تفسير القرآن العظيم - ج ٢

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٠

إياه وبما يردون عليك من الحق كفرا وعنادا.

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (٨١)

يخبر تعالى عن عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن من أطاعه فقد أطاع الله ومن عصاه فقد عصى الله ، وما ذاك إلا لأنه ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني ، ومن عصى الأمير فقد عصاني» وهذا الحديث ثابت في الصحيحين عن الأعمش به. وقوله : (وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي ما عليك منه إن عليك إلا البلاغ فمن اتبعك سعد ونجا ، وكان لك من الأجر نظير ما حصل له ، ومن تولى عنك خاب وخسر وليس عليك من أمره شيء ، كما جاء في الحديث «من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه».

وقوله : (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ) يخبر تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة والطاعة (فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ) أي خرجوا وتواروا عنك (بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) أي استسروا ليلا فيما بينهم بغير ما أظهروه لك ، فقال تعالى : (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) أي يعلمه ويكتبه عليهم بما يأمر به حفظته الكاتبين الذين هم موكلون بالعباد ، والمعنى في هذا التهديد أنه تعالى يخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم ، وما يتفقون عليه ليلا من مخالفة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصيانه وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة ، وسيجزيهم على ذلك ، كما قال تعالى : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا) [النور : ٤٧] ، وقوله : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي اصفح عنهم واحلم عليهم ولا تؤاخذهم ، ولا تكشف أمورهم للناس ، ولا تخف منهم أيضا (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي كفى به وليا وناصرا ومعينا لمن توكل عليه وأناب إليه.

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً) (٨٣)

يقول تعالى آمرا لهم بتدبر القرآن وناهيا لهم عن الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة ، ومخبرا لهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب ، ولا تعارض لأنه تنزيل من حكيم حميد فهو حق من حق ، ولهذا قال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)

٣٢١

[محمد : ٢٤] ، ثم قال : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ) أي لو كان مفتعلا مختلقا ، كما يقوله من يقول من جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم لوجدوا فيه اختلافا ، أي اضطرابا وتضادا كثيرا ، أي وهذا سالم من الاختلاف ، فهو من عند الله ، كما قال تعالى مخبرا عن الراسخين في العلم حيث قالوا (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) [آل عمران : ٧] أي محكمه ومتشابهه حق ، فلهذا ردوا المتشابه إلى المحكم فاهتدوا ، والذين في قلوبهم زيغ ردوا المحكم إلى المتشابه فغووا ، ولهذا مدح تعالى الراسخين وذم الزائغين.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أنس بن عياض ، حدثنا أبو حازم ، حدثنا عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : لقد جلست أنا وأخي مجلسا ما أحب أن لي به حمر النعم ، أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على باب من أبوابه ، فكرهنا أن نفرق بينهم ، فجلسنا حجرة (٢) إذ ذكروا آية من القرآن فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مغضبا حتى احمر وجهه يرميهم بالتراب ويقول : «مهلا يا قوم بهذا أهلكت الأمم من قبلكم ، باختلافهم على أنبيائهم ، وضربهم الكتب بعضها ببعض ، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا ، إنما نزل يصدق بعضه بعضا ، فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه» وهكذا رواه (٣) أيضا عن أبي معاوية ، عن داود بن أبي هند ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر ، فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب ، فقال لهم : «مالكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض ، بهذا هلك من كان قبلكم» قال : فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم أشهده ما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده ، ورواه ابن ماجة من حديث داود بن أبي هند به نحوه.

وقال أحمد (٤) : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا حماد بن زيد عن أبي عمران الجوني ، قال : كتب إلى عبد الله بن رباح يحدث عن عبد الله بن عمرو ، قال : هجرت (٥) إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما ، فإنا لجلوس إذا اختلف اثنان في آية ، فارتفعت أصواتهما ، فقال : «إنما هلكت الأمم قبلكم باختلافهم في الكتاب». ورواه مسلم والنسائي من حديث حماد بن زيد به.

وقوله : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) [النساء : ٨٣] إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها ويفشيها وينشرها ، وقد لا يكون لها صحة. وقد قال

__________________

(١) مسند أحمد ٢ / ١٨١.

(٢) أي منفردين.

(٣) مسند أحمد ٢ / ١٧٨.

(٤) مسند أحمد ٢ / ١٩٢.

(٥) هجرت : بادرت فذهبت مبكرا.

