تفسير القرآن العظيم - ج ٢

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٠

ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً ، إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) [النساء : ١١٥ ـ ١١٦] فلما نزل على سلافة بنت سعد ، هجاها حسان بن ثابت بأبيات من شعر فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت به ، فرمته في الأبطح ، ثم قالت : أهديت لي شعر حسان ما كنت تأتيني بخير ، لفظ الترمذي ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب ، لا نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني.

ورواه يونس بن بكير وغير واحد عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلا لم يذكروا فيه عن أبيه عن جده ، ورواه ابن أبي حاتم عن هاشم بن القاسم الحراني عن محمد بن سلمة به ببعضه. ورواه ابن المنذر في تفسيره : حدثنا محمد بن إسماعيل يعني الصائغ ، حدثنا الحسن بن أحمد بن شعيب الحراني ، حدثنا محمد بن سلمة ، فذكره بطوله. ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في تفسيره عن محمد بن العباس بن أيوب والحسن بن يعقوب ، كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني عن محمد بن سلمة به ، ثم قال في آخره : قال محمد بن سلمة : سمع مني هذا الحديث يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إسرائيل ، وقد روى هذا الحديث الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في كتابه المستدرك عن ابن عباس الأصم ، عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي ، عن يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق بمعناه أتم منه وفيه الشعر ، ثم قال : وهذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه.

وقوله تعالى : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) الآية ، هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس لئلا ينكروا عليهم ويجاهرون الله بها ، لأنه مطلع على سرائرهم وعالم بما في ضمائرهم ، ولهذا قال : (وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) تهديد لهم ووعيد. ثم قال تعالى : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) الآية ، أي هب أن هؤلاء انتصروا في الدنيا بما أبدوه أو أبدي لهم عند الحكام الذين يحكمون بالظاهر وهم متعبدون بذلك ، فماذا يكون صنيعهم يوم القيامة بين يدي الله تعالى الذي يعلم السر وأخفى؟ ومن ذا الذي يتوكل لهم يومئذ يوم القيامة في ترويج دعواهم؟

أي لا أحد يومئذ يكون لهم وكيلا ، ولهذا قال : (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً).

(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (١١٣)

يخبر تعالى عن كرمه وجوده أن كل من تاب إليه ، تاب عليه من أي ذنب كان. فقال تعالى:

٣٦١

(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : أخبر الله عباده بعفوه وحلمه وكرمه ، وسعة رحمته ، ومغفرته فمن أذنب ذنبا صغيرا كان أو كبيرا (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال ، رواه ابن جرير (١) ، وقال ابن جرير أيضا : حدثنا محمد بن مثنى ، حدثنا محمد بن أبي عدي ، حدثنا شعبة عن عاصم عن أبي وائل ، قال : قال عبد الله : كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنبا أصبح قد كتب كفارة ذلك الذنب على بابه ، وإذا أصاب البول منه شيئا قرضه بالمقراض فقال رجل : لقد آتى الله بني إسرائيل خيرا ، فقال عبد الله رضي الله عنه : ما آتاكم الله خير مما آتاهم ، جعل الماء لكم طهورا ، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) [آل عمران : ١٣٥] ، وقال : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) ، وقال أيضا : حدثني يعقوب ، حدثنا هشيم عن ابن عون ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : جاءت امرأة إلى عبد الله بن مغفل فسألته عن امرأة فجرت فحبلت ، فلما ولدت قتلت ولدها ، قال عبد الله بن مغفل : ما لها؟ لها النار. فانصرفت وهي تبكي فدعاها ثم قال : ما أرى أمرك إلا أحد أمرين (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) قال : فمسحت عينها ثم مضت.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا شعبة عن عثمان بن المغيرة ، قال : سمعت علي بن ربيعة من بني أسد يحدث عن أسماء أو ابن أسماء من بني فزارة ، قال : قال علي رضي الله عنه : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه. وحدثني أبو بكر ـ وصدق أبو بكر ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من مسلم يذنب ذنبا ، ثم يتوضأ ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله لذلك الذنب ، إلا غفر له» وقرأ هاتين الآيتين (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) الآية ، (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [آل عمران : ١٣٥]. وقد تكلمنا على هذا الحديث وعزيناه إلى من رواه من أصحاب السنن ، وذكرنا ما في سنده من مقال في مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وقد تقدم بعض ذلك في سورة آل عمران أيضا.

وقد رواه ابن مردويه في تفسيره من وجه آخر عن علي فقال : حدثنا أحمد بن محمد بن زياد ، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحراني ، حدثنا داود بن مهران الدباغ حدثنا عمر بن يزيد عن أبي إسحاق عن عبد خير عن علي ، قال : سمعت أبا بكر ـ هو الصديق ـ يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما من عبد أذنب فقام فتوضأ فأحسن الوضوء ، ثم قام فصلى واستغفر

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٢٧٣.

(٢) مسند أحمد ١ / ٨.

٣٦٢

من ذنبه ، إلا كان حقا على الله أن يغفر له» لأن الله يقول : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) الآية ، ثم رواه من طريق أبان بن أبي عياش عن أبي إسحاق السبيعي ، عن الحارث ، عن علي ، عن الصديق ، بنحوه ، وهذا إسناد لا يصح. وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن علي بن دحيم ، حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا موسى بن مروان الرقي حدثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي عن تمام بن نجيح حدثني كعب بن ذهل الأزدي قال : سمعت أبا الدرداء يحدث قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا جلسنا حوله ، وكانت له حاجة فقام إليها وأراد الرجوع ، ترك نعليه في مجلسه أو بعض ما عليه ، وإنه قام فترك نعليه ، قال أبو الدرداء : فأخذ ركوة من ماء فاتبعته فمضى ساعة ثم رجع ولم يقض حاجته ، فقال : «إنه أتاني آت من ربي فقال : إنه (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) فأردت أن أبشر أصحابي».

