تفسير القرآن العظيم - ج ٢

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٠

الطلاق» (١). ثم رواه أبو داود عن أحمد بن يونس ، عن معروف عن محارب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر معناه مرسلا.

وقوله : (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) وإن تتجشموا مشقة الصبر على ما تكرهون منهن وتقسموا لهن أسوة أمثالهن ، فإن الله عالم بذلك وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء.

وقوله تعالى : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) أي لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه ، فإنه وإن وقع القسم الصوري ليلة وليلة ، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع كما قاله ابن عباس وعبيدة السلماني ومجاهد والحسن البصري والضحاك بن مزاحم ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا ابن أبي شيبة ، حدثنا حسين الجعفي عن زائدة ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن ابن أبي مليكة ، قال : نزلت هذه الآية (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) في عائشة ، يعني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحبها أكثر من غيرها ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث حماد بن سلمة عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن عبد الله بن يزيد ، عن عائشة قالت : كان رسول الله يقسم بين نسائه فيعدل ، ثم يقول : «اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» يعني القلب ، هذا لفظ أبي داود (٢) ، وهذا إسناد صحيح ، لكن قال الترمذي : رواه حماد بن زيد وغير واحد عن أيوب عن أبي قلابة مرسلا ، قال : وهذا أصح.

وقوله : (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) أي فإذا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في الميل بالكلية (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) أي فتبقى هذه الأخرى معلقة. قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن والضحاك والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان : معناها لا ذات زوج ولا مطلقة. وقال أبو داود الطيالسي : أنبأنا همام عن قتادة ، عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هرير ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما ، جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط» ، وهكذا رواه الإمام أحمد (٣) وأهل السنن من حديث همام بن يحيى عن قتادة به. وقال الترمذي : إنما أسنده همام ورواه هشام الدستوائي عن قتادة ، قال : كان يقال : ولا يعرف هذا الحديث مرفوعا إلا من حديث همام.

وقوله : (وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أي وإن أصلحتم في أموركم وقسمتم بالعدل فيما تملكون واتقيتم الله في جميع الأحوال غفر الله لكم ما كان من ميل إلى

__________________

(١) سنن أبي داود (طلاق باب ٣) وسنن ابن ماجة (طلاق باب ١)

(٢) سنن أبي داود (نكاح باب ٣٨)

(٣) مسند أحمد ٣ / ٣٤٧.

٣٨١

بعض النساء دون بعض ، ثم قال تعالى : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً) وهذه هي الحالة الثالثة ، وهي حالة الفراق وقد أخبر الله تعالى أنهما إذا تفرقا فإن الله يغنيه عنها ويغنيها عنه بأن يعوضه الله من هو خير له منها ، ويعوضها عنه بمن هو خير لها منه ، (وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً) أي واسع الفضل عظيم المن حكيما في جميع أفعاله وأقداره وشرعه.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً(١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (١٣٤)

يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض وأنه الحاكم فيهما ، ولهذا قال : (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ) أي وصيناكم بما وصيناهم به من تقوى الله عزوجل بعبادته وحده لا شريك له. ثم قال : (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الآية كما قال تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لقومه (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) [إبراهيم : ٨]. وقال : (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [التغابن : ٦] أي غني عن عباده ، (حميد) أي محمود في جميع ما يقدره ويشرعه.

قوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي هو القائم على كل نفس بما كسبت ، الرقيب الشهيد على كل شيء. وقوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) أي هو قادر على إذهابكم وتبديلكم بغيركم إذا عصيتموه ، وكما قال : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) [محمد : ٣٨] وقال بعض السلف : ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره. وقال تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ* وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) [إبراهيم : ١٩ ـ ٢٠] أي وما هو عليه بممتنع.

وقوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي يا من ليس له همة إلا الدنيا ، اعلم أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة ، وإذا سألته من هذه أغناك وأعطاك وأقناك ، كما قال تعالى : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ* وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ* أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) [البقرة : ٢٠٠ ـ ٢٠٢] ، وقال تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) [الشورى : ٢٠] ، وقال تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ـ إلى قوله ـ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) [الإسراء : ١٨ ـ ٢١] الآية ، وقد زعم ابن جرير (١)

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٣١٨.

٣٨٢

أن المعنى في هذه الآية (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا) أي من المنافقين الذين أظهروا الإيمان لأجل ذلك (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا) وهو ما حصل من المغانم وغيرها مع المسلمين ، وقوله : (وَالْآخِرَةِ) أي وعند الله ثواب الآخرة وهو ما ادخره لهم من العقوبة في نار جهنم وجعلها كقوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها ـ إلى قوله ـ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [هود : ١٥ ـ ١٦] ولا شك أن هذه الآية معناها ظاهر ، وأما تفسير الآية الأولى بهذا ففيه نظر ، فإن قوله : (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) ظاهر في حصول الخير في الدنيا والآخرة أي بيده هذا وهذا ، فلا يقتصرن قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط ، بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة ، فإن مرجع ذلك كله إلى الذي بيده الضر والنفع ، وهو الله الذي لا إله إلا هو الذي قد قسم السعادة والشقاوة بين الناس في الدنيا والآخرة ، وعدل بينهم فيما علمه فيهم ممن يستحق هذا وممن يستحق هذا. ولهذا قال : (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١٣٥)

يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط أي بالعدل ، فلا يعدلوا عنه يمينا ولا شمالا ، ولا تأخذهم في الله لومة لائم ولا يصرفهم عنه صارف ، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه ، وقوله : (شُهَداءَ لِلَّهِ) كما قال : (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) [الطلاق : ٢] أي ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله ، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقا خالية من التحريف والتبديل والكتمان ، ولهذا قال (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي اشهد الحق ولو عاد ضررها عليك ، وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه ولو عادت مضرته عليك ، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجا ومخرجا من كل أمر يضيق عليه. وقوله : (أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) أي وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك فلا تراعهم فيها بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم ، فإن الحق حاكم على كل أحد.

وقوله : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) أي لا ترعاه لغناه ولا تشفق عليه لفقره ، الله يتولاهما بل هو أولى بهما منك وأعلم بما فيه صلاحهما. وقوله : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) أي فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم ، بل الزموا العدل على أي حال كان ، كما قال تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] ، ومن هذا القبيل قول عبد الله بن رواحة لما بعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم ، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم ، فقال : والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي ، ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة

٣٨٣

والخنازير وما يحملني حبي إياه ، وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم ، فقالوا : بهذا قامت السموات والأرض ، وسيأتي الحديث مسندا في سورة المائدة إن شاء الله تعالى.

