تفسير القرآن العظيم - ج ٢

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٠

قال ابن جرير (١) : حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع البصري حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا داود بن ابي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ، ثم ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا لي رسول الله هل لي من توبة؟ فنزلت (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ـ إلى قوله ـ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فأرسل إليه قومه فأسلم ، وهكذا رواه النسائي والحاكم وابن حبان من طريق داود بن أبي هند به ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه.

وقال عبد الرزاق : أنبأنا جعفر بن سليمان ، حدثنا حميد الأعرج ، عن مجاهد ، قال : جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه ، فأنزل الله فيه (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ـ إلى قوله ـ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال : فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه ، فقال الحارث : إنك ـ والله ما علمت ـ لصدوق ، وإن رسول الله لأصدق منك ، وإن الله لأصدق الثلاثة ، قال : فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه (٢).

فقوله تعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) أي قامت عليهم الحجج والبراهين على صدق ما جاءهم به الرسول ، ووضح لهم الأمر ثم ارتدوا إلى ظلمة الشرك ، فكيف يستحق هؤلاء الهداية بعد ما تلبسوا به من العماية ، ولهذا قال تعالى : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). ثم قال تعالى (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي يلعنهم الله ، ويلعنهم خلقه ، (خالِدِينَ فِيها) أي في اللعنة ، (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي لا يفتر عنهم العذاب ولا يخفف عنهم ساعة واحدة ثم قال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وهذا من لطفه وبره ورأفته ورحمته وعائدته على خلقه أن من تاب إليه ، تاب عليه.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ(٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٩١)

يقول تعالى متوعدا ومهددا لمن كفر بعد إيمانه ، ثم ازداد كفرا ، أي استمر عليه إلى الممات ، ومخبرا بأنهم لن تقبل لهم توبة عند الممات ، كما قال تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) [النساء : ١٨] ، ولهذا قال هاهنا (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) أي الخارجون عن المنهج الحق إلى طريق الغي.

قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، حدثنا يزيد بن زريع حدثنا

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٣٣٨.

(٢) تفسير الطبري ٣ / ٣٣٨ ـ ٣٣٩.

٦١

داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن قوما أسلموا ثم ارتدوا ثم أسلموا ثم ارتدوا ، فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) وهكذا رواه ، وإسناده جيد.

ثم قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) أي من مات على الكفر فلن يقبل منه خير أبدا ، ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهبا فيما يراه قربة ، كما سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن عبد الله بن جدعان وكان يقري الضيف ويفك العاني ويطعم الطعام : هل ينفعه ذلك؟ فقال «لا ، إنه لم يقل يوما من الدهر : ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين» وكذلك لو افتدى بملء الأرض ذهبا ما قبل منه ، كما قال تعالى : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) [البقرة : ١٢٣] وقال (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) [إبراهيم : ٣١] ، وقال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [المائدة : ٣٦]. ولهذا قال تعالى هاهنا : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) فعطف (وَلَوِ افْتَدى) به على الأول ، فدل على أنه غيره ، وما ذكرناه أحسن من أن يقال : إن الواو زائدة ، والله أعلم ، ويقتضي ذلك أن لا ينقذه من عذاب الله شيء ولو كان قد أنفق مثل الأرض ذهبا ، ولو افتدى نفسه من الله بملء الأرض ذهبا ، بوزن جبالها وتلالها وترابها ورمالها وسهلها ووعرها وبرها وبحرها.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا حجاج ، حدثني شعبة عن أبي عمران الجوني ، عن أنس بن مالك ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء ، أكنت مفتديا به؟ قال : فيقول : نعم ، فيقول الله : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئا ، فأبيت إلا أن تشرك» وهكذا أخرجه البخاري ومسلم.

طريق أخرى : وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا روح ، حدثنا حماد عن ثابت ، عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له : يا ابن آدم ، كيف وجدت منزلك؟ فيقول : أي رب خير منزل ، فيقول : سل وتمن ، فيقول : ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرار ، لما يرى من فضل الشهادة ، ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له : يا ابن آدم ، كيف وجدت منزلك؟ فيقول : يا رب شر منزل ، فيقول له : أتفتدي مني بطلاع (٣) الأرض ذهبا؟ فيقول : أي رب نعم ، فيقول : كذبت ، قد سألتك أقل من ذلك وأيسر

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ١٢٧.

(٢) مسند أحمد ٣ / ١٣١.

(٣) طلاع الأرض : ما يملؤها حتى يفيض عنها.

٦٢

فلم تفعل ، فيرد إلى النار».

ولهذا قال (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي وما لهم من أحد ينقذهم من عذاب الله ولا يجيرهم من أليم عقابه.

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٩٢)

روى وكيع في تفسيره عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) قال : الجنة ، وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا روح ، حدثنا مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، سمع أنس بن مالك ، يقول : كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا ، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء (٢) ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب ، قال أنس : فلما نزلت (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قال أبو طلحة : يا رسول الله ، إن الله يقول (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ، وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء ، وإنها صدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله تعالى ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «بخ بخ ذاك مال رابح ، ذاك مال رابح ، وقد سمعت وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين» ، فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله ، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه ، أخرجاه ، وفي الصحيحين أن عمر قال يا رسول الله لم أصب مالا قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر ، فما تأمرني به؟ قال : احبس الأصل وسبل الثمرة» وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أبو الخطاب زياد بن يحيى الحساني ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا محمد بن عمرو ، عن أبي عمرو بن حماس ، عن حمزة بن عبد الله بن عمر ، قال : قال عبد الله : حضرتني هذه الآية (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) فذكرت ما أعطاني الله ، فلم أجد شيئا أحب إليّ من جارية لي رومية ، فقلت : هي حرة لوجه الله ، فلو أني أعود في شيء جعلته لله لنكحتها ، يعني تزوجتها.

