تفسير القرآن العظيم - ج ٢

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٠

ولا يزال قائما منصورا ظاهرا على كل دين ، فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض ومغاربها ، واجتازوا جميع الممالك ، ودانت لهم جميع الدول ، وكسروا كسرى ، وقصروا قيصر وسلبوهما كنوزهما ، وأنفقت في سبيل الله كما أخبرهم بذلك نبيهم عن ربهم عزوجل في قوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ، يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) [النور : ٥٥] الآية ، فلهذا لما كانوا هم المؤمنين بالمسيح حقا ، سلبوا النصارى بلاد الشام وألجأوهم إلى الروم فلجأوا إلى مدينتهم القسطنطينية ، ولا يزال الإسلام وأهله فوقهم إلى يوم القيامة. وقد أخبر الصادق الصدوق صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمته بأن آخرهم سيفتحون القسطنطينية ويستفيئون ما فيها من الأموال ، ويقتلون الروم مقتلة عظيمة جدا ، لم ير الناس مثلها ولا يرون بعدها نظيرها ، وقد جمعت في هذا جزءا مفردا ، ولهذا قال تعالى : (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ* فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) وكذلك فعل بمن كفر بالمسيح من اليهود أو غلا فيه أو أطراه من النصارى ، عذبهم في الدنيا بالقتل والسبي ، وأخذ الأموال وإزالة الأيدي عن الممالك ، وفي الدار الآخرة عذابهم أشد وأشق (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) [الرعد: ٣٤] (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) أي في الدنيا والآخرة ، في الدنيا بالنصر والظفر ، وفي الآخرة بالجنات العاليات (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).

ثم قال تعالى : (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) أي هذا الذي قصصنا عليك يا محمد في أمر عيسى ومبدأ ميلاده وكيفية أمره ، وهو مما قاله تعالى وأوحاه إليك ونزله عليك من اللوح المحفوظ ، فلا مرية فيه ولا شك ، كما قال تعالى في سورة مريم (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ* ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [مريم : ٣٤ ـ ٣٥] وهاهنا قال تعالى :

(إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) (٦٣)

يقول جلا وعلا : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ) في قدرة الله حيث خلقه من غير أب (كَمَثَلِ آدَمَ) حيث خلقه من غير أب ولا أم بل (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فالذي خلق آدم من غير أب ، قادر على أن يخلق عيسى بطريق الأولى والأحرى ، وإن جاز ادعاء النبوة في

٤١

عيسى لكونه مخلوقا من غير أب ، فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى ، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل ، فدعواه في عيسى أشد بطلانا وأظهر فسادا ، ولكن الرب جل جلاله أراد أن يظهر قدرته لخلقه حين خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى ، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلق عيسى من أثنى بلا ذكر ، كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى ، ولهذا قال تعالى في سورة مريم (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) [مريم : ٢١] وقال هاهنا : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي هذا هو القول الحق في عيسى الذي لا محيد عنه ولا صحيح سواه ، وماذا بعد الحق إلا الضلال. ثم قال تعالى آمرا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيان (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) أي نحضرهم في حال المباهلة (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) أي نلتعن (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) أي منا أو منكم.

وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران ، أن النصارى لما قدموا فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من النبوة والإلهية ، فأنزل الله صدر هذه السورة ردا عليهم كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق بن يسار وغيره. قال ابن إسحاق في سيرته (١) المشهورة وغيره : قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد نصارى نجران ستون راكبا ، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم يؤول أمرهم إليهم وهم : العاقب واسمه عبد المسيح ، والسيد وهو الأيهم ، وأبو حارثة بن علقمة أخو (٢) بكر بن وائل ، وأويس بن الحارث ، وزيد ، وقيس ، ويزيد ونبيه ، وخويلد ، وعمرو ، وخالد ، وعبد الله ، ويحنّس ، وأمر هؤلاء يؤول إلى ثلاثة منهم وهم العاقب ، وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم ، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه ، والسيد وكان عالمهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم ، وأبو حارثة بن علقمة وكان أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم (٣) ، وكان رجلا من العرب من بني بكر بن وائل ، ولكنه تنصر فعظمته الروم وملوكها وشرفوه ، وبنوا له الكنائس وأخدموه لما يعلمونه من صلابته في دينهم ، وقد كان يعرف أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته وشأنه مما علمه من الكتب المتقدمة ، ولكن حمله جهله على الاستمرار في النصرانية لما يرى من تعظيمه فيها وجاهه عند أهلها.

قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، قال : قدموا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر ، عليهم ثياب الحبرات (٤) جبب وأردية في

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٥٧٣ وما بعدها.

(٢) في السيرة : «أحد بني بكر بن وائل. وهو أسقفّهم».

(٣) المدارس : الموضع يدرس فيه كتاب الله.

(٤) الحبرات : برود من برود اليمن. الواحدة : حبرة.

٤٢

جمال رجال بني الحارث بن كعب ، قال : يقول من رآهم من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم ؛ وقد حانت صلاتهم فقاموا في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّون ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «دعوهم» فصلوا إلى المشرق ، قال : فكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة ، والعاقب عبد المسيح ، والسيد الأيهم وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف من أمرهم يقولون : هو الله ، ويقولون : هو ولد الله ، ويقولون : هو ثالث ثلاثة ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. وكذلك قول النصرانية.

فهم يحتجون في قولهم هو الله ، بأنه كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص والأسقام ، ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا ، وذلك كله بأمر الله. وليجعله الله آية للناس ، ويحتجون على قولهم بأنه ابن الله يقولون : لم يكن له أب يعلم ، وقد تكلم في المهد بشيء لم يسمعه أحد من بني آدم قبله (١) ، ويحتجون على قولهم بأنه ثالث ثلاثة بقول الله تعالى : فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا فيقولون : لو كان واحدا ما قال إلا فعلت وأمرت وقضيت وخلقت ، ولكنه هو وعيسى ومريم ـ تعالى الله وتقدس وتنزه عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا ـ ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن ، فلما كلمه الحبران ، قال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أسلما» قالا : قد أسلمنا ، قال : «إنكما لم تسلما فأسلما». قالا : بلى قد أسلمنا قبلك. قال : «كذبتما يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير». قالا : فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهما فلم يجبهما ، فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها.