٣٢٢

مسلم في مقدمة صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا علي بن حفص ، حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع» وكذا رواه أبو داود في كتاب الأدب من سننه عن محمد بن الحسين بن أشكاب ، عن علي بن حفص عن شعبة مسندا ، ورواه مسلم أيضا من حديث معاذ بن هشام العنبري وعبد الرحمن بن مهدي ، وأخرجه أبو داود أيضا من حديث حفص بن عمرو النمري ، ثلاثتهم عن شعبة ، عن خبيب ، عن حفص بن عاصم به مرسلا ، وفي الصحيحين ، عن المغيرة بن شعبة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نهى عن قيل وقال (١) ، أي الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت ، ولا تدبر ، ولا تبين. وفي سنن أبي داود أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بئس مطية الرجل زعموا» (٢). وفي الصحيح «من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين».

ويذكر هاهنا حديث عمر بن الخطاب المتفق على صحته حين بلغه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، طلق نساءه ، فجاء من منزله حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك ، فلم يصبر حتى استأذن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاستفهمه أطلقت نساءك فقال «لا» فقلت : الله أكبر وذكر الحديث بطوله. وعند مسلم فقلت : أطلقتهن؟ فقال «لا» فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي ، لم يطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساءه ، ونزلت هذه الآية (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء : ٨٣] فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر.

ومعنى يستنبطونه أي يستخرجونه من معادنه ، يقال : استنبط الرجل العين إذا حفرها واستخرجها من قعورها. وقوله : (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء : ٨٣] ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني المؤمنين. وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) يعني كلكم ، واستشهد من نصر هذا القول بقول الطرماح بن حكيم في مدح يزيد بن المهلب : [المتقارب]

أشم نديّ كثير النوادي (٣)

قليل المثالب والقادحة

يعني لا مثالب له ولا قادحة فيه.

(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً

__________________

(١) صحيح مسلم (أقضية حديث ١٢ ـ ١٤)

(٢) سنن أبي داود (أدب باب ٧٢)

(٣) رواية الطبري (٤ / ١٨٦) : «أشمّ كثير يديّ النّوال».

٣٢٣

يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) (٨٧)

يأمر تعالى عبده ورسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يباشر القتال بنفسه ، ومن نكل عنه فلا عليه منه ، ولهذا قال (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن عمرو بن نبيح ، حدثنا حكام ، حدثنا الجراح الكندي عن أبي إسحاق ، قال : سألت البراء بن عازب عن الرجل يلقى المائة من العدو فيقاتل فيكون ممن قال الله فيه : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥]؟ قال : قد قال الله تعالى لنبيه : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ).

ورواه الإمام أحمد عن سليمان بن داود ، عن أبي بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق ، قال :

قلت للبراء : الرجل يحمل على المشركين ، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال : لا ، إن الله بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) إنما ذلك في النفقة.

وكذا رواه ابن مردويه من طريق أبي بكر بن عياش وعلي بن صالح ، عن أبي إسحاق ، عن البراء به. ثم قال ابن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أحمد بن النضر العسكري ، حدثنا مسلم بن عبد الرحمن الجرمي ، حدثنا محمد بن حمير ، حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : لما نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) الآية ، قال لأصحابه : «وقد أمرني ربي بالقتال فقاتلوا» حديث غريب.

وقوله : (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) أي على القتال ورغبهم فيه وشجعهم عليه ، كما قال لهمصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر وهو يسوي الصفوف : «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» وقد وردت أحاديث كثيرة في الترغيب في ذلك ، فمن ذلك ما رواه البخاري (١) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من آمن بالله ورسوله ، وأقام الصلاة وآتى الزكاة ، وصام رمضان ، كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها». قالوا : يا رسول الله أفلا نبشر الناس بذلك؟ فقال : «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة ، وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة» وروي من حديث عبادة ومعاذ وأبي الدرداء ، نحو ذلك.

وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا أبا سعيد ، من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا ، بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا ونبيا ، وجبت له الجنة» ، قال : فعجب لها أبو سعيد ، فقال : أعدها

__________________

(١) صحيح البخاري (جهاد باب ٤)

٣٢٤

عليّ يا رسول الله ، ففعل ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأخرى يرفع الله العبد بها مائة درجة في الجنة ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض». قال : وما هي يا رسول الله؟ قال : «الجهاد في سبيل الله» ، رواه مسلم (١).

وقوله : (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بتحريضك إياهم على القتال تنبعث هممهم على مناجزة الأعداء. ومدافعتهم عن حوزة الإسلام وأهله ، ومقاومتهم ومصابرتهم. وقوله تعالى : (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) أي هو قادر عليهم في الدنيا والآخرة كما قال تعالى : (ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) [محمد : ٤].

