تفسير القرآن العظيم - ج ٢

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٠

سوى الإسلام ، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى ختموا بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن لقي الله بعد بعثة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم بدين على غير شريعته فليس بمتقبل ، كما قال تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران : ٨٥] ، وقال في هذه الآية مخبرا بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ).

وذكر ابن جرير أن ابن عباس قرأ «شهد الله إنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم أن الدين عند الله الإسلام» ، بكسر (١) إنه ، وفتح أن الدين عند الله الإسلام ، أي شهد هو والملائكة وأولوا العلم من البشر بأن الدين عند الله الإسلام ، والجمهور قرءوها بالكسر على الخبر ، وكلا المعنيين صحيح ، ولكن هذا على قول الجمهور أظهر ، والله أعلم.

ثم أخبر تعالى بأن الذين أوتوا الكتاب الأول ، إنما اختلفوا بعد ما قامت عليهم الحجة بإرسال الرسل إليهم وإنزال الكتاب عليهم ، فقال : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي بغى بعضهم على بعض فاختلفوا في الحق لتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم ، فحمل بعضهم بغض البعض الآخر على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله وإن كانت حقا ، ثم قال تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ) أي من جحد ما أنزل الله في كتابه (فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي فإن الله سيجازيه على ذلك ويحاسبه على تكذيبه ، ويعاقبه على مخالفته كتابه.

ثم قال تعالى (فَإِنْ حَاجُّوكَ) أي جادلوك في التوحيد (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) أي فقل : أخلصت عبادتي لله وحده لا شريك له ولا ند له ، ولا ولد له ، ولا صاحبة له ، (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) أي على ديني يقول كمقالتي ، كما قال تعالى : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) [يوسف : ١٠٨] ، ثم قال تعالى آمرا لعبده ورسوله محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدعو إلى طريقته ودينه والدخول في شرعه وما بعثه الله به ، الكتابيين من المليين والأميين من المشركين ، فقال تعالى : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أي والله عليه حسابهم وإليه مرجعهم ومآبهم ، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء وله الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة ولهذا قال تعالى : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي هو عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة ، وهو الذي (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء : ٢٣] وما ذلك إلا لحكمته ورحمته وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق كما هو معلوم من دينه ضرورة ، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث ، فمن ذلك قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٨] وقال تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٢٠٩.

٢١

الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان : ١] وفي الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم كتابيهم وأميهم امتثالا لأمر الله له بذلك ، وقد روى عبد الرزاق عن معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة : يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار» رواه مسلم (١) وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم «بعثت إلى الأحمر والأسود» ، وقال «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة».

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا مؤمل ، حدثنا حماد ، حدثنا ثابت عن أنس رضي الله عنه : أن غلاما يهوديا كان يضع للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضوءه ، ويناوله نعليه ، فمرض ، فأتاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا فلان قل لا إله إلا الله» فنظر إلى أبيه فسكت أبوه ، فأعاد عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنظر إلى أبيه ، فقال أبوه : أطع أبا القاسم ، فقال الغلام : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول «الحمد لله الذي أخرجه بي من النار» رواه البخاري في الصحيح ، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٢٢)

هذا ذم من الله تعالى لأهل الكتاب بما ارتكبوه من المآثم والمحارم في تكذيبهم بآيات الله ، قديما وحديثا ، التي بلغتهم إياها الرسل استكبارا عليهم ، وعنادا لهم ، وتعاظما على الحق ، واستنكافا على اتباعه ، ومع هذا قتلوا من قتلوا من النبيين حين بلغوهم عن الله شرعه بغير سبب ولا جريمة منهم إليهم ، إلا لكونهم دعوهم إلى الحق (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) وهذا هو غاية الكبر ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الكبر بطر الحق وغمط الناس».

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو الزبير الحسن بن علي بن مسلم النيسابوري نزيل مكة ، حدثني أبو حفص عمر بن حفص يعني ابن ثابت بن زرارة الأنصاري ، حدثنا محمد بن حمزة ، حدثنا أبو الحسن مولى لبني أسد ، عن مكحول ، عن أبي قبيصة بن ذؤيب الخزاعي ، عن أبي عبيدة بن الجراح ، رضي الله عنه ، قال : قلت : يا رسول الله ، أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟

قال «رجل قتل نبيا أو من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر» ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ

__________________

(١) صحيح مسلم (إيمان حديث ٢٤٠)

(٢) المسند (ج ٣ ص ١٧٥)

٢٢

بِعَذابٍ أَلِيمٍ) الآية ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة وسبعون (١) رجلا من بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر ، فقتلوهم جميعا من آخر النهار من ذلك اليوم ، فهم الذين ذكر الله عزوجل» وهكذا رواه ابن جرير (٢) عن أبي عبيد الوصابي محمد بن حفص ، عن ابن حمير ، عن أبي الحسن مولى بني أسد ، عن مكحول به ، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : قتلت بنو إسرائيل ثلاثمائة نبي من أول النهار ، وأقاموا سوق بقلهم من آخره ، رواه ابن أبي حاتم. ولهذا لما أن تكبروا عن الحق واستكبروا على الخلق ، قابلهم الله على ذلك بالذلة والصغار في الدنيا ، والعذاب المهين في الآخرة ، فقال تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي موجع مهين (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢٥)

يقول تعالى منكرا على اليهود والنصارى المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم اللذين بأيديهم ، وهما التوراة والإنجيل : وإذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله فيما أمرهم به فيهما من اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تولوا وهم معرضون عنهما ، وهذا في غاية ما يكون من ذمهم والتنويه بذكرهم بالمخالفة والعناد ، ثم قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أي إنما حملهم وجرأهم على مخالفة الحق افتراؤهم على الله فيما ادعوه لأنفسهم أنهم إنما يعذبون في النار سبعة أيام عن كل ألف سنة في الدنيا يوما وقد تقدم تفسير ذلك في سورة البقرة. ثم قال تعالى : (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي ثبتهم على دينهم الباطل ، ما خدعوا به أنفسهم من زعمهم أن النار لا تمسهم بذنوبهم إلا أياما معدودات ، وهم الذين افتروا هذا من تلقاء أنفسهم واختلقوه ولم ينزل الله به سلطانا ، قال الله تعالى متهددا لهم ومتوعدا (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) أي كيف يكون حالهم وقد افتروا على الله ، وكذبوا رسله ، وقتلوا أنبياءه ، والعلماء من قومهم ، الآمرين بالمعروف ، والناهين عن المنكر ، والله تعالى سائلهم عن ذلك كله ومحاسبهم وحاكم عليه ومجازيهم به ، ولهذا قال تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك في وقوعه وكونه ، (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

__________________

(١) في الطبري : «فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا ...».

