (١) بقوله (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) [المائدة : ٤٩] ، (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي بالحق والعدل ، وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

ثم قال تعالى منكرا عليهم في آرائهم الفاسدة ، ومقاصدهم الزائغة في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبدا ، ثم خرجوا عن حكمه ، وعدلوا إلى غيره مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم ، فقال (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران ، فقال (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا) أي لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها ، (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) أي وكذلك الربانيون منهم ، وهم العلماء العباد ، والأحبار وهم العلماء (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) أي بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به ، (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) أي لا تخافوا منهم وخافوا مني ، (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) فيه قولان سيأتي بيانهما.

سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا إبراهيم بن العباس ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه ، عن عبد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، قال : إن الله أنزل : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) ... (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ... (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ، قال قال ابن عباس : أنزلها الله في الطائفتين من اليهود ، وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٥٨٥ ـ ٥٨٦.

(٢) مسند أحمد ١ / ٢٤٦.

١٠٦

حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا ، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق ، فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا ، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق ، فقالت الذليلة : وهل كان في حيين دينهما واحد ، ونسبهما واحد ، وبلدهما واحد ، دية بعضهم نصف دية بعض ، إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا وفرقا منكم فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم فكادت الحرب تهيج بينهما ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهم ، ثم ذكرت العزيزة ، فقالت : والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ، ولقد صدقوا ، ما أعطونا هذا إلا ضيما منا وقهرا لهم فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه ، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه ، فدسوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما جاءوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أخبر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمرهم كله وما أرادوا ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) إلى قوله (الْفاسِقُونَ) ففيهم والله أنزل ، وإياهم عنى الله عزوجل ، ورواه أبو داود من حديث ابن أبي الزناد عن أبيه بنحوه.

وقال أبو جعفر (١) بن جرير حدثنا هناد بن السري وأبو كريب ، قالا : حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق ، حدثني داود بن الحصين عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن الآيات التي في المائدة قوله (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) ـ إلى (الْمُقْسِطِينَ) إنما أنزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة ، وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف ، تؤدى لهم الدية كاملة ، وأن قريظة كانوا يؤدى لهم نصف الدية ، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله ذلك فيهم ، فحملهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الحق في ذلك ، فجعل الدية في ذلك سواء ، والله أعلم أي ذلك كان ، ورواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن إسحاق بنحوه.

ثم قال ابن جرير (٢) : حدثنا أبو كريب حدثنا عبيد الله بن موسى عن علي بن صالح ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كانت قريظة والنضير ، وكانت النضير أشرف من قريظة ، فكان إذا قتل القرظي رجلا من النضير قتل به ، وإذا قتل النضيري رجلا من قريظة ، ودي بمائة وسق من تمر ، فلما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ، فقالوا : ادفعوا إليه ، فقالوا : بيننا وبينكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) ، ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم في المستدرك من حديث عبيد الله بن موسى بنحوه ، وهكذا قال قتادة ومقاتل بن حبان وابن زيد وغير واحد.

وقد روى العوفي وعلي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت في

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٥٨٣.

(٢) المصدر السابق.

١٠٧

اليهوديين اللذين زنيا ، كما تقدمت الأحاديث بذلك ، وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد ، فنزلت هذه الآيات في ذلك كله ، والله أعلم ، ولهذا قال بعد ذلك (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) [المائدة : ٤٥] إلى آخرها ، وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) قال البراء بن عازب وحذيفة بن اليمان وابن عباس وأبو مجلز وأبو رجاء العطاردي وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله والحسن البصري وغيرهم : نزلت في أهل الكتاب ، زاد الحسن البصري : وهي علينا واجبة ، وقال عبد الرزاق عن سفيان الثوري ، عن منصور عن إبراهيم ، قال نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ، ورضي الله لهذه الأمة بها ، رواه ابن جرير (١).

