تفسير القرآن العظيم - ج ٢

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٠

وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ) وخلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن أم مكتوم ، فقال يا رسول الله ، أنا ضرير ، فنزلت مكانها (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) قال البخاري أيضا : حدثنا إسماعيل بن عبد الله ، حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب ، حدثني سهل بن سعد الساعدي أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد ، قال : فأقبلت حتى جلست إلى جنبه ، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أملى علي (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ... (وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها علي ، قال : يا رسول الله ، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، وكان أعمى ، فأنزل الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان فخذه على فخذي فثقلت علي خفت أن ترض فخدي ، ثم سري عنه ، فأنزل الله (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) ـ تفرد به البخاري دون مسلم.

وقد روي من وجه آخر عند الإمام أحمد (١) عن زيد فقال : حدثنا سليمان بن داود ، أنبأنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد ، قال : قال زيد بن ثابت : إني قاعد إلى جنب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ أوحي إليه وغشيته السكينة ، قال : فرفع فخذه على فخذي حين غشيته السكينة ، قال زيد : فلا والله ما وجدت شيئا قط أثقل من فخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم سري عنه ، فقال : اكتب يا زيد ، فأخذت كتفا ، فقال : اكتب (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجاهِدُونَ) إلى قوله : (أَجْراً عَظِيماً) فكتبت ذلك في كتف ، فقام حين سمعها ابن أم مكتوم وكان رجلا أعمى ، فقام حين سمع فضيلة المجاهدين ، وقال : يا رسول الله ، وكيف بمن لا يستطيع الجهاد ومن هو أعمى وأشباه ذلك؟ قال زيد : فو الله ما قضى كلامه ـ أو ما هو إلا أن قضى كلامه ـ غشيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم السكينة ، فوقعت فخذه على فخذي ، فوجدت من ثقلها كما وجدت في المرة الأولى ، ثم سري عنه ، فقال : اقرأ فقرأت عليه (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ... (وَالْمُجاهِدُونَ) فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) ، قال زيد : فألحقتها ، فو الله كأني أنظر إلى ملحقها عند صدع كان في الكتف ، ورواه أبو داود عن سعيد بن منصور ، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبيه ، به نحوه.

وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، أنبأنا الزهري ، عن قبيصة بن ذؤيب ، عن زيد بن ثابت قال : كنت أكتب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «اكتب (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) فجاء عبد الله ابن أم مكتوم ، فقال : يا رسول الله ، إني أحب الجهاد في سبيل الله ولكن بي من الزمانة ما قد ترى ، قد ذهب بصري ، قال زيد : فثقلت فخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على فخذي حتى خشيت أن ترضها ثم سري عنه ، ثم قال : اكتب (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) ، ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير (٢) وقال

__________________

(١) مسند أحمد ٥ / ١٩١.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٢٣١.

٣٤١

عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج ، أخبرني عبد الكريم هو ابن مالك الجزري ، أن مقسما مولى عبد الله بن الحارث أخبره أن ابن عباس أخبره (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) عن بدر والخارجون إلى بدر ، انفرد به البخاري (١) دون مسلم ، وقد رواه الترمذي من طريق حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الكريم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) عن بدر والخارجون إلى بدر ، ولما نزلت غزوة بدر ، قال عبد الله بن جحش وابن أم مكتوم : إنا أعميان يا رسول الله ، فهل لنا رخصة؟ فنزلت (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) وفضل الله المجاهدين على القاعدين درجة فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر ، (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ) على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر ، هذا لفظ الترمذي. ثم قال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

فقوله : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) كان مطلقا ، فلما نزل بوحي سريع (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) ، صار ذلك مخرجا لذوي الأعذار المبيحة لترك الجهاد من العمى والعرج والمرض ، عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. ثم أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين على القاعدين ، قال ابن عباس : (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) ، وكذا ينبغي أن يكون ، كما ثبت في صحيح البخاري من طريق زهير بن معاوية ، عن حميد ، عن أنس ، أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه ، قالوا : وهم بالمدينة يا رسول الله؟ قال : نعم حبسهم العذر» (٢) ، وهكذا رواه أحمد (٣) عن محمد بن أبي عدي ، عن حميد ، عن أنس به ، وعلقه البخاري مجزوما ، ورواه أبو داود (٤) عن حماد بن سلمة عن حميد ، عن موسى بن أنس بن مالك ، عن أبيه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه» ، قالوا : وكيف يكونون معنا فيه يا رسول الله؟ قال : «نعم حبسهم العذر» لفظ أبي داود ، وفي هذا المعنى قال الشاعر : [البسيط]

يا راحلين إلى البيت العتيق لقد

سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا

إنا أقمنا على عذر وعن قدر

ومن أقام على عذر فقد راحا

وقوله : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أي الجنة والجزاء الجزيل. وفيه دلالة على أن الجهاد ليس بفرض عين ، بل هو فرض على الكفاية. قال تعالى : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى

__________________

(١) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب ١٦)

(٢) صحيح البخاري (جهاد باب ٣٥)

(٣) مسند أحمد ٣ / ١٠٣.

(٤) سنن أبي داود (جهاد باب ١٩)

٣٤٢

الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) ثم أخبر سبحانه بما فضلهم به من الدرجات ، في غرف الجنان العاليات ، ومغفرة الذنوب والزلات ، وحلول الرحمة والبركات ، إحسانا منه وتكريما ، ولهذا قال : (دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، ما بين كل درجتين كما بين السماء الأرض» (١). وقال الأعمش عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رمى بسهم فله أجره درجة» فقال رجل : يا رسول الله ، وما الدرجة؟ فقال : «أما إنها ليست بعتبة أمك. ما بين الدرجتين مائة عام» (٢).

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً(٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١٠٠)

قال البخاري (٣) : حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا حيوة وغيره ، قالا : حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود ، قال : قطع على أهل المدينة بعث ، فاكتتبت فيه ، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته ، فنهاني عن ذلك أشد النهي ، قال : أخبرني ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم ، فيقتله أو يضرب عنقه فيقتل ، فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) ، رواه الليث عن أبي الأسود.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا أبو أحمد يعني الزبيري ، حدثنا محمد بن شريك المكي ، حدثنا عمرو بن دينار عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم ، فأصيب بعضهم بفعل بعض. قال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم ، فنزلت (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) الآية.