وقوله : (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) قال مجاهد وغير واحد من السلف : تلووا ، أي تحرفوا الشهادة وتغيروها ، واللي هو التحريف وتعمد الكذب ، قال تعالى : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) [آل عمران : ٧٨] ، والإعراض هو كتمان الشهادة وتركها ، قال تعالى : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة : ٢٨٣] وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها» (١) ولهذا توعدهم الله بقوله : (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي وسيجازيكم بذلك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) (١٣٦)

يأمر تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه ودعائمه وليس هذا من باب تحصيل الحاصل ، بل من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته والاستمرار عليه ، كما يقول المؤمن في كل صلاة (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦] أي بصرنا فيه وزدنا هدى وثبتنا عليه ، فأمرهم بالإيمان به وبرسوله ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) [الحديد : ٢٨]. وقوله : (وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) يعني القرآن ، (وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) وهذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة ، وقال في القرآن: نزل لأنه نزل مفرقا منجما على الوقائع بحسب ما يحتاج إليه العباد في معاشهم ومعادهم ، وأما الكتب المتقدمة ، فكانت تنزل جملة واحدة ، لهذا قال تعالى : (وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) ، ثم قال تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) أي فقد خرج عن طريق الهدى وبعد عن القصد كل البعد.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (١٤٠)

يخبر تعالى عمن دخل في الإيمان ، ثم رجع عنه ، ثم عاد فيه ، ثم رجع واستمر على ضلاله وازداد حتى مات ، فإنه لا توبة بعد موته ولا يغفر الله له ولا يجعل له مما هو فيه فرجا ولا مخرجا ولا طريقا إلى الهدى ، ولهذا قال : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً). قال

__________________

(١) رواه أحمد في المسند ٤ / ١١٨ و ٥ / ١٩٢ من حديث زيد بن خالد الجهني بلفظ : «خير الشهادة ما شهد بها صاحبها قبل أن يسألها».

٣٨٤

ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبدة ، حدثنا حفص بن جميع عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) قال : تمموا على كفرهم حتى ماتوا ، وكذا قال مجاهد. وروى ابن أبي حاتم من طريق جابر المعلى عن عامر الشعبي ، عن علي رضي الله عنه ، أنه قال : يستتاب المرتد ثلاثا ، ثم تلا هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) ، ثم قال : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) يعني أن المنافقين من هذه الصفة ، فإنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم ، ثم وصفهم بأنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، بمعنى أنهم معهم في الحقيقة يوالونهم ويسرون إليهم بالمودة ، ويقولون لهم إذا خلوا بهم : إنما نحن معكم ، إنما نحن مستهزئون ، أي بالمؤمنين ، في إظهارنا لهم الموافقة.

قال الله تعالى منكرا عليهم فيما سلكوه من موالاة الكافرين (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) ، ثم أخبر الله تعالى بأن العزة كلها له وحده لا شريك له ولمن جعلها له ، كما قال تعالى في الآية الأخرى (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) [فاطر : ١٠]. وقال تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) [المنافقون : ٨] ، والمقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جناب الله والإقبال على عبوديته والانتظام في جملة عباده المؤمنين الذين لهم النصرة في الحياة الدنيا ، ويوم يقوم الأشهاد ، ويناسب هنا أن نذكر الحديث الذي رواه الإمام أحمد (١) : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا أبو بكر بن عياش بن حميد الكندي ، عن عبادة بن نسيء ، عن أبي ريحانه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من انتسب إلى تسعة آباء كفار يريد بهم عزا وفخرا ، فهو عاشرهم في النار» تفرد به أحمد ، وأبو ريحانة هذا هو أزدي ، ويقال أنصاري ، واسمه شمعون ، بالمعجمة ، فيما قاله البخاري ، وقال غيره : بالمهملة ، والله أعلم.

وقوله : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) ، أي إنكم إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ وينتقص بها وأقررتموهم على ذلك ، فقد شاركتموهم في الذي هم فيه ، فلهذا قال تعالى : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) في المأثم ، كما جاء في الحديث «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر» والذي أحيل عليه في هذه الآية من النهي في ذلك هو قوله تعالى في سورة الأنعام ، وهي مكية (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) [الأنعام : ٦٨] ، قال مقاتل بن حيان : نسخت هذه الآية التي في سورة الأنعام ، يعني نسخ قوله : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) لقوله ـ (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الأنعام : ٦٩].

__________________

(١) مسند أحمد ٤ / ١٣٣.

٣٨٥

وقوله : (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) أي كما أشركوهم في الكفر كذلك يشارك الله بينهم في الخلود في نار جهنم أبدا ويجمع بينهم في دار العقوبة والنكال والقيود والأغلال وشراب الحميم والغسلين لا الزلال.

(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (١٤١)

يخبر تعالى عن المنافقين أنهم يتربصون بالمؤمنين دوائر السوء بمعنى ينتظرون زوال دولتهم وظهور الكفر عليهم وذهاب ملتهم ، (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ) أي نصر وتأييد وظفر وغنيمة (قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) أي يتوددون إلى المؤمنين بهذه المقالة ، (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) أي إدالة على المؤمنين في بعض الأحيان كما وقع يوم أحد ، فإن الرسل تبتلى ثم يكون لها العاقبة (قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ساعدناكم في الباطن ، وما ألوناهم خبالا وتخذيلا حتى انتصرتم عليهم ، وقال السدي : نستحوذ عليكم نغلب عليكم ، كقوله : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) [المجادلة : ١٩] وهذا أيضا تودد منهم إليهم ، فإنهم كانوا يصانعون هؤلاء وهؤلاء ليحظوا عندهم ويأمنوا كيدهم ، وما ذاك إلا لضعف إيمانهم وقلة إيقانهم ، قال تعالى : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي بما يعلمه منكم أيها المنافقون من البواطن الرديئة فلا تغتروا بجريان الأحكام الشرعية عليكم ظاهرا في الحياة الدنيا ، لما له في ذلك من الحكمة ، فيوم القيامة لا تنفعكم ظواهركم بل هو يوم تبلى فيه السرائر ويحصل ما في الصدور.