وقال ابن جرير (٢) أيضا : حدثنا يعقوب ، حدثنا هشيم أخبر عبد الملك بن أبي سليمان عن سلمة بن كهيل ، عن علقمة ومسروق أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة. فقال : من السحت ، قال فقالا : وفي الحكم ، قال : ذاك الكفر ، ثم تلا ، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) وقال السدي (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) يقول : ومن لم يحكم بما أنزلت فتركه عمدا أو جار وهو يعلم ، فهو من الكافرين ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) قال : من جحد ما أنزل الله فقد كفر ، ومن أقرّ به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق ، رواه ابن جرير ، ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب ، أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب ، وقال عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن زكريا ، عن الشعبي : ومن لم يحكم بما أنزل الله ، قال للمسلمين.

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا عبد الصمد ، حدثنا شعبة عن ابن أبي السفر ، عن الشعبي (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) قال : هذا في المسلمين (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) قال : هذا في اليهود (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) قال : هذا في النصارى ، وكذا رواه هشيم والثوري ، عن زكريا بن أبي زائدة ، عن الشعبي وقال عبد الرزاق (٤) أيضا : أخبرنا معمر عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : سئل ابن عباس عن قوله (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ) الآية ، قال : هي به كفر ، قال ابن طاوس : وليس كمن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وقال الثوري ، عن ابن جريج ، عن عطاء أنه قال : كفر دون

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٥٩٦ ـ ٥٩٧.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٤٩٧.

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٥٩٥.

(٤) تفسير الطبري ٤ / ٥٩٦.

١٠٨

كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق ، رواه ابن جرير (١) ، وقال وكيع ، عن سعيد المكي ، عن طاوس (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) قال : ليس بكفر ينقل عن الملة(٢).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن هشام بن حجير ، عن طاوس ، عن ابن عباس في قوله (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) قال : ليس بالكفر الذي تذهبون إليه ، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه.

(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٤٥)

وهذا أيضا مما وبخت به اليهود وقرعوا عليه ، فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس ، وهم يخالفون حكم ذلك عمدا وعنادا ، ويقيدون النضري من القرظي ، ولا يقيدون القرظي من النضري ، بل يعدلون إلى الدية كما خالفوا حكم التوراة المنصوص عندهم في رجم الزاني المحصن ، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار ولهذا قال هناك (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) لأنهم جحدوا حكم الله قصدا منهم وعنادا وعمدا ، وقال هاهنا (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه ، فخالفوا وظلموا وتعدوا على بعضهم بعضا.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا ابن المبارك عن يونس بن يزيد ، عن علي بن يزيد أخي يونس بن يزيد ، عن الزهري ، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأها (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) نصب النفس ورفع العين.

وكذا رواه أبو داود والترمذي والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن المبارك ، وقال الترمذي حسن غريب وقال البخاري تفرّد ابن المبارك بهذا الحديث ، وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكي مقررا ولم ينسخ ، كما هو المشهور عن الجمهور ، وكما حكاه الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني عن نص الشافعي ، وأكثر الأصحاب بهذه الآية حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة. وقال الحسن البصري: هي عليهم وعلى الناس عامة ، رواه ابن أبي حاتم : وقد حكى الشيخ أبو زكريا

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٥٩٥.

(٢) رواه ابن جرير ، المصدر السابق.

(٣) مسند أحمد ٣ / ٢١٥.

١٠٩

النووي في هذه المسألة ثلاثة أوجه ، ثالثها أن شرع إبراهيم حجة دون غيره : وصحح منها عدم الحجية ، ونقلها الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني أقوالا عن الشافعي ، وأكثر الأصحاب ورجح أنه حجة عند الجمهور من أصحابنا ، فالله أعلم.

وقد حكى الإمام أبو نصر بن الصباغ رحمه‌الله في كتابه «الشامل» ، إجماع العلماء ، على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه ، وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة بعموم هذه الآية الكريمة ، وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم «أن الرجل يقتل بالمرأة» (١) ، وفي الحديث الآخر «المسلمون تتكافأ دماؤهم» (٢) ، وهذا قول جمهور العلماء ، وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها إلا أن يدفع وليها إلى أوليائه نصف الدية ، لأن ديتها على النصف من دية الرجل ، وإليه ذهب أحمد في رواية ، وحكي عن الحسن وعطاء وعثمان البستي ، ورواية عن أحمد أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها بل تجب ديتها.