قال أبو الدرداء : وكانت قد شقت على الناس الآية التي قبلها (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء : ١٢٣] فقلت : يا رسول الله ، وإن زنى وإن سرق ، ثم استغفر ربه غفر له؟ قال «نعم». ثم قلت الثانية ، قال «نعم». قلت الثالثة ، قال «نعم» وإن زنى وإن سرق ثم استغفر الله ، غفر الله له على رغم أنف أبي الدرداء». قال : فرأيت أبا الدرداء يضرب أنف نفسه بإصبعه ، هذا حديث غريب جدا من هذا الوجه بهذا السياق ، وفي إسناده ضعف.

وقوله : (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) الآية ، كقوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤] ، يعني أنه لا يغني أحد عن أحد ، وإنما على كل نفس ما عملت لا يحمل عنها غيرها ، ولهذا قال تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) أي من علمه وحكمته ، وعدله ورحمته كان ذلك ، ثم قال : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) الآية ، يعني كما اتهم بنو أبيرق بصنيعهم القبيح ذلك الرجل الصالح وهو لبيد بن سهل كما تقدم في الحديث أو زيد بن السمين اليهودي على ما قاله الآخرون ، وقد كان بريئا وهم الظلمة الخونة ، كما أطلع الله على ذلك رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم هذا التقريع وهذا التوبيخ عام فيهم وفي غيرهم ممن اتصف بصفتهم فارتكب مثل خطيئتهم ، فعليه مثل عقوبتهم.

وقوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) وقال الإمام ابن أبي حاتم : أنبأنا هاشم بن القاسم الحراني فيما كتب إلي ، حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ، عن أبيه ، عن جده قتادة بن النعمان ، وذكر قصة بني أبيرق ، فأنزل الله (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) يعني أسيد بن عروة وأصحابه ، يعني بذلك لما أثنوا على بني أبيرق ولاموا قتادة بن النعمان في كونه اتهمهم وهم صلحاء برآء ، ولم يكن الأمر كما أنهوه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذا أنزل الله فصل القضية وجلاءها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم امتن عليه بتأييده إياه في جميع الأحوال ، وعصمته له ، وما أنزل

٣٦٣

عليه من الكتاب وهو القرآن والحكمة ، وهي السنة (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) أي قبل نزول ذلك عليك ، كقوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ) [الشورى : ٥٢] إلى آخر السورة ، وقال تعالى : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) [القصص : ٨٦] ولهذا قال : (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً).

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (١١٥)

يقول تعالى : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) يعني كلام الناس (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) أي إلا نجوى من قال ذلك ، كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مردويه : حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن سليمان بن الحارث ، حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس ، قال : دخلنا على سفيان الثوري نعوده ، فدخل علينا سعيد بن حسان المخزومي ، فقال له سفيان الثوري : الحديث الذي كنت حدثتنيه عن أم صالح ، ردّده علي ، فقال : حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة ، قالت : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ذكر الله عزوجل ، أو أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر» فقال سفيان : أو ما سمعت الله في كتابه يقول : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) فهو هذا بعينه ، أو ما سمعت الله يقول : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) [النبأ : ٣٨] فهو هذا بعينه ، أو ما سمعت الله يقول في كتابه : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر : ١ ـ ٢] إلخ؟ فهو هذا بعينه (١) ، وقد روى هذا الحديث الترمذي وابن ماجة من حديث محمد بن يزيد بن خنيس عن سعيد بن حسان به ، ولم يذكر أقوال الثوري إلى آخرها ، ثم قال الترمذي : حديث غريب ، لا يعرف إلا من حديث ابن خنيس.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، حدثنا صالح بن كيسان ، حدثنا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يقول «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا ، أو يقول خيرا» ، وقالت لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث : في الحرب والإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته ، وحديث المرأة زوجها ، قال : وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات اللاتي بايعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد رواه الجماعة سوى

__________________

(١) قارن بالدر المنثور ٢ / ٣٨٨.

(٢) مسند أحمد ٤٠٣.

٣٦٤

ابن ماجة من طرق عن الزهري به نحوه.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام ، والصلاة ، والصدقة؟» قالوا : بلى يا رسول الله. قال : «إصلاح ذات البين» ، قال : «وفساد ذات البين هي الحالقة» (٢). ورواه أبو داود والترمذي من حديث أبي معاوية ، وقال الترمذي : حسن صحيح. وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا سريج بن يونس ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر حدثنا أبي عن حميد ، عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي أيوب «ألا أدلك على تجارة؟» قال : بلى يا رسول الله. قال «تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا ، وتقارب بينهم إذا تباعدوا» ثم قال البزار : وعبد الرحمن بن عبد الله العمري لين ، وقد حدث بأحاديث لم يتابع عليها.

ولهذا قال : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي مخلصا في ذلك محتسبا ثواب ذلك عند الله عزوجل ، (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) أي ثوابا جزيلا كثيرا واسعا.

وقوله : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) أي ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصار في شق ، والشرع في شق ، وذلك عن عمد منه بعد ما ظهر له الحق وتبين له واتضح له.

وقوله : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) هذا ملازم للصفة الأولى ، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع ، وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقا ، فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ تشريفا لهم وتعظيما لنبيهم ، وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في ذلك ، قد ذكرنا منها طرفا صالحا في كتاب أحاديث الأصول ، ومن العلماء من ادعى تواتر معناها ، والذي عول عليه الشافعي رحمه‌الله في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته هذه الآية الكريمة بعد التروي والفكر الطويل ، وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها ، وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة منها على ذلك ، ولهذا توعد تعالى على ذلك بقوله : (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) أي إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك بأن نحسنها في صدره ونزينها له استدراجا له ، كما قال تعالى : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) [القلم : ٤٤] ، وقال تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف : ٥] ، وقوله : (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأنعام : ١١٠] وجعل النار مصيره في الآخرة ، لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا

__________________

(١) مسند أحمد ٦ / ٤٤٤.

(٢) الحالقة : التي تستأصل الدين فتحلقه كما يحلق الشعر.

٣٦٥

إلى النار يوم القيامة ، كما قال تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) [الصافات : ٢٢] ، وقال تعالى : (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) [الكهف : ٥٣].