(٢) تفسير الطبري ٣ / ٢١٦.

٢٣

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٢٧)

يقول تبارك وتعالى : (قُلِ) يا محمد معظما لربك وشاكرا له ومفوضا إليه ومتوكلا عليه (اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) أي لك الملك كله (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) أي أنت المعطي ، وأنت المانع ، وأنت الذي ما شئت كان ، وما لم تشأ لم يكن. وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذه الأمة ، لأن الله تعالى حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي الأمي المكي ، خاتم الأنبياء على الإطلاق ، ورسول الله إلى جميع الثقلين : الإنس والجن ، الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله ، وخصه بخصائص لم يعطها نبيا من الأنبياء ، ولا رسولا من الرسل في العلم بالله وشريعته ، واطلاعه على الغيوب الماضية والآتية ، وكشفه له عن حقائق الآخرة ، ونشر أمته في الآفاق في مشارق الأرض ومغاربها ، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان والشرائع ، فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين ما تعاقب الليل والنهار. ولهذا قال تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) الآية ، أي أنت المتصرف في خلقك ، الفعال لما تريد ، كما رد تعالى على من يحكم عليه في أمره حيث قال (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] ، قال الله ردا عليهم (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف : ٣٢] ، أي نحن نتصرف فيما خلقنا كما نريد بلا ممانع ولا مدافع ، ولنا الحكمة البالغة ، والحجة التامة في ذلك ، وهكذا يعطي النبوة لمن يريد ، كما قال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٤٢] وقال تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) [الإسراء : ٢١] ، وقد روى الحافظ بن عساكر في ترجمة إسحاق بن أحمد من تاريخه ، عن المأمون الخليفة ، أنه رأى في قصر ببلاد الروم مكتوبا بالحميرية ، فعرب له ، فإذا هو : بسم الله ما اختلف الليل والنهار ، ولا دارت نجوم السماء في الفلك إلا بنقل النعيم عن ملك قد زال سلطانه إلى ملك. وملك ذي العرش دائم أبدا ليس بفان ولا بمشترك.

وقوله تعالى : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي تأخذ من طول هذه فتزيده في قصر هذا ، فيعتدلان ، ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان ، ثم يعتدلان ، وهكذا في فصول السنة ربيعا وصيفا وخريفا وشتاء ، وقوله تعالى : (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) أي تخرج الزرع من الحب ، والحب من الزرع ، والنخلة من النواة ، والنواة من النخلة ، والمؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ، والدجاجة من البيضة ، والبيضة من الدجاجة ، وما جرى هذا المجرى من جميع الأشياء (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي تعطي من شئت

٢٤

من المال ما لا يعد ولا يقدر على إحصائه ، وتقتر على آخرين لما لك في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة والعدل.

قال الطبراني : حدثنا محمد بن زكريا الغلابي ، حدثنا جعفر بن جسر بن فرقد ، حدثنا أبي عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في هذه الآية من آل عمران (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٢٨)

نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين ، وأن يتخذوهم أولياء يسرون إليهم بالمودة من دون المؤمنين ، ثم توعد على ذلك ، فقال تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) أي ومن يرتكب نهي الله في هذا ، فقد بريء من الله ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) ـ إلى أن قال ـ : (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) [الممتحنة : ١] ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ، أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) [النساء : ١٤٤] ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة : ٥١] ، وقال تعالى بعد ذكر موالاة المؤمنين من المهاجرين والأنصار والأعراب (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال : ٧٣].

وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) أي إلا من خاف في بعض البلدان أو الأوقات من شرهم ، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته ، كما قال البخاري عن أبي الدرداء : أنه قال : «إنا لنكشر (١) في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم». وقال الثوري : قال ابن عباس : ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان ، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس : إنما التقية باللسان ، وكذا قال أبو العالية وأبو الشعثاء والضحاك والربيع بن أنس. ويؤيد ما قالوه قول الله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦]. وقال البخاري : قال الحسن : التقية إلى يوم القيامة ، ثم قال تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أي يحذركم نقمته في مخالفته وسطوته وعذابه لمن والى أعداءه ، وعادى أولياءه. ثم قال تعالى : (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) أي إليه المرجع والمنقلب ليجازي كل عامل بعمله. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سويد بن

__________________

(١) كشر هنا بمعنى تبسّم.

٢٥

سعيد ، حدثنا مسلم بن خالد عن ابن أبي حسين ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن عمرو بن ميمون ، قال : قام فينا معاذ بن جبل ، فقال : يا بني أود ، إني رسول رسول الله إليكم ، تعلمون أن المعاد إلى الجنة أو إلى النار.

(قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٣٠)

يخبر تبارك وتعالى عباده أنه يعلم السرائر والضمائر والظواهر ، وأنه لا يخفى عليه منهم خافية ، بل علمه محيط بهم في سائر الأحوال والأزمان والأيام واللحظات وجميع الأوقات ، وجميع ما في الأرض والسموات لا يغيب عنه مثقال ذرة ، ولا أصغر من ذلك في جميع أقطار الأرض والبحار والجبال ، (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي وقدرته نافذة في جميع ذلك ، وهذا تنبيه منه لعباده على خوفه وخشيته لئلا يرتكبوا ما نهى عنه وما يبغضه منهم ، فإنه عالم بجميع أمورهم ، وهو قادر على معاجلتهم بالعقوبة ، وإن أنظر من أنظر منهم ، فإنه يمهل ، ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر ، ولهذا قال بعد هذا (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) الآية ، يعني يوم القيامة يحضر للعبد جميع أعماله من خير ومن شر ، كما قال تعالى (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة : ١٣] فما رأى من أعماله حسنا سره ذلك وأفرحه ، وما رأى من قبيح ساءه وغاظه وود لو أنه تبرأ منه وأن يكون بينهما أمد بعيد ، كما يقول لشيطانه الذي كان مقرونا به في الدنيا ، وهو الذي جرأه على فعل السوء (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) [الزخرف : ٣٨] ، ثم قال تعالى مؤكدا ومهددا ومتوعدا (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أي يخوفكم عقابه ، ثم قال جل جلاله مرجيا لعباده لئلا ييئسوا من رحمته ويقنطوا من لطفه (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) قال الحسن البصري : من رأفته بهم حذرهم نفسه. وقال غيره : أي رحيم بخلقه يحب لهم أن يستقيموا على صراطه المستقيم ودينه القويم وأن يتبعوا رسوله الكريم.