وهكذا احتج أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى بعموم هذه الآية على أنه يقتل المسلم بالكافر الذمي ، وعلى قتل الحر بالعبد ، وقد خالفه الجمهور فيهما ، ففي الصحيحين عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يقتل مسلم بكافر» (٣) وأما العبد ففيه عن السلف آثار متعددة أنهم لم يكونوا يقيدون العبد من الحر ، ولا يقتلون حرا بعبد ، وجاء في ذلك أحاديث لا تصح ، وحكى الشافعي الإجماع على خلاف قول الحنفية في ذلك ، ولكن لا يلزم من ذلك بطلان قولهم إلا بدليل مخصص للآية الكريمة.

ويؤيد ما قاله ابن الصباغ من الاحتجاج بهذه الآية الكريمة الحديث الثابت في ذلك ، كما قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا محمد بن أبي عدي ، حدثنا حميد عن أنس بن مالك أن الربيع عمة أنس ، كسرت ثنية جارية ، فطلبوا إلى القوم العفو فأبوا ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «القصاص» ، فقال أخوها أنس بن النضر : يا رسول الله ، تكسر ثنية فلانة؟! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا أنس كتاب الله القصاص» قال فقال : لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية فلانة ، قال : فرضي القوم فعفوا وتركوا القصاص ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» أخرجاه في الصحيحين.

وقد رواه محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري في الجزء المشهور من حديثه ، عن حميد ، عن أنس بن مالك أن الربيع بنت النضر عمته لطمت جارية فكسرت ثنيتها ، فعرضوا عليهم

__________________

(١) سنن النسائي (قسامة باب ٤٦)

(٢) سنن النسائي (قسامة باب ١٠ و١٣) وسنن أبي داود (جهاد باب ١٤٧ وديات باب ١١)

(٣) صحيح البخاري (علم باب ٣٩ وديات باب ٢٤ و٣١) وسنن أبي داود (ديات باب ١١ و١٤٧)

(٤) مسند أحمد ٣ / ١٢٨.

١١٠

الأرش (١) فأبوا ، فطلبوا الأرش والعفو فأبوا ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمرهم بالقصاص ، فجاء أخوها أنس بن النضر فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أتكسر ثنية الربيع؟ والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا أنس كتاب الله القصاص» فعفا القوم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» رواه البخاري عن الأنصاري بنحوه.

وروى أبو داود : حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي عن قتادة ، عن أبي نضرة ، عن عمران بن حصين أن غلاما لأناس فقراء ، قطع أذن غلام لأناس أغنياء ، فأتى أهله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله ، إنا أناس فقراء ، فلم يجعل عليه شيئا.

وكذا رواه النسائي عن إسحاق بن راهويه ، عن معاذ بن هشام الدستوائي ، عن أبيه ، عن قتادة به. وهذا إسناد قوي ، رجاله كلهم ثقات ، وهو حديث مشكل ، اللهم إلا أن يقال : إن الجاني كان قبل البلوغ فلا قصاص عليه ، ولعله تحمل أرش ما نقص من غلام الأغنياء عن الفقراء أو استعفاهم عنه.

وقوله تعالى : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : تقتل النفس بالنفس ، وتفقأ العين بالعين ، ويقطع الأنف بالأنف ، وتنزع السن بالسن ، وتقتص الجراح بالجراح ، فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين فيما بينهم رجالهم ونساؤهم ، إذا كان عمدا في النفس وما دون النفس ، رواه ابن جرير (٢) وابن أبي حاتم.

قاعدة مهمة :

الجراح تارة تكون في مفصل ، فيجب فيه القصاص بالإجماع ، كقطع اليد والرجل والكف والقدم ونحو ذلك ، وأما إذا لم تكن الجراح في مفصل بل في عظم ، فقال مالك رحمه‌الله : فيه القصاص إلا في الفخذ وشبهها ، لأنه مخوف خطر. وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يجب القصاص في شيء من العظام إلا في السن. وقال الشافعي : لا يجب القصاص في شيء من العظام مطلقا ، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابن عباس ، وبه يقول عطاء والشعبي والحسن البصري والزهري وإبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز ، وإليه ذهب سفيان الثوري والليث بن سعد ، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد ، وقد احتج أبو حنيفة رحمه‌الله بحديث الربيع بنت النضر على مذهبه أنه لا قصاص في عظم إلا في السن ، وحديث الربيع لا حجة فيه لأنه ورد بلفظ كسرت ثنية جارية ، وجائز أن تكون سقطت من غير كسر ، فيجب القصاص والحالة

__________________

(١) الأرش : دية الجراحة.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٥٩٩.