وقوله : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) قال عبد الرزاق : أنبأنا الثوري عن الأعمش ، عن ذر ، عن سبيع الكندي ، قال : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال : كيف هذه الآية (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) فقال علي رضي الله عنه : ادنه ادنه ، (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) ، وكذا روى ابن جريج عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) ، قال : ذاك يوم القيامة ، وكذا روى السدي عن أبي مالك الأشجعي ، يعني يوم القيامة. وقال السدي : سبيلا أي حجة ، ويحتمل أن يكون المعنى ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ، أي في الدنيا بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية ، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس ، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [غافر : ٥١] ، وعلى هذا يكون ردا على المنافقين فيما أملوه ورجوه وانتظروه من زوال دولة المؤمنين ، وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين خوفا

٣٨٦

على أنفسهم منهم إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم ، كما قال تعالى : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ ـ إلى قوله ـ نادِمِينَ) [المائدة : ٥٢] وقد استدل كثير من العلماء بهذا الآية الكريمة على أصح قولي العلماء ، وهو المنع من بيع العبد المسلم للكافر ، لما في صحة ابتياعه من التسليط له عليه والإذلال ، ومن قال منهم بالصحة ، يأمره بإزالة ملكه عنه في الحال لقوله تعالى : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً).

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) (١٤٣)

قد تقدم في أول سورة البقرة قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ٩] ، وقال هاهنا : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) ولا شك أن الله لا يخادع ، فإنه العالم بالسرائر والضمائر ، ولكن المنافقين لجهلهم وقلة علمهم وعقلهم يعتقدون أن أمرهم كما راج عند الناس وجرت عليهم أحكام الشريعة ظاهرا ، فكذلك يكون حكمهم عند الله يوم القيامة وأن أمرهم يروج عنده كما أخبر تعالى عنهم أنهم يوم القيامة يحلفون له أنهم كانوا على الاستقامة والسداد ، ويعتقدون أن ذلك نافع لهم عنده ، كما قال تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) [المجادلة : ١٨] ، وقوله : (هُوَ خادِعُهُمْ) أي هو الذي يستدرجهم في طغيانهم وضلالهم ، ويخذلهم عن الحق والوصول إليه في الدنيا ، وكذلك يوم القيامة ، كما قال تعالى : (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ـ إلى قوله ـ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الحديد : ١٣] وقد ورد في الحديث «من سمّع سمّع الله به ، ومن رأيا رأيا الله به» (١). وفي حديث آخر «إن الله يأمر بالعبد إلى الجنة فيما يبدو للناس ويعدل به إلى النار». عياذا بالله من ذلك.

وقوله : (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) الآية ، هذه صفة المنافقين في أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها ، وهي الصلاة إذا قاموا إليها ، قاموا وهم كسالى عنها ، لأنهم لا نية لهم فيها ولا إيمان لهم بها ولا خشية ، ولا يعقلون معناها كما روى ابن مردويه من طريق عبيد الله بن زحر عن خالد بن أبي عمران عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس ، قال : يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان ، ولكن يقوم إليها طلق الوجه عظيم الرغبة شديد الفرح ، فإنه يناجي الله وإن الله تجاهه يغفر له ويجيبه إذا دعاه ، ثم يتلو هذه الآية (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) وروي من غير هذا الوجه عن ابن عباس نحوه ، فقوله تعالى : (وَإِذا قامُوا

__________________

(١) سمّع : تباهي بعمله وأظهره. وسمّع الله به : فضحه يوم القيامة. وراءى الله به : عرّف خلقه أن هذا مراء مزوّر.

٣٨٧

إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) هذه صفة ظواهرهم كما قال : (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) [التوبة : ٥٤] ثم ذكر تعالى صفة بواطنهم الفاسدة ، فقال : (يُراؤُنَ النَّاسَ) أي لا إخلاص لهم ولا معاملة مع الله بل إنما يشهدون الناس تقية لهم ومصانعة ، ولهذا يتخلفون كثيرا عن الصلاة التي لا يرون فيها غالبا كصلاة العشاء في وقت العتمة ، وصلاة الصبح في وقت الغلس ، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ، ثم أنطلق معي برجال ومعهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» (١). وفي رواية «والذي نفسي بيده ، لو علم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين ، لشهد الصلاة ، ولو لا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقت عليهم بيوتهم».

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا محمد بن دينار عن إبراهيم الهجري ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو ، فتلك استهانة استهان بها ربه عزوجل».

وقوله : (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) أي في صلاتهم لا يخشعون ولا يدرون ما يقولون بل هم في صلاتهم ساهون لاهون ، وعما يراد بهم من الخير معرضون ، وقد روى الإمام مالك عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان ، قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا» (٢) ، وكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث إسماعيل بن جعفر المدني عن العلاء بن عبد الرحمن به ، وقال الترمذي : حسن صحيح.

وقوله : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) يعني المنافقين محيرين بين الإيمان والكفر ، فلا هم مع المؤمنين ظاهرا وباطنا ولا مع الكافرين ظاهرا وباطنا ، بل ظواهرهم مع المؤمنين وبواطنهم مع الكافرين ، ومنهم من يعتريه الشك ، فتارة يميل إلى هؤلاء وتارة يميل إلى أولئك (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) [البقرة : ٢٠] ، وقال مجاهد (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ) يعني أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلا إِلى هؤُلاءِ) يعني اليهود. وقال ابن جرير (٣) : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا عبيد الله عن

__________________

(١) صحيح البخاري (مواقيت الصلاة باب ٢٠ وأذان باب ٤٧) وسنن أبي داود (صلاة باب ٤٧) وسنن النسائي (إمامة باب ٤٥) وسنن ابن ماجة (مساجد باب ١٨)

(٢) موطأ مالك (كتاب القرآن حديث ٤٦)

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٣٣٤.

٣٨٨

نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين ، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة ولا تدري أيتهما تتبع» ، تفرد به مسلم ، وقد رواه (١) عن محمد بن المثنى مرة أخرى ، عن عبد الوهاب فوقف به على ابن عمر ولم يرفعه ، قال : حدثنا به عبد الوهاب مرتين. كذلك قلت : وقد رواه الإمام أحمد (٢) عن إسحاق بن يوسف عن عبيد الله ، وكذا رواه إسماعيل بن عياش وعلي بن عاصم عن عبيد الله ، عن نافع عن ابن عمر مرفوعا ، وكذا رواه عثمان بن محمد بن أبي شيبة عن عبدة ، عن عبد الله بن مرفوعا ، ورواه حماد بن سلمة عن عبيد الله أو عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعا. ورواه أيضا صخر بن جويرية عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثله. وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا الهذيل بن بلال عن ابن عبيد أنه جلس ذات يوم بمكة وعبد الله بن عمر معه ، فقال أبي : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن مثل المنافق يوم القيامة كالشاة بين الربيضين من الغنم ، إن أتت هؤلاء نطحتها ، وإن أتت هؤلاء نطحتها» فقال له ابن عمر : كذبت ، فأثنى القوم على أبي خيرا أو معروفا ، فقال ابن عمر : ما أظن صاحبكم إلا كما تقولون ، ولكني شاهدي الله إذ قال : كالشاة بين الغنمين ، فقال : هو سواء ، فقال : هكذا سمعته.