قال عكرمة : فكتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الآية لا عذر لهم. قال : فخرجوا ، فلحقهم المشركون ، فأعطوهم التقية ، فنزلت هذه الآية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ)

__________________

(١) صحيح مسلم (إمارة حديث ١١٦)

(٢) سنن النسائي (جهاد باب ٢٦) ومسند أحمد ٤ / ٢٣٥.

(٣) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب ١٧)

٣٤٣

[البقرة : ٨] الآية. قال عكرمة : نزلت هذه الآية في شباب من قريش كانوا تكلموا بالإسلام بمكة منهم علي بن أمية بن خلف وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو العاص بن منبّه بن الحجاج والحارث بن زمعة ، قال الضحاك : نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة وخرجوا مع المشركين يوم بدر فأصيبوا فيمن أصيب ، فنزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين ، وهو قادر على الهجرة وليس متمكنا من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما بالإجماع ، وبنص هذه الآية ، حيث يقول تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) أي بترك الهجرة (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) أي لم مكثتم ها هنا وتركتم الهجرة (قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) أي لا نقدر على الخروج من البلد ، ولا الذهاب في الأرض (قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً) الآية.

وقال أبو داود (١) : حدثنا محمد بن داود بن سفيان ، حدثني يحيى بن حسان ، أخبرنا سليمان بن موسى أبو داود ، حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب ، حدثني خبيب بن سليمان عن أبيه سليمان بن سمرة ، عن سمرة بن جندب ، أما بعد ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله» ، وقال السدي : لما أسر العباس وعقيل ونوفل قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعباس : «افد نفسك وابن أخيك» فقال : يا رسول الله ، ألم نصل إلى قبلتك ، ونشهد شهادتك ، قال «يا عباس ، إنكم خاصمتم فخصمتم» ، ثم تلا عليه هذه الآية (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً) الآية ، ورواه ابن أبي حاتم.

وقوله : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ) إلى آخر الآية ، هذه عذر من الله لهؤلاء في ترك الهجرة ، وذلك أنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين ، ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق ، ولهذا قال : (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) ، قال مجاهد وعكرمة والسدي : يعني طريقا.

وقوله تعالى : (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) أي يتجاوز من الله عنهم بترك الهجرة ، عسى من الله موجبة ، (وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) ، قال البخاري (٢) : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا شيبان عن يحيى ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي العشاء إذ قال : سمع الله لمن حمده ، ثم قال قبل أن يسجد «اللهم نجّ عياش بن أبي ربيعة ، اللهم نجّ سلمة بن هشام ، اللهم نجّ الوليد بن الوليد ، اللهم نجّ المستضعفين من المؤمنين ، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف».

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو معمر المقري ، حدثني عبد الوارث ، حدثنا

__________________

(١) سنن أبي داود (جهاد باب ١٧٠)

(٢) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب ١٨)

٣٤٤

علي بن زيد عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رفع يده بعد ما سلم وهو مستقبل القبلة ، فقال : «اللهم خلص الوليد بن الوليد ، وعياش بن أبي ربيعة ، وسلمة بن هشام ، وضعفة المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا من أيدي الكفار».

وقال ابن جرير (١) : حدثنا المثنى ، حدثنا حجاج ، حدثنا حماد عن علي بن زيد عن عبد الله أو إبراهيم بن عبد الله القرشي ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو في دبر صلاة الظهر «اللهم خلص الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة وضعفة المسلمين من أيدي المشركين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا».

ولهذا الحديث شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه كما تقدم. وقال عبد الرزاق : أنبأنا ابن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد ، قال : سمعت ابن عباس يقول : كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان. وقال البخاري (٢) : أنبأنا أبو النعمان ، حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي مليكة ، عن ابن عباس (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ) قال : كنت أنا وأمي ممن عذر اللهعزوجل.

وقوله : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) ، هذا تحريض على الهجرة وترغيب في مفارقة المشركين وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه ، والمراغم مصدر تقول العرب : راغم فلان قومه مراغما ومراغمة ، قال النابغة بن جعدة : [المتقارب]

كطود يلاذ بأركانه

عزيز المراغم والمهرب (٣)

وقال ابن عباس : المراغم التحول من أرض إلى أرض. وكذا روي عن الضحاك والربيع بن أنس والثوري. وقال مجاهد : (مُراغَماً كَثِيراً) يعني متزحزحا عما يكره. وقال سفيان بن عيينة : مراغما كثيرا يعني بروجا ، والظاهر ـ والله أعلم ـ أنه المنع الذي يتحصّن به ويراغم به الأعداء. قوله (وَسَعَةً) يعني الرزق ، قاله غير واحد منهم قتادة حيث قال : في قوله : (يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) أي من الضلالة إلى الهدى ، ومن القلة إلى الغنى.

وقوله : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي ومن يخرج من منزله بنية الهجرة فمات في أثناء الطريق فقد حصل له عند الله ثواب من هاجر ، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من الصحاح والمسانيد والسنن من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن علقمة بن وقاص الليثي ، عن

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٢٣٨.

(٢) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب ١٧)

(٣) البيت في ديوانه ص ٢٣٣ ولسان العرب (رغم) ومقاييس اللغة ٢ / ٤٠٤ ومجمل اللغة ٢ / ٣٩٧ وكتاب العين ٤ / ٤١٨ وتفسير الطبري ٤ / ٢٣٩.

٣٤٥

عمر بن الخطاب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها ، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (١). وهذا عام في الهجرة وفي جميع الأعمال. ومنه الحديث الثابت في الصحيحين في الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا ، ثم أكمل بذلك العابد المائة ثم سأل عالما : هل له من توبة؟ فقال له ، ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد آخر يعبد الله فيه. فلما ارتحل من بلده مهاجرا إلى البلد الآخر أدركه الموت في أثناء الطريق ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فقال هؤلاء : إنه جاء تائبا ، وقال هؤلاء إنه لم يصل بعد ، فأمروا أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أقرب فهو منها ، فأمر الله هذه أن تقترب من هذه ، وهذه أن تبعد فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر ، فقبضته ملائكة الرحمة. وفي رواية أنه لما جاءه الموت ناء بصدره إلى الأرض التي هاجر إليها.