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٩٥)

قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا هشام بن القاسم ، حدثنا عبد الحميد ، حدثنا شهر ، قال : قال

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ١٤١.

(٢) جاء في ضبطه أوجه كثيرة. ويقال : بئرحاء. وهو موضع بقرب المسجد في المدينة يعرف بقصر بني جديلة. انظر معجم البلدان ١ / ٥٢٤.

(٣) مسند أحمد ١ / ٢٧٨.

٦٣

ابن عباس حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي ، قال : «سلوني عما شئتم ، ولكن اجعلوا لي ذمة الله ، وما أخذ يعقوب على بنيه ، لئن أنا حدثتكم شيئا فعرفتموه لتتابعني على الإسلام» قالوا : فذلك لك ، قال : فسلوني عما شئتم. قالوا : أخبرنا عن أربع خلال : أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه؟ وكيف ماء المرأة وماء الرجل؟ وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا كيف هذا النبي الأمي في النوم ، ومن وليه من الملائكة؟ فأخذ عليهم العهد لئن أخبرهم ليتابعنه ، فقال : أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا وطال سقمه ، فنذر لله نذرا لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل ، وأحب الشراب إليه ألبانها»؟ فقالوا : اللهم نعم : قال : «اللهم اشهد عليهم». وقال «أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو ، الذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ ، وماء المرأة أصفر رقيق ، فأيهما علا كان له الولد ، والشبه بإذن الله إن علا ماء الرجل ماء المرأة كان ذكرا بإذن الله ، وإن علا ماء المرأة ماء الرجل كان أنثى بإذن الله»؟ قالوا : نعم. قال : «اللهم اشهد عليهم». وقال : «أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ، ولا ينام قلبه»؟ قالوا : اللهم نعم. قال : «اللهم اشهد» قالوا : وأنت الآن فحدثنا من وليك من الملائكة؟ فعندها نجامعك ونفارقك قال : «إن وليي جبريل ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه ، قالوا : فعندها نفارقك ، لو كان وليك غيره لتابعناك ، فعند ذلك قال الله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) [البقرة : ٩٧] الآية ، ورواه أحمد أيضا عن حسين بن محمد عن عبد الحميد به.

طريق أخرى : قال أحمد (١) : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا عبد الله بن الوليد العجلي ، عن بكير بن شهاب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : أقبلت يهود إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا يا أبا القاسم ، إنا نسألك عن خمسة أشياء ، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك ، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) [القصص : ٢٨] قال «هاتوا» قالوا : أخبرنا عن علامة النبي قال : «تنام عيناه ولا ينام قلبه» ، قالوا : أخبرنا كيف تؤنث المرأة ، وكيف تذكر؟ قال : «يلتقي الماءان ، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة ، أذكرت ، وإذا علا ماء المرأة أنثت» قالوا : أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال : كان يشتكي عرق النسا ، فلم يجد شيئا يلائمه إلا ألبان كذا وكذا ـ قال أحمد : قال بعضهم : يعني الإبل ـ فحرم لحومها» قالوا : صدقت ، قالوا : أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال : «ملك من ملائكة الله عزوجل موكل بالسحاب بيده ـ أو في يديه ـ مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله عزوجل» قالوا : فما هذا الصوت الذي يسمع؟ قال «صوته». قالوا صدقت ، إنما بقيت واحدة ، وهي

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٢٧٤.

٦٤

التي نتابعك إن أخبرتنا بها ، إنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر فأخبرنا من صاحبك؟ قال : «جبريل عليه‌السلام» ، قالوا : جبريل ذاك ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا ، لو قلت : ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر ، لكان ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٩٧] والآية بعدها.

وقد رواه الترمذي والنسائي ، من حديث عبد الله بن الوليد العجلي به نحوه ، وقال الترمذي : حسن غريب ، وقال ابن جريج والعوفي عن ابن عباس : كان إسرائيل عليه‌السلام ـ وهو يعقوب ـ يعتريه عرق النسا بالليل ، وكان يقلقه ويزعجه عن النوم ، ويقلع الوجع عنه بالنهار ، فنذر لله لئن عافاه الله لا يأكل عرقا ولا يأكل ولد ما له عرق ، وهكذا قال الضحاك والسدي ، كذا رواه وحكاه ابن جرير في تفسيره ، قال : فاتبعه بنوه في تحريم ذلك استنانا به واقتداء بطريقه ، قال : وقوله (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) أي حرم ذلك على نفسه من قبل أن تنزل التوراة.

قلت : ولهذا السياق بعد ما تقدم مناسبتان إحداهما : أن إسرائيل عليه‌السلام حرم أحب الأشياء إليه وتركها لله ، وكان هذا سائغا في شريعتهم فله مناسبة بعد قوله (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) فهذا هو المشروع عندنا ، وهو الإنفاق في طاعة الله مما يحبه العبد ويشتهيه ، كما قال تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) [البقرة : ١٧٧] وقال تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) [الإنسان : ٨] الآية.