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا يزيد ، حدثنا المسعودي عن أبي جعفر محمد بن علي ، قال: بينما عبيد بن عمير يقص وعنده عبد الله بن عمر ، فقال عبيد بن عمير : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثل المنافق كالشاة بين ربيضين ، إذا أتت هؤلاء نطحتها ، وإذا أتت هؤلاء نطحتها» ، فقال ابن عمير : ليس كذلك ، إنما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كشاة بين غنمين» ، قال : فاختطف الشيخ وغضب ، فلما رأى ذلك ابن عمر قال : أما إني لو لم أسمعه لم أردد ذلك عليك.

طريقة أخرى عن ابن عمر : قال الإمام أحمد (٥) : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن عثمان بن بودويه ، عن يعفر بن زودي ، قال : سمعت عبيد بن عمير وهو يقص يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثل المنافق كمثل الشاة الرابضة بين الغنمين» ، فقال ابن عمر : ويلكم لا تكذبوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إنما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين» ، ورواه أحمد أيضا من طرق عن عبيد بن عمير ، عن ابن عمر ، ورواه ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله هو ابن مسعود ، قال : مثل المؤمن والمنافق والكافر مثل ثلاثة نفر انتهوا إلى واد ،

__________________

(١) أي ابن جرير الطبري.

(٢) مسند أحمد ٢ / ٤٧.

(٣) مسند أحمد ٢ / ٦٨.

(٤) مسند أحمد ٢ / ٣٢.

(٥) مسند أحمد ٢ / ٨٨.

٣٨٩

فوقع أحدهم فعبر ، ثم وقع الآخر حتى إذا أتى على نصف الوادي ناداه الذي على شفير الوادي : ويلك أين تذهب إلى الهلكة ، ارجع عودك على بدئك ، وناداه الذي عبر : هلم إلى النجاة ، فجعل ينظر إلى هذا مرة وإلى هذا مرة ، قال : فجاءه سيل فأغرقه ، فالذي عبر هو المؤمن ، والذي غرق المنافق (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) والذي مكث الكافر.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا شعبة (٢) عن قتادة (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) يقول : ليسوا بمؤمنين مخلصين ، ولا مشركين مصرحين بالشرك ، قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يضرب مثلا للمؤمن وللمنافق وللكافر كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر فوقع المؤمن فقطع ، ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ، ناداه الكافر ، أن هلم إلي فإني أخشى عليك ، وناداه المؤمن : أن هلم إلي فإن عندي وعندي يحصي له ما عنده ، فما زال المنافق يتردد بينهما حتى أتى عليه آذيّ (٣) فغرقه ، وإن المنافق لم يزل في شك وشبهة حتى أتى عليه الموت وهو كذلك ، قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «مثل المنافق كمثل ثاغية بين غنمين ، رأت غنما على نشز فأتتها وشامتها فلم تعرف ، ثم رأت غنما على نشز فأتتها فشامتها فلم تعرف».

ولهذا قال تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) أي ومن صرفه عن طريق الهدى (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) [الكهف : ١٧] ، ولا منقذ لهم مما هم فيه ، فإنه تعالى لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً(١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) (١٤٧)

ينهى الله تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين يعني مصاحبتهم ومصادقتهم ، ومناصحتهم وإسرار المودة إليهم ، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم ، كما قال تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨] أي يحذركم عقوبته في ارتكابكم نهيه ، ولهذا قال هاهنا : (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) أي حجة عليكم

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٣٣٤.

(٢) في الطبري : «حدثنا سعيد عن قتادة».

(٣) الآذيّ : الموج الشديد.

٣٩٠

في عقوبته إياكم. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قوله : (سُلْطاناً مُبِيناً) قال كل سلطان في القرآن حجة ، وهذا إسناد صحيح ، وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي والضحاك والسدي والنضر بن عربي.

ثم أخبرنا تعالى (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) أي يوم القيامة جزاء على كفرهم الغليظ. قال الوالبي عن ابن عباس (فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) أي في أسفل النار ، وقال غيره : النار دركات كما أن الجنة درجات ، وقال سفيان الثوري عن عاصم ، عن ذكوان أبي صالح ، عن أبي هريرة (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) قال في توابيت ترتج عليهم : كذا رواه ابن جرير (١) عن ابن وكيع ، عن يحيى بن يمان ، عن سفيان الثوري به. ورواه ابن أبي حاتم عن المنذر بن شاذان ، عن عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن عاصم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) قال : الدرك الأسفل بيوت لها أبواب تطبق عليهم ، فتوقد من تحتهم ومن فوقهم. قال ابن جرير (٢) : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل ، عن خيثمة ، عن عبد الله يعني ابن مسعود (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) قال : في توابيت من نار تطبق عليهم أي مغلقة مقفلة ، ورواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج ، عن وكيع ، عن سفيان ، عن سلمة ، عن خيثمة ، عن ابن مسعود (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) قال : في توابيت من حديد مبهمة عليهم ، ومعنى قوله : مبهمة ، أي مغلقة مقفلة لا يهتدى لمكان فتحها.

وروى ابن أبي حاتم ، حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن أن ابن مسعود سئل عن المنافقين ، فقال : يجعلون في توابيت من نار تطبق عليهم في أسفل درك من النار (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) أي ينقذهم مما هم فيه ويخرجهم من أليم العذاب ، ثم أخبر تعالى أن من تاب منهم في الدنيا ، تاب عليه وقبل ندمه إذا أخلص في توبته وأصلح عمله ، واعتصم بربه في جميع أمره ، فقال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) أي بدلوا الرياء بالإخلاص فينفعهم العمل الصالح وإن قل ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر ، عن خالد بن أبي عمران ، عن عمران عن عمرو بن مرة ، عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أخلص دينك يكفك القليل من العمل». (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) أي في زمرتهم يوم القيامة (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) ثم قال تعالى مخبرا عن غناه عما سواه ، وأنه إنما يعذب العباد بذنوبهم فقال

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٣٣٦.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٣٣٧.