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم ، عن محمد بن عبد الله بن عتيك ، عن أبيه عبد الله بن عتيك ، قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من خرج من بيته مجاهدا في سبيل الله ، ثم قال (٣) : ـ وأين المجاهدون في سبيل الله ـ فخر عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله ، أو لدغته دابة فمات فقد وقع أجره على الله ، أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله» ـ يعني بحتف أنفه على فراشه ، والله إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومن قتل قعصا (٤) فقد استوجب الجنة».

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة الحزامي ، حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الخزامي ، عن المنذر بن عبد الله عن هشام بن عروة عن أبيه ، أن الزبير بن العوام قال : هاجر خالد بن حزام إلى أرض الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات فنزلت فيه (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ، قال الزبير ، فكنت أتوقعه وأنتظر قدومه وأنا بأرض الحبشة ، فما أحزنني شيء حزن وفاته حين بلغتني ، لأنه قل أحد ممن هاجر من قريش إلا ومعه

__________________

(١) صحيح البخاري (إيمان باب ٤١) وصحيح مسلم (إمارة حديث ١٥٥) ومسند أحمد ١ / ٢٥) من طريق عمر بن الخطاب.

(٢) مسند أحمد ٤ / ٣٦.

(٣) في المسند : «ثم قال بأصابعه هؤلاء الثلاث الوسطى والسبابة والإبهام فجمعهن وقال : وابن المجاهدون ...» إلخ.

(٤) في المسند : «ومن مات قصعا». وقعصه قعصا : طعنه بالرمح طعنا سريعا. وقتله مكانه.

٣٤٦

بعض أهله ، أو ذوي رحمه ، ولم يكن معي أحد من بني أسد بن عبد العزى ، ولا أرجو غيره.

وهذا الأثر غريب جدا ، فإن هذه القصة مكية ، ونزول هذه الآية مدينة ، فلعله أراد أنها أنزلت تعم حكمه مع غيره وإن لم يكن ذلك سبب النزول ، والله أعلم.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا سليمان بن داود مولى عبد الله بن جعفر ، حدثنا سهل بن عثمان ، حدثنا عبد الرحمن بن سليمان ، حدثنا أشعث هو ابن سوار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، قال : خرج ضمرة بن جندب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) الآية ، وحدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، أنبأنا إسرائيل عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي ضمرة بن العيص الزرقي الذي كان مصاب البصر وكان بمكة ، فلما نزلت (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) فقلت : إني لغني ، وإني لذو حيلة ، فتجهز يريد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأدركه الموت بالتنعيم ، فنزلت هذه الآية (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) الآية.

وقال الطبراني : حدثنا الحسن بن عروبة البصري ، حدثنا حيوة بن شريح الحمصي حدثنا بقية بن الوليد ، حدثنا ابن ثوبان عن أبيه ، حدثنا مكحول عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري ، أنبأنا أبو مالك ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله قال : من انتدب خارجا في سبيلي غازيا ابتغاء وجهي ، وتصديق وعدي ، وإيمانا برسلي فهو في ضمان على الله ، إما أن يتوفاه بالجيش فيدخله الجنة ، وإما أن يرجع في ضمان الله ، وإن طالب عبدا فنغصه حتى يرده إلى أهله مع ما نال من أجر ، أو غنيمة ، ونال من فضل الله فمات ، أو قتل ، أو رفصته فرسه ، أو بعيره ، أو لدغته هامة ، أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله ، فهو شهيد». وروى أبو داود من حديث بقية من فضل الله إلى آخره ، وزاد بعد قوله : فهو شهيد ، وإن له الجنة.

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا إبراهيم بن زياد سبلان ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا محمد بن إسحاق عن حميد بن أبي حميد ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من خرج حاجا فمات ، كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة ، ومن خرج معتمرا فمات ، كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة ، ومن خرج غازيا في سبيل الله فمات ، كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة». وهذا حديث غريب من هذا الوجه.

(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) (١٠١)

يقول تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي سافرتم في البلاد ، كما قال تعالى : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) [المزمل : ٢٠].

٣٤٧

وقوله : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) أي تخففوا فيها إما من كميتها بأن تجعل الرباعية ثنائية كما فهمه الجمهور من هذه الآية ، واستدلوا بها على قصر الصلاة في السفر على اختلافهم في ذلك ، فمن قائل : لا بد أن يكون سفر طاعة من جهاد ، أو حج ، أو عمرة ، أو طلب علم ، أو زيارة ، وغير ذلك ، كما هو مروي عن ابن عمر وعطاء ويحيى عن مالك في رواية عنه نحوه ، لظاهر قوله : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، ومن قائل : لا يشترط سفر القربة ، بل لا بد أن يكون مباحا ، لقوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) [المائدة : ٣] ، كما أباح له تناول الميتة مع الاضطرار بشرط أن لا يكون عاصيا بسفره ، وهذا قول الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة.

وقد قال أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله ، إني رجل تاجر أختلف إلى البحرين ، فأمره أن يصلي ركعتين ، وهذا مرسل ، ومن قائل : يكفي مطلق السفر سواء كان مباحا أو محظورا حتى لو خرج لقطع الطريق وإخافة السبيل ترخص لوجود مطلق السفر ، وهذا قول أبي حنيفة والثوري وداود لعموم الآية وخالفهم الجمهور.

وأما قوله تعالى : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فقد يكون هذا خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية ، فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة ، بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام ، أو في سرية خاصة. وسائر الأحيان حرب للإسلام وأهله ، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثة فلا مفهوم له ، كقوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) [النور : ٣٣] ، وكقوله تعالى : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ) [النساء : ٢٣] ، وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا ابن إدريس ، حدثنا ابن جريج عن ابن أبي عمار ، عن عبد الله بن بابيه ، عن يعلى بن أمية ، قال : سألت عمر بن الخطاب قلت له : قوله : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقد أمن الله الناس؟ فقال لي عمر رضي الله عنه : عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، فقال : «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته». وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث ابن جريج عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار به. وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. وقال علي بن المديني : هذا حديث حسن صحيح من حديث عمر ، ولا يحفظ إلا من هذا الوجه ورجاله معروفون.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا مالك بن مغول عن أبي حنظلة الحذاء ، قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر ، فقال : ركعتان ، فقلت : أين قوله : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٢٥ ـ ٢٦.