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (٣٢)

هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (١) ولهذا قال : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) أي يحصل لكم

__________________

(١) صحيح البخاري اعتصام باب ٢٠ ؛ وبيوع باب ٦٠ ؛ وصلح باب ٥ وصحيح مسلم (أقضية حديث ١٧ و ١٨)

٢٦

فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم ، وهو أعظم من الأول ، كما قال بعض العلماء الحكماء : ليس الشأن أن تحبّ إنما الشأن أن تحبّ. وقال الحسن البصري وغيره من السلف : زعم قوم أنهم يحبون الله ، فابتلاهم الله بهذه الآية ، فقال : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا عبيد الله بن موسى عن عبد الأعلى بن أعين ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وهل الدين إلا الحب في الله والبغض في الله قال الله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي) قال أبو زرعة : عبد الأعلى هذا منكر الحديث.

ثم قال تعالى : (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي باتباعكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يحصل لكم هذا كله من بركة سفارته ، ثم قال تعالى آمرا لكل أحد من خاص وعام (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي خالفوا عن أمره (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر ، والله لا يحب من اتصف بذلك ، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله ويتقرب إليه حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل ورسول الله إلى جميع الثقلين : الجن والإنس ، الذي لو كان الأنبياء بل المرسلون بل أولو العزم منهم في زمانه ما وسعهم إلا اتباعه ، والدخول في طاعته ، واتباع شريعته ، كما سيأتي تقريره عند قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) [آل عمران : ٨١] ، إن شاء الله تعالى.

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٣٤)

يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض ، فاصطفى آدم عليه‌السلام خلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته ، وعلمه أسماء كل شيء ، وأسكنه الجنة ، ثم أهبطه منها لما له في ذلك من الحكمة ، واصطفى نوحا عليه‌السلام وجعله أول رسول بعثه إلى أهل الأرض ، لما عبد الناس الأوثان ، وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ، وانتقم له لما طالت مدته بين ظهراني قومه يدعوهم إلى الله ليلا ونهارا ، سرا وجهارا ، فلم يزدهم ذلك إلا فرارا ، فدعا عليهم ، فأغرقهم الله عن آخرهم ، ولم ينج منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله به ، واصطفى آل إبراهيم ، ومنهم سيد البشر وخاتم الأنبياء على الإطلاق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وآل عمران والمراد بعمران هذا هو والد مريم بنت عمران أم عيسى ابن مريم عليه‌السلام. قال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه‌الله : هو عمران بن ياشم بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن أحريق بن يويم بن عزاريا بن أمصيا بن ياوش بن أجريهو بن يازم بن يهفاشاط بن إنشا بن أبيان بن رحيعم بن سليمان بن داود عليهما‌السلام (١) ، فعيسى عليه‌السلام من ذرية إبراهيم كما سيأتي

__________________

(١) ورد نسب عمران في تفسير الطبري (٦ / ٣٢٩ ـ طبعة دار المعارف بمصر) على النحو التالي محققا : ـ

٢٧

بيانه في سورة الأنعام ، إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة.

(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٣٦)

امرأة عمران هذه هي أم مريم عليها‌السلام ، وهي حنة بنت فاقوذ قال محمد بن إسحاق : وكانت امرأة لا تحمل ، فرأت يوما طائرا يزق فرخه ، فاشتهت الولد ، فدعت الله تعالى أن يهبها ولدا ، فاستجاب الله دعاءها ، فواقعها زوجها ، فحملت منه ، فلما تحققت الحمل ، نذرت أن يكون محررا أي خالصا مفرغا للعبادة ولخدمة بيت المقدس ، فقالت : (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ، فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي السميع لدعائي العليم بنيتي ، ولم تكن تعلم ما في بطنها : أذكرا أم أنثى؟ (فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) قرئ برفع التاء ، على أنها تاء المتكلم ، وأن ذلك من تمام قولها ، وقريء بتسكين التاء ، على أنه من قول الله عزوجل ، (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) أي في القوة والجلد في العبادة وخدمة المسجد الأقصى (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) فيه دليل على جواز التسمية يوم الولادة كما هو الظاهر من السياق لأنه شرع من قبلنا ، وقد حكي مقررا ، وبذلك ثبتت السنة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال «ولد لي الليلة ولد سميته باسم أبي إبراهيم» أخرجاه ، وكذلك ثبت فيهما : أن أنس بن مالك ذهب بأخيه حين ولدته أمه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحنكه (١) وسماه عبد الله ، وفي صحيح البخاري : أن رجلا قال : يا رسول الله ولد لي الليلة ولد فما أسميه؟ قال «أسم ولدك عبد الرحمن» ، وثبت في الصحيح أيضا : أنه لما جاءه أبو أسيد بابنه ليحنكه ، فذهل عنه ، فأمر به أبوه ، فرده إلى منزلهم ، فلما ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المجلس سماه المنذر.

فأما حديث قتادة عن الحسن البصري عن سمرة بن جندب ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «كل غلام مرتهن بعقيقته ، يذبح عنه يوم السابع ، ويسمى ويلحق رأسه» فقد رواه أحمد (٢) وأهل السنن ، وصححه الترمذي بهذا اللفظ ، وروي : ويدمّى ، وهو أثبت وأحفظ ، والله أعلم. كذا ما رواه الزبير بن بكار في كتاب النسب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عق (٣) عن ولده إبراهيم وسماه

__________________

ـ عمران بن ياشهم بن أمون بن منشا بن حزقيا بن أحزيق بن يوثم بن عزاريا بن أمصيا بن ياوش بن أحزيهو بن يارم بن يهفاشاط بن أسابر بن أبيا بن رحبعم بن سليمان بن داود بن إيشا. والطبري يذكر هنا رواية ابن إسحاق.

(١) حنّكه : مضغ تمرا ونحو وذلك به حنك الصبي.

(٢) المسند (ج ٥ ص ١٢)

(٣) عقّ عن ولده : ذبح ذبيحة يوم سبوعه عند حلق شعره. والعقيقة هي الذبيحة.