وقوله : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها) أي من يسعى في أمر فيترتب عليه خير كان له نصيب من ذلك ، (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها) اي يكون عليه وزر من ذلك الأمر الذي ترتب على سعيه ونيته ، كما ثبت في الصحيح عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «اشفعوا تؤجروا ، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء» ، وقال مجاهد بن جبر : نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض. وقال الحسن البصري : قال الله تعالى : (مَنْ يَشْفَعْ) ولم يقل من يشفّع ، وقوله : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً). قال ابن عباس وعطاء وعطية وقتادة ومطر الوراق (مُقِيتاً) أي حفيظا. وقال مجاهد : شهيدا ، وفي رواية عنه : حسيبا. وقال سعيد بن جبير والسدي وابن زيد : قديرا. وقال عبد الله بن كثير : المقيت الواصب ، وقال الضحاك المقيت الرزاق ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الرحيم بن مطرف ، حدثنا عيسى بن يونس عن إسماعيل عن رجل. عن عبد الله بن رواحة ، وسأله رجل عن قول الله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) قال : مقيت لكل إنسان بقدر عمله.

وقوله : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) أي إذا سلم عليكم المسلم فردوا عليه أفضل مما سلم ، أو ردوا عليه بمثل ما سلم ، فالزيادة مندوبة ، والمماثلة مفروضة ، قال ابن جرير (٢) : حدثنا موسى بن سهل الرملي ، حدثنا عبد الله بن السري الأنطاكي ، حدثنا هشام بن لاحق عن عاصم الأحول ، عن أبي عثمان النهدي ، عن سلمان الفارسي ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : السلام عليك يا رسول الله ، فقال : «وعليك السلام ورحمة الله» ، ثم جاء آخر فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله ؛ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وعليك السلام ورحمة الله وبركاته» ؛ ثم جاء آخر فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، فقال له : «وعليك» ، فقال له الرجل : يا نبي الله ، بأبي أنت وأمي ، أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت عليّ فقال : «إنك لم تدع لنا شيئا ، قال الله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ

__________________

(١) صحيح مسلم (إمارة حديث ١١٦)

(٢) تفسير الطبري ٤ / ١٩٢)

٣٢٥

بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) فرددناها عليك» ، وهكذا رواه ابن أبي حاتم معلقا ، فقال : ذكر عن أحمد بن الحسن الترمذي حدثنا عبد الله بن السري أبو محمد الأنطاكي ، قال أبو الحسن ، وكان رجلا صالحا : حدثنا هشام بن لاحق فذكره بإسناده مثله ، ورواه أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الباقي بن قانع ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن لاحق أبو عثمان فذكره مثله ، ولم أره في المسند ، والله أعلم.

وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا زيادة في السلام على هذه الصفة ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، إذ لو شرع أكثر من ذلك لزاده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن كثير أخو سليمان عن كثير ، حدثنا جعفر بن سليمان بن عوف ، عن أبي رجاء العطاردي ، عن عمران بن حصين أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : السلام عليكم يا رسول الله فرد عليه ثم جلس فقال : «عشر» ، ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله يا رسول الله ، فرد عليه ثم جلس ، فقال : «عشرون» ، ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فرد عليه ، ثم جلس فقال : «ثلاثون» ، وكذا رواه أبو داود عن محمد بن كثير وأخرجه الترمذي والنسائي والبزار من حديثه ، ثم قال الترمذي : حسن غريب من هذا الوجه. وفي الباب عن أبي سعيد وعلي وسهل بن حنيف ، وقال البزار : قد روي هذا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وجوه هذا أحسنها إسنادا.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرواسي عن الحسن بن صالح ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسيا ، ذلك بأن الله يقول : فحيوا بأحسن منها أو ردوها ، وقال قتادة : فحيوا بأحسن منها ، يعني للمسلمين ، أو ردوها يعني لأهل الذمة.

وهذا التنزيل فيه نظر كما تقدم في الحديث من أن المراد أن يرد بأحسن مما حياه به ، فإن بلغ المسلم غاية ما شرع في السلام ، رد عليه مثل ما قال ، فأما أهل الذمة فلا يبدءون بالسلام ولا يزادون ، بل يرد عليهم بما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم : السام عليكم ، فقل : وعليك» (٢) في صحيح مسلم عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه» (٣). وقال سفيان الثوري ، عن رجل ، عن الحسن البصري ، قال : السلام تطوع والرد فريضة ، وهذا الذي قال هو قول العلماء قاطبة ، أن الرد واجب على من سلم عليه ، فيأثم إن لم يفعل ، لأنه خالف أمر الله في قوله : فحيوا بأحسن منها أو ردوها

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٤٣٩.