٣٤٨

الَّذِينَ كَفَرُوا) ونحن آمنون؟ فقال : سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن محمد بن عيسى ، حدثنا علي بن محمد بن سعيد : حدثنا منجاب ، حدثنا شريك عن قيس بن وهب ، عن أبي الوداك ، قال : سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر فقال : هي رخصة نزلت من السماء ، فإن شئتم فردوها.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا ابن عون عن ابن سيرين ، عن ابن عباس ، قال : صلينا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف بينهما ركعتين ركعتين. وهكذا رواه النسائي عن محمد بن عبد الأعلى ، عن خالد الحذاء ، عن عبد الله بن عون به. قال أبو عمر بن عبد البر : وهكذا رواه أيوب وهشام ويزيد بن إبراهيم التستري عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله قلت وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة ، عن هشيم ، عن منصور ، عن زاذان ، عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا رب العالمين ، فصلى ركعتين ، ثم قال الترمذي : صحيح ، وقال البخاري : حدثنا أبو معمر ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا يحيى بن أبي إسحاق ، قال : سمعت أنسا يقول : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة ، قلت أقمتم بمكة شيئا؟ قال : أقمنا بها عشرا. وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طرق عن يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي به.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن وهب الخزاعي ، قال : صليت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الظهر والعصر بمنى ـ أكثر ما كان الناس وآمنه ـ ركعتين. ورواه الجماعة سوى ابن ماجة من طرق عن أبي إسحاق السبيعي عنه به ، ولفظ البخاري : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، أنبأنا أبو إسحاق ، سمعت حارثة بن وهب ، قال : صلى بنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم آمن ما كان بمنى ركعتين ، وقال البخاري : حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، حدثنا عبيد الله ، أخبرني نافع عن عبد الله بن عمر ، قال : صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعتين ، وأبي بكر وعمر ومع عثمان صدرا من إمارته ، ثم أتمها ، وكذا رواه مسلم من حديث يحيى بن سعيد القطان به. وقال البخاري : حدثنا قتيبة ، حدثنا عبد الواحد عن الأعمش ، حدثنا إبراهيم سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول : صلى بنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بمنى أربع ركعات ، فقيل في ذلك لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه فاسترجع ، ثم قال : صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين ، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين ، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان. ورواه البخاري أيضا من حديث الثوري عن الأعمش به وأخرجه مسلم من طرق عنه منها عن قتيبة كما تقدم.

__________________

(١) مسند أحمد ٤ / ٣٠٦.

٣٤٩

فهذه الأحاديث دالة صريحا على أن القصر ليس من شرطه وجود الخوف ، ولهذا قال من قال من العلماء : إن المراد من القصر هاهنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية ، وهو قول مجاهد والضحاك والسدي كما سيأتي بيانه ، واعتضدوا أيضا بما رواه الإمام مالك عن صالح بن كيسان ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر ، فأقرت صلاة السفر ، وزيد في صلاة الحضر (١) ، وقد روى هذا الحديث البخاري عن عبد الله بن يوسف التنيسي ، ومسلم عن يحيى بن يحيى ، وأبو داود عن القعنبي ، والنسائي عن قتيبة ، أربعتهم عن مالك به (٢) ،

قالوا : فإذا كان أصل الصلاة في السفر هي الثنتين ، فكيف يكون المراد بالقصر هاهنا قصر الكمية ، لأن ما هو الأصل لا يقال فيه : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) وأصرح من ذلك دلالة على هذا ما رواه الإمام أحمد (٣) : حدثنا وكيع وسفيان وعبد الرحمن عن زبيد اليامي ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عمر رضي الله عنه ، قال : صلاة السفر ركعتان ، وصلاة الأضحى ركعتان ، وصلاة الفطر ركعتان ، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر ، على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهكذا رواه النسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه من طرق عن زبيد اليامي به ، وهذا إسناد على شرط مسلم.

وقد حكم مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى عن عمر ، وقد جاء مصرحا به في هذا الحديث وفي غيره ، وهو الصواب إن شاء الله ، وإن كان يحيى بن معين وأبو حاتم والنسائي قد قالوا ، إنه لم يسمع منه ، وعلى هذا أيضا فقد وقع في بعض طرق أبي يعلى الموصلي من طريق الثوري عن زبيد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن الثقة ، عن عمر ، فذكره ، وعند ابن ماجة من طريق يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد عن زبيد ، عن عبد الرحمن ، عن كعب بن عجرة ، عن عمر ، فالله أعلم. وقد روى مسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري ، زاد مسلم والنسائي : وأيوب بن عائد ، كلاهما عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عباس ، قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة ، فكما يصلي في الحضر قبلها وبعدها فكذلك يصلى في السفر. ورواه ابن ماجة من حديث أسامة بن زيد عن طاوس نفسه ، فهذا ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ولا ينافي ما تقدم عن عائشة رضي الله عنها ، لأنها أخبرت أن أصل الصلاة ركعتان ، ولكن زيد في صلاة الحضر ، فلما استقر ذلك ، صح أن

__________________

(١) موطأ مالك (قصر الصلاة في السفر حديث ٨)

(٢) صحيح البخاري (صلاة باب ١) وصحيح مسلم (مسافرين حديث ١ و ٣) وسنن أبي داود (سفر باب ١) وسنن النسائي (صلاة باب ٣)

(٣) مسند أحمد ١ / ٣٧.

٣٥٠

يقال : إن فرض صلاة الحضر أربع ، كما قاله ابن عباس ـ والله أعلم ـ لكن اتفق حديث ابن عباس وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان ، وأنها تامة غير مقصورة ، كما هو مصرح به في حديث عمر رضي الله عنه ، وإذا كان كذلك فيكون المراد بقوله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) قصر الكيفية كما في صلاة الخوف ، ولهذا قال : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية ، ولهذا قال بعدها : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) [النساء : ١٠٢] الآية ، فبين المقصود من القصر هاهنا ، وذكر صفته وكيفيته ، ولهذا لما عقد البخاري كتاب صلاة الخوف صدره بقوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) إلى قوله : (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) [النساء : ١٠٢] ، وهكذا قال جويبر عن الضحاك في قوله : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) قال : ذاك عند القتال يصلي الرجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه.