٢٨

إبراهيم ، فإسناده لا يثبت ، وهو مخالف لما في الصحيح ، ولو صح لحمل على أنه أشتهر اسمه بذلك يومئذ ، والله أعلم.

وقوله إخبارا عن أم مريم أنها قالت (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) أي عوذتها بالله عزوجل من شر الشيطان ، وعوذت ذريتها وهو ولدها عيسى عليه‌السلام ، فاستجاب الله لها ذلك ، كما قال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله «ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد ، فيستهل صارخا من مسه إياه ، إلا مريم وابنها» ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) ، أخرجاه من حديث عبد الرزاق.

ورواه ابن جرير (١) عن أحمد بن الفرج ، عن بقية ، عن الزهري عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه ، وروى (٢) من حديث قيس ، عن الأعمش عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من مولود إلا وقد عصره الشيطان عصرة أو عصرتين ، إلا عيسى ابن مريم ومريم» ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) ومن حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة ، ورواه مسلم عن أبي الطاهر ، عن ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن أبي يونس ، عن أبي هريرة. ورواه ابن وهب أيضا ، عن ابن أبي ذئب ، عن عجلان مولى المشمعلّ ، عن أبي هريرة. ورواه محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأصل الحديث. وهكذا رواه الليث بن سعد ، عن جعفر بن ربيعة ، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، قال : قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين تلده أمه إلا عيسى ابن مريم ، ذهب يطعن ، فطعن بالحجاب» (٣).

(فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٧)

يخبر ربنا أنه تقبلها من أمها نذيرة ، وأنه (أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) ، أي جعلها شكلا مليحا ومنظرا بهيجا ، ويسر لها أسباب القبول ، وقرنها بالصالحين من عباده تتعلم منهم العلم والخير والدين ، فلهذا قال (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) وفي قراءة : (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) بتشديد الفاء ، ونصب زكريا على المفعولية ، أي جعله كافلا لها. قال ابن إسحاق : وما ذلك إلا أنها كانت يتيمة. وذكر غيره : أن بني إسرائيل أصابتهم سنة جدب ، فكفل زكريا مريم لذلك ، ولا منافاة بين

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٢٤٠.

(٢) تفسير الطبري ٣ / ٢٣٩.

(٣) انظر تفسير الطبري ٣ / ٢٣٨ ـ ٢٤٠.

٢٩

القولين ؛ والله أعلم. وإنما قدر الله كون زكريا كافلها لسعادتها ، لتقتبس منه علما جما نافعا وعملا صالحا ، ولأنه كان زوج خالتها على ما ذكره ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما ، وقيل : زوج أختها ، كما ورد في الصحيح «فإذا بيحيى وعيسى وهما ابنا الخالة» وقد يطلق على ما ذكره ابن إسحاق ذلك أيضا توسعا ، فعلى هذا كانت في حضانة خالتها وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى في عمارة بنت حمزة أن تكون في حضانة خالتها امرأة جعفر بن أبي طالب ، وقال «الخالة بمنزلة الأم» (١).

ثم أخبر تعالى عن سيادتها وجلالتها في محل عبادتها ، فقال (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً). قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو الشعثاء وإبراهيم النخعي والضحاك وقتادة والربيع بن أنس وعطية العوفي والسدي : يعني وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف. وعن مجاهد (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) أي علما ، أو قال : صحفا فيها علم ، رواه ابن أبي حاتم ، والأول أصح وفيه دلالة على كرامات الأولياء. وفي السنة لهذا نظائر كثيرة ، فإذا رأى زكريا هذا عندها (قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) أي يقول من أين لك هذا؟ (قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا سهل بن زنجلة ، حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا عبد الله بن لهيعة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أقام أياما لم يطعم طعاما حتى شق ذلك عليه ، فطاف في منازل أزواجه ، فلم يجد عند واحدة منهن شيئا ، فأتى فاطمة فقال «يا بنية هل عندك شيء آكله ، فإني جائع؟» قالت : لا والله ـ بأبي أنت وأمي ـ ، فلما خرج من عندها ، بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم ، فأخذته منها ، فوضعته في جفنة لها ، وقالت : والله لأوثرن بهذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفسي ومن عندي ، وكانوا جميعا محتاجين إلى شبعة طعام ، فبعثت حسنا أو حسينا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرجع إليها ، فقالت له : بأبي أنت وأمي قد أتى الله بشيء فخبأته لك. قال «هلمي يا بنية». قالت : فأتيته بالجفنة ، فكشف عنها ، فإذا هي مملوءة خبزا ولحما ، فلما نظرت إليها بهت وعرفت أنها بركة من الله ، فحمدت الله وصليت على نبيه وقدمته إلى رسول الله ، فلما رآه حمد الله وقال «من أين لك هذا يا بنية»؟ قالت : يا أبت (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) فحمد الله وقال «الحمد لله الذي جعلك يا بنية شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل ، فإنها كانت إذا رزقها الله شيئا وسئلت عنه ، قالت : هو من عند الله ، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب» فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى علي ، ثم أكل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأكل علي وفاطمة وحسن وحسين وجميع أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهل بيته حتى شبعوا جميعا ، قالت : وبقيت الجفنة كما هي ، قالت : فأوسعت ببقيتها على

__________________

(١) صحيح البخاري (صلح باب ٦ ؛ ومغازي باب ٤٣) وسنن أبي داود (طلاق باب ٣٥) وسنن الترمذي (برّ باب ٦)

٣٠

جميع الجيران ، وجعل الله فيها بركة وخيرا كثيرا.

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٤١)

لما رأى زكريا عليه‌السلام أن الله يرزق مريم عليها‌السلام فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ، طمع حينئذ في الولد وكان شيخا كبيرا قد وهن منه العظم واشتعل الرأس شيبا ، وكانت امرأته مع ذلك كبيرة وعاقرا ، لكنه مع هذا كله سأل ربه وناداه نداء خفيا ، وقال (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) أي من عندك (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) أي ولدا صالحا (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ). قال تعالى : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) أي خاطبته الملائكة شفاها خطابا ، أسمعته وهو قائم يصلي في محراب عبادته ومحل خلوته ومجلس مناجاته وصلاته. ثم أخبر تعالى عما بشرته به الملائكة (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) أي بولد يوجد لك من صلبك اسمه يحيى. قال قتادة وغيره : إنما سمي يحيى لأن الله أحياه بالإيمان.