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) (١٢٢)

قد تقدم الكلام على هذه الآية الكريمة ، وهي قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) الآية ، وذكرنا ما يتعلق بها من الأحاديث في صدر هذه السورة ، وقد روى الترمذي حديث ثوير بن أبي فاختة سعيد بن علاقة عن أبيه ، عن علي رضي الله عنه أنه قال: ما في القرآن آية أحب إليّ من هذه الآية (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية ، ثم قال : هذا حسن غريب. وقوله : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) أي فقد سلك غير الطريق الحق ، وضل عن الهدى وبعد عن الصواب ، وأهلك نفسه وخسرها في الدنيا والآخرة ، وفاتته سعادة الدنيا والآخرة.

وقوله : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمود بن غيلان ، أنبأنا الفضل بن موسى ، أخبرنا الحسن بن واقد عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب قال : مع كل صنم جنية ، وحدثنا أبي ، حدثنا محمد بن سلمة الباهلي عن عبد العزيز بن محمد ، عن هشام يعني ابن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) قالت : أوثانا. وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير ومجاهد وأبي مالك والسدي ومقاتل بن حيان ، نحو ذلك. وقال جويبر عن الضحاك في الآية ، قال المشركون إن الملائكة بنات الله ، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ، قال : فاتخذوهن أربابا ، وصوروهن جواري فحكموا وقلدوا ، وقالوا : هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نعبده ، يعنون الملائكة ، وهذا التفسير شبيه بقول الله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) [النجم : ١٩] ، وقال تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف : ١٩] ، وقال : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) [الصافات : ١٥٨] وقال علي بن أبي طلحة والضحاك عن ابن عباس (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) قال : يعني موتى. وقال مبارك ، يعني ابن فضالة ، عن الحسن : (إِنْ

٣٦٦

يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً). قال الحسن : الإناث كل شيء ميت ليس فيه روح ، إما خشبة يابسة وإما حجر يابس. ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، وهو غريب.

وقوله : (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) أي هو الذي أمرهم بذلك وحسنه وزينه لهم ، وهم إنما يعبدون إبليس في نفس الأمر ، كما قال تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) [يس : ٦٠]. وقال تعالى إخبارا عن الملائكة أنهم يقولون يوم القيامة عن المشركين الذين ادعوا عبادتهم في الدنيا (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) [سبأ : ٤١].

وقوله : (لَعَنَهُ اللهُ) أي طرده وأبعده من رحمته ، وأخرجه من جواره ، وقال : (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) أي معينا مقدرا معلوما. قال مقاتل بن حيان : من كل ألف ، تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار ، وواحد إلى الجنة ، (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) أي عن الحق ، (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) أي أزين لهم ترك التوبة ، وأعدهم الأماني ، وآمرهم بالتسويف والتأخير ، وأغرهم من أنفسهم ، وقوله : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ). قال قتادة والسدي وغيرهما : يعني تشقيقها وجعلها سمة وعلامة للبحيرة والسائبة والوصيلة ، (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) ، قال ابن عباس : يعني بذلك خصي الدواب ، وقد روي عن ابن عمر وأنس وسعيد بن المسيب وعكرمة وأبي عياض وقتادة وأبي صالح والثوري ، وقد ورد في حديث النهي عن ذلك (١).

وقال الحسن بن أبي الحسن البصري : يعني بذلك الوشم ، وفي صحيح مسلم ، النهي عن الوشم في الوجه ، وفي لفظ : لعن الله من فعل ذلك ، وفي الصحيح (٢) عن ابن مسعود أنه قال : لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات ، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عزوجل ، ثم قال : ألا ألعن (٣) من لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في كتاب الله عزوجل ، يعني قوله : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧].

وقال ابن عباس في رواية عنه ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والحكم والسدي والضحاك وعطاء الخراساني في قوله : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) يعني دين الله عز

__________________

(١) انظر مسند أحمد ٣ / ٣٧٨ ، ٣٨٢ ، ٣٨٣.

(٢) صحيح مسلم (لباس حديث ١٢٠)

(٣) في صحيح مسلم : «وما لي لا ألعن من لعن رسول الله». وذلك أن امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن أتت ابن مسعود فقالت : ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات ... إلخ. فأجابها بذلك. والواشمة : فاعلة الوشم. والمفعول بها ذلك هي الموشومة. فإن طلبت فعل ذلك فهي مستوشمة. والنامصة هي التي تزيل الشعر من الوجه. والمتنمصة هي التي تطلب فعل ذلك بها. والمتفلجات للحسن : مفلجات الأسنان ، بأن تبرد الواحدة ما بين أسنانها ، الثنايا والرباعيات. وتفعل ذلك العجوز إظهارا للصغر ، لأن هذه الفرجة اللطيفة بين الأسنان تكون للبنات الصغار.

٣٦٧

وجل ، هذا كقوله : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) [الروم : ٣٠] على قول من جعل ذلك أمرا ، أي لا تبدلوا فطرة الله ودعوا الناس على فطرتهم ، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تجدون بها من جدعاء» (١) وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال الله عزوجل : إني خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم» (٢).

ثم قال تعالى : (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) أي فقد خسر الدنيا والآخرة ، وتلك خسارة لا جبر لها ولا استدراك لفائتها. وقوله تعالى : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) وهذا إخبار عن الواقع ، فإن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم بأنهم هم الفائزون في الدنيا والآخرة ، وقد كذب وافترى في ذلك ، ولهذا قال الله تعالى : (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) ، كما قال تعالى مخبرا عن إبليس يوم المعاد (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ـ إلى قوله ـ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم : ٢٢].

وقوله : (أُولئِكَ) أي المستحسنون له فيما وعدهم ومناهم (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) أي مصيرهم ومآلهم يوم القيامة (وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) أي ليس لهم عنها مندوحة ولا مصرف ، ولا خلاص ، ولا مناص ، ثم ذكر تعالى حال السعداء والأتقياء ومالهم في مآلهم من الكرامة التامة ، فقال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي صدقت قلوبهم وعملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات ، وتركوا ما نهوا عنه من المنكرات (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي يصرفونها حيث شاؤوا وأين شاؤوا (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي بلا زوال ولا انتقال (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي هذا وعد من الله ، ووعد الله معلوم حقيقة أنه واقع لا محالة ، ولهذا أكده بالمصدر الدال على تحقيق الخبر ، وهو قوله حقا ، ثم قال تعالى : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) أي لا أحد أصدق منه قولا ، أي خبرا لا إله إلا هو ولا رب سواه ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في خطبته : «إن أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار» (٣).