ثم تكلم ابن إسحاق على تفسيرها (٢) إلى أن قال : فلما أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخبر من الله والفصل من القضاء بينه وبينهم وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك ، فقالوا : يا أبا القاسم ، دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه ، ثم انصرفوا عنه ، ثم خلوا بالعاقب ، وكان ذا رأيهم فقالوا : يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمدا لنبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم أنه ما لا عن قوم نبيا قط ، فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم ، وإنه الاستئصال منكم إن فعلتم ، فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم ، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم ، فأتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا أبا القاسم ، قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها في أموالنا ، فإنكم عندنا رضا.

__________________

(١) عبارة السيرة : «وقد تكلم في المهد ، وهذا لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله» وهي أوضح.

(٢) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٥٧٦ ـ ٥٨٣.

٤٣

قال محمد بن جعفر : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين» فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ ، رجاء أن أكون صاحبها ، فرحت إلى الظهر مهجرا ، فلما صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الظهر ، سلم ثم نظر عن يمينه وشماله ، فجعلت أتطاول له ليراني فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه ، فقال «اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه». قال عمر : فذهب بها أبو عبيدة رضي الله عنه.

وقد روى ابن مردويه من طريق محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن رافع بن خديج : أن وفد أهل نجران قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكر نحوه ، إلا أنه قال في الأشراف : كانوا اثني عشر ، وذكر بقيته بأطول من هذا السياق ، وزيادات أخر.

وقال البخاري (١) : حدثنا عباس بن الحسين ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن صلة بن زفر ، عن حذيفة رضي الله عنه ، قال : جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريدان أن يلاعناه ، قال : فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل فو الله لئن كان نبيا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا ، قالا : إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا ولا تبعث معنا إلا أمينا ، فقال «لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين» فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال «قم يا أبا عبيدة بن الجراح» فلما قام ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا أمين هذه الأمة» رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة (٢) من طرق عن أبي إسحاق السبيعي عن صلة ، عن حذيفة ، بنحوه وقد رواه أحمد (٣) والنسائي وابن ماجة من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق ، عن صلة ، عن ابن مسعود بنحوه وقال البخاري : حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن خالد ، عن أبي قلابة ، عن أنس ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «لكل أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» (٤) وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا إسماعيل بن يزيد الرقي أبو يزيد ، حدثنا فرات عن عبد الكريم بن مالك الجزري ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال أبو جهل قبحه الله : إن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على رقبته ، قال : فقال «لو فعل لأخذته الملائكة عيانا ، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار ، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا» ، وقد رواه

__________________

(١) صحيح البخاري (آحاد باب ١ ؛ ومغازي باب ٧٢ ؛ وفضائل الصحابة باب ٢١)

(٢) سنن ابن ماجة (مقدمة باب ١١) وسنن الترمذي (مناقب باب ٣٢)

(٣) المسند (ج ١ ص ٤١٤)

(٤) صحيح البخاري (فضائل الصحابة باب ٥٣ ـ ٥٥)

(٥) المسند (ج ١ ص ٢٤٨)

٤٤

الترمذي والنسائي من حديث عبد الرزاق ، عن معمر ، عن عبد الكريم به ، وقال الترمذي : حسن صحيح.

وقد روى البيهقي في دلائل النبوة قصة وفد نجران مطولة جدا ، ولنذكره فإن فيه فوائد كثيرة ، وفيه غرابة ، وفيه مناسبة لهذا المقام ، قال البيهقي : حدثنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل ، قالا : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا أحمد بن عبد الجبار ، حدثنا يونس بن بكير ، عن سلمة بن عبد يسوع ، عن أبيه ، عن جده ، قال يونس ـ وكان نصرانيا فأسلم ـ : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان «باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران سلم أنتم ، فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب. أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد ، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد ، فإن أبيتم فالجزية ، فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب ، والسلام». فلما أتى الأسقف الكتاب وقرأه فظع به (١) ، وذعره ذعرا شديدا ، وبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة ، وكان من همدان ، ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة قبله لا الأيهم ولا السيد ولا العقاب ، فدفع الأسقف كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى شرحبيل فقرأه ، فقال الأسقف : يا أبا مريم ما رأيك؟ فقال شرحبيل : قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة ، فما يؤمن أن يكون هذا هو ذاك الرجل ، ليس لي في أمر النبوة رأي ، ولو كان في أمر من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه برأيي واجتهدت لك ، فقال الأسقف : تنح فاجلس ، فتنحى شرحبيل فجلس ناحية ، فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له عبد الله بن شرحبيل ، وهو من ذي أصبح من حمير ، فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه فقال له مثل قول شرحبيل ، فقال له الأسقف : تنح فاجلس ، فتنحى عبد الله فجلس ناحية ، فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب أحد بني الحماس ، فأقرأه الكتاب ، وسأله عن الرأي فيه ، فقال له مثل قول شرحبيل وعبد الله ، فأمره الأسقف ، فتنحى فجلس ناحية ، فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعا ، أمر الأسقف بالناقوس فضرب به ، ورفعت النيران والمسوح في الصوامع ، وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا بالنهار ، وإذا كان فزعهم ليلا ضربوا بالناقوس ورفعت النيران في الصوامع ، فاجتمعوا حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح ، أهل الوادي أعلاه وأسفله. وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع ، وفيه ثلاث وسبعون قرية وعشرون ومائة ألف مقاتل ، فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسألهم عن الرأي فيه ، فاجتمع رأي أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني وعبد الله بن شرحبيل الأصبحي وجبار بن فيض الحارثي ، فيأتونهم بخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) فظع به : هابه.