وقال أسباط عن السدي في قوله : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ) الآية ، إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر ، فهي تمام التقصير لا يحل إلا أن يخاف من الذين كفروا أن يفتنوه عن الصلاة فالتقصير ركعة. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) يوم كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه بعسفان ، والمشركون بضجنان ، فتوافقوا ، فصلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات بركوعهم ، وسجودهم ، وقيامهم معا جميعا فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم ، روى ذلك ابن أبي حاتم ، ورواه ابن جرير (١) عن مجاهد والسدي وعن جابر وابن عمر ، واختار ذلك أيضا فإنه قال بعد ما حكاه من الأقوال في ذلك : وهو الصواب.

وقال ابن جرير (٢) : حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا ابن أبي فديك ، حدثنا ابن أبي ذئب عن ابن شهاب ، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد أنه قال لعبد الله بن عمر : إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف ، ولا نجد قصر صلاة المسافر ، فقال عبد الله : إنا وجدنا نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعمل عملا عملنا به.

فقد سمى صلاة الخوف مقصورة وحمل الآية عليها لا على قصر صلاة المسافر ، وأقره ابن عمر على ذلك ، واحتج على قصر الصلاة في السفر بفعل الشارع لا بنص القرآن ، وأصرح من هذا ما رواه ابن جرير (٣) أيضا : حدثنا أحمد بن الوليد القرشي ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن سماك الحنفي قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر ، فقال : ركعتان تمام غير قصر ، إنما القصر في صلاة المخافة ، فقلت : وما صلاة المخافة؟ فقال : يصلي الإمام بطائفة ركعة ،

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٢٤٥.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٢٤٦.

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٢٤٨.

٣٥١

ثم يجيء هؤلاء مكان هؤلاء ، ويجيء هؤلاء مكان هؤلاء ، فيصلي بهم ركعة ، فيكون للإمام ركعتان ، ولكل طائفة ركعة ركعة.

(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) (١٠٢)

صلاة الخوف أنواع كثيرة ، فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة ، وتارة يكون في غير صوبها ، والصلاة تارة تكون رباعية ، وتارة تكون ثلاثية كالمغرب ، وتارة تكون ثنائية كالصبح وصلاة السفر ، ثم تارة يصلون جماعة ، وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة ، بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ورجالا وركبانا ، ولهم أن يمشوا والحالة هذه ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة. ومن العلماء من قال : يصلون والحالة هذه ركعة واحدة لحديث ابن عباس المتقدم ، وبه قال أحمد بن حنبل. قال المنذري في الحواشي : وبه قال عطاء وجابر والحسن ومجاهد والحكم وقتادة وحماد وإليه ذهب طاوس والضحاك ، وقد حكى أبو عاصم العبادي عن محمد بن نصر المروزي : أنه يرى رد الصبح إلى ركعة في الخوف ، وإليه ذهب ابن حزم أيضا. وقال إسحاق بن راهويه : أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدة تومئ بها إيماء ، فإن لم تقدر فسجدة واحدة لأنها ذكر الله ، وقال آخرون : تكفي تكبيرة واحدة ، فلعله أراد ركعة واحدة. كما قاله الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه ، وبه قال جابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وكعب وغير واحد من الصحابة والسدي ، ورواه ابن جرير ، ولكن الذي حكوه إنما حكوه على ظاهره في الاجتزاء بتكبيرة واحدة ، كما هو مذهب إسحاق ابن راهويه وإليه ذهب الأمير عبد الوهاب بن بخت المكي حتى قال : فإن لم يقدر على التكبيرة فلا يتركها في نفسه يعني بالنية. رواه سعيد بن منصور في سننه عن إسماعيل بن عياش ، عن شعيب بن دينار عنه ، فالله أعلم.

ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة ، كما أخر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الأحزاب الظهر والعصر فصلاهما بعد الغروب ، ثم صلى بعدهما المغرب ، ثم العشاء ، وكما قال بعدها يوم بني قريظة حين جهز إليهم الجيش : لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة ، فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق ، فقال منهم قائلون : لم يرد منا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا تعجيل المسير ، ولم يرد منا تأخير الصلاة عن وقتها ، فصلوا الصلاة لوقتها في الطريق ، وأخر آخرون منهم صلاة العصر فصلوها في بني قريظة بعد الغروب ، ولم يعنف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدا من

٣٥٢

الفريقين ، وقد تكلمنا على هذا في كتاب السيرة وبينا أن الذين صلوا العصر لوقتها أقرب إلى إصابة الحق في نفس الأمر ، وإن كان الآخرون معذورين أيضا ، والحجة هاهنا في عذرهم في تأخير الصلاة لأجل الجهاد والمبادرة إلى حصار الناكثين للعهد من الطائفة الملعونة اليهود.

وأما الجمهور فقالوا : هذا كله منسوخ بصلاة الخوف ، فإنها لم تكن نزلت بعد ، فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك ، وهذا بين في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه الشافعي رحمه‌الله وأهل السنن ، ولكن يشكل عليه ما حكاه البخاري في صحيحه حيث قال :

[باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو] قال الأوزاعي : إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة ، صلوا إيماء كل امرئ لنفسه ، فإن لم يقدروا على الإيماء ، أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال ، أو يأمنوا فيصلوا ركعتين ، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين ، فإن لم يقدروا فلا يجزئهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا ، وبه قال مكحول. وقال أنس بن مالك : حضرت مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر ، واشتد اشتعال القتال ، فلم يقدروا على الصلاة ، فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار فصليناها ونحن مع أبي موسى ، ففتح لنا ، قال أنس : وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها انتهى ما ذكره ، ثم أتبعه بحديث تأخير الصلاة يوم الأحزاب ، ثم بحديث أمره إياهم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة ، وكأنه كالمختار لذلك ، والله أعلم.