__________________

(١) صحيح البخاري (جنائز باب ٨٠ و ٩٣) وصحيح مسلم (قدر حديث ٢٢ ـ ٢٥)

(٢) صحيح مسلم (جنة حديث ٦٣). واجتالتهم عن دينهم : استخفتهم فجالوا معها في الضلالة.

(٣) صحيح البخاري (اعتصام باب ٢) وصحيح مسلم (جمعة حديث ٤٣) وسنن ابن ماجة (مقدمة باب ٧) وسنن الدارمي (مقدمة باب ٢٣) ومسند أحمد ٣ / ٣١٩.

٣٦٨

(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) (١٢٦)

قال قتادة : ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم ، وقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم ونبينا خاتم النبيين ، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله ، فأنزل الله (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) الآية ، ثم أفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان ، وكذا روي عن السدي ومسروق والضحاك وأبي صالح وغيرهم ، وكذا روى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية : تخاصم أهل الأديان ، فقال أهل التوراة : كتابنا خير الكتب ، ونبينا خير الأنبياء ، وقال أهل الإنجيل مثل ذلك ، وقال أهل الإسلام : لا دين إلا الإسلام ، وكتابنا نسخ كل كتاب ، ونبينا خاتم النبيين ، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا فقضى الله بينهم ، وقال : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) الآية.

وخير بين الأديان فقال : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) إلى قوله: (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً). وقال مجاهد : قالت العرب : لن نبعث ولن نعذب ، وقالت اليهود والنصارى (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] ، وقالوا : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) [آل عمران : ٨٠] والمعنى في هذه الآية أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني ، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال ، وليس كل من ادعى شيئا حصل له بمجرد دعواه ، ولا كل من قال إنه هو على الحق سمع قوله بمجرد ذلك ، حتى يكون له من الله برهان ، ولهذا قال تعالى : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) أي ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني بل العبرة بطاعة الله سبحانه واتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الكرام ، ولهذا قال بعده (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) ، كقوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ـ ٨] وقد روي أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على كثير من الصحابة.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الله بن نمير ، حدثنا إسماعيل عن أبي بكر بن أبي زهير ، قال : أخبرت أن أبا بكر رضي الله عنه قال : يا رسول الله كيف الفلاح بعد هذه الآية (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) فكل سوء عملناه جزينا به؟ فقال

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ١١.

٣٦٩

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «غفر الله لك يا أبا بكر ، ألست تمرض ، ألست تنصب ، ألست تحزن ، ألست تصيبك اللأواء (١)؟» قال : بلى. قال : «فهو مما تجزون به». ورواه سعيد بن منصور عن خلف بن خليفة ، عن إسماعيل بن أبي خالد به ، ورواه الحاكم من طريق سفيان الثوري عن إسماعيل به.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء عن زياد الجصاص ، عن علي بن زيد ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : سمعت أبا بكر يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من يعمل سوءا يجز به في الدنيا».

وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن هشيم بن جهيمة ، حدثنا يحيى بن أبي طالب ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، حدثنا زياد الجصاص عن علي بن زيد ، عن مجاهد ، قال : قال عبد الله بن عمر : انظروا المكان الذي فيه عبد الله بن الزبير مصلوبا فلا تمرن عليه ، قال : فسها الغلام فإذا عبد الله بن عمر ينظر إلى ابن الزبير فقال : يغفر الله لك ثلاثا ، أما والله ما علمتك إلا ضوّاما قواما وصالا للرحم ، أما والله إني لأرجو مع مساوي ما أصبت أن لا يعذبك الله بعدها ، قال : ثم التفت إلي فقال : سمعت أبا بكر الصديق يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من يعمل سوءا في الدنيا يجز به» ورواه أبو بكر البزار في مسنده عن الفضل بن سهل ، عن عبد الوهاب بن عطاء به مختصرا ، وقال في مسند ابن الزبير : حدثنا إبراهيم بن المستمر العروقي ، حدثنا عبد الرحمن بن سليم بن حيان ، حدثني أبي عن جدي حيان بن بسطام ، قال : كنت مع ابن عمر فمر بعبد الله بن الزبير وهو مصلوب ، فقال : رحمة الله عليك أبا خبيب ، سمعت أباك يعني الزبير ، يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من يعمل سوءا يجز به في الدنيا والآخرة» ثم قال : لا نعلمه يروى عن الزبير إلا من هذا الوجه.

وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا أحمد بن كامل ، حدثنا محمد بن سعد العوفي ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا موسى بن عبيدة ، حدثني مولى بن سباع ، قال : سمعت ابن عمر يحدث عن أبي بكر الصديق قال : كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أبا بكر ألا أقرئك آية أنزلت علي؟» قلت : بلى يا رسول الله. قال : فاقرأنيها فلا أعلم إلا أني قد وجدت انفصاما في ظهري حتى تمطيت لها. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مالك يا أبا بكر؟» قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، وأينا لم يعمل السوء وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون ، فإنكم تجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ليس لكم

__________________

(١) اللأواء : المشقة والشدة.

(٢) مسند أحمد ١ / ٦.

٣٧٠

ذنوب ، وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة» ، وكذا رواه الترمذي عن يحيى بن موسى وعبد بن حميد عن روح بن عبادة به. ثم قال : وموسى بن عبيدة يضعف ، ومولى بن سباع مجهول. وقال ابن جرير (١) : حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج قال : أخبرني عطاء بن أبي رباح قال : لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر : جاءت قاصمة الظهر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما هي المصيبات في الدنيا».

طريق أخرى عن الصديق : قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إسحاق العسكري ، حدثنا محمد بن عامر السعدي ، حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا فضيل بن عياض عن سلمان بن مهران ، عن مسلم بن صبيح ، عن مسروق ، قال : قال أبو بكر الصديق : يا رسول الله ، ما أشد هذه الآية (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ؟) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المصائب والأمراض والأحزان في الدنيا جزاء».