٣٩١

تعالى : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) أي أصلحتم العمل وآمنتم بالله ورسوله (وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) أي من شكر شكر له ، ومن آمن قلبه به علمه وجازاه على ذلك أوفر الجزاء.

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) (١٤٩)

قال ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس في الآية يقول : لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوما فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه وذلك قوله : (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) وإن صبر فهو خير له وقال أبو داود حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا أبي ، حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن عطاء ، عن عائشة ، قالت : سرق لها شيء فجعلت تدعو عليه ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تسبخي عنه» (١) وقال الحسن البصري : لا يدع عليه ، وليقل : اللهم أعني عليه ، واستخرج حقي منه ، وفي رواية عنه قال : قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدي عليه.

وقال عبد الكريم بن مالك الجزري في هذه الآية : هو الرجل يشتمك فتشتمه ، ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه ، لقوله : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) [الشورى : ٤١]. وقال أبو داود (٢) : حدثنا القعنبي ، حدثنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المستبّان ما قالا ، فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم» وقال عبد الرزاق : أنبأنا المثنى بن الصباح عن مجاهد في قوله (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) قال : ضاف رجل رجلا فلم يؤد إليه حق ضيافته ، فلما خرج أخبر الناس فقال : ضفت فلانا فلم يؤد إلي حق ضيافتي ، قال : فذلك الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم حتى يؤدي الآخر إليه حق ضيافته. وقال ابن إسحاق ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) قال : هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته ، فيخرج فيقول : أساء ضيافتي ولم يحسن ، وفي رواية : هو الضيف المحول رحله ، فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول ، وكذا روي عن غير واحد عن مجاهد نحو هذا ، وقد روى الجماعة سوى النسائي والترمذي من طريق الليث بن سعد ، والترمذي من حديث ابن لهيعة ، كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبد الله عن عقبة بن عامر ، قال : قلنا يا رسول الله ، إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقرونا ، فما ترى في ذلك؟ فقال : «إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف ، فاقبلوا منهم ، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم».

__________________

(١) سنن أبي داود (أدب باب ٤٢). لا تسبخي عنه : لا تضيعي إثم السرقة عن السارق بدعائك عليه.

(٢) سنن أبي داود (أدب باب ٣٩)

٣٩٢

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت أبا الجودي يحدث عن سعيد بن مهاجر عن المقدام بن أبي كريمة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أيما مسلم ضاف قوما فأصبح الضيف محروما ، فإن حقا على كل مسلم نصره حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله» تفرد به أحمد من هذا الوجه ، وقال أحمد (٢) أيضا : حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة ، عن منصور ، عن الشعبي ، عن المقدام بن أبي كريمة ، سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ليلة الضيف واجبة على كل مسلم ، فإن أصبح بفنائه محروما كان دينا له عليه ، فإن شاء اقتضاه وإن شاء تركه». ثم رواه أيضا عن غندر عن شعبة. وعن زيادة بن عبد الله البكائي عن وكيع وأبي نعيم ، عن سفيان الثوري ، ثلاثتهم عن منصور به ، وكذا رواه أبو داود (٣) من حديث أبي عوانة عن منصور به.

ومن هذه الأحاديث وأمثالها ، ذهب أحمد وغيره إلى وجوب الضيافة ، ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عمرو بن علي حدثنا صفوان بن عيسى ، حدثنا محمد بن عجلان عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إن لي جارا يؤذيني ، فقال له «أخرج متاعك فضعه على الطريق» ، فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق ، فكل من مر به قال : مالك؟ قال : جاري يؤذيني ، فيقول : اللهم العنه ، اللهم أخزه ، قال : فقال الرجل : ارجع إلى منزلك ، والله لا أوذيك أبدا ، وقد رواه أبو داود (٤) في كتاب الأدب عن أبي توبة الربيع بن نافع ، عن سليمان بن حيان أبي خالد الأحمر عن محمد بن عجلان به ، ثم قال البزار : لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد ، ورواه أبو جحيفة وهب بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويوسف بن عبد الله بن سلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) أي إن تظهروا أيها الناس خيرا أو أخفيتموه أو عفوتم عمن أساء إليكم ، فإن ذلك مما يقربكم عند الله ويجزل ثوابكم لديه ، فإن من صفاته تعالى أن يعفو عن عباده مع قدرته على عقابهم ، ولهذا قال : (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) ، ولهذا ورد في الأثر أن حملة العرش يسبحون الله ، فيقول بعضهم: سبحانك على حلمك بعد علمك ، ويقول بعضهم : سبحانك على عفوك بعد قدرتك ، وفي الحديث الصحيح «ما نقص مال من صدقة ، ولا زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، ومن تواضع لله رفعه» (٥).

__________________

(١) مسند أحمد ٤ / ١٣٣.

(٢) مسند أحمد ٤ / ١٣٠.

(٣) سنن أبي داود (أطعمة باب ٥)

(٤) سنن أبي داود (أدب باب ١٢٣)

(٥) مسند أحمد ٢ / ٢٣٥ من حديث أبي هريرة.

٣٩٣

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١٥٢)

يتوعد تبارك وتعالى الكافرين به وبرسله ، من اليهود والنصارى حيث فرقوا بين الله ورسله في الإيمان فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض بمجرد التشهي والعادة ، وما ألفوا عليه آباءهم لا عن دليل قادهم إلى ذلك ، فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك ، بل بمجرد الهوى والعصبية ، فاليهود ـ عليهم لعائن الله ـ آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والسامرة لا يؤمنون بنبيّ بعد يوشع خليفة موسى بن عمران ، والمجوس يقال إنهم كانوا يؤمنون بنبي لهم يقال له زرادشت ، ثم كفروا بشرعه فرفع من بين أظهرهم ، والله أعلم ، والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض ، فمن رد نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي ، تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيمانا شرعيا ، إنما هو عن غرض وهوى وعصبية ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ) بالله ورسله فوسمهم بأنهم كفار بالله ورسله ، ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله أي في الإيمان ، (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) أي طريقا ومسلكا ، ثم أخبر تعالى عنهم فقال : (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) أي كفرهم محقق لا محالة بمن ادعوا الإيمان به ، لأنه ليس شرعيا إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله ، لآمنوا بنظيره وبمن هو أوضح دليلا وأقوى برهانا منه ، أو نظروا حق النظر في نبوته.