١١١

هذه بالإجماع ، وتمموا الدلالة مما رواه ابن ماجة من طريق أبي بكر بن عياش ، عن دهشم بن قران ، عن نمران بن جارية ، عن أبيه جارية بن ظفر الحنفي : أن رجلا ضرب رجلا على ساعده بالسيف من غير المفصل فقطعها ، فاستعدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمر له بالدية ، فقال : يا رسول الله ، أريد القصاص ، فقال : خذ الدية ، بارك الله لك فيها ، ولم يقض له بالقصاص (١).

وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر : ليس لهذا الحديث غير هذا الإسناد ، ودهشم بن قران العكلي ضعيف ، أعرابي ليس حديثه مما يحتج به ، ونمران بن جارية ضعيف ، أعرابي أيضا ، وأبوه جارية بن ظفر مذكور في الصحابة.

ثم قالوا : لا يجوز أن يقتص من الجراحة حتى تندمل جراحة المجني عليه ، فإن اقتص منه قبل الاندمال ثم زاد جرحه ، فلا شيء له ، والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد (٢) عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته ، فجاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أقدني ، فقال «حتى تبرأ» ، ثم جاء إليه فقال : أقدني ، فأقاده فقال : يا رسول الله عرجت ، فقال «قد نهيتك فعصيتني ، فأبعدك الله وبطل عرجك» ثم نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه ، تفرد به أحمد.

[مسألة] فلو اقتص المجني عليه من الجاني فمات من القصاص ، فلا شيء عليه عند مالك والشافعي وأحمد بن حنبل ، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وغيرهم. وقال أبو حنيفة : تجب الدية في مال المقتص. وقال عامر الشعبي وعطاء وطاوس وعمرو بن دينار والحارث العكلي وابن أبي ليلى وحماد بن أبي سليمان ، والزهري والثوري تجب الدية على عاقلة المقتص له. وقال ابن مسعود وإبراهيم النخعي والحكم بن عيينة وعثمان البستي : يسقط عن المقتص له قدر تلك الجراحة ، ويجب الباقي في ماله.

وقوله تعالى : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ) يقول : فمن عفا وتصدق عليه فهو كفارة للمطلوب وأجر للطالب. وقال سفيان الثوري ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : فمن تصدق به فهو كفارة للجارح وأجر المجروح على الله عزوجل ، رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : وروي عن خيثمة بن عبد الرحمن ومجاهد وإبراهيم في أحد قوليه وعامر الشعبي وجابر بن زيد نحو ذلك.

[الوجه الثاني] ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا حماد بن زاذان ، حدثنا حرمي يعني ابن عمارة ، حدثنا شعبة عن عمارة يعني ابن أبي حفصة ، عن رجل ، عن جابر بن عبد الله في

__________________

(١) سنن ابن ماجة (ديات حديث ٢٦٣٦)

(٢) مسند أحمد ٢ / ٢١٧.

١١٢

قول الله عزوجل (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) قال : للمجروح ، وروي عن الحسن البصري وإبراهيم النخعي في أحد قوليه وأبي إسحاق الهمداني نحو ذلك ، وروى ابن جرير عن عامر الشعبي وقتادة مثله.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا شعبة عن قيس يعني ابن مسلم ، قال : سمعت طارق بن شهاب يحدث عن الهيثم بن العريان النخعي ، قال : رأيت عبد الله بن عمرو عند معاوية أحمر شبيها بالموالي ، فسألته عن قول الله (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) قال : يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به ، وهكذا رواه سفيان الثوري عن قيس بن مسلم ، وكذا رواه ابن جرير (١) من طريق سفيان وشعبة.