طريق أخرى : قال ابن جرير (٢) : حدثني عبد الله بن أبي زياد وأحمد بن منصور ، قالا : أنبأنا زيد بن الحباب ، حدثنا عبد الملك بن الحسن المحاربي ، حدثنا محمد بن زيد بن قنفذ عن عائشة ، عن أبي بكر قال : لما نزلت (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) قال أبو بكر : يا رسول الله ، كل ما نعمل نؤاخذ به؟ فقال : «يا أبا بكر أليس يصيبك كذا وكذا ، فهو كفارة».

حديث آخر : قال سعيد بن منصور : أنبأنا عبد الله بن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه أن يزيد بن أبي يزيد حدثه عن عبيد بن عمير ، عن عائشة أن رجلا تلا هذه الآية (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) فقال : إنا لنجزي بكل ما عملناه ، هلكنا إذا ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «نعم يجزى به المؤمن في الدنيا في نفسه في جسده فيما يؤذيه».

طريق أخرى : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سلمة بن بشير ، حدثنا هشيم عن أبي عامر ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله ، إني لأعلم أشد آية في القرآن ، فقال : «ما هي يا عائشة؟» قلت : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) ، فقال : «هو ما يصيب العبد المؤمن حتى النكبة ينكبها» ورواه ابن جرير من حديث هشيم به. ورواه أبو داود من حديث أبي عامر صالح بن رستم الخزاز به (٣).

طريق أخرى : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد ، عن أمية أنها سألت عائشة عن هذه الآية (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) ، فقالت : ما سألني أحد عن هذه الآية منذ سألت عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «يا عائشة هذه مبايعة الله للعبد

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٢٩٤.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٢٩٣.

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٢٩١ وسنن أبي داود (جنائز باب ١)

٣٧١

مما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة حتى البضاعة يضعها في كمه ، فيفزع لها ، فيجدها في جيبه حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه ، كما أن الذهب يخرج من الكير».

طريق أخرى : قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا أبو القاسم ، حدثنا سريج بن يونس ، حدثنا أبو معاوية عن محمد بن إسماعيل ، عن محمد بن زيد بن المهاجر ، عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه الآية (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) ، قال : «إن المؤمن يؤجر في كل شيء حتى في القبض عند الموت» وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسين عن زائدة ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن عائشة قالت : قال : رسول الله : إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ، ابتلاه الله بالحزن ليكفرها عنه.

حديث آخر : قال سعيد بن منصور ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمر بن عبد الرحمن بن محيصن ، سمع محمد بن قيس بن مخرمة يخبر أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : لما نزلت (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) شق ذلك على المسلمين ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سددوا وقاربوا ، فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها» ، هكذا رواه أحمد (٢) عن سفيان بن عيينة ، ومسلم والترمذي والنسائي من حديث سفيان بن عيينة به ، ورواه ابن مردويه من حديث روح ومعتمر ، كلاهما عن إبراهيم بن يزيد ، عن عبد الله بن إبراهيم ، سمعت أبا هريرة يقول : لما نزلت هذه الآية (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) بكينا وحزنا ، وقلنا : يا رسول الله ما أبقت هذه الآية من شيء ، قال : «أما والذي نفسي بيده إنها لكما أنزلت ، ولكن أبشروا وقاربوا وسددوا ، فإنه لا يصيب أحدا منكم مصيبة في الدنيا إلا كفر الله بها من خطيئته حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه» وقال عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد وأبي هريرة : أنهما سمعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر الله من سيئاته» أخرجاه.

حديث آخر : قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا يحيى عن سعد بن إسحاق ، حدثتني زينب بنت كعب بن عجرة عن أبي سعيد الخدري ، قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا ، ما لنا بها؟ قال : كفارات. قال أبي : وإن قلت قال : حتى الشوكة فما فوقها ، قال : فدعا أبي على نفسه أنه لا يفارقه الوعك حتى يموت في أن لا يشغله عن حج ولا عمرة ولا جهاد في سبيل الله ولا صلاة مكتوبة في جماعة ، فما مسه إنسان إلا وجد حره حتى مات رضي الله عنه ، تفرد به أحمد.

__________________

(١) مسند أحمد ٦ / ١٥٧.

(٢) مسند أحمد ٢ / ٢٤٨.

(٣) مسند أحمد ٣ / ٢٣.

٣٧٢

حديث أخر : روى ابن مردويه من طريق حسين بن واقد عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، قال : قيل : يا رسول الله (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) ، قال : «نعم ومن يعمل حسنة يجز بها عشرا» فهلك من غلب واحدته عشراته. وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) قال : الكافر ، ثم قرأ (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ : ١٧] ، وهكذا روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أنهما فسرا السوء هاهنا بالشرك أيضا.

وقوله : (وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : إلا أن يتوب فيتوب الله عليه ، رواه ابن أبي حاتم ، والصحيح أن ذلك عام في جميع الأعمال لما تقدم من الأحاديث ، وهذا اختيار ابن جرير ، والله أعلم.

وقوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) الآية ، لما ذكر الجزاء على السيئات وأنه لا بد أن يأخذ مستحقها من العبد إما في الدنيا وهو الأجود له ، وإما في الآخرة والعياذ بالله من ذلك ، ونسأله العافية في الدنيا والآخرة ، والصفح والعفو والمسامحة ، شرع في بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده ، ذكرانهم وإناثهم بشرط الإيمان ، وأنه سيدخلهم الجنة ولا يظلمهم من حسناتهم ولا مقدار النقير ، وهو النقرة التي في ظهر نواة التمرة وقد تقدم الكلام على الفتيل وهو الخيط في شق النواة ، وهذا النقير وهما في نواة التمرة ، وكذا القطمير وهو اللفافة التي على نواة التمرة ، والثلاثة في القرآن.

ثم قال تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أخلص العمل لربه عزوجل فعمل إيمانا واحتسابا ، (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي اتبع في عمله ما شرعه الله له ، وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق ، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما ، أي يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله ، والصواب أن يكون متابعا للشريعة فيصح ظاهره بالمتابعة ، وباطنه بالإخلاص ، فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد ، فمتى فقد الإخلاص كان منافقا وهم الذين يراءون الناس ، ومن فقد المتابعة كان ضالا جاهلا ، ومتى جمعهما كان عمل المؤمنين الذين يتقبل (عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) ويتجاوز (عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) [الأحقاف : ١٦] ، ولهذا قال تعالى : (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) وهم محمد وأتباعه إلى يوم القيامة. كما قال تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُ) [آل عمران : ٦٨] ، وقال تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل : ١٢٣] والحنيف هو المائل عن الشرك قصدا ، أي تاركا له عن بصيرة ، ومقبل على الحق بكليته لا يصده عنه صاد ، ولا يرده عنه راد.