٤٥

فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم ، ولبسوا حللا لهم يجرونها من حبرة وخواتيم الذهب ، ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلموا عليه ، فلم يرد عليهم ، وتصدوا لكلامه نهارا طويلا ، فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل وخواتيم الذهب ، فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف ، وكانا معرفة لهم ، فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس ، فقالوا : يا عثمان ويا عبد الرحمن ، إن نبيكم كتب إلينا كتابا فأقبلنا مجيبين له ، فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا ، وتصدينا لكلامه نهارا طويلا ، فأعيانا أن يكلمنا ، فما الرأي منكما ، أترون أن نرجع؟ فقالا لعلي بن أبي طالب وهو في القوم : ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟ فقال علي لعثمان وعبد الرحمن : أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ، ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يعودون إليه ، ففعلوا فسلموا عليه فرد سلامهم ، ثم قال «والذي بعثني بالحق ، لقد أتوني المرة الأولى وإن إبليس لمعهم». ثم ساءلهم وساءلوه ، فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له : ما تقول في عيسى ، فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى ، يسرنا إن كنت نبيا أن نسمع ما تقول فيه؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما عندي فيه شيء يومي هذا ، فأقيموا حتى أخبركم بما يقول لي ربي في عيسى» فأصبح الغد وقد أنزل الله هذه الآية (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ـ إلى قوله ـ الْكاذِبِينَ) فأبوا أن يقروا بذلك.

فلما أصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر ، أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميل له ، وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة ، وله يومئذ عدة نسوة ، فقال شرحبيل لصاحبيه : لقد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي ، وإني والله أرى أمرا ثقيلا ، والله لئن كان هذا الرجل ملكا مبعوثا فكنا أول العرب طعنا في عينيه وردا عليه أمره ، لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور أصحابه حتى يصيبونا بجائحة ، وإنا لأدنى العرب منهم جوارا ، ولئن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعناه ، لا يبقى منا على وجه الأرض شعر ولا ظفر إلا هلك ، فقال له صاحباه : فلما الرأي يا أبا مريم؟ فقال : أرى أن أحكمه ، فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا ، فقالا له : أنت وذاك ، قال : فلقي شرحبيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له : إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك. فقال : وما هو؟ فقال : حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح ، فمهما حكمت فينا فهو جائز ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لعل وراءك أحدا يثرب (١) عليك»؟ فقال شرحبيل : سل صاحبي ، فسألهما فقالا : ما يرد الوادي ولا يصدر إلا عن رأي شرحبيل. فرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يلاعنهم حتى إذا كان من الغد أتوه ، فكتب لهم هذا الكتاب «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما كتب النبي محمد رسول الله لنجران ـ إن كان عليهم حكمه ـ في كل ثمرة وكل صفراء وبيضاء وسوداء ورقيق فاضل عليهم ، وترك ذلك كله لهم على ألفي حلة ، في كل رجب ألف حلة ، وفي كل صفر ألف حلة» وذكر تمام

__________________

(١) ثرّب عليه : لامه وعيّره بذنبه.

٤٦

الشروط وبقية السياق.

والغرض أن وفودهم كان في سنة تسع ، لأن الزهري قال : كان أهل نجران أول من أدى الجزية إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وآية الجزية إنما أنزلت بعد الفتح ، وهي قوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ٢٩] ، وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا أحمد بن داود المكي ، حدثنا بشر بن مهران حدثنا محمد بن دينار ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن جابر ، قال : قدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم العاقب والطيب ، فدعاهما إلى الملاعنة فواعده على أن يلاعناه الغداة ، قال : فغدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ، ثم أرسل إليهما ، فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج ، قال : فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «والذي بعثني بالحق لو قالا : لا ، لأمطر عليهم الوادي نارا» قال جابر ، وفيهم نزلت (نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) قال جابر (أَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلي بن أبي طالب و (أَبْناءَنا) الحسن والحسين (وَنِساءَنا) فاطمة. وهكذا رواه الحاكم في مستدركه عن علي بن عيسى ، عن أحمد بن محمد الأزهري ، عن علي بن حجر ، عن علي بن مسهر ، عن داود بن أبي هند به بمعناه ، ثم قال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه هكذا قال وقد رواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن المغيرة عن الشعبي مرسلا ، وهذا أصح ، وقد روي عن ابن عباس والبراء نحو ذلك.

ثم قال الله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) أي هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا معدل عنه ولا محيد (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ ، وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي عن هذا إلى غيره (فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) أي من عدل عن الحق إلى الباطل فهو المفسد والله عليم به ، وسيجزيه على ذلك شر الجزاء وهو القادر الذي لا يفوته شيء سبحانه وبحمده ونعوذ به من حلول نقمته.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٦٤)

هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم. (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ) والكلمة تطلق على الجملة المفيدة ، كما قال هاهنا ، ثم وصفها بقوله (سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) أي عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها ، ثم فسرها بقوله : (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) لا وثنا ولا صليبا ولا صنما ولا طاغوتا ولا نارا ولا شيئا ، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له ، وهذه دعوة جميع الرسل ، قال الله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥] وقال تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل : ٣٦] ثم قال تعالى (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا

٤٧

بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) ، قال ابن جريج : يعني يطيع بعضنا بعضا في معصية الله ، وقال عكرمة : يسجد بعضنا لبعض (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي فإن تولوا عن هذا النصف وهذه الدعوة ، فأشهدوهم أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه الله لكم.