ولمن جنح إلى ذلك له أن يحتج بصنيع أبي موسى وأصحابه يوم فتح تستر فإنه يشتهر غالبا ، ولكن كان ذلك في إمارة عمر بن الخطاب ، ولم ينقل أنه أنكر عليهم ولا أحد من الصحابة ، والله أعلم ، قال هؤلاء : وقد كانت صلاة الخوف مشروعة في الخندق لأن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق في قول الجمهور علماء السير والمغازي ، وممن نص على ذلك محمد بن إسحاق (١) وموسى بن عقبة والواقدي ومحمد بن سعد كاتبه وخليفة بن الخياط وغيرهم. وقال البخاري (٢) وغيره : كانت ذات الرقاع بعد الخندق لحديث أبي موسى وما قدم إلا في خيبر ، والله أعلم.

والعجب كل العجب أن المزني وأبا يوسف القاضي وإبراهيم بن إسماعيل بن علية ، ذهبوا إلى أن صلاة الخوف منسوخة بتأخيره عليه الصلاة والسلام الصلاة يوم الخندق وهذا غريب جدا ، وقد ثبتت الأحاديث بعد الخندق بصلاة الخوف ، وحمل تأخير الصلاة يومئذ على ما قاله مكحول والأوزاعي أقوى وأقرب ، والله أعلم. فقوله تعالى : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) أي إذا صليت بهم إماما في صلاة الخوف ، وهذه حالة غير الأولى ، فإن تلك قصرها

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ / ٢٠٣ والمغازي للواقدي ١ / ٣٩٥.

(٢) صحيح البخاري (مغازي باب ٣٣)

٣٥٣

إلى ركعة كما دل عليه الحديث ـ فرادى ورجالا وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، ثم ذكر حال الاجتماع والائتمام بإمام واحد ، وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة ، فلولا أنها واجبة لما ساغ ذلك ، وأما من استدل بهذه الآية على أن صلاة الخوف منسوخة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) فبعده تفوت هذه الصفة ، فإنه استدلال ضعيف ، ويرد عليه مثل قول مانعي الزكاة الذين احتجوا بقوله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة : ١٠٣] قالوا : فنحن لا ندفع زكاتنا بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أحد ، بل نخرجها نحن بأيدينا على من نراه ، ولا ندفعها إلا إلى من صلاته أي دعاؤه سكن لنا ، ومع هذا رد عليهم الصحابة ، وأبوا عليهم هذا الاستدلال ، وأجبروهم على أداء الزكاة وقتلوا من منعها منهم.

ولنذكر سبب نزول هذه الآية الكريمة أولا قبل ذكر صفتها. قال ابن جرير (١) : حدثني المثنى ، حدثني إسحاق ، حدثنا عبد الله بن هاشم ، أنبأنا سيف عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي رضي الله عنه ، قال : سأل قوم من بني النجار (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله ، إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله عزوجل (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) ثم انقطع الوحي ، فلما كان بعد ذلك بحول ، غزا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلى الظهر ، فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم : إن لهم أخرى مثلها في أثرها ، قال : فأنزل الله عزوجل بين الصلاتين (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [النساء : ١٠١] الآيتين ، فنزلت صلاة الخوف.

وهذا سياق غريب جدا ، ولكن لبعضه شاهد من رواية أبي عياش الزرقي واسمه زيد بن الصامت رضي الله عنه عند الإمام أحمد وأهل السنن ، فقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا الثوري عن منصور ، عن مجاهد ، عن أبي عياش الزرقي ، قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعسفان ، فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد ، وهم بيننا وبين القبلة ، فصلى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الظهر ، فقالوا : لقد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم ، ثم قالوا : تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم ، قال : فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) قال : فحضرت ، فأمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذوا السلاح ، قال : فصفنا خلفه صفين ، قال : ثم ركع فركعنا جميعا ، ثم رفع فرفعنا جميعا ، ثم سجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما سجدوا وقاموا ، جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم ، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ، وجاء هؤلاء إلى

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٢٤٥.

(٢) في الطبري : «سأل قوم من التجار».

(٣) مسند أحمد ٤ / ٥٩ ـ ٦٠.

٣٥٤

مصاف هؤلاء ثم ركع فركعوا جميعا ، ثم رفع فرفعوا جميعا ، ثم سجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا ، ثم سلم عليهم ، ثم انصرف ، قال : فصلاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرتين : مرة بعسفان ، ومرة بأرض بني سليم.

ثم رواه أحمد عن غندر عن شعبة عن منصور به نحوه ، وهكذا رواه أبو داود (١) عن سعيد بن منصور ، عن جرير بن عبد الحميد ، والنسائي من حديث شعبة ، وعبد العزيز بن عبد الصمد ، كلهم عن منصور به ، وهذا إسناد صحيح وله شواهد كثيرة ، فمن ذلك ما رواه البخاري (٢) حيث قال : حدثنا حيوة بن شريح ، حدثنا محمد بن حرب عن الزبيدي ، عن الزهري ، عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقام الناس معه ، فكبر وكبروا معه ، وركع وركع ناس منهم ، ثم سجد وسجدوا معه ، ثم قام للثانية فقام الذين سجدوا وحرسوا إخوانهم ، وأتت الطائفة الأخرى فركعوا وسجدوا معه والناس كلهم في الصلاة ، ولكن يحرس بعضهم بعضا. وقال ابن جرير (٣) : حدثنا ابن بشار ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي عن قتادة ، عن سليمان بن قيس اليشكري أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة أي يوم أنزل؟ أو أي يوم هو؟ ، فقال جابر : انطلقنا نتلقى عيرا لقريش آتية من الشام حتى إذا كنا بنخلة ، جاء رجل من القوم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد هل تخافني؟ قال : «لا» قال فمن يمنعك مني؟ قال : «الله يمنعني منك» قال : فسل السيف ، ثم تهدده وأوعده ، ثم نادى بالترحل وأخذ السلاح ، ثم نودي بالصلاة فصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطائفة من القوم وطائفة أخرى تحرسهم ، فصلى بالذين يلونه ركعتين ، ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم ، فقاموا في مصاف أصحابهم ، ثم جاء الآخرون فصلى بهم ركعتين ، والآخرون يحرسونهم ، ثم سلم فكانت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربع ركعات ، وللقوم ركعتين ركعتين ، فيومئذ أنزل الله في إقصار الصلاة وأمر المؤمنين بأخذ السلاح.