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٢٩١.

٣٧٣

وقوله : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) وهذا من باب الترغيب في اتباعه ، لأنه إمام يقتدى به حيث وصل إلى غاية ما يتقرب به العباد له ، فإنه انتهى إلى درجة الخلة التي هي أرفع مقامات المحبة ، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه ، كما وصفه به في قوله : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم : ٣٧] ، قال كثير من علماء السلف : أي قام بجميع ما أمر به في كل مقام من مقامات العبادة ، فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير ، ولا كبير عن صغير وقال تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) [البقرة : ١٢٤]. وقال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل : ١٢٠] ، والآية بعدها ، وقال البخاري (١) : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن عمرو بن ميمون ، قال : إن معاذا لما قدم اليمن صلى بهم الصبح ، فقرأ (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) فقال رجل من القوم : لقد قرت عين أم إبراهيم.

وقد ذكر ابن جرير (٢) في تفسيره عن بعضهم : أنه إنما سماه الله خليلا من أجل أنه أصاب أهل ناحيته جدب ، فارتحل إلى خليل له من أهل الموصل ، وقال بعضهم من أهل مصر ، ليمتار طعاما لأهله من قبله فلم يصب عنده حاجته ، فلما قرب من أهله قرّ بمفازة ذات رمل ، فقال : لو ملأت غرائري من هذا الرمل لئلا يغتم أهلي برجوعي إليهم بغير ميرة ، وليظنوا أني أتيتهم بما يحبون ، ففعل ذلك فتحول ما في الغرائر من الرمل دقيقا ، فلما صار إلى منزله نام ، وقام أهله ففتحوا الغرائر فوجدوا دقيقا فعجنوا منه وخبزوا ، فاستيقظ فسألهم عن الدقيق الذي خبزوا ، فقالوا : من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك ، فقال : نعم هو من عند خليلي الله ، فسماه الله خليلا.

وفي صحة هذا ووقوعه نظر ، وغايته أن يكون خبرا إسرائيليا لا يصدق ولا يكذب ، وإنما سمي خليل الله لشدة محبة ربه عزوجل له لما قام به من الطاعة التي يحبها ويرضاها ، ولهذا ثبت في الصحيحين من رواية أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خطبهم في آخر خطبة خطبها ، قال : «أما بعد ، أيها الناس فلو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا ، لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلا ، ولكن صاحبكم خليل الله» وجاء من طريق جندب بن عبد الله البجلي وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن مسعود عن النبي قال : «إن الله اتخذني خليلا ، كما اتخذ إبراهيم خليلا» وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم ، حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيد ، حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني بمكة ، حدثنا عبد الله الحنفي ، حدثنا زمعة أبو صالح عن سلمة بن وهران ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : جلس

__________________

(١) صحيح البخاري (مغازي باب ٦٠)

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٢٩٧.

٣٧٤

ناس من أصحاب رسول الله ينتظرونه ، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم ، وإذا بعضهم يقول : عجب ، إن الله اتخذ من خلقه خليلا فإبراهيم خليله ، وقال آخر : ما ذا بأعجب من أن الله كلم موسى تكليما ، وقال آخر : فعيسى روح الله وكلمته ، وقال آخر : آدم اصطفاه الله ، فخرج عليهم فسلم ، وقال : «قد سمعت كلامكم وتعجبكم أن إبراهيم خليل الله ، وهو كذلك ، وموسى كليمه ، وعيسى روحه وكلمته ، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك ، وكذلك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ألا وإني حبيب الله ، ولا فخر وأنا أول شافع وأول مشفع ، ولا فخر وأنا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح الله ويدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ، ولا فخر ، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر» وهذا حديث غريب من هذا الوجه ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها ،

وقال قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : أتعجبون من أن تكون الخلة لإبراهيم ، والكلام لموسى ، والرؤية لمحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، رواه الحاكم في المستدرك ، وقال : صحيح على شرط البخاري ، ولم يخرجاه ، وكذا روي عن أنس بن مالك وغير واحد من الصحابة والتابعين والأئمة من السلف والخلف وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يحيى بن عبدك القزويني ، حدثنا محمد يعني سعيد بن سابق ، حدثنا عمرو يعني ابن أبي قيس عن عاصم عن أبي راشد ، عن عبيد بن عمير ، قال : كان إبراهيم عليه‌السلام يضيف الناس ، فخرج يوما يلتمس أحدا يضيفه فلم يجد أحدا يضيفه ، فرجع إلى داره فوجد فيها رجلا قائما ، فقال : يا عبد الله ما أدخلك داري بغير إذني؟ قال : دخلتها بإذن ربها ، قال : ومن أنت؟ قال : أنا ملك الموت أرسلني ربي إلى عبد من عباده ، أبشره بأن الله قد اتخذه خليلا ، قال : من هو؟ فو الله إن أخبرتني به ، ثم كان بأقصى البلاد لاتينه ، ثم لا أبرح له جارا حتى يفرق بيننا الموت ، قال : ذلك العبد أنت. قال : أنا؟ قال : نعم ، قال فيم اتخذني ربي خليلا؟ قال : إنك تعطي الناس ولا تسألهم.

وحدثنا أبي ، حدثنا محمود بن خالد السلمي ، حدثنا الوليد عن إسحاق بن يسار ، قال : لما اتخذ الله إبراهيم خليلا ألقى في قلبه الوجل حتى أن خفقان قلبه ليسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء.

وهكذا جاء في صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل إذا اشتد غليانها من البكاء (١).

وقوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي الجميع ملكه وعبيده وخلقه وهو

__________________

(١) رواه أحمد في المسند ٤ / ٢٥ ، من حديث مطرف بن عبد الله عن أبيه أنه رأى رسول الله على الهيئة المذكورة.