(٢) صحيح البخاري (استئذان باب ٢٢) وصحيح مسلم (سلام حديث ٩)

(٣) صحيح مسلم (سلام حديث ١٤)

٣٢٦

وقد جاء في الحديث الذي رواه [أبو داود بسنده إلى أبي هريرة ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «والذي نفسي بيده ، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم»] (١).

وقوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إخبار بتوحيده وتفرده بالإلهية لجميع المخلوقات وتضمن قسما لقوله : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) وهذه اللام موطئة للقسم ، فقوله الله لا إله إلا هو خبر وقسم أنه سيجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ، فيجازي كل عامل بعمله ، وقوله تعالى : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) أي لا أحد أصدق منه في حديثه وخبره ووعده ووعيده ، فلا إله إلا هو ولا رب سواه.

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً(٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) (٩١)

يقول تعالى منكرا على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين على قولين. واختلف في سبب ذلك فقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا بهز ، حدثنا شعبة ، قال عدي بن ثابت ، أخبرني عبد الله بن يزيد عن زيد بن ثابت : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس خرجوا معه ، فكان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم فرقتين : فرقة تقول : نقتلهم ، وفرقة تقول : لا ، هم المؤمنون ، فأنزل الله (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد» (٣) أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة.

وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في وقعة أحد أن عبد الله بن أبي بن سلول رجع يومئذ بثلث الجيش ، رجع بثلاثمائة وبقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سبعمائة ، وقال العوفي عن ابن عباس : نزلت

__________________

(١) ما بين معقوفين زيادة من سنن أبي داود (أدب باب ١٣١) ومكانه في الأصل بياض.

(٢) مسند أحمد ٥ / ١٨٤.

(٣) هذا لفظ مسلم (حج حديث ٤٨٨) من طريق أبي هريرة. أما لفظ أحمد (٥ / ١٨٤) ومسلم (حج ٤٩٠ ومنافقين ٦) والبخاري (تفسير سورة النساء باب ١٢) جميعا من طريق زيد بن ثابت فهو : «كما تنفي النار خبث الفضة».

٣٢٧

في قوم كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام ، وكانوا يظاهرون المشركين ، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم فقالوا : إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس ، وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة ، قالت فئة من المؤمنين : اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم ، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم ، وقالت فئة أخرى من المؤمنين : سبحان الله ، أو كما قالوا : أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم ، نستحل دماءهم وأموالهم؟ فكانوا كذلك فئتين ، والرسول عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء ، فنزلت (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) رواه ابن أبي حاتم.

وقد روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا ، وقال زيد بن أسلم عن ابن لسعد بن معاذ : أنها نزلت في تقاول الأوس والخزرج في شأن عبد الله بن أبي ، حين استعذر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر في قضية الإفك ، وهذا غريب ، وقيل غير ذلك.

وقوله تعالى : (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا) أي ردهم وأوقعهم في الخطأ ، قال ابن عباس (أَرْكَسَهُمْ) أي أوقعهم ، وقال قتادة : أهلكهم وقال السدي : أضلهم ، وقوله : (بِما كَسَبُوا) أي بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول واتباعهم الباطل (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) أي لا طريق له إلى الهدى ولا مخلص له إليه ، وقوله : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً) أي هم يودون لكم الضلالة لتستووا أنتم وإياهم فيها وما ذاك إلا لشدة عداوتهم وبغضهم لكم ولهذا قال : (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي تركوا الهجرة ، قاله العوفي عن ابن عباس ، وقال السدي : أظهروا كفرهم (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي لا توالوهم ولا تستنصروا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك ، ثم استثنى الله من هؤلاء ، فقال : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي إلا الذين لجئوا وتحيزوا إلى قوم بينكم وبينهم مهادنة ، أو عقد ذمة فاجعلوا حكمهم كحكمهم ، وهذا قول السدي وابن زيد وابن جرير.

وقد روى ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان ، عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال : لما ظهر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أهل بدر وأحد وأسلم من حولهم ، قال سراقة : بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج ، فأتيته فقلت : أنشدك النعمة ، فقالوا : صه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دعوه ، ما تريد؟» قال : بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي وأنا أريد أن توادعهم ، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام ، وإن لم يسلموا لم تخشن قلوب قومك عليهم ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيد خالد بن الوليد فقال : «اذهب معه فافعل ما يريد» فصالحهم خالد على ألا يعينوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن أسلمت قريش أسلموا معهم ، فأنزل الله (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما

٣٢٨

كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ).

ورواه ابن مردويه من طريق حماد بن سلمة ، وقال : فأنزل الله (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) فكان من وصل إليهم كان معهم على عهدهم ، وهذا أنسب لسياق الكلام ، وفي صحيح البخاري في قصة صلح الحديبية : فكان من أحب أن يدخل في صلح قريش وعهدهم ، ومن أحب أن يدخل في صلح محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وعهدهم ، وقد روي عن ابن عباس أنه قال : نسخها قوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥].