ورواه الإمام أحمد (٤) فقال : حدثنا سريج ، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر ، عن سليمان بن قيس اليشكري ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قاتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم محارب خصفة ، فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث حتى قام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسيف ، فقال : من يمنعك مني؟ قال : «الله» ، فسقط السيف من يده ، فأخذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «ومن يمنعك مني؟» قال : كن خير آخذ. قال : «أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله»؟ قال : لا ، ولكن أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك ، فخلى سبيله ، فأتى قومه فقال : جئتكم من عند خير

__________________

(١) سنن أبي داود (صلاة باب ١٢)

(٢) صحيح البخاري (صلاة الخوف باب ٣)

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٢٤٧.

(٤) مسند أحمد ٣ / ٣٦٥.

٣٥٥

الناس ، فلما حضرت الصلاة ، صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الخوف ، فكان الناس طائفتين : طائفة بإزاء العدو ، وطائفة صلوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصلى بالطائفة الذين معه ركعتين وانصرفوا ، فكانوا مكان الطائفة الذين كانوا بإزاء العدو ، ثم انصرف الذين كانوا بإزاء العدو فصلوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعتين ، فكان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربع ركعات ، وللقوم ركعتين ركعتين ، تفرد به من هذا الوجه.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو قطن عمرو بن الهيثم ، حدثنا المسعودي عن يزيد الفقير ، قال : سألت جابر بن عبد الله عن الركعتين في السفر أقصرهما؟ فقال: الركعتان في السفر تمام ، إنما القصر واحدة عند القتال ، بينما نحن مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في قتال ، إذ أقيمت الصلاة ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصف طائفة ، وطائفة وجهها قبل العدو ، فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ، ثم الذين خلفوا انطلقوا إلى أولئك فقاموا مقامهم ومكانهم نحو ذا ، وجاء أولئك فقاموا خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ، ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلس وسلم ، وسلم الذين خلفه ، وسلم أولئك ، فكانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعتين ، وللقوم ركعة ركعة ، ثم قرأ (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) الآية.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن الحكم ، عن يزيد الفقير ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، صلى بهم صلاة الخوف ، فقام صف بين يديه وصف خلفه ، فصلى بالذين خلفه ركعة وسجدتين ، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا في مقام أصحابهم ، وجاء أولئك حتى قاموا في مقام هؤلاء ، فصلى بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعة وسجدتين ثم سلم ، فكانت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعتين ، ولهم ركعة ، ورواه النسائي من حديث شعبة ، ولهذا الحديث طرق عن جابر ، وهو في صحيح مسلم من وجه آخر بلفظ آخر ، وقد رواه عن جابر جماعة كثيرون في الصحيح والسنن والمسانيد.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، أنبأنا معمر عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، قال : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) قال : هي صلاة الخوف ، صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإحدى الطائفتين ركعة ، والطائفة الأخرى مقبلة على العدو ، وأقبلت الطائفة الأخرى التي كانت مقبلة على العدو فصلى بهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعة أخرى ثم سلم بهم ، ثم قامت كل طائفة منهم فصلت ركعة ركعة ، وهذا الحديث رواه الجماعة في كتبهم من طريق معمر به ، ولهذا الحديث طرق كثيرة عن الجماعة من الصحابة ، وقد أجاد الحافظ أبو بكر بن مردويه في سرد طرقه وألفاظه ، وكذا ابن جرير ، ولنحرره في كتاب الأحكام الكبير ، إن شاء الله وبه الثقة.

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ٢٩٨.

٣٥٦

وأما الأمر بحمل السلاح في صلاة الخوف فمحمول عند طائفة من العلماء على الوجوب لظاهر الآية ، وهو أحد قولي الشافعي ، ويدل عليه قول الله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) أي بحيث تكونون على أهبة إذا احتجتم إليها لبستموها بلا كلفة (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً).

(فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (١٠٤)

يأمر الله تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف وإن كان مشروعا مرغبا فيه أيضا بعد غيرها ، ولكن هاهنا آكد لما وقع فيها من التخفيف في أركانها ، ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب ، وغير ذلك مما ليس يوجد في غيرها ، كما قال تعالى في الأشهر الحرم : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة : ٣٦] وإن كان هذا منهيا عنه في غيرها ، ولكن فيها آكد لشدة حرمتها وعظمتها ، ولهذا قال تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) أي في سائر أحوالكم ، ثم قال تعالى : (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي فإذا أمنتم وذهب الخوف ، وحصلت الطمأنينة (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي فأتموها وأقيموها كما أمرتم بحدودها ، وخشوعها ، وركوعها ، وسجودها ، وجميع شؤونها.

وقوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) قال ابن عباس : أي مفروضا ، وقال أيضا : إن للصلاة وقتا كوقت الحج ، وكذا روي عن مجاهد وسالم بن عبد الله وعلي بن الحسين ومحمد بن علي والحسن ومقاتل والسدي وعطية العوفي. قال عبد الرزاق : عن معمر عن قتادة (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) قال ابن مسعود : إن للصلاة وقتا كوقت الحج وقال زيد بن أسلم (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) قال : منجما كلما مضى نجم جاء نجم ، يعني كلما مضى وقت جاء وقت.

وقوله تعالى : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) أي لا تضعفوا في طلب عدوكم ، بل جدوا فيهم وقاتلوهم ، واقعدوا لهم كل مرصد (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ) أي كما يصيبكم الجراح والقتل كذلك يحصل لهم ، كما قال تعالى : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) [آل عمران : ١٤٠] ، ثم قال تعالى : (وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) أي أنتم وإياهم سواء فيما يصيبكم ، وإياهم من الجراح والآلام ، ولكن أنتم ترجون من الله المثوبة والنصر والتأييد كما وعدكم إياه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو وعد حق ، وخبر صدق ، وهم لا يرجون شيئا من ذلك ، فأنتم أولى بالجهاد منهم وأشد رغبة فيه ، وفي إقامة كلمة الله وإعلائها ، (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) أي هو أعلم وأحكم فيما يقدره ويقضيه وينفذه ويمضيه

٣٥٧

من أحكامه الكونية والشرعية وهو المحمود على كل حال.