وقد ذكرنا في شرح البخاري عند روايته من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس ، عن أبي سفيان في قصته حين دخل على قيصر ، فسأله عن نسب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن صفته ونعته وما يدعو إليه ، فأخبره بجميع ذلك على الجلية ، مع أن أبا سفيان كان إذ ذاك مشركا ، لم يسلم بعد ، وكان ذلك بعد صلح الحديبية وقبل الفتح ، كما هو مصرح به في الحديث ، ولأنه لما سأله : هل يغدر؟ قال : فقلت : لا ، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها ، قال : ولم يمكني كلمة أزيد فيها شيئا سوى هذه ، والغرض أنه قال : ثم جيء بكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأه فإذا فيه :

«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فأسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين (١) و (يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).

وقد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد أن صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها ، نزلت في وفد نجران. وقال الزهري : هم أول من بذل الجزية ، ولا خلاف أن آية الجزية نزلت بعد الفتح ، فما الجمع بين كتابة هذه الآية قبل الفتح إلى هرقل في جملة الكتاب ، وبين ما ذكره محمد بن إسحاق والزهري؟ والجواب من وجوه [أحدها] يحتمل أن هذه الآية نزلت مرتين ، مرة قبل الحديبية ، ومرة بعد الفتح. [الثاني] يحتمل أن صدر سورة آل عمران ، نزل في وفد نجران إلى هذه الآية ، وتكون هذه الآية ، نزلت قبل ذلك ، ويكون قول ابن إسحاق : إلى بضع وثمانين آية ، ليس بمحفوظ لدلالة حديث أبي سفيان. [الثالث] يحتمل أن قدوم وفد نجران ، كان قبل الحديبية ، وأن الذي بذلوه مصالحة عن المباهلة لا على وجه الجزية ، بل يكون من باب المهادنة والمصالحة ، ووافق نزول آية الجزية بعد ذلك على وفق ذلك ، كما جاء فرض الخمس والأربعة أخماس وفق ما فعله عبد الله بن جحش في تلك السرية قبل بدر ، ثم نزلت فريضة القسم على وفق ذلك. [الرابع] يحتمل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما أمر بكتب هذا في كتابه إلى هرقل ، لم يكن أنزل بعد ، ثم أنزل القرآن موافقة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما نزل بموافقة عمر بن الخطاب في الحجاب وفي الأسارى ، وفي عدم الصلاة على المنافقين ، وفي قوله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة : ١٢٥] وفي قوله : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ)

__________________

(١) الأريس : هو الأكار ، أي الحراث والفلاح. والمراد بهم عامة أهل مملكته.

٤٨

[التحريم : ٥] الآية.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (٦٨)

ينكر تبارك وتعالى على اليهود والنصارى في محاجتهم في إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، ودعوى كل طائفة منهم أنه كان منهم ، كما قال محمد بن إسحاق بن يسار (١) : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنه ، قال : اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتنازعوا عنده ، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا ، وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانيا ، فأنزل الله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) الآية ، أي كيف تدعون أيها اليهود أنه كان يهوديا ، وقد كان زمنه قبل أن ينزل الله التوراة على موسى؟ وكيف تدعون أيها النصارى أنه كان نصرانيا وإنما حدثت النصرانية بعد زمنه بدهر؟ ولهذا قال تعالى : (أَفَلا تَعْقِلُونَ).

ثم قال تعالى : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) الآية. هذا إنكار على من يحاج فيما لا علم له به ، فإن اليهود والنصارى تحاجوا في إبراهيم بلا علم ، ولو تحاجوا فيما بأيديهم منه علم مما يتعلق بأديانهم التي شرعت لهم إلى حين بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكان أولى بهم ، وإنما تكلموا فيما لا يعلمون ، فأنكر الله عليهم ذلك وأمرهم برد ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم الأمور على حقائقها وجليتها ، ولهذا قال تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

ثم قال تعالى : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً) أي متحنفا عن الشرك قاصدا إلى الإيمان (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وهذه الآية كالتي تقدمت في سورة البقرة (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) [البقرة : ١٣٥] الآية. ثم قال تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) يقول تعالى : أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل الذين اتبعوه على دينه وهذا النبي ، يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والذين آمنوا من أصحابه المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بعدهم.

قال سعيد بن منصور : حدثنا أبو الأحوص ، عن سعيد بن مسروق ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن ابن مسعود رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «إن لكل نبي ولاة من

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٣٠٣.

٤٩

النبيين ، وإن وليي منهم أبي وخليل ربي عزوجل» ثم قرأ (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) (١) الآية.

وقد رواه الترمذي والبزار من حديث أبي أحمد الزبيري ، عن سفيان الثوري ، عن أبيه به ، ثم قال البزار : ورواه غير أبي أحمد ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن أبي الضحى ، عن عبد الله ، ولم يذكر مسروقا. وكذا رواه الترمذي من طريق وكيع عن سفيان ، ثم قال : وهذا أصح ، لكن رواه وكيع في تفسيره ، فقال : حدثنا سفيان عن أبيه ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن لكل نبي ولاية من النبيين ، وإن وليي منهم أبي وخليل ربي عزوجل إبراهيم عليه‌السلام» ثم قرأ (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية ، قوله (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) أي ولي جميع المؤمنين برسله.

(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ(٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٧٤)

يخبر تعالى عن حسد اليهود للمؤمنين ، وبغيهم إياهم الإضلال ، وأخبر أن وبال ذلك إنما يعود على أنفسهم وهم لا يشعرون أنهم ممكور بهم ، ثم قال تعالى منكرا عليهم (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أي تعلمون صدقها وتتحققون حقها (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي تكتمون ما في كتبكم من صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنتم تعرفون ذلك وتتحققونه.

(وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الآية ، هذه مكيدة أرادوها ليلبسوا على الضعفاء من الناس أمر دينهم ، وهو أنهم اشتوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار ، ويصلوا مع المسلمين صلاة الصبح ، فإذا جاء النهار ارتدوا إلى دينهم ليقول الجهلة من الناس : إنما ردهم إلى دينهم اطلاعهم على نقيضة وعيب في دين المسلمين ، ولهذا قالوا (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). وقال ابن أبي نجيح : عن مجاهد في قوله تعالى إخبارا عن اليهود بهذه الآية ، يعني يهودا صلت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الصبح ، وكفروا آخر النهار مكرا منهم ، ليروا الناس أن قد بدت لهم الضلالة منه بعد أن كانوا اتبعوه.

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٣٠٦.

٥٠

وقال العوفي عن ابن عباس : قالت طائفة من أهل الكتاب : إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار فآمنوا ، وإذا كان آخره فصلوا صلاتكم لعلهم يقولون هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم منا ، وهكذا روي عن قتادة والسدي والربيع وأبي مالك.

وقوله تعالى : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) أي لا تطمئنوا أو تظهروا سركم وما عندكم إلا لمن تبع دينكم ، ولا تظهروا ما بأيديكم إلى المسلمين فيؤمنوا به ويحتجوا به عليكم قال الله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) أي هو الذي يهدي قلوب المؤمنين إلى أتم الإيمان بما ينزله على عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الآيات البينات ، والدلائل القاطعات ، والحجج الواضحات ؛ وإن كتمتم أيها اليهود ما بأيديكم من صفة محمد النبي الأمي في كتبكم التي نقلتموها عن الأنبياء الأقدمين.

وقوله (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) يقولون : لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين ، فيتعلموه منكم ، ويساووكم فيه ويمتازوا به عليكم لشدة الإيمان به ، أو يحاجوكم به عند ربكم ، أي يتخذوه حجة عليكم بما في أيديكم ، فتقوم به عليكم الدلالة ، وتتركب الحجة في الدنيا والآخرة ، قال الله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي الأمور كلها تحت تصرفه ، وهو المعطي المانع ، يمن على من يشاء بالإيمان والعلم والتصور التام ، ويضل من يشاء فيعمي بصره وبصيرته ، ويختم على قلبه وسمعه ، ويجعل على بصره غشاوة ، وله الحجة التامة والحكمة البالغة (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ* يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي اختصكم أيها المؤمنون من الفضل بما لا يحد ولا يوصف بما شرف به نبيكم محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم على سائر الأنبياء ، وهداكم به إلى أكمل الشرائع.

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٧٦)

يخبر تعالى عن اليهود بأن منهم الخونة ويحذر المؤمنين من الاغترار بهم ، فإن منهم (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ) أي من المال (يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) أي وما دونه بطريق الأولى أن يؤديه إليه (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) أي بالمطالبة والملازمة والإلحاح في استخلاص حقك ، وإذا كان هذا صنيعه في الدينار فما فوقه أولى أن لا يؤديه إليه.

وقد تقدم الكلام على القنطار في أول السورة ، وأما الدينار فمعروف. وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا سعيد بن عمرو السكوني ، حدثنا بقية عن زياد بن الهيثم ، حدثنا مالك بن دينار ، قال : إنما سمي الدينار لأنه دين ونار وقيل : معناه من أخذه بحقه فهو دينه ، ومن أخذه بغير

٥١

حقه فله النار.

ومناسب أن يذكر هاهنا الحديث الذي علقه البخاري في غير موضع من صحيحه (١) ، ومن أحسنها سياقه في كتاب الكفالة حيث قال : وقال الليث : حدثني جعفر بن ربيعة ، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل ، سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار ، فقال ائتني بالشهداء أشهدهم ، فقال : كفى بالله شهيدا. قال : ائتني بالكفيل. قال : كفى بالله كفيلا. قال : صدقت ، فدفعها إليه إلى أجل مسمى ، فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركبا يركبها ليقدم عليه في الأجل الذي أجله ، فلم يجد مركبا ، فأخذ خشبة فنقرها ، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه ثم زجج (٢) موضعها ، ثم أتى بها إلى البحر فقال : اللهم إنك تعلم أني استسلفت (٣) فلانا ألف دينار فسألني شهيدا ، فقلت : كفى بالله شهيدا ، وسألني كفيلا ، فقلت : كفى بالله كفيلا فرضي بذلك ، وأني جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له فلم أقدر ، وإني استودعتكها ، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ، ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده ، فخرج الرجل الذي كان أسلفه لينظر لعل مركبا يجيئه بماله ، فإذا بالخشبة التي فيها المال ، فأخذها لأهله حطبا ، فلما كسرها وجد المال والصحيفة ، ثم قدم الرجل الذي كان تسلف منه ، فأتاه بألف دينار ، وقال : والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه ، قال : هل كنت بعثت إلي بشيء؟ قال : ألم أخبرك أني لم أجد مركبا قبل هذا ، قال : فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة ، فانصرف بألف دينار راشدا.

هكذا رواه البخاري في موضع معلقا بصيغة الجزم ، وأسنده في بعض المواضع من الصحيح عن عبد الله بن صالح كاتب الليث عنه. ورواه الإمام أحمد في مسنده هكذا مطولا ، عن يونس بن محمد المؤدب عن الليث به ، ورواه البزار في مسنده عن الحسن بن مدرك عن يحيى بن حماد ، عن أبي عوانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بنحوه ، ثم قال : لا يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد ، كذا قال وهو خطأ لما تقدم.

وقوله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) أي إنما حملهم على جحود الحق أنهم يقولون : ليس علينا في ديننا حرج في أكل أموال الأميين وهم العرب ، فإن الله قد أحلها لنا ، قال الله تعالى : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي وقد اختلقوا هذه المقالة ،

__________________

(١) صحيح البخاري (كفالة ، باب ١)

(٢) زجّج موضعها : سدّه وسوّاه.

(٣) في صحيح البخاري : «أني كنت تسلّفت فلانا».

٥٢

وائتفكوا (١) بهذه الضلالة ، فإن الله حرم عليهم أكل الأموال إلا بحقها وإنما هم قوم بهت.