المناسبة الثانية : لما تقدم بيان الرد على النصارى ، واعتقادهم الباطل في المسيح وتبيين زيف ما ذهبوا إليه وظهور الحق واليقين في أمر عيسى وأمه ، كيف خلقه الله بقدرته ومشيئته وبعثه إلى بني إسرائيل يدعو إلى عبادة ربه تبارك وتعالى ، شرع في الرد على اليهود قبحهم الله تعالى وبيان أن النسخ الذي أنكروا وقوعه وجوازه قد وقع ، فإن الله تعالى قد نص في كتابهم التوراة أن نوحا عليه‌السلام لما خرج من السفينة ، أباح الله له جميع دواب الأرض يأكل منها ، ثم بعد هذا حرم إسرائيل على نفسه لحمان الإبل وألبانها فاتبعه بنوه في ذلك ، وجاءت التوراة بتحريم ذلك ، وأشياء أخرى زيادة على ذلك ، وكان الله عزوجل قد أذن لآدم في تزويج بناته من بنيه ، وقد حرم ذلك بعد ذلك ، وكان التسري على الزوجة مباحا في شريعة إبراهيم عليه‌السلام ، وقد فعله إبراهيم في هاجر لما تسرى بها على سارة ، وقد حرم مثل هذا في التوراة عليهم ، وكذلك كان الجمع بين الأختين سائغا ، وقد فعله يعقوب عليه‌السلام جمع بين الأختين ، ثم حرم عليهم ذلك في التوراة ، وهذا كله منصوص عليه في التوراة عندهم ، وهذا هو النسخ بعينه ، فكذلك فليكن ما شرعه الله للمسيح عليه‌السلام ، في إحلاله بعض ما حرم في التوراة ، فما بالهم لم يتبعوه؟ بل كذبوه وخالفوه؟ وكذلك ما بعث الله به محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم من الدين

٦٥

القويم ، والصراط المستقيم ، وملة أبيه إبراهيم ، فما بالهم لا يؤمنون؟ ولهذا قال تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) أي كان حلا لهم ، جميع الأطعمة قبل نزول التوراة إلا ما حرمه إسرائيل.

ثم قال تعالى : (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فإنها ناطقة بما قلناه (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي فمن كذب على الله وادعى أنه شرع لهم السبت والتمسك بالتوراة دائما ، وأنه لم يبعث نبيا آخر يدعو إلى الله بالبراهين والحجج بعد هذا الذي بيناه من وقوع النسخ وظهور ما ذكرناه (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ثم قال تعالى : (قُلْ صَدَقَ اللهُ) أي قل يا محمد صدق الله فيما أخبر به وفيما شرعه في القرآن ، (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي اتبعوا ملة إبراهيم التي شرعها الله في القرآن على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه الحق الذي لا شك فيه ولا مرية ، وهي الطريقة التي لم يأت نبي بأكمل منها ولا أبين ولا أوضح ولا أتم ، كما قال تعالى : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٦٠ ـ ١٦١] وقال تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل : ١٢٣].

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٩٧)

يخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس أي لعموم الناس لعبادتهم ونسكهم ، يطوفون به ، ويصلون إليه ، ويعتكفون عنده (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) يعني الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل عليه‌السلام الذي يزعم كل من طائفتي النصارى واليهود أنهم على دينه ومنهجه ، ولا يحجون إلى البيت الذي بناه عن أمر الله له في ذلك ونادى الناس إلى حجه ، ولهذا قال تعالى : (مُبارَكاً) أي وضع مباركا (وَهُدىً لِلْعالَمِينَ).

وقد قال الإمام أحمد (١) : حدثنا سفيان عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن أبي ذر رضي الله عنه ، قال : قلت يا رسول الله ، أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال «المسجد الحرام». قلت : ثم أي؟ قال : «المسجد الأقصى ،. قلت : كم بينهما؟ قال : «أربعون سنة». قلت : ثم أي؟ قال : «ثم حيث أدركت الصلاة فصل فكلها مسجد» وأخرجه البخاري ومسلم من حديث الأعمش به.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا سعيد بن سليمان ، عن

__________________

(١) مسند أحمد ٥ / ١٥٠.

٦٦

شريك ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً) قال : كانت البيوت قبله ، ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله.

وحدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن الربيع ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن خالد بن عرعرة ، قال : قام رجل إلى علي رضي الله عنه ، فقال : ألا تحدثني عن البيت ، أهو أول بيت وضع في الأرض؟ قال : لا ، ولكنه أول بيت وضع فيه البركة مقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمنا ، وذكر تمام الخبر في كيفية بناء إبراهيم البيت ، وقد ذكرنا ذلك مستقصى في أول سورة البقرة فأغنى عن إعادته هنا ، وزعم السدي أنه أول بيت وضع على وجه الأرض مطلقا ، والصحيح قول علي رضي الله عنه. فأما الحديث الذي رواه البيهقي في بناء الكعبة في كتابه دلائل النبوة من طريق ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا بعث الله جبريل إلى آدم وحواء ، فأمرهما ببناء الكعبة ، فبناه آدم ، ثم أمر بالطواف به ، وقيل له : أنت أول الناس ، وهذا أول بيت وضع للناس» فإنه كما ترى من مفردات ابن لهيعة وهو ضعيف. والأشبه ، والله أعلم ، أن يكون هذا موقوفا على عبد الله بن عمرو ، ويكون من الزاملتين (١) اللتين أصابهما يوم اليرموك من كلام أهل الكتاب.

وقوله تعالى : (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) بكة من أسماء مكة على المشهور ، قيل : سميت بذلك لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة بمعنى أنهم يذلون بها ويخضعون عندها وقيل : لأن الناس يتباكون فيها أي يزدحمون. قال قتادة : إن الله بك به الناس جميعا ، فيصلي النساء أمام الرجال ولا يفعل ذلك ببلد غيرها ، وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعمرو بن شعيب ومقاتل بن حيان. وذكر حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنه ، قال : مكة من الفج إلى التنعيم ، وبكة من البيت إلى البطحاء ، وقال شعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم : بكة البيت والمسجد ، وكذا قال الزهري. وقال عكرمة ، في رواية ، وميمون بن مهران : البيت وما حوله بكة ، وما وراء ذلك مكة. وقال أبو صالح وإبراهيم النخعي وعطية العوفي ومقاتل بن حيان : بكة موضع البيت وما سوى ذلك مكة ، وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة : مكة ، وبكة ، والبيت العتيق ، والبيت الحرام ، والبلد الأمين ، والمأمون ، وأم رحم ، وأم القرى ، وصلاح ، والعرش على وزن بدر ، والقادس لأنها تطهر من الذنوب ، والمقدسة ، والناسة بالنون ، وبالباء أيضا والحاطمة ، والنسّاسة ، والرأس ، وكوثاء والبلدة ، والبنية ، والكعبة (٢).