وقوله (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ). روى العوفي وغيره عن ابن عباس ، وقال الحسن وقتادة وعكرمة ومجاهد وأبو الشعثاء والسدي والربيع بن أنس والضحاك وغيره في هذه الآية (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) أي بعيسى ابن مريم. وقال الربيع بن أنس : هو أول من صدق بعيسى ابن مريم. وقال قتادة : وعلى سننه ومنهاجه. وقال ابن جريج : قال ابن عباس في قوله (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) ، قال : كان يحيى وعيسى ابني خالة ، وكانت أم يحيى تقول لمريم : إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك ، فذلك تصديقه بعيسى تصديقه (١) له في بطن أمه ، وهو أول من صدق عيسى ، وكلمة الله عيسى ، وهو أكبر من عيسى عليه‌السلام ، وهكذا قال السدي أيضا.

قوله : (وَسَيِّداً) قال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة وسعيد بن جبير وغيرهم : الحكيم. قال قتادة : سيدا في العلم والعبادة. وقال ابن عباس والثوري والضحاك : السيد الحكيم التقي. قال سعيد بن المسيب : هو الفقيه العالم. وقال عطية : السيد في خلقه ودينه. وقال عكرمة: هو الذي لا يغلبه الغضب. وقال ابن زيد : هو الشريف. وقال مجاهد وغيره : هو الكريم على الله عزوجل.

وقوله : (وَحَصُوراً) روي عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير

__________________

(١) في الطبري «سجوده له في بطن أمه».

٣١

وأبي الشعثاء وعطية العوفي ، أنهم قالوا : الذي لا يأتي النساء. وعن أبي العالية والربيع بن أنس : هو الذي لا يولد له وقال الضحاك : هو الذي لا ولد له ولا ماء له أو قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، أنبأنا جرير عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس في الحصور : الذي لا ينزل الماء. وقد روى ابن أبي حاتم في هذا حديثا غريبا جدا ، فقال : حدثنا أبو جعفر محمد بن غالب البغدادي ، حدثني سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد يعني ابن العوام ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن العاص ـ لا يدري عبد الله أو عمرو ـ عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَسَيِّداً وَحَصُوراً) قال : ثم تناول شيئا من الأرض ، فقال «كان ذكره مثل هذا» ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، أنه سمع سعيد بن المسيب ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : ليس أحد من خلق الله لا يلقاه بذنب غير يحيى بن زكريا. ثم قرأ سعيد (وَسَيِّداً وَحَصُوراً) ثم أخذ شيئا من الأرض ، فقال : الحصور من كان ذكره مثل ذا. وأشار يحيى بن سعيد القطان بطرف إصبعه السبابة ، فهذا موقوف أصح إسنادا من المرفوع بل وفي صحة المرفوع نظر والله أعلم. ورواه ابن المنذر في تفسيره : حدثنا أحمد بن داود السمناني ، حدثنا سويد بن سعيد ، حدثنا علي بن مسهر ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من عبد يلقى الله إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا ، فإن الله يقول (وَسَيِّداً وَحَصُوراً) قال : «وإنما ذكره مثل هدبة الثوب» وأشار بأنملته ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عيسى بن حماد ومحمد بن سلمة المرادي قالا : حدثنا حجاج بن سليمان المقري عن الليث بن سعد عن محمد بن عجلان عن القعقاع ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «كل ابن آدم يلقى الله بذنب يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه ، إلا يحيى بن زكريا فإنه كان سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين» ثم أهوى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قذاة من الأرض ، فأخذها وقال: «وكان ذكره مثل هذه القذاة».

وقد قال القاضي عياض في كتابه الشفاء : اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه كان (حَصُوراً) ليس كما قاله بعضهم إنه كان هيوبا أو لا ذكر له ، بل قد أنكر هذا حذاق المفسرين ، ونقاد العلماء ، وقالوا : هذه نقيصة وعيب ، ولا تليق بالأنبياء عليهم‌السلام ، وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب ، أي لا يأتيها كأنه حصر عنها. وقيل مانعا نفسه من الشهوات. وقيل ليست له شهوة في النساء ، وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص ، وإنما الفضل في كونها موجودة ، ثم يمنعها إما بمجاهدة كعيسى ، أو بكفاية من الله عزوجل كيحيى عليه‌السلام ، ثم هي في حق من قدر عليها ، وقام بالواجب فيها ، ولم تشغله عن ربه درجة عليا ، وهي درجة نبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه ، بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن وقيامه عليهن وإكسابه لهن وهدايته إياهن ، بل قد صرح أنها ليست من حظوظ دنياه هو ، وإن كانت من

٣٢

حظوظ دنيا غيره ، فقال : «حبب إليّ من دنياكم» (١) هذا لفظه. والمقصود أنه مدح ليحيى بأنه حصور ليس أنه لا يأتي النساء ، بل معناه كما قاله هو وغيره : أنه معصوم عن الفواحش والقاذورات ، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن ، بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال : (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) كأنه قال : ولدا له ذرية ونسل وعقب ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقوله : (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته ، وهي أعلى من الأولى ، كقوله لأم موسى (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص : ٧] فلما تحقق زكريا عليه‌السلام هذه البشارة ، أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ) أي الملك (كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) أي هكذا أمر الله عظيم ، لا يعجزه شيء ، ولا يتعاظمه أمر ، (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي علامة أستدل بها على وجود الولد مني (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) أي إشارة لا تستطيع النطق مع أنك سوي صحيح ، كما في قوله : (ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) [مريم : ١٠] ثم أمره بكثرة الذكر والتكبير والتسبيح في هذه الحال ، فقال تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ). وسيأتي طرف آخر في بسط هذا المقام في أول سورة مريم ، إن شاء الله تعالى.

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٤٤)

هذا إخبار من الله تعالى بما خاطبت به الملائكة مريم عليها‌السلام عن أمر الله لهم بذلك ، أن الله قد اصطفاها أي اختارها لكثرة عبادتها وزهادتها وشرفها وطهارتها من الأكدار والوساوس ، واصطفاها ثانيا مرة بعد مرة لجلالتها على نساء العالمين.

قال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) قال : كان أبو هريرة يحدث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خير نساء ركبن الإبل نساء قريش ، أحناء على ولد في صغره ، ورعاة على زوج في ذات يده ، ولم تركب مريم بنت عمران بعيرا قط» ولم يخرجه من هذا الوجه سوى مسلم ، فإنه رواه عن محمد بن رافع وعبد بن حميد ، كلاهما عن عبد الرزاق به.