قال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن أبي إسحاق الهمداني ، عن صعصعة بن يزيد ، أن رجلا سأل ابن عباس ، فقال : إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة ، قال ابن عباس : فتقولون ماذا؟ قال : نقول ليس علينا بذلك بأس ، قال هذا كما قال أهل الكتاب : (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) ، إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم (٢) ، وكذا رواه الثوري عن أبي إسحاق بنحوه.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا أبو الربيع الزهراني ، حدثنا يعقوب ، حدثنا جعفر عن سعيد بن جبير ، قال : لما قال أهل الكتاب : (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) قال نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة ، فإنها مؤداة إلى البر والفاجر».

ثم قال تعالى : (بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى) أي لكن من أوفى بعهده واتقى منكم يا أهل الكتاب الذي عاهدكم الله عليه من الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا بعث كما أخذ العهد والميثاق على الأنبياء وأممهم بذلك ، واتقى محارم الله ، واتبع طاعته وشريعته التي بعث بها خاتم رسله وسيدهم (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧٧)

يقول تعالى : إن الذين يعتاضون عما عاهدوا الله عليه من اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر صفته للناس وبيان أمره ، وعن أيمانهم الكاذبة الفاجرة الآثمة بالأثمان القليلة الزهيدة ، وهي عروض هذه الحياة الدنيا الفانية الزائلة (أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي لا نصيب لهم فيها ولا حظ لهم منها (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي برحمة منه لهم ، يعني لا يكلمهم الله كلام لطف بهم ولا ينظر إليهم بعين الرحمة (وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي من الذنوب والأدناس ، بل يأمر بهم إلى النار (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الآية الكريمة ، فلنذكر منها ما تيسر ،

الحديث الأول قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عفان ، حدثنا شعبة ، قال علي بن مدرك : أخبرني ، قال سمعت أبا زرعة عن خرشة بن الحر ، عن أبي ذر ، قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاثة لا يكلمهم الله ، ولا ينظر إليهم يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم» قلت :

__________________

(١) ائتفكوا : اضطربوا وانقلبت أحوالهم من الخير إلى الشر.

(٢) تفسير الطبري ٣ / ٣١٧.

(٣) مسند أحمد ٥ / ١٤٨.

٥٣

يا رسول الله ، من هم؟ خسروا وخابوا. قال : وأعاده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث مرات ، قال «المسبل (١) ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب ، والمنان» ، ورواه مسلم وأهل السنن من حديث شعبة به.

طريق أخرى : قال أحمد (٢) : حدثنا إسماعيل عن الجريري ، عن أبي العلاء بن الشخير ، عن أبي الأحمس ، قال : لقيت أبا ذر فقلت له : بلغني عنك أنك تحدث حديثا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : أما إنه لا يخالني أن أكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعد ما سمعته منه ، فما الذي بلغك عني؟ قلت : بلغني أنك تقول : ثلاثة يحبهم الله ، وثلاثة يشنؤهم (٣) الله. قال : قلته وسمعته ، قلت : فمن هؤلاء الذين يحبهم الله؟ قال : «الرجل يلقى العدو في فئة فينصب لهم نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه ، والقوم يسافرون فيطول سراهم حتى يحبوا أن يمسوا الأرض فينزلون ، فيتنحى أحدهم يصلي حتى يوقظهم لرحيلهم ، والرجل يكون له الجار يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن» قلت : من هؤلاء الذين يشنؤهم الله؟ قال : «التاجر الحلاف ـ أو قال : البائع الحلاف ـ ، والفقير المختال ، والبخيل المنان» غريب من هذا الوجه.

الحديث الثاني : قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن جرير بن حازم ، حدثنا عدي بن عدي ، أخبرني رجاء بن حيوة والعرس بن عميرة ، عن أبيه عدي هو ابن عميرة الكندي ، قال : خاصم رجل من كندة ، يقال له امرؤ القيس بن عابس ، رجلا من حضر موت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أرض ، فقضى على الحضرمي بالبينة ، فلم يكن له بينة فقضى على امرئ القيس باليمين ، فقال الحضرمي : إن أمكنته من اليمين يا رسول الله ذهبت ورب الكعبة أرضي ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أحد لقي الله عزوجل وهو عليه غضبان» قال رجاء : وتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) فقال امرؤ القيس : ماذا لمن تركها يا رسول الله؟ فقال «الجنة». قال : فاشهد أني قد تركتها له كلها ، ورواه النسائي من حديث عدي بن عدي به ،

الحديث الثالث : قال أحمد (٥) : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن شقيق ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف على يمين هو فيها فاجر ، ليقتطع بها مال امرئ مسلم ، لقي الله عزوجل وهو عليه غضبان». فقال الأشعث : في والله كان ذلك ؛ كان بيني وبين

__________________

(١) أي المسبل إزاره الذي يجر طرفه تعاليا وخيلاء.

(٢) مسند أحمد ٥ / ١٥١.

(٣) يشنؤهم : يبغضهم.

(٤) مسند أحمد ٤ / ١٩١.

(٥) مسند أحمد ٥ / ٢١١.

٥٤

رجل من اليهود أرض فجحدني ، فقدمته إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألك بينة؟ قلت : لا. فقال لليهودي : احلف. فقلت : يا رسول الله ، إذا يحلف فيذهب مالي. فأنزل الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) الآية أخرجاه من حديث الأعمش.

طريق أخرى : قال أحمد (١) : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن شقيق بن سلمة ، حدثنا عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق ، لقي الله وهو عليه غضبان» قال : فجاء الأشعث بن قيس ، فقال : ما يحدثكم أبو عبد الرحمن؟ فحدثناه ، فقال : فيّ كان هذا الحديث ، خاصمت ابن عم لي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بئر كانت لي في يده فجحدني ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بينتك أنها بئرك وإلا فيمينه» قال : قلت : يا رسول الله ، ما لي بينة ، وإن تجعلها بيمينه تذهب بئري ، إن خصمي امرؤ فاجر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق ، لقي الله وهو عليه غضبان» قال : وقرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) الآية.