وقوله تعالى : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) أي دلالات ظاهرة أنه من بناء إبراهيم ، وأن الله عظمه

__________________

(١) الزاملة : ما يحمل عليه من الإبل وغيرها. ولعل المراد هنا : حمل زاملتين أصابهما إلخ ...

(٢) انظر الآثار الواردة في معاني «بكة» في الدر المنثور للسيوطي ٢ / ٩٣ ـ ٩٤.

٦٧

وشرفه ، ثم قال تعالى : (مَقامُ إِبْراهِيمَ) يعني الذي لما ارتفع البناء استعان به على رفع القواعد منه والجدران ، حيث كان يقف عليه ويناوله إسماعيل ، وقد كان ملتصقا بجدار البيت حتى أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إمارته إلى ناحية الشرق بحيث يتمكن الطواف منه ، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف ، لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده حيث قال : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة : ١٢٥] وقد قدمنا الأحاديث في ذلك فأغنى عن إعادتها هاهنا ، ولله الحمد والمنة.

وقال العوفي عن ابن عباس في قوله (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) أي فمنهنّ مقام إبراهيم والمشعر. وقال مجاهد : أثر قدميه في المقام آية بينة ، وكذا روي عن عمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وغيرهم ، وقال أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة : [الطويل]

وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة

على قدميه حافيا غير ناعل

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد وعمرو الأودي ، قالا : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : (مَقامُ إِبْراهِيمَ) قال : الحرم كله مقام إبراهيم ، ولفظ عمرو : الحجر كله مقام إبراهيم ، وروي عن سعيد بن جبير أنه قال : الحج مقام إبراهيم هكذا رأيته في النسخة ، ولعله الحجر كله مقام إبراهيم ، وقد صرح بذلك مجاهد.

وقوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) يعني حرم مكة إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء ، وكذلك كان الأمر في حال الجاهلية ، كما قال الحسن البصري وغيره : كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة ويدخل الحرم ، فيلقاه ابن المقتول فلا يهيجه حتى يخرج. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو يحيى التّيمي ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله تعالى (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) قال : من عاذ بالبيت أعاذه البيت ، ولكن لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ، فإذا خرج أخذ بذنبه ، وقال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٦٧] ، وقال تعالى : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش : ٤] وحتى إنه من جملة تحريمها حرمة اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره ، وحرمة قطع شجرها وقلع حشيشها ، كما ثبتت الأحاديث والآثار في ذلك عن جماعة من الصحابة مرفوعا وموقوفا. ففي الصحيحين واللفظ لمسلم عن ابن عباس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الفتح فتح مكة «لا هجرة ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا» (١) وقال يوم الفتح فتح مكة «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات

__________________

(١) صحيح البخاري (إيمان باب ٤١ وصيد باب ١٠ وجهاد باب ١) وصحيح مسلم (جهاد حديث ٢) وسنن الترمذي (سير باب ٣٢)

٦٨

والأرض ، فهو حرام بحرمة الله ، إلى يوم القيامة ، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ، ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها ، ولا يختلى خلاها» فقال العباس : يا رسول الله ، إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم ، فقال «إلا الإذخر» (١) ، ولهما عن أبي هريرة مثله أو نحوه.

ولهما واللفظ لمسلم أيضا عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة : ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قام به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغد من يوم الفتح سمعته أذناي ووعاه قلبي ، وأبصرته عيناي حين تكلم به ، إنه حمد الله وأثنى عليه ، ثم قال «إن مكة حرمها الله ، ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ، ولا يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها فقولوا له إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب». فقيل لأبي شريح : ما قال لك عمرو؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح ، إن الحرم لا يعيذ عاصيا ، ولا فارا بدم ، ولا فارا بخزية.

وعن جابر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «لا يحل لأحد كم أن يحمل بمكة السلاح» رواه مسلم. وعن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري أنه سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو واقف بالحزورة بسوق مكة ، يقول «والله إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى الله ، ولو لا أني أخرجت منك ما خرجت». رواه الإمام أحمد (٢) ، وهذا لفظه ، والترمذي والنسائي وابن ماجة ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، وكذا صحّح من حديث ابن عباس نحوه وروى أحمد عن أبي هريرة نحوه.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا بشر بن آدم ابن بنت أزهر السمان ، حدثنا أبو عاصم ، عن زريق بن مسلم الأعمى مولى بني مخزوم ، حدثني زياد ابن أبي عياش ، عن يحيى بن جعدة بن هبيرة في قوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) قال : آمنا من النار. وفي معنى هذا القول الحديث الذي رواه البيهقي : أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان ، حدثنا أحمد بن عبيد ، حدثنا محمد بن سليمان الواسطي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا ابن المؤمل عن ابن محيصن ، عن عطاء ، عن عبد الله بن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من دخل البيت دخل في حسنة ، وخرج من سيئة ، وخرج مغفورا له» ثم قال : تفرد به عبد الله بن المؤمل ، وليس بالقوي.

__________________

(١) صحيح البخاري (حج باب ٤٣ وصيد باب ٨) وصحيح مسلم (حج حديث ٤٤٥) وسنن النسائي (مناسك باب ١١٠) ومسند أحمد (١ / ٢٥٩)

(٢) مسند أحمد ٤ / ٣٠٥.

٦٩

وقوله (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) هذه آية وجوب الحج عند الجمهور. وقيل : بل هي قوله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [البقرة : ١٩٦] ، والأول أظهر. وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده ، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروريا ، وإنما يجب على المكلف في العمر مرة واحدة بالنص والإجماع.