وقوله : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) أي كما استهانوا بمن كفروا به ، إما لعدم نظرهم فيما جاءهم به من الله وإعراضهم عنه وإقبالهم على جمع حطام الدنيا مما لا ضرورة بهم إليه ، وإما بكفرهم به بعد علمهم بنبوته ، كما كان يفعله كثير من أحبار اليهود في زمان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث حسدوه على ما آتاه الله من النبوة العظيمة وخالفوه وكذبوه وعادوه وقاتلوه ، فسلط الله عليهم الذل الدنيوي الموصول بالذل الأخروي (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) [البقرة : ٦١] في الدنيا والآخرة. وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) يعني بذلك أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنهم يؤمنون بكل كتاب أنزله الله وبكل نبي بعثه الله ، كما قال تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) [البقرة : ٢٨٥] ، ثم أخبر تعالى بأنه قد أعد لهم الجزاء الجزيل والثواب الجليل والعطاء الجميل ، فقال : (أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) على ما آمنوا بالله ورسله (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي

٣٩٤

لذنوبهم ، أي إن كان لبعضهم ذنوب.

(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (١٥٤)

قال محمد بن كعب القرظي والسدي وقتادة : سأل اليهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء كما نزلت التوراة على موسى مكتوبة ، قال ابن جريج : سألوه أن ينزل عليهم صحفا من الله مكتوبة إلى فلان وفلان وفلان بتصديقه فيما جاءهم به ، وهذا إنما قالوه على سبيل التعنت والعناد والكفر والإلحاد ، كما سأل كفار قريش قبلهم نظير ذلك كما هو مذكور في سورة سبحان (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠] ، ولهذا قال تعالى : (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) [النساء : ١٥٣] أي بطغيانهم وبغيهم ، وعتوهم وعنادهم ، وهذا مفسر في سورة البقرة حيث يقول تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة : ٥٥ ـ ٥٦].

وقوله تعالى : (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) [النساء : ١٥٣] أي من بعد ما رأوا من الآيات الباهرة والأدلة القاهرة على يد موسى عليه‌السلام في بلاد مصر ، وما كان من إهلاك عدوهم فرعون وجميع جنوده في اليم ، فما جاوزوه إلا يسيرا ، حتى أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا لموسى (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨] ، ثم ذكر تعالى قصة اتخاذهم العجل مبسوطة في سورة الأعراف ، وفي سورة طه ، بعد ذهاب موسى إلى مناجاة الله عزوجل ، ثم لما رجع وكان ما كان ، جعل الله توبتهم من الذي صنعوه وابتدعوه ، أن يقتل من لم يعبد العجل منهم من عبده ، فجعل يقتل بعضهم بعضا ، ثم أحياهم الله عزوجل ، وقال الله تعالى : (فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) [النساء : ١٥٣] ثم قال : (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ) [النساء : ١٥٤] وذلك حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة ، وظهر منهم إباء عما جاءهم به موسى عليه‌السلام ، ورفع الله على رؤوسهم جبلا ، ثم ألزموا فالتزموا وسجدوا ، وجعلوا ينظرون إلى فوق رؤوسهم ، خشية أن يسقط عليهم ، كما قال تعالى : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) [الأعراف : ١٧١] ، (وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) أي فخالفوا ما أمروا به من القول والفعل ، فإنهم أمروا أن يدخلوا باب بيت القدس سجدا وهم يقولون حطة ، أي اللهم حط عنا ذنوبنا في تركنا الجهاد ونكولنا عنه ، حتى تهنا في التيه أربعين سنة ، فدخلوا يزحفون

٣٩٥

على أستاههم وهم يقولون : حنطة في شعرة (وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) أي وصيناهم بحفظ السبت والتزام ما حرم الله عليهم ، ما دام مشروعا لهم (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) أي شديدا ، فخالفوا وعصوا وتحيلوا على ارتكاب ما حرم الله عزوجل ، كما هو مبسوط في سورة الأعراف عند قوله : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) [الأعراف : ١٦٣] ، وسيأتي حديث صفوان بن عسال في سورة سبحان عند قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) [الإسراء : ١٠١] وفيه : وعليكم خاصة يهود أن لا تعدوا في السبت.

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (١٥٩)

وهذه من الذنوب التي ارتكبوها ، مما أوجب لعنتهم وطردهم وإبعادهم عن الهدى ، وهو نقضهم المواثيق والعهود التي أخذت عليهم ، وكفرهم بآيات الله ، أي حججه وبراهينه ، والمعجزات التي شاهدوها على يد الأنبياء عليهم‌السلام ، قوله : (وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) وذلك لكثرة إجرامهم واجترائهم على أنبياء الله ، فإنهم قتلوا جمعا غفيرا من الأنبياء عليهم‌السلام. وقولهم : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي وقتادة وغير واحد : أي في غطاء ، وهذا كقول المشركين (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) [فصلت : ٥] ، وقيل معناه أنهم ادعوا أن قلوبهم غلف للعلم ، أي أوعية للعلم قد حوته وحصلته ، رواه الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وقد تقدم نظيره في سورة البقرة.

قال الله تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) فعلى القول الأول كأنهم يعتذرون إليه بأن قلوبهم لا تعي ما يقول ، لأنها في غلف وفي أكنة ، قال الله : بل هي مطبوع عليها بكفرهم وعلى القول الثاني : عكس عليهم ما ادعوه من كل وجه ، وقد تقدم الكلام على مثل هذا في سورة البقرة.

(فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء : ١٥٥] أي تمرنت قلوبهم على الكفر والطغيان ، وقلة الإيمان (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني أنهم رموها بالزنا ، وكذلك قال السدي وجويبر ومحمد بن إسحاق وغير واحد ، وهو ظاهر من الآية ، أنهم رموها وابنها بالعظائم ، فجعلوها زانية وقد حملت بولدها من ذلك ، زاد بعضهم : وهي حائض فعليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.