وقال ابن مردويه : حدثني محمد بن علي ، حدثنا عبد الرحيم بن محمد المجاشعي ، حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج المهري ، حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي ، حدثنا معلى يعني ابن هلال أنه سمع أبان بن ثعلب عن العريان بن الهيثم بن الأسود ، عن عبد الله بن عمرو ، عن أبان بن ثعلب ، عن الشعبي ، عن رجل من الأنصار ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) قال : «هو الذي تكسر سنه ، أو تقطع يده أو يقطع الشيء منه أو يجرح في بدنه فيعفو عن ذلك» ـ قال ـ فيحط عنه قدر خطاياه ، فإن كان ربع الدية فربع خطاياه ، وإن كان الثلث فثلث خطاياه ، وإن كانت الدية حطت عنه خطاياه كذلك».

ثم قال ابن جرير (٢) : حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، حدثنا ابن فضيل عن يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي السفر قال : دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار ، فاندقت ثنيته ، فرفعه الأنصاري إلى معاوية فلما ألح عليه الرجل ، قال : شأنك وصاحبك ، قال : وأبو الدرداء عند معاوية ، فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه ، إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة» فقال الأنصاري : أنت سمعته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : سمعته أذناي ووعاه قلبي ، فخلى سبيل القرشي ، فقال معاوية : مروا له بمال ، هكذا رواه ابن جرير.

ورواه الإمام أحمد (٣) فقال : حدثنا وكيع ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي السفر قال : كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار ، فاستعدى عليه معاوية ، فقال معاوية : إنا سنرضيه ، فألح الأنصاري ، فقال معاوية : شأنك بصاحبك ، وأبو الدرداء جالس ، فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيتصدق به ، إلا

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٦٠٠.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٦٠٠.

(٣) مسند أحمد ٦ / ٤٤٨.

١١٣

رفعه الله به درجة وحط به عنه خطيئة» فقال الأنصاري : فإني قد عفوت وهكذا رواه الترمذي من حديث ابن المبارك ، وابن ماجة من حديث وكيع ، كلاهما عن يونس بن أبي إسحاق به ، ثم قال الترمذي : غريب من هذا الوجه ، ولا أعرف لأبي السفر سماعا من أبي الدرداء.

وقال ابن مردويه : حدثنا دعلج بن أحمد ، حدثنا محمد بن علي بن زيد ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا سفيان عن عمران بن ظبيان ، عن عدي بن ثابت أن رجلا أهتم (١) فمه رجل على عهد معاوية رضي الله عنه ، فأعطي دية ، فأبى إلا أن يقتص ، فأعطي ديتين فأبى ، فأعطي ثلاثا فأبى ، فحدث رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من تصدق بدم فما دونه ، فهو كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت».

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا شريح بن النعمان ، حدثنا هشيم عن المغيرة ، عن الشعبي أن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «ما من رجل يجرح من جسده جراحة فيتصدق بها ، إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به» ورواه النسائي عن علي بن حجر ، عن جرير بن عبد الحميد ، ورواه ابن جرير عن محمود بن خداش ، عن هشيم ، كلاهما عن المغيرة به.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن مجالد ، عن عامر ، عن المحرر بن أبي هريرة ، عن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من أصيب بشيء من جسده فتركه لله كان كفارة له».

وقوله (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) قد تقدم عن طاوس وعطاء أنهما قالا : كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق.

(وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٤٧)

يقول تعالى : (وَقَفَّيْنا) أي أتبعنا (عَلى آثارِهِمْ) ، يعني أنبياء بني إسرائيل (بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) أي مؤمنا بها حاكما بما فيها ، (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) أي هدى إلى الحق ونور يستضاء به في إزالة الشبهات وحل المشكلات ، (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) أي متبعا لها غير مخالف لما فيها إلا في القليل مما بين لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه ، كما قال تعالى إخبارا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) [آل عمران : ٥٠] ولهذا كان المشهور من قول العلماء أن الإنجيل نسخ

__________________

(١) أهتم وهتم فمه : نزع مقدم أسنانه.

(٢) مسند أحمد ٥ / ٣١٦.

(٣) مسند أحمد ٥ / ٤١٢.

١١٤

بعض أحكام التوراة. وقوله تعالى : (وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي وجعلنا الإنجيل هدى يهتدى به ، وموعظة أي زاجرا عن ارتكاب المحارم والمآثم ، للمتقين ، أي لمن اتقى الله وخاف وعيده وعقابه.