قال الإمام أحمد (١) رحمه‌الله : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا الربيع بن مسلم القرشي ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة ، قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال «أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا» فقال رجل : أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم» ثم قال «ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» ، ورواه مسلم (٢) عن زهير بن حرب عن يزيد بن هارون به نحوه.

وقد روى سفيان بن حسين وسليمان بن كثير وعبد الجليل بن حميد ومحمد بن أبي حفصة عن الزهري ، عن أبي سنان الدؤلي واسمه يزيد بن أمية ، عن ابن عباس رضي الله عنه ، قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج» فقام الأقرع بن حابس ، فقال : يا رسول الله أفي كل عام؟ فقال «لو قلتها لوجبت ولو وجبت لم تعملوا بها ولم تستطيعوا أن تعملوا بها ، الحج مرة فمن زاد فهو تطوع» رواه أحمد (٣) وأبو داود والنسائي وابن ماجة ، والحاكم من حديث الزهري به ، ورواه شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس بنحوه. وروي من حديث أسامة بن يزيد.

قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا منصور بن وردان عن علي بن عبد الأعلى ، عن أبيه ، عن أبي البختري ، عن علي رضي الله عنه ، قال : لما نزلت (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) قالوا : يا رسول الله في كل عام؟ فسكت ، قالوا : يا رسول الله في كل عام؟ قال «لا ، ولو قلت نعم لوجبت» ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة : ١٠١] وكذا رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم من حديث منصور بن وردان به ، ثم قال الترمذي ، حسن غريب ، وفيما قال نظر ، لأن البخاري قال : لم يسمع أبو البختري من علي.

وقال ابن ماجة : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، حدثنا محمد بن أبي عبيدة عن أبيه ،

__________________

(١) مسند أحمد ٢ / ٥٠٨.

(٢) صحيح مسلم (حج حديث ٤١٢)

(٣) مسند أحمد ١ / ٢٩٠.

(٤) مسند أحمد ١ / ١١٣.

٧٠

عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن أنس بن مالك ، قال : قالوا : يا رسول الله ، الحج في كل عام؟ قال «لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت لم تقوموا بها ، ولو لم تقوموا بها ، لعذبتم» (١). وفي الصحيحين من حديث ابن جريج عن عطاء ، عن جابر ، عن سراقة بن مالك ، قال : يا رسول الله ، متعتنا هذه لعامنا هذا ، أم للأبد؟ قال «لا ، بل للأبد». وفي رواية «بل لأبد الأبد».

وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود من حديث واقد بن أبي واقد الليثي عن أبيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال لنسائه في حجته هذه «ثم ظهور الحصر ـ يعني ثم الزمن ظهور الحصر ـ ولا تخرجن من البيوت».

وأما الاستطاعة فأقسام : تارة يكون الشخص مستطيعا بنفسه ، وتارة بغيره كما هو مقرر في كتب الأحكام ، قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا إبراهيم بن يزيد ، قال : سمعت محمد بن عباد بن جعفر يحدث عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : قام رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : من الحاج يا رسول الله؟ قال : «الشعث التفل» (٢) ، فقام آخر فقال : أي الحج أفضل يا رسول الله؟ قال : «العج والثج» (٣) ، فقام آخر فقال : ما السبيل يا رسول الله؟ قال : «الزاد والراحلة» ، وهكذا رواه ابن ماجة من حديث إبراهيم بن يزيد وهو الحوزي ، قال الترمذي : ولا نعرفه إلا من حديثه ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه ، كذا قال هاهنا وقال في كتاب الحج : هذا حديث حسن. لا يشك أن هذا الإسناد رجاله كلهم ثقات سوى الحوزي هذا ، وقد تكلموا فيه من أجل هذا الحديث ، لكن قد تابعه غيره.

فقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله العامري ، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي ، عن محمد بن عباد بن جعفر ، قال : جلست إلى عبد الله بن عمر ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : ما السبيل؟ قال «الزاد والراحلة» وهكذا رواه ابن مردويه من رواية محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير به ثم قال ابن أبي حاتم : وقد روي عن ابن عباس وأنس والحسن ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك ، وقد روي هذا الحديث من طرق أخرى من حديث أنس وعبد الله بن عباس وابن مسعود وعائشة كلها مرفوعة ، ولكن في أسانيدها مقال كما هو مقرر في كتاب الأحكام ، والله أعلم. وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مردويه بجمع طرق هذا الحديث.

__________________

(١) سنن ابن ماجة (مناسك باب ٢)

(٢) الشعث التّفل : الذي ترك استعمال الطيب.

(٣) العجّ : رفع الصوت بالتلبية. والثّج : سيلان دماء الهدي والأضاحي.

٧١

ورواه الحاكم من حديث قتادة عن حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن أنس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن قول الله عزوجل (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) فقيل : ما السبيل؟ قال «الزاد والراحلة» ، ثم قال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه.

وقال ابن جرير (١) : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية عن يونس ، عن الحسن ، قال قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) فقالوا : يا رسول الله ما السبيل؟ قال «الزاد والراحلة» ، ورواه وكيع في تفسيره عن سفيان ، عن يونس به.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا الثوري ، عن إسماعيل وهو أبو إسرائيل الملائي ، عن فضيل ، يعني ابن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تعجلوا إلى الحج ـ يعني الفريضة ـ فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له». وقال أحمد (٣) أيضا : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الحسن بن عمرو الفقيمي ، عن مهران بن أبي صفوان ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أراد الحج فليتعجل» ورواه أبو داود عن مسدد عن أبي معاوية الضرير به.