وقال هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن جعفر ، عن علي بن أبي طالب رضي الله

__________________

(١) «حبّب إليّ من الدنيا : النساء والطيب وجعل قرّة عيني في الصلاة» رواه أحمد في المسند (ج ٣ ص ١٢٨) والنسائي في سننه (عشرة النساء باب ١) من حديث أنس ـ مرفوعا.

٣٣

عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «خير نسائها (١) مريم بنت عمران ، وخير نسائها خديجة بنت خويلد» أخرجاه في الصحيحين من حديث هشام به مثله.

وقال الترمذي : حدثنا أبو بكر بن زنجويه ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن قتادة ، عن أنس ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، وآسية امرأة فرعون» تفرد به الترمذي وصححه.

قال عبد الله بن أبي جعفر الرازي ، عن أبيه ، قال : كان ثابت البناني يحدث عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وآسية [بنت مزاحم] (٢) امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت رسول الله» رواه ابن مردويه ، وروى ابن مردويه من طريق شعبة ، عن معاوية بن قرة ، عن أبيه ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا ثلاث : مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام».

وقال ابن جرير (٣) : حدثني المثنى ، حدثنا آدم العسقلاني ، حدثنا شعبة ، حدثنا عمرو بن مرة ، قال : سمعت مرة الهمداني ، يحدث عن أبي موسى الأشعري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون» (٤). وقد أخرجه الجماعة إلا أبا داود من طرق عن شعبة به ، ولفظ البخاري «كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام». وقد استقصيت طرق هذا الحديث وألفاظه في قصة عيسى ابن مريم عليه‌السلام في كتابنا البداية والنهاية ، ولله الحمد والمنة.

ثم أخبر تعالى عن الملائكة أنهم أمروها بكثرة العبادة والخشوع والركوع والسجود والدأب في العمل ، لما يريد الله بها من الأمر الذي قدره الله وقضاه مما فيه محنة لها ، ورفعة في الدارين بما أظهر الله فيها من قدرته العظيمة ، حيث خلق منها ولدا من غير أب ، فقال تعالى : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ ، وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أما القنوت فهو الطاعة في خشوع ، كما قال تعالى : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) [البقرة : ١١٦]. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «كل حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة». ورواه ابن جرير من طريق ابن لهيعة عن دراج به ، وفيه

__________________

(١) أي نساء أهل الجنة ، كما في الطبري ٣ / ٢٦٢.

(٢) الزيادة من الطبري.

(٣) تفسير الطبري ٣ / ٢٦٢.

(٤) تمام رواية الطبري : «... وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد».

٣٤

نكارة. وقال مجاهد : كانت مريم عليها‌السلام تقوم حتى تتورم كعباها والقنوت هو طول الركود في الصلاة ، يعني امتثالا لقول الله تعالى : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) قال الحسن : يعني اعبدي لربك ، (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي كوني منهم وقال الأوزاعي : ركدت في محرابها راكعة وساجدة وقائمة ، حتى نزل الماء الأصفر في قدميها رضي الله عنها وأرضاها.

وقد ذكر الحافظ بن عساكر في ترجمتها من طريق محمد بن يونس الكديمي ، وفيه مقال (١) : حدثنا علي بن بحر بن بري ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، في قوله (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي) قال : سجدت حتى نزل الماء الأصفر في عينيها.

وذكر ابن أبي الدنيا : حدثنا الحسن بن عبد العزيز ، حدثنا ضمرة عن ابن شوذب ، قال :

كانت مريم عليها‌السلام تغتسل في كل ليلة.

ثم قال تعالى لرسوله بعد ما أطلعه على جلية الأمر (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أي نقصه عليك (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي ما كنت عندهم يا محمد فتخبرهم عنهم معاينة عما جرى بل أطلعك الله على ذلك كأنك حاضر وشاهد لما كان من أمرهم حين اقترعوا في شأن مريم أيهم يكفلها ، وذلك لرغبتهم في الأجر.

قال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثني حجاج عن ابن جريج ، عن القاسم بن أبي بزة ، أنه أخبره عن عكرمة ، وأبي بكر عن عكرمة ، قال : ثم خرجت بها ، يعني أم مريم بمريم ، تحملها في خرقها إلى بني الكاهن بن هارون أخي موسى عليهما‌السلام ، قال : وهم يومئذ يلون في بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة ، فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة ، فإني حررتها ، وهي أنثى ، ولا يدخل الكنيسة حائض ، وأنا لا أردها إلى بيتي ، فقالوا : هذه ابنة إمامنا ، وكان عمران يؤمهم في الصلاة ، وصاحب قرباننا ، فقال زكريا : ادفعوها لي فإن خالتها تحتي ، فقالوا : لا تطيب أنفسنا ، هي ابنة إمامنا ، فذلك حين اقترعوا عليها بأقلامهم التي يكتبون بها التوراة ، فقرعهم (٢) زكريا فكفلها. وقد ذكر عكرمة أيضا والسدي وقتادة والربيع بن أنس وغير واحد ، دخل حديث بعضهم في بعض ، أنهم ذهبوا إلى نهر الأردن ، واقترعوا هنالك على أن يلقوا أقلامهم فأيهم يثبت في جرية الماء فهو كافلها ، فألقوا أقلامهم ، فاحتملها الماء إلا قلم زكريا فإنه ثبت ويقال إنه ذهب صاعدا يشق جرية الماء ، وكان مع ذلك كبيرهم وسيدهم وعالمهم وإمامهم ونبيهم ، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين.

__________________

(١) المراد أن الكديمي هذا ضعيف. انظر موسوعة رجال الكتب التسعة ٣ / ٤٩١.

(٢) قرعهم : غلبهم بالقرعة. والأثر المروي عن ابن جرير هنا لم نقع عليه في تفسير الطبري.