وقوله تعالى : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) قرئ وليحكم أهل الإنجيل بالنصب على أن اللام لام كي ، أي وآتيناه الإنجيل ليحكم أهل ملته به في زمانهم ، وقرئ وليحكم بالجزم على أن اللام لام الأمر ، أي ليؤمنوا بجميع ما فيه ، وليقيموا ما أمروا به فيه ، ومما فيه البشارة ببعثة محمد والأمر باتباعه وتصديقه إذا وجد ، كما قال تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [المائدة : ٦٨] الآية ، وقال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ) إلى قوله (الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف : ١٥٧]. ولهذا قال هاهنا (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي الخارجون عن طاعة ربهم ، المائلون إلى الباطل ، التاركون للحق ، وقد تقدم أن هذه الآية نزلت في النصارى ، وهو ظاهر من السياق.

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٥٠)

لما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمه ، ومدحها وأثنى عليها وأمر باتباعها حيث كانت سائغة الاتباع وذكر الإنجيل ومدحه وأمر أهله بإقامته واتباع ما فيه ، كما تقدم بيانه ، شرع في ذكر القرآن العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم ، فقال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أي بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ) أي من الكتب المتقدمة المتضمنة ذكره ومدحه ، وأنه سينزل من عند الله على عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان نزوله كما أخبرت به ، مما زادها صدقا عند حامليها من ذوي البصائر الذين انقادوا لأمر الله ، واتبعوا شرائع الله ، وصدقوا رسل الله ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) [الإسراء : ١٠٧] أي إن كان ما وعدنا الله على ألسنة رسله المتقدمة من مجيء محمد عليه‌السلام لمفعولا ، أي لكائنا لا محالة ولا بد.

قوله تعالى : (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) قال سفيان الثوري وغيره ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ،

١١٥

عن ابن عباس : أي مؤتمنا عليه. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : المهيمن الأمين ، قال : القرآن أمين على كل كتاب قبله. ورواه عن عكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومحمد بن كعب وعطية والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والسدي وابن زيد نحو ذلك ، وقال ابن جرير (١) : القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله ، فما وافقه منها فهو حق ، وما خالفه منها فهو باطل ، وعن الوالبي عن ابن عباس (وَمُهَيْمِناً) أي شهيدا ، وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي. وقال العوفي عن ابن عباس (وَمُهَيْمِناً) أي حاكما على ما قبله من الكتب ، وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى ، فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله ، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله ، جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها وأشملها وأعظمها وأكملها حيث جمع فيه محاسن ما قبله ، وزاده من الكمالات ، ما ليس في غيره ، فلهذا جعله شاهدا وأمينا وحاكما عليها كلها وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة ، فقال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩].

فأما ما حكاه ابن أبي حاتم عن عكرمة وسعيد بن جبير وعطاء الخراساني وابن أبي نجيح عن مجاهد ، أنهم قالوا في قوله (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمين على القرآن فإنه صحيح في المعنى ، ولكن في تفسير هذا بهذا نظر ، وفي تنزيله عليه من حيث العربية أيضا نظر ، وبالجملة فالصحيح الأول.

وقال أبو جعفر بن جرير (٢) بعد حكايته له عن مجاهد : وهذا التأويل بعيد من المفهوم في كلام العرب ، بل هو خطأ ، وذلك أن المهيمن عطف على المصدق ، فلا يكون إلا صفة لما كان المصدق صفة له ، قال : ولو كان الأمر كما قال مجاهد لقيل : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) ، يعني من غير عطف (٣).

وقوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) أي فاحكم يا محمد بين الناس ، عربهم وعجمهم ، أميهم وكتابيهم ، بما أنزل الله إليك في هذا الكتاب العظيم ، وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في شرعك ، هكذا وجهه ابن جرير (٤) بمعناه ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخيرا إن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم ، فردهم إلى أحكامهم ، فنزلت (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٦٠٦.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٦٠٨.

(٣) أضاف ابن جرير موضحا : لأنه لم يتقدم من صفة (الكاف) التي في (إليك) بعدها شيء يكون (مهيمنا عليه) عطفا عليه ، وإنما عطف به على (المصدق) لأنه من صفة (الكتاب) الذي من صفته (المصدق)

(٤) تفسير الطبري ٤ / ٦٠٩.

١١٦

وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا.