وقولهم : (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) أي هذا الذي يدعي لنفسه هذا

٣٩٦

المنصب قتلناه ، وهذا منهم من باب التهكم والاستهزاء ، كقول المشركين (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦] وكان من خبر اليهود ، عليهم لعائن الله وسخطه وغضبه وعقابه ، أنه لما بعث الله عيسى بن مريم بالبينات والهدى حسدوه على ما آتاه الله تعالى من النبوة والمعجزات الباهرات التي كان يبرئ بها الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ، ويصور من الطين طائرا ، ثم ينفخ فيه ، فيكون طائرا يشاهد طيرانه بإذن الله عزوجل ، إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها وأجراها على يديه ، ومع هذا كذبوه وخالفوه وسعوا في أذاه بكل ما أمكنهم حتى جعل نبي الله عيسى عليه‌السلام ، لا يساكنهم في بلدة ، بل يكثر السياحة هو وأمهعليهما‌السلام ، ثم لم يقنعهم ذلك ، حتى سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان ، وكان رجلا مشركا من عبدة الكواكب ، وكان يقال لأهل ملته اليونان ، وأنهوا إليه أن في بيت المقدس رجلا يفتن الناس ويضلهم ، ويفسد على الملك رعاياه ، فغضب الملك من هذا وكتب إلى نائبه بالمقدس أن يحتاط على هذا المذكور ، وأن يصلبه ويضع الشوك على رأسه ، ويكف أذاه عن الناس ، فلما وصل الكتاب امتثل والي بيت المقدس ذلك ، وذهب هو وطائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسىعليه‌السلام ، وهو في جماعة من أصحابه اثني عشر أو ثلاثة عشر ، وقيل سبعة عشر نفرا ، وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت ، فحصروه هنالك. فلما أحس بهم وأنه لا محالة من دخولهم عليه أو خروجه إليهم ، قال لأصحابه : أيكم يلقى عليه شبهي وهو رفيقي في الجنة؟ فانتدب لذلك شاب منهم فكأنه استصغره عن ذلك ، فأعادها ثانية وثالثة ، وكل ذلك لا ينتدب إلا ذلك الشاب ، فقال : أنت هو ، وألقى الله عليه شبه عيسى حتى كأنه هو ، وفتحت روزنة (١) من سقف البيت ، وأخذت عيسى عليه‌السلام سنة من النوم ، فرفع إلى السماء وهو كذلك ، كما قال الله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥] ، فلما رفع خرج أولئك النفر ، فلما رأى أولئك ذلك الشاب ، ظنوا أنه عيسى ، فأخذوه في الليل وصلبوه ، ووضعوا الشوك على رأسه ، وأظهر اليهود أنهم سعوا في صلبه ، وتبجحوا بذلك وسلم لهم طوائف من النصارى ، ذلك لجهلهم وقلة عقلهم ، ما عدا من كان في البيت مع المسيح ، فإنهم شاهدوا رفعه. وأما الباقون فإنهم ظنوا كما ظن اليهود ، أن المصلوب هو المسيح بن مريم ، حتى ذكروا أن مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت ، ويقال إنه خاطبها ، والله أعلم ، وهذا كله من امتحان الله عباده ، لما له في ذلك من الحكمة البالغة.

وقد أوضح الله الأمر وجلاه وبينه ، وأظهره في القرآن العظيم ، الذي أنزله على رسوله الكريم ، المؤيد بالمعجزات والبينات والدلائل الواضحات ، فقال تعالى وهو أصدق القائلين ورب العالمين ، المطلع على السرائر والضمائر ، الذي يعلم السر في السموات والأرض ،

__________________

(١) الروزنة : كوّة في سقف البيت.

٣٩٧

العالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) أي رأوا شبهه فظنوه إياه ، ولهذا قال : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) يعني بذلك من ادعى أنه قتله من اليهود ، ومن سلمه إليهم من جهال النصارى ، كلهم في شك من ذلك وحيرة وضلال وسعر ، ولهذا قال : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) أي وما قتلوه متيقنين أنه هو بل شاكين متوهمين (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) أي منيع الجناب ، لا يرام جنابه ولا يضام من لاذ ببابه ، (حَكِيماً) أي في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها ، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة والسلطان العظيم والأمر القديم.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء ، خرج على أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلا من الحواريين ، يعني فخرج عليهم من عين في البيت ، ورأسه يقطر ماء ، فقال : إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة ، بعد أن آمن بي ، قال : ثم قال : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سنا ، فقال له : اجلس ، ثم أعاد عليهم ، فقام ذلك الشاب ، فقال : اجلس ، ثم أعاد عليهم ، فقام الشاب ، فقال : أنا ، فقال : هو أنت ذاك ، فألقي عليه شبه عيسى ، ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء ، قال : وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه ، فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به ، وافترقوا ثلاث فرق ، فقالت فرقة ، كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء وهؤلاء اليعقوبية ، وقالت فرقة : كان فينا ابن الله ما شاء ، ثم رفعه الله إليه وهؤلاء النسطورية ، وقالت فرقة : كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ، ثم رفعه الله إليه وهؤلاء المسلمون فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها ، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس ، ورواه النسائي عن أبي كريب ، عن أبي معاوية بنحوه ، وكذا ذكره غير واحد من السلف ، أنه قال لهم : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ، وهو رفيقي في الجنة.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب القمي عن هارون بن عنترة ، عن وهب بن منبه قال : أتى عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت فأحاطوا بهم ، فلما دخلوا عليه ، صورهم الله عزوجل كلهم على صورة عيسى ، فقالوا لهم : سحرتمونا ليبرزن لنا عيسى ، أو لنقتلنكم جميعا ، فقال عيسى لأصحابه : من يشري نفسه منكم اليوم بالجنة؟ فقال رجل منهم : أنا ، فخرج إليهم وقال : أنا عيسى وقد صوره الله على صورة عيسى ، فأخذوه فقتلوه وصلبوه ، فمن ثم شبه لهم ، فظنوا أنهم قد قتلوا عيسى ، وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى ، ورفع الله عيسى من يومه ذلك ، وهذا سياق غريب جدا.

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٣٥١.