وقد روى ابن جبير عن ابن عباس في قوله (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) قال : من ملك ثلاثمائة درهم فقد استطاع إليه سبيلا ، وعن عكرمة مولاه أنه قال : السبيل الصحة وروى وكيع بن الجراح عن أبي جناب يعني الكلبي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس ، قال (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) قال «الزاد والبعير».

وقوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: أي ومن جحد فريضة الحج فقد كفر والله غني عنه.

وقال سعيد بن منصور عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن عكرمة ، قال : لما نزلت (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران : ٨٥] قالت اليهود : فنحن مسلمون ، قال الله عزوجل : فاخصمهم فحجهم ، يعني فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله فرض على المسلمين حج البيت من استطاع إليه سبيلا» فقالوا : لم يكتب علينا وأبوا أن يحجوا ، قال الله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد نحوه.

وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، وشاذ بن فياض ، قالا : حدثنا هلال أبو هاشم الخراساني ، حدثنا أبو إسحاق الهمداني عن الحارث ، عن علي رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٢٦٤.

(٢) مسند أحمد ٢ / ٣١٣.

(٣) مسند أحمد ١ / ٢٢٥.

٧٢

ملك زادا وراحلة ولم يحج بيت الله ، فلا يضره مات يهوديا أو نصرانيا ، ذلك بأن الله قال : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً* وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ).

ورواه ابن جرير (١) من حديث مسلم بن إبراهيم به ، وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي زرعة الرازي : حدثنا هلال بن فياض ، حدثنا هلال أبو هاشم الخراساني ، فذكره بإسناده مثله ، ورواه الترمذي عن محمد بن يحيى القطعي عن مسلم بن إبراهيم ، عن هلال بن عبد الله مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي به ، وقال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وفي إسناده مقال ، وهلال مجهول ، والحارث يضعف في الحديث. وقال البخاري : هلال هذا منكر الحديث. وقال ابن عدي : هذا الحديث ليس بمحفوظ.

وقد روى أبو بكر الإسماعيلي الحافظ من حديث أبي عمرو الأوزاعي : حدثني إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر ، حدثني عبد الرحمن بن غنم أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : من أطاق الحج فلم يحج ، فسواء عليه يهوديا مات أو نصرانيا ، وهذا إسناد صحيح إلى عمر رضي الله عنه.

وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري ، قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جدة (٢) فلم يحج ، فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ، ما هم بمسلمين.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٩)

هذا تعنيف من الله تعالى للكفرة أهل الكتاب على عنادهم للحق ، وكفرهم بآيات الله ، وصدهم عن سبيل الله من أراده من أهل الإيمان بجهدهم وطاقتهم ، مع علمهم بأن ما جاء به الرسول حق من الله ، بما عندهم من العلم عن الأنبياء الأقدمين والسادة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وما بشروا به ونوهوا به من ذكر النبي الأمي الهاشمي العربي المكي سيد ولد آدم ، وخاتم الأنبياء ، ورسول رب الأرض والسماء ، وقد توعدهم الله على ذلك ، وأخبر بأنه شهيد على صنيعهم ذلك بما خالفوا ما بأيديهم عن الأنبياء ومعاملتهم الرسول المبشر به بالتكذيب والجحود والعناد ، فأخبر تعالى أنه ليس بغافل عما يعملون ، أي وسيجزيهم على ذلك يوم لا ينفع مال ولا بنون.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٣٦٤.

(٢) الجدة (بكسر أوله وتخفيف الدال المفتوحة) : المال.

٧٣

تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٠١)

يحذر تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يطيعوا طائفة من أهل الكتاب الذين يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله وما منحهم به من إرسال رسوله ، كما قال تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) [البقرة : ١٠٩] الآية ، وهكذا قال هاهنا (إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) ثم قال تعالى : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) يعني أن الكفر بعيد منكم وحاشاكم منه ، فإن آيات الله تنزل على رسوله ليلا ونهارا ، وهو يتلوها عليكم ويبلغها إليكم ، وهذا كقوله تعالى : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الحديد : ٨]. وكما جاء في الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال لأصحابه يوما «أي المؤمنين أعجب إليكم إيمانا؟» قالوا : الملائكة. قال : «وكيف لا يؤمنون وهم عند ربهم»؟ وذكروا الأنبياء ، قال «وكيف لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟» قالوا : فنحن. قال «وكيف لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟» قالوا : فأي الناس أعجب إيمانا؟ قال : «قوم يجيئون من بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها» وقد ذكرت سند هذا الحديث والكلام عليه في أول شرح البخاري ، ولله الحمد.

ثم قال تعالى : (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي ومع هذا فالاعتصام بالله والتوكل عليه هو العمدة في الهداية ، والعدّة في مباعدة الغواية ، والوسيلة إلى الرشاد ، وطريق السداد وحصول المراد.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٠٣)

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن عن سفيان وشعبة عن زبيد اليامي ، عن مرة ، عن عبد الله هو ابن مسعود (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) قال : أن يطاع فلا يعصى ، وأن يذكر فلا ينسى ، وأن يشكر فلا يكفر ، وهذا إسناد صحيح موقوف ، وقد تابع مرة عليه عمرو بن ميمون عن ابن مسعود.

وقد رواه ابن مردويه من حديث يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب ، عن سفيان الثوري ، عن زبيد ، عن مرة ، عن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) : أن يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى» ، وكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث مسعر عن زبيد ، عن مرة ، عن ابن مسعود مرفوعا ، فذكره ، ثم قال : صحيح على شرط

٧٤

الشيخين ، ولم يخرجاه ، كذا قال ، والأظهر أنه موقوف ، والله أعلم.

ثم قال ابن أبي حاتم : وروي نحوه عن مرة الهمداني والربيع بن خثيم وعمرو بن ميمون وإبراهيم النخعي وطاوس والحسن وقتادة وأبي سنان والسدي ، نحو ذلك. وروي عن أنس أنه قال : لا يتقي الله العبد حق تقاته حتى يخزن لسانه.