وقوله (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) أي آراءهم التي اصطلحوا عليها ، وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسله ، ولهذا قال تعالى : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) أي لا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء الجهلة الأشقياء. وقوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر عن يوسف بن أبي إسحاق ، عن أبي إسحاق عن أبيه ، عن التميمي ، عن ابن عباس (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً) قال : سبيلا. وحدثنا أبو سعيد ، حدثنا وكيع عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس (وَمِنْهاجاً) قال : وسنة ، كذا روى العوفي عن ابن عباس (شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) سبيلا وسنة ، وكذا روي عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري وقتادة والضحاك والسدي وأبي إسحاق السبيعي ، أنهم قالوا في قوله (شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) أي سبيلا وسنة ، وعن ابن عباس أيضا ومجاهد ، أي وعطاء الخراساني عكسه (شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) أي سنة وسبيلا ، والأول أنسب ، فإن الشرعة وهي الشريعة أيضا هي ما يبتدأ فيه إلى الشيء ، ومنه يقال : شرع في كذا ، أي ابتدأ فيه ، وكذا الشريعة وهي ما يشرع فيها إلى الماء. أما المنهاج فهو الطريق الواضح السهل ، والسنن الطرائق.

فتفسير قوله : (شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) بالسبيل والسنة أظهر في المناسبة من العكس ، والله أعلم. ثم هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان ، باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد ، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات ، ديننا واحد» (١) يعني بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله وضمنه كل كتاب أنزله ، كما قال تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥] وقال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل : ٣٦] الآية ، وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراما ، ثم يحل في الشريعة الأخرى ، وبالعكس ، وخفيفا فيزاد في الشدة في هذه دون هذه ، وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة.

قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة : قوله (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) يقول : سبيلا وسنة ، والسنن مختلفة ، هي في التوراة شريعة ، وفي الإنجيل شريعة ، وفي الفرقان شريعة ، يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء ، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ، والدين الذي لا يقبل الله غيره ، التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام.

__________________

(١) صحيح البخاري (أنبياء باب ٤٨)

١١٧

وقيل : المخاطب بهذه الآية هذه الأمة ومعناه لكل جعلنا القرآن منكم أيتها الأمة شرعة ومنهاجا ، أي هو لكم كلكم تقتدون به ، وحذف الضمير المنصوب في قوله (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ) أي جعلناه ، يعني القرآن ، شرعة ومنهاجا ، أي سبيلا إلى المقاصد الصحيحة ، وسنة أي طريقا ومسلكا واضحا بينا ، هذا مضمون ما حكاه ابن جرير (١) عن مجاهد رحمه‌الله ، والصحيح القول الأول ، ويدل على ذلك قوله تعالى بعده (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) فلو كان هذا خطابا لهذه الأمة ، لما صح أن يقول (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) وهم أمة واحدة ، ولكن هذا خطاب لجميع الأمم وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة ، التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد ، وشريعة واحدة ، لا ينسخ شيء منها ، ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعة على حدة ، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده ، حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة ، وجعله خاتم الأنبياء كلهم ، ولهذا قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة ليختبر عباده فيما شرع لهم ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله. وقال عبد الله بن كثير (فِي ما آتاكُمْ) يعني من الكتاب.

ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها ، فقال (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) وهي طاعة الله واتباع شرعه الذي جعله ناسخا لما قبله ، والتصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله ، ثم قال تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) أي معادكم أيها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق ، فيجزي الصادقين بصدقهم ، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق العادلين عنه إلى غيره بلا دليل ولا برهان ، بل هم معاندون للبراهين القاطعة ، والحجج البالغة والأدلة الدامغة. وقال الضحاك (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) يعني أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأول أظهر. وقوله (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك النهي عن خلافه.

ثم قال (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) أي واحذر أعداءك اليهود أن يدلسوا عليك الحق فيما ينهونه إليك من أمور ، فلا تغتر بهم ، فإنهم كذبة كفرة خونة ، (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي عما تحكم به بينهم من الحق وخالفوا شرع الله ، (فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) أي فاعلم أن ذلك كائن عن قدر الله وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما لهم من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم ، (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) أي إن أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم مخالفون للحق ناكبون عنه ، كما قال تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف : ١٠٣]. وقال تعالى : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٦١٠.