٣٥

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٧)

هذه بشارة من الملائكة لمريم عليها‌السلام بأن سيوجد منها ولد عظيم له شأن كبير. قال الله تعالى: (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) أي بولد يكون وجوده بكلمة من الله ، أي يقول له : كن فيكون ، وهذا تفسير قوله : (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) [آل عمران : ٣٩] كما ذكر الجمهور على ما سبق بيانه (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) أي يكون مشهورا بهذا في الدنيا ، ويعرفه المؤمنون بذلك وسمي المسيح ، قال بعض السلف : لكثرة سياحته. وقيل : لأنه كان مسيح القدمين ، لا أخمص (١) لهما ، وقيل : لأنه كان إذا مسح أحدا من ذوي العاهات برىء ، بإذن الله تعالى. وقوله : (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) نسبة إلى أمه حيث لا أب له. (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي له وجاهة ومكانة عند الله في الدنيا بما يوحيه الله إليه من الشريعة وينزله عليه من الكتاب وغير ذلك مما منحه الله به ، وفي الدار الآخرة يشفع عند الله فيمن يأذن له فيه ، فيقبل منه أسوة بإخوانه من أولي العزم ، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.

وقوله : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) أي يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له في حال صغره ، معجزة وآية ، وفي حال كهولته حين يوحي الله إليه بذلك (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي في قوله وعمله ، له علم صحيح وعمل صالح.

قال محمد بن إسحاق : عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن محمد بن شرحبيل ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما تكلم مولود في صغره إلا عيسى وصاحب جريج» وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو الصقر يحيى بن محمد بن قزعة ، حدثنا الحسين يعني المروزي ، حدثنا جرير يعني ابن حازم ، عن محمد ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى ، وصبي كان في زمن جريج ، وصبي آخر» فلما سمعت بشارة الملائكة لها بذلك عن الله عزوجل ، قالت في مناجاتها (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ؟) تقول : كيف يوجد هذا الولد مني وأنا لست بذات زوج ، ولا من عزمي أن أتزوج ، ولست بغيا حاشا لله؟ فقال لها الملك عن الله عزوجل في جواب ذلك السؤال (كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي هكذا أمر الله عظيم لا يعجزه شيء ، وصرح هاهنا بقوله : (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) ولم يقل : يفعل ، كما في قصة زكريا ، بل نص هاهنا على أنه يخلق لئلا يبقى لمبطل شبهة ، وأكد ذلك بقوله : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي فلا يتأخر شيئا بل يوجد عقيب الأمر

__________________

(١) الأخمص : باطن القدم الذي يتجافى عن الأرض.

٣٦

بلا مهلة كقوله : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر : ٥٠] أي إنما نأمر مرة واحدة لا مثنوية فيها فيكون ذلك الشيء سريعا كلمح بالبصر.

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٥١)

يقول تعالى مخبرا عن تمام بشارة الملائكة لمريم بابنها عيسى عليه‌السلام : إن الله يعلمه (الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) ، الظاهر أن المراد بالكتاب هاهنا الكتابة ، والحكمة تقدم تفسيرها في سورة البقرة ، و (التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) ، فالتوراة هو الكتاب الذي أنزل على موسى بن عمران ، والإنجيل الذي أنزل على عيسى ابن مريم عليهما‌السلام. وقد كان عيسى عليه‌السلام يحفظ هذا وهذا ، وقوله : (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي يجعله رسولا إلى بني إسرائيل ، قائلا لهم (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) وكذلك كان يفعل ، يصور من الطين شكل طير ، ثم ينفخ فيه فيطير عيانا بإذن الله عزوجل ، الذي جعل هذا معجزة له تدل على أنه أرسله (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) قيل : إنه الذي يبصر نهارا ولا يبصر ليلا ، وقيل بالعكس. وقيل : الأعشى. وقيل الأعمش. وقيل : هو الذي يولد أعمى وهو أشبه ، لأنه أبلغ في المعجزة وأقوى في التحدي (وَالْأَبْرَصَ) معروف ، (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ).

قال كثير من العلماء : بعث الله كل نبي من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه ، فكان الغالب على زمان موسى عليه‌السلام السحر وتعظيم السحرة ، فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار وحيرت كل سحار ، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام ، وصاروا من عباد الله الأبرار. وأما عيسى عليه‌السلام ، فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه إلا أن يكون مؤيدا من الذي شرع الشريعة ، فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد ، أو على مداواة الأكمه والأبرص ، وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد. وكذلك محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعث في زمان الفصحاء والبلغاء وتجاريد الشعراء ، فأتاهم بكتاب من الله عزوجل ، لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ، أو بعشر سور من مثله ، أو بسورة من مثله ، لم يستطيعوا أبدا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، وما ذاك إلا لأن كلام الرب عزوجل لا يشبه كلام الخلق أبدا.

٣٧

وقوله : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) أي أخبركم بما أكل أحدكم الآن ، وما هو مدخر له في بيته لغد ، (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في ذلك كله (لَآيَةً لَكُمْ) أي على صدقي فيما جئتكم به (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) أي مقررا لها ومثبتا (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) فيه دلالة على أن عيسى عليه‌السلام نسخ بعض شريعة التوراة ، وهو الصحيح من القولين ، ومن العلماء من قال : لم ينسخ منها شيئا ، وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه خطأ ، فكشف لهم عن المغطى في ذلك ، كما قال في الآية الأخرى (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) [الزخرف : ٦٣] والله أعلم. ثم قال (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي بحجة ودلالة على صدقي فيما أقوله لكم (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ، إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) أي أنا وأنتم سواء في العبودية له والخضوع والاستكانة إليه (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ).

(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٥٤)

يقول تعالى : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى) أي استشعر منهم التصميم على الكفر والاستمرار على الضلال ، (قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) قال مجاهد : أي من يتبعني إلى الله. وقال سفيان الثوري وغيره : أي من أنصاري مع الله ، وقول مجاهد أقرب. والظاهر أنه أراد من أنصاري في الدعوة إلى الله؟ كما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في مواسم الحج قبل أن يهاجر «من رجل يؤويني حتى أبلغ كلام ربي. فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي» حتى وجد الأنصار ، فآووه ونصروه وهاجر إليهم ، فواسوه ومنعوه من الأسود والأحمر ، رضي الله عنهم وأرضاهم. وهكذا عيسى ابن مريم عليه‌السلام انتدب له طائفة من بني إسرائيل فآمنوا به ووازروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه ، ولهذا قال الله تعالى مخبرا عنهم (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) الحواريون قيل : كانوا قصارين ، وقيل : سموا بذلك لبياض ثيابهم ، وقيل : صيادين. والصحيح أن الحواري الناصر ، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما ندب الناس يوم الأحزاب ، فانتدب الزبير ثم ندبهم ، فانتدب الزبير رضي الله عنه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لكل نبي حواري ، وحواريي الزبير» (١) ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وكيع ، حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) قال : مع أمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا إسناد جيد.