وقد ذهب سعيد بن جبير وأبو العالية ، والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم والسدي وغيرهم إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦] وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) قال : لم تنسخ ، ولكن (حَقَّ تُقاتِهِ) أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم ، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم.

وقوله تعالى : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه ، فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه ، ومن مات على شيء بعث عليه ، فعياذا بالله من خلاف ذلك.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا روح ، حدثنا شعبة ، قال : سمعت سليمان عن مجاهد : أن الناس كانوا يطوفون بالبيت وابن عباس جالس معه محجن ، فقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ، ولو أن قطرة من الزقوم قطرت لأمرّت على أهل الأرض عيشتهم ، فكيف بمن ليس له طعام إلا الزقوم؟» وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من طرق عن شعبة به وقال الترمذي : حسن صحيح ، وقال الحاكم : على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب ، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه».

وقال الإمام أحمد (٣) أيضا : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن أبي سفيان ، عن جابر ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول قبل موته بثلاث «لا يموتن (٤) أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عزوجل» ورواه مسلم من طريق الأعمش به.

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٣٠١.

(٢) مسند أحمد ٢ / ١٩٢.

(٣) مسند أحمد ٣ / ٥١٣.

(٤) في المسند «ألا لا يموتن».

٧٥

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا أبو يونس عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «إن الله قال : أنا عند ظن عبدي بي ، فإن ظن بي خيرا فله ، وإن ظن شرا فله» ، وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقول الله : أنا عند ظن عبدي بي».

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عبد الملك القرشي ، حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت وأحسبه عن أنس ، قال : كان رجل من الأنصار مريضا ، فجاءه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعوده ، فوافقه في السوق فسلم عليه ، فقال له «كيف أنت يا فلان»؟ قال : بخير يا رسول الله ، أرجو الله وأخاف ذنوبي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف» ، ثم قال : لا نعلم رواه عن ثابت غير جعفر بن سليمان ، وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديثه ، ثم قال الترمذي : غريب ، وقد رواه بعضهم عن ثابت مرسلا.

فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن أبي بشر ، عن يوسف بن ماهك ، عن حكيم بن حزام ، قال : بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا أخر إلا قائما ، ورواه النسائي في سننه عن إسماعيل بن مسعود عن خالد بن الحارث عن شعبة به ، وترجم عليه فقال (باب كيف يخر للسجود) ، ثم ساقه مثله فقيل : معناه أن لا أموت إلا مسلما ، وقيل : معناه أن لا أقتل إلا مقبلا غير مدبر وهو يرجع إلى الأول.

وقوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) قيل (بِحَبْلِ اللهِ) أي بعهد الله ، كما قال في الآية بعدها (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) [آل عمران : ١١٢] أي بعهد وذمة ، وقيل (بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) يعني القرآن كما في حديث الحارث الأعور عن علي مرفوعا في صفة القرآن «هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم».

وقد ورد في ذلك حديث خاص بهذا المعنى ، فقال الإمام الحافظ أبو جعفر الطبري (٣) : حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، حدثنا أسباط بن محمد عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي عن عطية ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض».

وروى ابن مردويه من طريق إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي الأحوص ، عن عبد الله رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن هذا القرآن هو حبل الله المتين ، وهو النور المبين ،

__________________

(١) مسند أحمد ٢ / ٣٩١.

(٢) مسند أحمد ٣ / ٤٠٢.

(٣) تفسير الطبري ٣ / ٣٧٩.

٧٦

وهو الشفاء النافع ، عصمة لمن تمسك به ، ونجاة لمن اتبعه» ، وروي من حديث حذيفة وزيد بن أرقم نحو ذلك. وقال وكيع : حدثنا الأعمش عن أبي وائل قال : قال عبد الله : إن هذا الصراط محتضر يحضره الشياطين. يا عبد الله هذا الطريق ، هلم إلى الطريق فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله القرآن.

وقوله : (وَلا تَفَرَّقُوا) أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة ، وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق ، والأمر بالاجتماع والائتلاف ، كما في صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الله يرضى لكم ثلاثا ، ويسخط لكم ثلاثا ، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ، ويسخط لكم ثلاثا : قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال» (١) وقد ضمنت لهم العصمة عند اتفاقهم من الخطأ ، كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضا ، وخيف عليهم الافتراق والاختلاف ، وقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة ، منها فرقة ناجية إلى الجنة ومسلمة من عذاب النار ، وهم الذين على ما كان عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه.

وقوله تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) إلى آخر الآية ، وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج ، فإنه قد كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية ، وعداوة شديدة وضغائن وإحن وذحول (٢) ، طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم ، فلما جاء الله بالإسلام ، فدخل فيه من دخل منهم ، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله ، متواصلين في ذات الله ، متعاونين على البر والتقوى ، قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ، وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) [الأنفال : ٦٣] إلى آخر الآية ، وكانوا على شفا حفرة من النار بسبب كفرهم ، فأنقذهم الله منها أن هداهم للإيمان ، وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم قسم غنائم حنين ، فعتب من عتب منهم ، بما فضل عليهم في القسم ، بما أراه الله فخطبهم فقال «يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ، وعالة فأغناكم الله بي؟» فكلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أمنّ. وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار وغيره : أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج ، وذلك أن رجلا من اليهود مرّ بملإ من الأوس والخزرج ، فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة ، فبعث رجلا معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكرهم ما كان من حروبهم يوم بعاث وتلك الحروب ، ففعل ، فلم يزل ذلك دأبه ، حتى حميت نفوس القوم ، وغضب بعضهم على بعض ، وتثاوروا ونادوا بشعارهم وطلبوا أسلحتهم

__________________

(١) صحيح مسلم (أقضية حديث ١٠) وموطأ مالك (كلام حديث ٢٠)

(٢) الذحول : الأحقاد والعداوات.