الحديث الرابع : قال أحمد (٢) : حدثنا يحيى بن غيلان ، قال : حدثنا رشيدين عن زياد ، عن سهل بن معاذ بن أنس ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «إن لله تعالى عبادا لا يكلمهم يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولا ينظر إليهم» قيل : ومن أولئك يا رسول الله؟ قال «متبرئ من والديه راغب عنهما ، ومتبرئ من ولده ، ورجل أنعم عليه قوم ، فكفر نعمتهم وتبرأ منهم».

الحديث الخامس : قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا هشيم ، أنبأنا العوام يعني ابن حوشب ، عن إبراهيم بن عبد الرحمن يعني السكسكي ، عن عبد الله بن أبي أوفى ، أن رجلا أقام سلعة له في السوق ، فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعط ، ليوقع فيها رجلا من المسلمين ، فنزلت هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) الآية ، ورواه البخاري من غير وجه عن العوام.

الحديث السادس : قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم : رجل منع ابن السبيل فضل ماء عنده ، ورجل حلف على سلعة بعد العصر ، يعني كاذبا ، ورجل بايع إماما فإن أعطاه وفي له وإن لم يعطه لم يف له» ورواه أبو

__________________

(١) مسند أحمد ٥ / ١٢.

(٢) مسند أحمد ٣ / ٤٤٠.

(٣) مسند أحمد ٢ / ٤٨٠.

٥٥

داود والترمذي من حديث وكيع ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٧٨)

يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن الله ، أن منهم فريقا يحرفون الكلم عن مواضعه ، ويبدلون كلام الله ويزيلونه عن المراد به ، ليوهموا الجهلة أنه في كتاب الله كذلك ، وينسبونه إلى الله وهو كذب على الله ، وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كله ، ولهذا قال الله تعالى: (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). وقال مجاهد والشعبي والحسن وقتادة والربيع بن أنس : (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) يحرفونه ، وهكذا روى البخاري عن ابن عباس أنهم يحرفون ويزيدون ، وليس أحد من خلق الله يزيل لفظ كتاب من كتب الله ، لكنهم يحرفونه ويتأولونه على غير تأويله.

وقال وهب بن منبه : إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منها حرف ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فأما كتب الله فإنها محفوظة لا تحول رواه ابن أبي حاتم ، فإن عنى وهب ما بأيديهم من ذلك ، فلا شك أنه قد دخلها التبديل والتحريف والزيادة والنقص ، وأما تعريب ذلك المشاهد بالعربية ففيه خطأ كبير وزيادات كثيرة ونقصان ووهم فاحش ، وهو من باب تفسير المعرب المعبر وفهم كثير منهم بل أكثرهم بل جميعهم فاسد وأما إن عنى كتب الله التي هي كتبه عنده فتلك كما قال : محفوظة لم يدخلها شيء.

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (٨٠)

قال محمد بن إسحاق (١) : حدثنا محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال أبو رافع القرظي ـ حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس (٢) : أوذاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا؟ أو كما قال. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «معاذ الله أن نعبد غير الله ، أو أن نأمر بعبادة غير الله ، ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني» أو كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله في ذلك من قولهما :

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٥٥٤ وتفسير الطبري ٣ / ٣٢٣.

(٢) في سيرة ابن هشام : «الربّيس» مثل سكّيت. وربّيس السحرة هو رئيسهم وكبيرهم.

٥٦

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) أي ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب والحكمة والنبوة ، أن يقول للناس اعبدوني من دون الله ، أي مع الله ، فإذا كان هذا لا يصلح لنبي ولا لمرسل ، فلأن لا يصلح لأحد من الناس غيرهم بطريق الأولى والأحرى ولهذا قال الحسن البصري : لا ينبغي هذا لمؤمن أن يأمر الناس بعبادته ، قال : وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضا ، يعني أهل الكتاب كانوا يعبدون أحبارهم ورهبانهم ، كما قال الله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [التوبة : ٣١] الآية ، وفي المسند والترمذي كما سيأتي أن عدي بن حاتم قال : يا رسول الله ما عبدوهم. قال «بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال ، فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم».

فالجهلة من الأحبار والرهبان ومشايخ الضلال يدخلون في هذا الذم والتوبيخ بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين فإنهم إنما يأمرون بما يأمر الله به ، وبلغتهم إياه رسله الكرام ، وإنما ينهونهم عما نهاهم الله عنه وبلغتهم إياه رسله الكرام ، فالرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، هم السفراء بين الله وبين خلقه في أداء ما حملوه من الرسالة وإبلاغ الأمانة ، فقاموا بذلك أتم القيام ، ونصحوا الخلق ، وبلغوهم الحق.

وقوله : (وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) أي ولكن يقول الرسول للناس كونوا ربانيين ، قال ابن عباس وأبو رزين وغير واحد : أي حكماء علماء حلماء ، وقال الحسن وغير واحد : فقهاء كذا روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وعطاء الخراساني وعطية العوفي والربيع بن أنس وعن الحسن أيضا : يعني أهل عبادة وأهل تقوى ، وقال الضحاك في قوله : (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) : حق على من تعلم القرآن أن يكون فقيها تعلمون أي تفهمون معناه ، وقرئ (تُعَلِّمُونَ) بالتشديد من التعليم (وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) تحفظون ألفاظه.

ثم قال الله تعالى : (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) أى ولا يأمركم بعبادة أحد غير الله : لا نبي مرسل ولا ملك مقرب (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي لا يفعل ذلك إلا من دعا إلى عبادة غير الله ، ومن دعا إلى عبادة غير الله فقد دعا إلى الكفر ، والأنبياء إنما يأمرون بالإيمان وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥] وقال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل : ٣٦] الآية ، وقال (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) [الزخرف : ٤٥] وقال إخبارا عن الملائكة (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٢٩].