٣٩٨

قال ابن جرير (١) : وقد روي عن وهب نحو هذا القول ، وهو ما حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يقول : إن عيسى بن مريم لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا ، جزع من الموت وشق عليه ، فدعا الحواريين وصنع لهم طعاما ، فقال : احضروني الليلة ، فإن لي إليكم حاجة ، فلما اجتمعوا إليه من الليل عشاهم ، وقام يخدمهم ، فلما فرغوا من الطعام ، أخذ يغسل أيديهم ، ويوضئهم بيده ، ويمسح أيديهم بثيابه ، فتعاظموا ذلك ، وتكارهوه فقال : ألا من رد عليّ الليلة شيئا مما أصنع ، فليس مني ، ولا أنا منه ، فأقروه حتى إذا فرغ من ذلك ، قال : أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم على الطعام ، وغسلت أيديكم بيدي ، فليكن لكم بي أسوة ، فإنكم ترون أني خيركم ، فلا يتعاظم بعضكم على بعض وليبذل بعضكم نفسه لبعض كما بذلت نفسي لكم ، وأما حاجتي الليلة التي أستعينكم عليها ، فتدعون الله لي ، وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي ، فلما نصبوا أنفسهم للدعاء ، وأرادوا أن يجتهدوا ، أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاء ، فجعل يوقظهم ويقول : سبحان الله ، أما تصبرون لي ليلة واحدة ، تعينوني فيها؟ فقالوا : والله ما ندري مالنا ، لقد كنا نسمر فنكثر السمر ، وما نطيق الليلة سمرا ، وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه ، فقال : يذهب الراعي وتفرق الغنم ، وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعي به نفسه. ثم قال : الحق ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات ، وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة وليأكلن ثمني. فخرجوا وتفرقوا ، وكانت اليهود تطلبه ، وأخذوا شمعون أحد الحواريين وقالوا : هذا من أصحابه ، فجحد وقال : ما أنا بصاحبه ، فتركوه ، ثم أخذه آخرون ، فجحد كذلك ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه ، فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود فقال : ما تجدون لي إن دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين درهما ، فأخذها ودلهم عليه ، وكان شبه عليهم قبل ذلك ، فأخذوه فاستوثقوا منه وربطوه بالحبل ، وجعلوا يقدونه ويقولون له : أنت كنت تحيي الموتى ، وتنهر الشيطان ، وتبرئ المجنون ، أفلا تنجي نفسك من هذا الحبل؟ ويبصقون عليه ، ويلقون عليه الشوك ، حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها ، فرفعه الله إليه ، وصلبوا ما شبه لهم ، فمكث سبعا ، ثم إن أمه والمرأة التي كان يداويها عيسى عليه‌السلام ، فأبرأها الله من الجنون ، جاءتا تبكيان حيث المصلوب ، فجاءهما عيسى فقال : ما تبكيان؟ فقالتا : عليك ، فقال : إني قد رفعني الله إليه ، ولم يصبني إلا خيرا ، وإن هذا شبه لهم ، فأمرا الحواريين يلقوني إلى مكان كذا وكذا ، فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر ، وفقدوا الذي باعه ودل عليه اليهود ، فسأله عن أصحابه ، فقال : إنه ندم على ما صنع فاختنق وقتل نفسه ، فقال : لو تاب لتاب الله عليه. ثم سألهم عن غلام تبعهم يقال له يحيى ، فقال : هو معكم ، فانطلقوا ، فإنه سيصبح كل إنسان يحدث بلغة قومه فلينذرهم وليدعهم ، سياق غريب جدا.

__________________

(١) المصدر السابق نفسه.

٣٩٩

ثم قال ابن جرير (١) : حدثنا ابن حميد ، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق ، قال : كان اسم ملك بني إسرائيل الذي بعث إلى عيسى ليقتله رجلا منهم يقال له داود ، فلما أجمعوا لذلك منه ، لم يفظع عبد من عباد الله بالموت فيما ذكر لي فظعه ، ولم يجزع منه جزعه ، ولم يدع الله في صرفه عنه دعاءه ، حتى إنه ليقول فيما يزعمون : اللهم إن كنت صارفا هذه الكأس عن أحد من خلقك ، فاصرفها عني. وحتى إن جلده من كرب ذلك ليتفصد دما ، فدخل المدخل الذي أجمعوا أن يدخلوا عليه فيه ليقتلوه هو وأصحابه ، وهم ثلاثة عشر بعيسى عليه‌السلام. فلما أيقن أنهم داخلون عليه ، قال لأصحابه من الحواريين ، وكانوا اثني عشر رجلا ، فطرس ، ويعقوب بن زبدي ويحنس أخو يعقوب ، واندراييس ، وفيلبس ، وأبرثلما ، ومنتا ، وطوماس ، ويعقوب بن حلفيا ، وتداوسيس ، وقثانيا ، ويودس زكريا يوطا ، قال ابن حميد : قال سلمة : قال ابن إسحاق : وكان فيما ذكر لي رجل اسمه سرجس ، وكانوا ثلاثة عشر رجلا سوى عيسى عليه‌السلام ، جحدته النصارى ، وذلك أنه هو الذي شبه لليهود مكان عيسى ، قال : فلا أدري هو من هؤلاء الاثني عشر ، فجحدوه حين أقروا لليهود بصلب عيسى وكفروا بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخبر عنه ، فإن كانوا ثلاثة عشر ، فإنهم دخلوا المدخل حين دخلوا ، وهم بعيسى أربعة عشر ، وإن كانوا اثني عشر ، فإنهم دخلوا المدخل وهم ثلاثة عشر.           

قال ابن إسحاق : وحدثني رجل كان نصرانيا فأسلم ، أن عيسى حين جاءه من الله إني رافعك إلي ، قال : يا معشر الحواريين ، أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة حتى يشبّه للقوم في صورتي فيقتلوه في مكاني؟ فقال سرجس : أنا يا روح الله. قال : فاجلس في مجلسي ، فجلس فيه ، ورفع عيسى عليه‌السلام ، فدخلوا عليه ، فأخذوه فصلبوه ، فكان هو الذي صلبوه ، وشبه لهم به ، وكانت عدتهم حين دخلوا مع عيسى معلومة ، وقد رأوهم فأحصوا عدتهم ، فلما دخلوا عليه ليأخذوه وجدوا عيسى وأصحابه فيما يرون ، وفقدوا رجلا من العدة ، فهو الذي اختلفوا فيه ، وكانوا لا يعرفون عيسى ، حتى جعلوا ليودس زكريا يوطا ثلاثين درهما على أن يدلهم عليه ويعرفهم إياه ، فقال لهم : إذا دخلتم عليه فإني سأقبله ، وهو الذي أقبل فخذوه ، فلما دخلوا ، وقد رفع عيسى ورأى سرجس في صورة عيسى ، فلم يشك أنه هو ، فأكب عليه يقبله ، فأخذوه فصلبوه. ثم إن يودس زكريا يوحنا ندم على ما صنع فاختنق بحبل حتى قتل نفسه ، وهو ملعون في النصارى ، وقد كان أحد المعدودين من أصحابه ، وبعض النصارى يزعم أنه يودس زكريا يوحنا ، وهو الذي شبه لهم ، فصلبوه وهو يقول : إني لست بصاحبكم ، أنا الذي دللتكم عليه ، والله أعلم أي ذلك كان. وقال ابن جرير (٢) عن مجاهد : صلبوا رجلا شبه بعيسى ورفع الله عزوجل عيسى إلى السماء حيا ، واختار ابن جرير أن شبه عيسى ألقي على

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٣٥٣.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٣٥٤.

٤٠٠