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) (١٠٩)

يقول تعالى : مخاطبا لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أي هو حق من الله ، وهو يتضمن الحق في خبره وطلبه ، وقوله : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) احتج به من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية ، وبما ثبت في الصحيحين من رواية هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أم سلمة ، عن أم سلمة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سمع جلبة خصم بباب حجرته ، فخرج إليهم فقال : «ألا إنما أنا بشر وإنما أقضي بنحو مما أسمع ، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها» (١).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا وكيع ، حدثنا أسامة بن زيد عن عبد الله بن رافع ، عن أم سلمة ، قالت : جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مواريث بينهما قد درست ، ليس عندهما بينة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنكم تختصمون إليّ وإنما أنا بشر ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها إسطاما (٣) في عنقه يوم القيامة» فبكى الرجلان ، وقال كل منهما : حقي لأخي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما ، ثم توخيا الحق بينكما ثم استهما (٤) ، ثم ليحلل كل منكما صاحبه» وقد رواه أبو داود من حديث أسامة بن زيد به ، وزاد «إني إنما أقضي بينكما برأي فيما لم ينزل علي فيه»(٥).

وقد روى ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس : أن نفرا من الأنصار غزوا مع

__________________

(١) صحيح البخاري (شهادات باب ٢٧ وحيل باب ١٠ وأحكام باب ٢٠) وصحيح مسلم (أقضية حديث ٤) وسنن أبي داود (أقضية باب ٧) وسنن ابن ماجة (أحكام باب ٥) وموطأ مالك (أقضية حديث ١)

(٢) مسند أحمد ٦ / ٣٢.

(٣) السطام والإسطام : المسعار ، وهو حديدة عريضة الرأس تحرك بها النار. والمراد أنه يقضي له بما يمكن أن يسعر عليه النار يوم الحساب إذا لم تكن حجته صحيحة.

(٤) استهما : اقترعا.

(٥) سنن أبي داود (أقضية باب ٧)

٣٥٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض غزواته ، فسرقت درع لأحدهم ، فأظن بها رجلا من الأنصار ، فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن طعمة بن أبيرق سرق درعي ، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء ، وقال لنفر من عشيرته : إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عنده ، فانطلقوا إلى نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلا فقالوا : يا نبي الله إن صاحبنا بريء وإن صاحب الدرع فلان ، وقد أحطنا بذلك علما ، فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس ، وجادل عنه ، فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبرأه وعذره على رؤوس الناس ، فأنزل الله (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) الآية.

ثم قال تعالى للذين أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستخفين بالكذب (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) الآيتين ، يعني الذين أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستخفين يجادلون عن الخائنين ، ثم قال عزوجل : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) [النساء : ١١٠] ، يعني الذين أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستخفين بالكذب ثم قال : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) [النساء : ١١٢] يعني السارق والذين جادلوا عن السارق ، وهذا سياق غريب ، وكذا ذكر مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وابن زيد وغيرهم في هذه الآية : إنها نزلت في سارق بني أبريق على اختلاف سياقاتهم وهي متقاربة.

وقد روى هذه القصة محمد بن إسحاق مطولة ، فقال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية من جامعه ، وابن جرير (١) في تفسيره : حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحراني ، حدثنا محمد بن سلمة الحراني ، حدثنا محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن أبيه ، عن جده قتادة بن النعمان رضي الله عنه ، قال : كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق: بشر وبشير ومبشر ، وكان بشير رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ينحله لبعض العرب ، ثم يقول : قال فلان كذا وكذا وقال فلان كذا وكذا ، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك الشعر قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث أو كما قال: الرجل ، وقالوا : ابن الأبيرق قالها ، قالوا : وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام ، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير ، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة (٢) من الشام من الدرمك (٣) ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه ، وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير ، فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٢٦٥.

(٢) الضافطة : العير تحمل المتاع. أو التجار يحملون الطعام وغيره.

(٣) الدرمك : الدقيق النقي الأبيض.

٣٥٩

فجعله في مشربة (١) له ، وفي المشربة سلاح ودرع وسيف ، فعدي عليه من تحت البيت ، فنقبت المشربة ، وأخذ الطعام والسلاح. فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ، إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه ، فنقبت مشربتنا ، فذهب بطعامنا وسلاحنا ، قال : فتحسسنا في الدار وسألنا ، فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم ، وقال : وكان بنو أبيرق قالوا ـ ونحن نسأل في الدار ـ : والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلا منا له صلاح وإسلام ، فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال : أنا أسرق؟! والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة ، قالوا : إليك عنا أيها الرجل فما أنت بصاحبها ، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها ، فقال لي عمي : يا ابن أخي لو أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت ذلك له ، قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له ، وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا ، فأما الطعام ، فلا حاجة لنا فيه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سآمر في ذلك» ، فلما سمع بذلك بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له أسير بن عمرو فكلموه في ذلك ، فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا : يا رسول الله ، إن قتادة بن النعمان وعمه ، عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت ، قال قتادة : فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكلمته ، فقال : «عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ، ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت ، قال : فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ، فأتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : الله المستعان ، فلم نلبث أن نزل القرآن (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) يعني بني أبيرق ، (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) أي مما قلت لقتادة (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ ـ إلى قوله ـ رَحِيماً) أي لو استغفروا الله لغفر لهم (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ ـ إلى قوله ـ إِثْماً مُبِيناً) [النساء: ١١١] قولهم للبيد (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ ـ إلى قوله ـ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) [النساء : ٨٣] فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة ، فقال قتادة : لما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخا قد عسا (٢) أو عشا ـ الشك من أبي عيسى ـ في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولا (٣) لما أتيته بالسلاح قال : يا ابن أخي هو في سبيل الله ، فعرفت أن إسلامه كان صحيحا ، فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين ، فنزل على سلافة بنت سعد بن سمية ، فأنزل الله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ

__________________

(١) المشربة : الغرفة والعلية.

(٢) عسا : كبر وأسنّ.

(٣) أي فيه فساد ونفاق.

٣٦٠