٥٧

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٨٢)

يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم عليه‌السلام إلى عيسى عليه‌السلام لمهما آتى الله أحدهم من كتاب وحكمة ، وبلغ أي مبلغ ، ثم جاءه رسول من بعده ليؤمنن به ولينصرنه ، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته ولهذا قال تعالى وتقدس (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) أي لمهما أعطيتكم من كتاب وحكمة (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) وقال ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس وقتادة والسدي : يعني عهدي وقال محمد بن إسحاق (إصري) أي ثقل ما حملتم من عهدي أي ميثاقي الشديد المؤكد (قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ) أي عن هذا العهد والميثاق (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

قال علي بن أبي طالب وابن عمه ابن عباس رضي الله عنهما : ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق ، لئن بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو حي ليؤمنن به وينصرنه ، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه ، وقال طاوس والحسن البصري وقتادة : أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا ، وهذا لا يضاد ما قاله علي وابن عباس ولا ينفيه ، بل يستلزمه ويقتضيه ، ولهذا روى عبد الرزاق عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، مثل قول علي وابن عباس (١) ، وقد قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا سفيان ، عن جابر ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن ثابت قال : جاء عمر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إني مررت بأخ لي يهودي من قريظة ، فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال : فتغير وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال عبد الله بن ثابت ، قلت له : ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال عمر : رضينا بالله ربا ، بالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا ، قال : فسرى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال «والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى عليه‌السلام ، ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ، إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين».

حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر : حدثنا إسحاق حدثنا حماد عن مجالد عن الشعبي عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، وإنكم إما أن تصدقوا بباطل وإما أن تكذبوا بحق ، وإنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٣ / ٣٣٠ ـ ٣٣١.

(٢) مسند أحمد ٤ / ٢٦٥.

٥٨

ما حل له إلا أن يتبعني». وفي بعض الأحاديث «لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي».

فالرسول محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين ، هو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر وجد ، لكان هو الواجب طاعته المقدم على الأنبياء كلهم ، ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس ، وكذلك هو الشفيع في المحشر في إتيان الرب جل جلاله لفصل القضاء بين عباده ، وهو المقام المحمود الذي لا يليق إلا له ، والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين حتى تنتهي النوبة إليه فيكون هو المخصوص به صلوات الله وسلامه عليه.

(أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٨٥)

يقول تعالى منكرا على من أراد دينا سوى دين الله الذي أنزل به كتبه ، وأرسل به رسله ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، الذي (لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي استسلم له من فيهما طوعا وكرها ، كما قال تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [الرعد : ١٥] وقال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ* وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ* يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [النحل : ٤٨ ـ ٥٠] فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله ، والكافر مستسلم لله كرها ، فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع.

وقد ورد حديث في تفسير هذه الآية على معنى آخر فيه غرابة ، فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن النضر العسكري ، حدثنا سعيد بن حفص النفيلي ، حدثنا محمد بن محصن العكاشي ، حدثنا الأوزاعي ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) ، «أما من في السموات فالملائكة ، وأما من في الأرض فمن ولد على الإسلام ، وأما كرها فمن أتي به من سبايا الأمم في السلاسل والأغلال يقادون إلى الجنة وهم كارهون». وقد ورد في الصحيح «عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل» وسيأتي له شاهد من وجه آخر ، ولكن المعنى الأول للآية أقوى.

وقد قال وكيع في تفسيره ، حدثنا سفيان عن منصور ، عن مجاهد (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [الزمر : ٢٥] قال : هو كقوله (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ

٥٩

السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥] وقال أيضا : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) قال : حين أخذ الميثاق (١).

(وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) أي يوم المعاد فيجازي كلا بعمله ثم قال تعالى : (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا) يعني القرآن ، (وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) أي من الصحف والوحي ، (وَالْأَسْباطِ) وهم بطون بني إسرائيل المتشعبة من أولاد إسرائيل ـ وهو يعقوب ـ الاثني عشر ، (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) يعني بذلك التوراة والإنجيل ، (وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) وهذا يعم جميع الأنبياء جملة (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) يعني : بل نؤمن بجميعهم (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فالمؤمنون من هذه الأمة يؤمنون بكل نبي أرسل ، وبكل كتاب أنزل ، لا يكفرون بشيء من ذلك ، بل هم يصدقون بما أنزل من عند الله ، وبكل نبي بعثه الله.

ثم قال تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) الآية ، أي من سلك طريقا سوى ما شرعه الله ، فلن يقبل منه (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) كما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد». وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا عباد بن راشد ، حدثنا الحسن ، حدثنا أبو هريرة إذ ذاك ونحن بالمدينة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تجيء الأعمال يوم القيامة ، فتجيء الصلاة فتقول : يا رب ، أنا الصلاة ؛ فيقول إنك على خير ؛ وتجيء الصدقة فتقول : يا رب ، أنا الصدقة فيقول إنك على خير ، ثم يجيء الصيام فيقول : يا رب ، أنا الصيام ، فيقول : إنك على خير ، ثم تجيء الأعمال كل ذلك يقول الله تعالى : إنك على خير ، ثم يجيء الإسلام فيقول : يا رب ، أنت السلام وأنا الإسلام ، فيقول الله تعالى : إنك على خير ، بك اليوم آخذ وبك أعطي ، قال الله في كتابه (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) تفرد به أحمد ، قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد : عباد بن راشد ثقة ، ولكن الحسن لم يسمع من أبي هريرة.

(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٨٩)

__________________

(١) الآثار الواردة سابقا في تفسير الطبري ٣ / ٣٣٤ ـ ٣٣٥.

(٢) مسند أحمد ٢ / ٣٦٢.

٦٠