١١٨

عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [الأنعام : ١١٦] الآية.

وقال محمد بن إسحاق (١) حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة. عن ابن عباس قال : قال كعب بن أسد وابن صلوبا وعبد الله بن صوريا (٢) وشاس بن قيس ، بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فأتوه فقالوا : يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار يهود ، وأشرافهم ، وساداتهم ، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا ، وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك ، فتقضي لنا عليهم ، ونؤمن لك ونصدقك ، فأبى ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله عزوجل فيهم (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) إلى قوله (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.

وقوله تعالى : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير ، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله ، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم ، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان الذي وضع لهم الياسق (٣) ، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى : من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها ، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه ، فصارت في بينه شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله ، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير ، قال تعالى : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) أي يبتغون ويريدون ، وعن حكم الله يعدلون ، (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه ، وآمن به ، وأيقن وعلم أن الله أحكم الحاكمين ، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها ، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء ، القادر على كل شيء ، العادل في كل شيء.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٥٦٧ وتفسير الطبري ٤ / ٦١٤.

(٢) سقط من في رواية الطبري.

(٣) وتسمى أيضا «الياسة». وهي كلمة مفعولية تعني السياسة. قال القلقشندي : وهي قوانين خمنها جنكرخان من عقله وقررها من ذهنه ، رتب فيها أحكاما وحدد فيها حدودا بما وافق القليل منها الشريعة المحمدية وأكثرها فحالف لذلك سماها الياسة الكبرى. وقد اكتتبها وأمر أن تجعل في خزانته تتوارت عنه في أعقابه وأن يتعلمها صغار أهل بيته (صبح الأعشى ٤ / ٣١٤). وذكر القلقشندي شيئا في أحكام الياسة. ويشار إلى أن هولاكو وخلفاءه كانوا يميلون في بداية الأمر إلى البوذية ، ولكن هؤلاء الخلفاء بعد ولاية غازان سنة ٦٩٠ ه‍ دخلوا في الإسلام وتراوح المذهب الذي يجاهرون به بين السنية والشيعية (انظر دائرة المعارف الإسلامية ١٢ / ٣٩٨)

١١٩

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هلال بن فياض ، حدثنا أبو عبيدة الناجي قال : سمعت الحسن يقول : من حكم بغير حكم الله فحكم الجاهلية. وأخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح ، قال : كان طاوس إذا سأله رجل : أفضل بين ولدي في النحل؟ قرأ (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) الآية ، وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي ، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع ، أخبرنا شعيب بن أبي حمزة ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين ، عن نافع بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أبغض الناس إلى الله عزوجل ، من يبتغي في الإسلام سنة الجاهلية ، وطالب دم امرئ بغير حق ليريق دمه». وروى البخاري عن أبي اليمان بإسناده نحوه بزيادة (١).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) (٥٣)

ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى ، الذين هم أعداء الإسلام وأهله ـ قاتلهم الله ـ ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض ، ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك ، فقال (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) الآية.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا كثير بن شهاب ، حدثنا محمد يعني ابن سعيد بن سابق ، حدثنا عمرو بن أبي قيس عن سماك بن حرب ، عن عياض أن عمر أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد ، وكان له كاتب نصراني ، فرفع إليه ذلك ، فعجب عمر وقال : إن هذا لحفيظ ، هل أنت قارئ لنا كتابا في المسجد جاء من الشام؟ فقال : إنه لا يستطيع ، فقال عمر : أجنب هو؟ قال : لا بل نصراني. قال : فانتهرني وضرب فخذي ، ثم قال: أخرجوه ، ثم قرأ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) الآية ، ثم قال : حدثنا محمد بن الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا عثمان بن عمر ، أنبأنا ابن عون عن محمد بن سيرين ، قال : قال عبد الله بن عتبة : ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر. قال : فظنناه يريد هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) الآية ، وحدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن فضيل عن عاصم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب ، فقال : كل ، قال الله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) ، وروي عن أبي الزناد نحو ذلك.

وقوله تعالى : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك وريب ونفاق ، يسارعون فيهم ، أي

__________________

(١) صحيح البخاري (ديات باب ٩)

١٢٠