وقوله : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) الآية ، هؤلاء قوم آخرون من المستثنين من الأمر بقتالهم وهم الذين يجيئون إلى المصاف وهم حصرة صدورهم أي ضيقة صدورهم مبغضين أن يقاتلوكم ، ولا يهون عليهم أيضا أن يقاتلوا قومهم معكم بل هم لا لكم ولا عليكم (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ) أي من لطفه بكم أن كفهم عنكم (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) أي المسالمة (فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) أي فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك ، وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين فحضروا القتال وهم كارهون كالعباس ونحوه ولهذا نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ عن قتل العباس وأمر بأسره.

وقوله : (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) الآية ، هؤلاء في الصورة الظاهرة كمن تقدمهم ، ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك ، فإن هؤلاء قوم منافقون يظهرون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه الإسلام ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم ، ويصانعون الكفار في الباطن تعبدون معهم ما يعبدون ليأمنوا بذلك عندهم وهم في الباطن مع أولئك ، كما قال تعالى : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) [البقرة : ١٤] ، وقال هاهنا (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها) أي انهمكوا فيها ، وقال السدي : الفتنة ـ هاهنا ـ الشرك ، وحكى ابن جرير عن مجاهد أنها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسلمون رياء ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان ، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا ، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا ولهذا قال تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) المهادنة والصلح ، (وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ) أي عن القتال ، (فَخُذُوهُمْ) أسراء ، (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي أين لقيتموهم ، (وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) أي بينا واضحا.

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ

٣٢٩

رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) (٩٣)

يقول تعالى : ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بوجه من الوجوه ، وكما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (١) ثم إذا وقع شيء من هذه الثلاث ، فليس لأحد من آحاد الرعية أن يقتله ، وإنما ذلك إلى الإمام أو نائبه ، وقوله : (إِلَّا خَطَأً) قالوا : هو استثناء منقطع ، كقول الشاعر : [الطويل]

من البيض لم تظعن بعيدا ولم تطأ

على الأرض إلا ريط برد مرحّل (٢)

ولهذا شواهد كثيرة. واختلف في سبب نزول هذه ، فقال مجاهد وغير واحد : نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه وهي أسماء بنت مخرمة ، وذلك أنه قتل رجلا يعذبه مع أخيه على الإسلام وهو الحارث بن يزيد الغامدي ، فأضمر له عياش السوء ، فأسلم ذلك الرجل وهاجر وعياش لا يشعر ، فلما كان يوم الفتح رآه فظن أنه على دينه فحمل عليه فقتله ، فأنزل الله هذه الآية ، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : نزلت في أبي الدرداء لأنه قتل رجلا وقد قال كلمة الإيمان حين رفع عليه السيف ، فأهوى به إليه فقال كلمته ، فلما ذكر ذلك للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : إنما قالها متعوذا فقال له : هل شققت عن قلبه؟ وهذه القصة في الصحيح لغير أبي الدرداء (٣).

وقوله : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) هذان واجبان في قتل الخطأ ، أحدهما الكفارة لما ارتكبه من الذنب العظيم وإن كان خطأ ، ومن شرطها أن تكون عتق رقبة مؤمنة فلا تجزئ الكافرة ، وحكى ابن جرير عن ابن عباس والشعبي وإبراهيم النخعي والحسن البصري أنهم قالوا : لا يجزئ الصغير حتى يكون قاصدا للإيمان ، وروي من طريق عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة ، قال : في حرف ، فتحرير رقبة مؤمنة لا يجزئ فيها صبي ، واختار ابن جرير (٤) أنه إن كان مولودا بين أبوين مسلمين أجزأ وإلا فلا ، والذي عليه الجمهور أنه متى كان مسلما صح عتقه عن الكفارة سواء كان صغيرا أو كبيرا.

__________________

(١) صحيح البخاري (ديات باب ٦) وصحيح مسلم (قسامة حديث ٢٥ ـ ٢٦) وسنن الترمذي (حدود باب ١٥) وسنن أبي داود (حدود باب ١)

(٢) البيت لجرير في ديوانه ص ٤٥٧ وتفسير الطبري ٤ / ٢٠٥. والريط : الملاءة. والمرحّل : الموشّى. قال ابن جرير الطبري : ولم تطأ على الأرض إلا أن تطأ ذيل البرد ، وليس ذيل البرد من الأرض.

(٣) وردت هذه القصة بشأن المقداد بن الأسود في رواية مسند أحمد ٤ / ٤٣٨.

(٤) تفسير الطبري ٤ / ٢٠٧.