__________________

(١) صحيح البخاري (جهاد باب ٤٠ و ٤١ و ١٣٥ ؛ وفضائل الصحابة باب ١٣) وصحيح مسلم (فضائل الصحابة حديث ٤٨)

٣٨

ثم قال تعالى مخبرا عن ملإ بني إسرائيل ، فيما هموا به من الفتك بعيسى عليه‌السلام ، وإرادته بالسوء والصلب حين تمالئوا عليه ، ووشوا به إلى ملك ذلك الزمان ، وكان كافرا ، أن هنا رجلا يضل الناس ويصدهم عن طاعة الملك ويفسد الرعايا ، ويفرق بين الأب وابنه ، إلى غير ذلك مما تقلدوه في رقابهم ورموه به من الكذب ، وأنه ولد زنية حتى استثاروا غضب الملك ، فبعث في طلبه من يأخذه ويصلبه وينكل به ، فلما أحاطوا بمنزله وظنوا أنهم قد ظفروا به ، نجاه الله تعالى من بينهم ورفعه من روزنة (١) ذلك البيت إلى السماء ، وألقى الله شبهه على رجل ممن كان عنده في المنزل ، فلما دخل أولئك اعتقدوه في ظلمة الليل عيسى ، فأخذوه وأهانوه وصلبوه ، ووضعوا على رأسه الشوك ، وكان هذا من مكر الله بهم ، فإنه نجى نبيه ورفعه من بين أظهرهم وتركهم في ضلالهم يعمهون ، يعتقدون أنهم قد ظفروا بطلبتهم ، وأسكن الله في قلوبهم قسوة وعنادا للحق ملازما لهم ، وأورثهم ذلة لا تفارقهم إلى يوم التناد ، ولهذا قال تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ).

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) (٥٨)

اختلف المفسرون في قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) فقال قتادة وغيره : هذا من المقدم والمؤخر ، تقديره إني رافعك إلي ومتوفيك ، يعني بعد ذلك. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : إني متوفيك ، أي مميتك. وقال محمد بن إسحاق عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه ، قال : توفاه الله ثلاث ساعات من أول النهار حين رفعه إليه ، قال ابن إسحاق : والنصارى يزعمون أن الله توفاه سبع ساعات ، ثم أحياه. وقال إسحاق بن بشر ، عن إدريس عن وهب :

أماته الله ثلاثة أيام ، ثم بعثه ، ثم رفعه. وقال مطر الوراق : إني متوفيك من الدنيا ، وليس بوفاة موت ، وكذا قال ابن جرير : توفيه هو رفعه ، وقال الأكثرون : المراد بالوفاة هاهنا ـ النوم ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) [الأنعام : ٦٠]. وقال تعالى (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) [الزمر : ٤٢] ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول إذا قام من النوم : «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا» الحديث ، وقال تعالى : (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً. وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ـ إلى قوله ـ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ

__________________

(١) الروزنة : فتحة في أعلى السقف.

٣٩

الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) [النساء : ١٥٦ ـ ١٥٩] والضمير في قوله (قَبْلَ مَوْتِهِ) عائد على عيسى عليه‌السلام ، أي وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى ، وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة على ما سيأتي بيانه ، فحينئذ يؤمن به أهل الكتاب كلهم ، لأنه يضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، حدثنا الربيع بن أنس ، عن الحسن أنه قال في قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) يعني وفاة المنام ، رفعه الله في منامه. قال الحسن : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لليهود «إن عيسى لم يمت ، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة» وقوله تعالى : (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي برفعي إياك إلى السماء (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) وهكذا وقع فإن المسيح عليه‌السلام ، لما رفعه الله إلى السماء ، تفرقت أصحابه شيعا بعده ، فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله ورسوله وابن أمته ، ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله ، وآخرون قالوا : هو الله ، وآخرون قالوا : هو ثالث ثلاثة. وقد حكى الله مقالاتهم في القرآن ورد على كل فريق ، فاستمروا على ذلك قريبا من ثلاثمائة سنة ، ثم نبغ لهم ملك من ملوك اليونان يقال له قسطنطين (١) ، فدخل في دين النصرانية ، قيل : حيلة ليفسده ، فإنه كان فيلسوفا ، وقيل : جهلا منه إلا أنه بدل لهم دين المسيح وحرفه ، وزاد فيه ونقص منه ، ووضعت له القوانين ، والأمانة الكبرى التي هي الخيانة الحقيرة ، وأحل في زمانه لحم الخنزير ، وصلوا له إلى المشرق ، وصوروا له الكنائس والمعابد والصوامع ، وزاد في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه فيما يزعمون ، وصار دين المسيح دين قسطنطين إلا أنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات ما يزيد على اثني عشر ألف معبد ، وبنى المدينة المنسوبة (٢) إليه ، واتبعه الطائفة الملكية منهم ، وهم في هذا كله قاهرون لليهود ، أيدهم الله عليهم ، لأنهم أقرب إلى الحق منهم ، وإن كان الجميع كفارا عليهم لعائن الله ، فلما بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان من آمن به يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحق ، كانوا هم أتباع كل نبي على وجه الأرض ، إذ قد صدقوا الرسول النبي الأمي العربي ، خاتم الرسل وسيد ولد آدم على الإطلاق ، الذي دعاهم إلى التصديق بجميع الحق ، فكانوا أولى بكل نبي من أمته الذين يزعمون أنهم على ملته وطريقته ، مع ما قد حرفوا وبدلوا ، ثم لو لم يكن شيء من ذلك ، لكان قد نسخ الله شريعة جميع الرسل بما بعث الله به محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الدين الحق الذي لا يغير ولا يبدل إلى قيام الساعة ،

__________________

(١) هو قسطنطين الأول الكبير ، ابن قسطانش الأول والقديسة هيلانة. توفي سنة ٣٣٧ م. وفي سنة ٣١٣ م أصدر منشور ميلان الذي أقر التسامح مع المسيحية. ومع أن قسطنطين استمر في اهتمامه بالمسيحية ، فإنه لم يعمّد إلا وهو على فراش الموت.

(٢) سنة ٣٣٠ م أعاد بناء بيزنطة وجعلها عاصمة ملكه وسماها القسطنطينية وكرسها للعذراء.

٤٠