٧٧

وتواعدوا إلى الحرة ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتاهم فجعل يسكنهم ويقول «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟» وتلا عليهم هذه الآية ، فندموا على ما كان منهم واصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح رضي الله عنهم (١). وذكر عكرمة أن ذلك نزل فيهم حين تثاوروا في قضية الإفك ، والله أعلم.

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ(١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (١٠٩)

يقول تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، قال الضحاك : هم خاصة الصحابة وخاصة الرواة ، يعني المجاهدين والعلماء. وقال أبو جعفر الباقر (٢) : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) ثم قال «الخير اتباع القرآن وسنتي» رواه ابن مردويه. والمقصود من هذه الآية ، أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن ، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه ، كما ثبت في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» (٣) وفي رواية : وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل».

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا سليمان الهاشمي ، أنبأنا إسماعيل بن جعفر ، أخبرني عمرو بن أبي عمرو ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهلي ، عن حذيفة بن اليمان ، أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذي نفسي بيده ، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم» ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث عمرو بن أبي عمرو به ، وقال الترمذي : حسن ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة ، مع الآيات الكريمة ، كما سيأتي تفسيهرا في أماكنها.

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٥٥٥ وما بعدها.

(٢) هو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. توفي سنة ١١٤ ه‍. قيل له الباقر لأنه وعى علما كثيرا ، فكأنه بقر العلم بقرا.

(٣) صحيح مسلم (إيمان حديث ٧٨) وسنن الترمذي (فتن باب ١١) وسنن النسائي (إيمان باب ١٧)

(٤) مسند أحمد ٥ / ٣٨٨.

٧٨

ثم قال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) الآية ، ينهى تبارك وتعالى هذه الأمة أن يكونوا كالأمم الماضين في افتراقهم واختلافهم وتركهم الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، مع قيام الحجة عليهم.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان ، حدثني أزهر بن عبد الله الهوزني ، عن أبي عامر عبد الله بن لحيّ ، قال : حججنا مع معاوية بن أبي سفيان فلما قدمنا مكة ، قام حين صلى الظهر ، فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاثة وسبعين ملة ـ يعني الأهواء ـ كلها في النار إلا واحدة ـ وهي الجماعة ـ وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله» والله يا معشر العرب ، لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به ، وهكذا رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى ، كلاهما عن أبي المغيرة واسمه عبد القدوس بن الحجاج الشامي به ، وقد ورد هذا الحديث من طرق.

وقوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) يعني يوم القيامة ، حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة ، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) قال الحسن البصري : وهم المنافقون (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) وهذا الوصف يعم كل كافر (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) يعني الجنة ماكثون فيها أبدا لا يبغون عنها حولا ، وقد قال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية : حدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع عن ربيع بن صبيح وحماد بن سلمة ، عن أبي غالب ، قال : رأى أبو أمامة رؤوسا (٢) منصوبة على درج مسجد دمشق ، فقال أبو أمامة ، كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه ، ثم قرأ (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) إلى آخر الآية ، قلت لأبي أمامة : أنت سمعته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ : قال : لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعا ـ حتى عد سبعا ـ ما حدثتكموه ، ثم قال : هذا حديث حسن (٣) ، وقد رواه ابن ماجة من حديث سفيان بن عيينة عن أبي غالب وأخرجه أحمد في مسنده عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أبي غالب بنحوه. وقد روى ابن مردويه عند تفسير هذه الآية عن أبي ذر حديثا مطولا غريبا عجيبا جدا.

ثم قال تعالى : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ) أي هذه آيات الله وحججه وبيناته نتلوها

__________________

(١) مسند أحمد ٤ / ١٠٢.

(٢) أي رؤوس الخوارج المقتولين من أهل حروراء.

(٣) سنن الترمذي (تفسير سورة آل عمران باب ٨)

٧٩

عليك يا محمد (بِالْحَقِ) اي نكشف ما الأمر عليه في الدنيا والآخرة (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) أي ليس بظالم لهم بل هو الحكم ، العدل الذي لا يجور ، لأنه القادر على كل شيء ، العالم بكل شيء ، فلا يحتاج مع ذلك إلى أن يظلم أحدا من خلقه ، ولهذا قال تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي الجميع ملك له وعبيد له (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي هو الحاكم المتصرف في الدنيا والآخرة.

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (١١٢)

يخبر تعالى عن هذه الأمة المحمدية بأنهم خير الأمم ، فقال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) قال البخاري : حدثنا محمد بن يوسف ، عن سفيان عن ميسرة ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) قال : خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام (١) ، وهكذا قال ابن عباس ومجاهد وعطية العوفي وعكرمة وعطاء والربيع بن أنس (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) يعني خير الناس للناس ، والمعنى أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس ، ولهذا قال (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ).

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا شريك ، عن سماك ، عن عبد الله بن عميرة ، عن زوج درّة بنت أبي لهب ، عن درة بنت أبي لهب قالت : قام رجل إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على المنبر ، فقال : يا رسول الله أي الناس خير؟ قال «خير الناس أقرؤهم وأتقاهم لله ، وآمرهم بالمعروف ، وأنهاهم عن المنكر ، وأوصلهم للرحم».

ورواه أحمد في مسنده ، والنسائي في سننه ، والحاكم في مستدركه ، من حديث سماك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) قال : هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة إلى المدينة. والصحيح أن هذه الآية عامة في جميع الأمة كل قرن بحسبه ، وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ، كما قال في الآية الأخرى (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] أي خيارا

__________________

(١) صحيح البخاري (تفسير سورة آل عمران باب ٧)

(٢) مسند أحمد ٦ / ٤٣٢.

٨٠