٣٣٠

قال الإمام أحمد (١) : أنبأنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله ، عن رجل من الأنصار : أنه جاء بأمة سوداء ، فقال : يا رسول الله : إن علي عتق رقبة مؤمنة ، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها ، فقال لها رسول الله : «أتشهدين أن لا إله إلا الله؟» قالت: نعم. قال : «أتشهدين أني رسول الله؟» قالت : نعم. قال : «أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟» قالت : نعم. قال : «أعتقها». وهذا إسناد صحيح وجهالة الصحابي لا تضره ، وفي موطأ مالك ومسند الشافعي وأحمد وصحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي من طريق هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار ، عن معاوية بن الحكم : أنه لما جاء بتلك الجارية السوداء ، قال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أين الله؟ قالت : في السماء. قال : «من أنا» قالت : رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «أعتقها ، فإنها مؤمنة» (٢).

وقوله : (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) هو الواجب الثاني فيما بين القاتل وأهل القتيل عوضا لهم عما فاتهم من قتيلهم ، وهذه الدية إنما تجب أخماسا ، كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث الحجاج بن أرطاة عن زيد بن جبير ، عن خشف بن مالك ، عن ابن مسعود ، قال : قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دية الخطأ عشرين بنت مخاض ، وعشرين بني مخاض ذكورا ، وعشرين بنت لبون ، وعشرين جذعة ، وعشرين حقة (٣) ، لفظ النسائي قال الترمذي : لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه ، وقد روي عن عبد الله موقوفا ، كما روي عن علي وطائفة ، وقيل : تجب أرباعا وهذه الدية على العاقلة لا في ماله.

قال الشافعي رحمه‌الله : لم أعلم مخالفا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى بالدية على العاقلة (٤) وهو أكثر من حديث الخاصة ، وهذا الذي أشار إليه رحمه‌الله قد ثبت في غير ما حديث ، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقضى أن دية جنينها غرة (٥) عبد أو أمة ، وقضى بدية المرأة على عاقلتها وهذا يقتضي أن حكم عمد الخطأ حكم المحض في وجوب الدية ، لكن هذا تجب فيه الدية أثلاثا لشبهة العمد.

وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا ، فجعلوا يقولون : صبأنا صبأنا فجعل

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ٤٥١.

(٢) مسند أحمد ٥ / ٤٤٧.

(٣) الحقة : هي الداخلة في السنة الرابعة. وابن اللبون : ما دخل في الثالثة. وابن المخاض ما دخل في الثانية. والجذعة : ما تمّ له أربع سنوات.

(٤) عاقلة الرجل : عصبته ، وهم القرابة من جهة الأب الذين يشتركون في دفع ديته.

(٥) الغرة من القوم : شريفهم وسيدهم. ومن المتاع : خياره ورأسه.

٣٣١

خالد يقتلهم فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرفع يديه وقال «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» (١) وبعث عليا فودى قتلاهم وما أتلف من أموالهم حتى ميلغة (٢) الكلب ، وهذا الحديث يؤخذ منه أن خطأ الإمام أو نائبه يكون في بيت المال.

وقوله : (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) أي فتجب فيه الدية مسلمة إلى أهله إلا أن يتصدقوا بها فلا تجب ، وقوله : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي إذا كان القتيل مؤمنا ولكن أولياؤه من الكفار أهل حرب ، فلا دية لهم ، وعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير ، وقوله : (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) الآية ، أي فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة أو هدنة فلهم دية قتيلهم ، فإن كان مؤمنا فدية كاملة ، وكذا إن كان كافرا أيضا عند طائفة من العلماء ، وقيل : يجب في الكافر نصف دية المسلم وقيل : ثلثها كما هو مفصل في كتاب الأحكام ويجب أيضا على القاتل تحرير رقبة مؤمنة (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) أي لا إفطار بينهما بل يسرد صومهما إلى آخرهما ، فإن أفطر من غير عذر من مرض أو حيض أو نفاس استأنف ، واختلفوا في السفر هل يقطع أم لا ، على قولين ، وقوله : (تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) أي هذه توبة القاتل خطأ إذا لم يجد العتق صام شهرين متتابعين ، واختلفوا فيمن لا يستطع الصيام ، هل يجب عليه إطعام ستين مسكينا كما في كفارة الظهار ، على قولين أحدهما : نعم كما هو منصوص عليه في كفارة الظهار ، وإنما لم يذكر هاهنا ، لأن هذا مقام تهديد وتخويف وتحذير فلا يناسب أن يذكر فيه الإطعام لما فيه من التسهيل والترخيص ، والقول الثاني لا يعدل إلى الطعام ، لأنه لو كان واجبا لما أخر بيانه عن وقت الحاجة (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) قد تقدم تفسيره غير مرة.