٣٧٥

المتصرف في جميع ذلك ، لا راد لما قضى ، ولا معقّب لما حكم ، ولا يسأل عما يفعل لعظمته وقدرته وعدله وحكمته ولطفه ورحمته. وقوله : (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) أي علمه نافذ في جميع ذلك لا تخفى عليه خافية من عباده ، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، ولا تخفى عليه ذرة لما تراءى للناظرين وما توارى.

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) (١٢٧)

قال البخاري (١) : حدثنا عبيد بن إسماعيل ، حدثنا أبو أسامة قال : حدثنا هشام بن عروة عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ ـ إلى قوله ـ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) قالت عائشة : هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها ، فأشركته في ماله حتى في العذق ، فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته ، فيعضلها (٢) ، فنزلت هذه الآية ، وكذلك رواه مسلم (٣) عن أبي كريب ، وعن أبي بكر بن أبي شيبة ، كلاهما عن أسامة ، وقال ابن أبي حاتم : قرأت على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس عن ابن شهاب ، أخبرني عروة بن الزبير ، قالت عائشة : ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذه الآية فيهن ، فأنزل الله (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) الآية ، قال : والذي ذكر الله أنه يتلى عليه في الكتاب ، الآية الأولى التي قال الله (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣] وبهذا الإسناد عن عائشة قالت : وقول الله عزوجل : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال ، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن.

وأصله ثابت في الصحيحين من طريق يونس بن يزيد الأيلي به والمقصود أن الرجل إذا كان في حجره يتيمة يحل له تزويجها ، فتارة يرغب في أن يتزوجها ، فأمره الله أن يمهرها أسوة بأمثالها من النساء ، فإن لم يفعل فليعدل إلى غيرها من النساء ، فقد وسع الله عزوجل ، وهذا المعنى في الآية الأولى التي في أول السورة ، وتارة لا يكون له فيها رغبة لدمامتها عنده أو في

__________________

(١) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب ٢٠)

(٢) أي يمنعها الزواج.

(٣) صحيح مسلم (تفسير حديث ٧)

٣٧٦

نفس الأمر ، فنهاه الله عزوجل أن يعضلها عن الأزواج خشية أن يشركوه في ماله الذي بينه وبينها ، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية ، وهي قوله : (فِي يَتامَى النِّساءِ) الآية ، كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه ، فإذا فعل ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبدا فإن كانت جميلة وهويها ، تزوجها وأكل مالها ، وإن كانت دميمة منعها الرجال أبدا حتى تموت ، فإذا ماتت ورثها فحرم الله ذلك ونهى عنه. وقال في قوله : (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات ، وذلك قوله : (لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ) فنهى الله عن ذلك وبين لكل ذي سهم سهمه ، فقال : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء : ١١ و ١٧٦] صغيرا أو كبيرا ، وكذا قال سعيد بن جبير وغيره وقال سعيد بن جبير في قوله : (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) كما إذا كانت ذات جمال ومال نكحتها واستأثرت بها ، كذلك إذا لم تكن ذات مال ولا جمال فانكحها واستأثر بها. وقوله : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) تهييجا على فعل الخيرات وامتثالا للأوامر ، وإن الله عزوجل عالم بجميع ذلك ، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه.

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً) (١٣٠)

يقول تعالى مخبرا ومشرعا من حال الزوجين تارة في حال نفور الرجل عن المرأة ، وتارة في حال اتفاقه معها ، وتارة في حال فراقه لها ، فالحالة الأولى ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها أو يعرض عنها ، فلها أن تسقط عنه حقها أو بعضه من نفقة أو كسوة أو مبيت أو غير ذلك من حقها عليه ، وله أن يقبل ذلك منها فلا حرج عليها في بذلها ذلك له ، ولا عليه في قبوله منها ، ولهذا قال تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) ، ثم قال : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) أي من الفراق ، وقوله : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) أي الصلح عند المشاحة خير من الفراق ، ولهذا لما كبرت سودة بنت زمعة عزم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على فراقها فصالحته على أن يمسكها وتترك يومها لعائشة ، فقبل ذلك منها وأبقاها على ذلك.

ذكر الرواية بذلك : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا سليمان بن معاذ عن سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله ، لا تطلقني واجعل يومي لعائشة ففعل ، ونزلت هذه الآية (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) الآية. قال ابن عباس فما اصطلحا عليه من شيء فهو

٣٧٧

جائز. ورواه الترمذي عن محمد بن المثنى ، عن أبي داود الطيالسي به ، وقال : حسن غريب. قال الشافعي : أخبرنا مسلم عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم توفي عن تسع نسوة وكان يقسم لثمان. وفي الصحيحين من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : لما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة ، فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم لها بيوم سودة. وفي صحيح البخاري من حديث الزهري عن عروة عن عائشة نحوه (١).

وقال سعيد بن منصور : أنبأنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام ، عن أبيه عروة ، قال : أنزل الله في سودة وأشباهها (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) وذلك أن سودة كانت امرأة قد أسنت ، ففزعت أن يفارقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضنت بمكانها منه ، وعرفت من حب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عائشة ومنزلتها منه ، فوهبت يومها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة ، فقبل ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال البيهقي وقد رواه أحمد بن يونس عن الحسن بن أبي الزناد موصولا ، وهذه الطريقة رواها الحاكم في مستدركة فقال : حدثنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه ، أخبرنا الحسن بن على بن زياد ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أنها قالت له : يا ابن أختي ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في مكثه عندنا ، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى من هو يومها فيبيت عندها ، ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت وفزعت أن يفارقها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يا رسول الله ، يومي هذا لعائشة ، فقبل ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالت عائشة : ففي ذلك أنزل الله (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) وكذلك رواه أبو داود عن أحمد بن يونس به ، والحاكم في مستدركه ، ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه. وقد رواه ابن مردويه من طريق أبي بلال الأشعري عن عبد الرحمن بن أبي الزناد به نحوه ومن رواية عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن هشام بن عروة بنحو مختصرا ، والله أعلم.

وقال أبو العباس محمد بن عبد الرحمن الدغولي (٢) في أول معجمه : حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا مسلم بن إبراهيم. حدثنا هشام الدستوائي ، حدثنا القاسم بن أبي بزة ، قال : بعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سودة بنت زمعة بطلاقها ، فلما أن أتاها جلست له على طريق عائشة ، فلما رأته قالت له : أنشدك بالذي أنزل عليك كلامه واصطفاك على خلقه لما راجعتني ، فإني قد كبرت ولا حاجة لي في الرجال ، لكن أريد أن أبعث مع نسائك يوم القيامة ، فراجعها فقالت : فإني جعلت يومي وليلتي لحبة (٣) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا غريب مرسل. وقال البخاري : حدثنا محمد بن مقاتل ، أنبأنا عبد الله ، أنبأنا هشام بن عروة عن أبيه ، عن عائشة (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ

__________________

(١) صحيح البخاري (نكاح باب ٩٨)

(٢) توفي سنة ٣٢٥. له معجم في الحديث ورجاله.

(٣) الحبة : المحبوبة.

٣٧٨

مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) قال : الرجل تكون عنده المرأة المسنة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول : أجعلك من شأني في حل ، فنزلت هذه الآية.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا أبي عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) قالت : هذا في المرأة تكون عند الرجل ، فلعله لا يكون بمستكثر منها ، ولا يكون لها ولد ويكون لها صحبة فتقول : لا تطلقني وأنت في حل من شأني. حدثني (٢) المثنى ، حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا حماد بن سلمة عن هشام ، عن عروة ، عن عائشة ، في قوله : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) قالت : هو الرجل يكون له امرأتان : إحداهما قد كبرت ، أو هي دميمة ، وهو لا يستكثر منها فتقول : لا تطلقني وأنت في حل من شأني ، وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من غير وجه عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة (٣) ، بنحو ما تقدم ، ولله الحمد والمنة.

قال ابن جرير (٤) : حدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير عن أشعث عن ابن سيرين قال : جاء رجل الى عمر بن الخطاب فسأله عن آية ، فكره ذلك فضربه بالدرة ، فسأله آخر عن هذه الآية (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) فقال عن مثل هذا فاسألوا ، ثم قال : هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها ، فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها ، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين الهسنجاني ، حدثنا مسدد ، حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب ، عن خالد بن عرعرة ، قال : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب ، فسأله عن قول الله عزوجل (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) ، قال علي : يكون الرجل عنده المرأة فتنبو عيناه عنها من دمامتها أو كبرها ، أو سوء خلقها ، أو قذذها فتكره فراقه ، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له ، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج.

وكذا رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن حماد بن سلمة وأبي الأحوص ، ورواه ابن جرير من طريق إسرائيل ، أربعتهم عن سماك به. وكذا فسرها ابن عباس وعبيدة السلماني ومجاهد بن جبير والشعبي وسعيد بن جبير وعطاء وعطية العوفي ومكحول والحسن والحكم بن عتيبة وقتادة وغير واحد من السلف والأئمة ، ولا أعلم في ذلك خلافا أن المراد بهذه الآية هذا ، والله أعلم.

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٣٠٦.

(٢) إسناد آخر من رواية ابن جرير ٤ / ٣٠٦.

(٣) صحيح مسلم (تفسير حديث ١٤)

(٤) تفسير الطبري ٤ / ٣٠٥.

٣٧٩

وقال الشافعي : أنبأنا ابن عيينة عن الزهري ، عن ابن المسيب أن بنت محمد بن مسلم كانت عند رافع بن خديج ، فكره منها أمرا إما كبرا أو غيره ، فأراد طلاقها فقالت : لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك ، فأنزل الله عزوجل (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) الآية ، وقد رواه الحاكم في مستدركه من طريق عبد الرزاق عن معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار بأطول من هذا السياق.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : حدثنا سعيد بن أبي عمرو ، حدثنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني ، أنبأنا علي بن محمد بن عيسى ، أنبأنا أبو اليمان ، أخبرني شعيب بن أبي حمزة عن الزهري ، أخبرني سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن السنة في هاتين الآيتين اللتين ذكر الله فيهما نشوز الرجل وإعراضه عن امرأته في قوله : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) إلى تمام الآيتين ، أن المرء إذا نشز عن امرأته وآثر عليها ، فإن من الحق أن يعرض عليها أن يطلقها أو تستقر عنده على ما كانت من أثرة في القسم من ماله ونفسه صلح له ذلك وكان صلحها عليه. كذلك ذكر سعيد بن المسيب وسليمان الصلح الذي قال الله عزوجل (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) وقد ذكر لي أن رافع بن خديج الأنصاري وكان من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت عنده امرأة حتى إذا كبرت تزوج عليها فتاتة شابة ، وآثر عليها الشابة ، فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة ، ثم أمهلها حتى إذا كادت تحل راجعها ، ثم عاد فآثر عليها الشابة فناشدته الطلاق ، فقال لها : ما شئت ، إنما بقيت لك تطليقة واحدة ، فإن شئت استقررت على ما ترين من الأثرة ، وإن شئت فارقتك ، فقالت : لا بل أستقر على الأثرة فأمسكها على ذلك ، فكان ذلك صلحهما ولم ير رافع عليه إثما حين رضيت أن تستقر عنده على الأثرة فيما آثر به عليها ، وهكذا رواه بتمامة عبد الرحمن بن أبي حاتم عن أبيه عن أبي اليمان ، عن شعيب ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار فذكره بطوله ، والله أعلم.

وقوله : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني التخيير أن يخير الزوج لها بين الإقامة والفراق خير من تمادي الزوج على أثرة غيرها عليها ، والظاهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج وقبول الزوج ذلك خير من المفارقة بالكلية ، كما أمسك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سودة بنت زمعة على أن تركت يومها لعائشة رضي الله عنها ولم يفارقها ، بل تركها من جملة نسائه وفعله ذلك للتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه ، فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام ، ولما كان الوفاق أحب الى الله من الفراق. قال : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) بل الطلاق بغيض إليه سبحانه وتعالى ، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجة ، جميعا عن كثير بن عبيد ، عن محمد بن خالد ، عن معروف بن واصل ، عن محارب بن دثار ، عن عبد الله بن عمر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبغض الحلال إلى الله

٣٨٠