ثم لما بين تعالى حكم القتل الخطأ شرع في بيان حكم القتل العمد ، فقال : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) الآية ، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله ، حيث يقول سبحانه في سورة الفرقان (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) [الفرقان : ٦٨] ، وقال تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) [الأنعام : ١٥١] ، والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا ، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء» (٣) ، وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود من رواية عمرو بن الوليد بن عبدة المصري عن عبادة بن الصامت ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يزال المؤمن معنقا صالحا ما لم يصب دما حراما ، فإذا

__________________

(١) صحيح البخاري (أحكام باب ٣٥ ومغازي باب ٥٨ ودعوات باب ٢٢)

(٢) الميلغة : الإناء الذي يشرب منه الكلب.

(٣) صحيح البخاري (ديات باب ١) وصحيح مسلم (قسامة حديث ٢٨)

٣٣٢

أصاب دما حراما بلح» (١) وفي حديث آخر «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم» ، وفي الحديث الآخر «ومن أعان على قتل المسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه : آيس من رحمة الله».

وقد كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدا ، وقال البخاري (٢) : حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، حدثنا المغيرة بن النعمان ، قال : سمعت ابن جبير قال : اختلف فيها أهل الكوفة ، فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها ، فقال : نزلت هذه الآية (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) هي آخر ما نزل ، وما نسخها شيء ، وكذا رواه هو أيضا ومسلم والنسائي من طرق عن شعبة به. ورواه أبو داود (٣) عن أحمد بن حنبل عن ابن مهدي ، عن سفيان الثوري ، عن مغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله (مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) فقال : ما نسخها شيء. وقال ابن جرير (٤) : حدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن عون ، حدثنا شعبة عن سعيد بن جبير ، قال : قال عبد الرحمن بن أبزا سئل ابن عباس عن قوله : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) الآية ، قال : لم ينسخها شيء ، وقال في هذه الآية (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) [الفرقان : ٦٨] إلى آخرها ، قال : نزلت في أهل الشرك.

وقال ابن جرير (٥) أيضا حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير عن منصور ، حدثني سعيد بن جبير أو حدثني الحكم عن سعيد بن جبير ، قال : سألت ابن عباس عن قوله : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) قال : إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام ، ثم قتل مؤمنا متعمدا ، فجزاؤه جهنم ولا توبة له ، فذكرت ذلك لمجاهد فقال : إلا من ندم. حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا : حدثنا جرير عن يحيى الجابر عن سالم بن أبي الجعد ، قال : كنا عند ابن عباس بعد ما كف بصره ، فأتاه رجل فناداه : يا عبد الله بن عباس ، ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا؟ فقال : جزاؤه جهنم خالدا فيها ، وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما. قال : أفرأيت إن تاب وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس : ثكلته أمه وأنى له التوبة والهدى؟ والذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمدا جاء يوم القيامة أخذه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه من قبل عرش الرحمن ، يلزم قاتله بشماله وبيده الأخرى رأسه ، يقول : يا رب ، سل هذا فيم قتلني» وايم الذي نفس عبد الله بيده ، لقد أنزلت هذه الآية

__________________

(١) سنن أبي داود (فتن باب ٦). والمعنق : خفيف الظهر سريع السير. والمراد : المسرع في طاعته. وبلّح (بتضعيف اللام وآخره حاء مهملة) : أعيا وانقطع.

(٢) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب ١٤)

(٣) سنن أبي داود (فتن باب ٦)

(٤) تفسير الطبري ٤ / ٢٢١.

(٥) تفسير الطبري ٤ / ٢٢٠.

٣٣٣

فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما نزل بعدها من برهان.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت يحيى بن المجبر يحدث عن سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس أن رجلا أتى إليه فقال : أرأيت رجلا قتل رجلا عمدا؟ فقال : جزاؤه جهنم خالدا فيها ، الآية ، قال : لقد نزلت من آخر ما نزل ، ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال : وأنى له بالتوبة ، وقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ثكلته أمه رجل قتل رجلا متعمدا يجيء يوم القيامة آخذا قاتله بيمينه أو بيساره ـ أو آخذا رأسه بيمينه أو بشماله ـ تشخب أوداجه دما من قبل العرش ، يقول : يا رب ، سل عبدك فيم قتلني».

وقد رواه النسائي عن قتيبة وابن ماجة عن محمد بن الصباح عن سفيان بن عيينة ، عن عمار الدهني ويحيى الجابر وثابت الثمالي عن سالم بن أبي الجعد ، عن ابن عباس فذكره ، وقد روي هذا عن ابن عباس من طرق كثيرة.

وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف زيد بن ثابت وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعبيد بن عمير والحسن وقتادة والضحاك بن مزاحم نقله ابن أبي حاتم. وفي الباب أحاديث كثيرة ، فمن ذلك ما رواه أبو بكر بن مردويه الحافظ في تفسيره : حدثنا دعلج بن أحمد ، حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي (ح) (٢) ، وحدثنا عبد الله بن جعفر ، وحدثنا إبراهيم بن فهد ، قالا : حدثنا عبيد بن عبيدة حدثنا معتمر بن سليمان عن أبيه ، عن الأعمش ، عن أبي عمرو بن شرحبيل بإسناده عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يجيء المقتول متعلقا بقاتله يوم القيامة آخذا رأسه بيده الأخرى فيقول يا رب سل هذا فيم قتلني؟ قال ، فيقول : قتلته لتكون العزة لك ، فيقول : فإنها لي ، قال ويجيء آخر متعلقا بقاتله فيقول : رب سل هذا فيم قتلني. قال فيقول : قتلته لتكون العزة لفلان ، قال : فإنها ليست له بؤ بإثمه ، قال : فيهوي في النار سبعين خريفا» وقد رواه النسائي عن إبراهيم بن المستمر العوفي ، عن عمرو بن عاصم ، عن معتمر بن سليمان به.

حديث آخر : قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا صفوان بن عيسى ، حدثنا ثور بن يزيد عن أبي عون ، عن أبي إدريس ، قال : سمعت معاوية رضي الله عنه يقول : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا ، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا» وكذا رواه النسائي عن محمد بن المثنى ، عن صفوان بن عيسى به ، وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٢٤٠.

(٢) انتقال من إسناد إلى إسناد. وهو مأخوذ من كلمة التحول.

(٣) مسند أحمد ٤ / ٩٩.

٣٣٤

جعفر ، حدثنا سمويه ، حدثنا عبد الأعلى بن مسهر ، حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا خالد بن دهقان ، حدثنا ابن أبي زكريا ، قال سمعت أم الدرداء تقول : سمعت أبا الدرداء يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا ، أو من قتل مؤمنا متعمدا» وهذا غريب جدا من هذا الوجه ، والمحفوظ حديث معاوية المتقدم ، فالله أعلم ، ثم روى ابن مردويه من طريق بقية بن الوليد عن نافع بن يزيد : حدثني ابن جبير الأنصاري عن داود بن الحصين ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قتل مؤمنا متعمدا فقد كفر بالله عزوجل» وهذا حديث منكر أيضا ، فإسناده متكلم فيه جدا.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا النضر ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، حدثنا حميد ، قال : أتاني أبو العالية أنا وصاحب لي ، فقال لنا : هلما فأنتما أشب سنا مني ، وأوعى للحديث مني ، فانطلق بنا إلى بشر بن عاصم ، فقال له أبو العالية : حدث هؤلاء بحديثك ، فقال : حدثنا عقبة بن مالك الليثي قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية فأغارت على قوم ، فشد مع القوم رجل فاتبعه رجل من السرية شاهرا سيفه ، فقال الشاد من القوم : إني مسلم فلم ينظر فيما قال ، قال : فضربه فقتله ، فنمي الحديث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال فيه قولا شديدا ، فبلغ القاتل ، فبينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب إذ قال القاتل : والله ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل ، قال : فأعرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه وعمن قبله من الناس وأخذ في خطبته ، ثم قال أيضا : يا رسول الله ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل ، فأعرض عنه وعمن قبله من الناس وأخذ في خطبته ثم لم يصبر حتى قال الثالثة : والله يا رسول الله ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل ، فأقبل عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم تعرف المساءة في وجهه ، فقال : «إن الله أبى على من قتل مؤمنا ثلاثا» ورواه النسائي من حديث سليمان بن المغيرة.

والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله عزوجل ، فإن تاب وأناب ، وخشع وخضع وعمل عملا صالحا بدل الله سيئاته حسنات ، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته ، قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ـ إلى قوله ـ إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) [الفرقان : ٦٨] ، وهذا خبر لا يجوز نسخه وحمله على المشركين وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظاهر ، ويحتاج حمله إلى دليل ، والله أعلم. وقال تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣] ، وهذا عام في جميع الذنوب من كفر وشرك وشك ونفاق وقتل وفسق وغير ذلك ، كل من تاب أي من أي ذلك تاب الله عليه ، قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ١١٦] فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك ، وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها لتقوية الرجاء ، والله

__________________

(١) مسند أحمد ٥ / ٢٨٨ ـ ٢٨٩.

٣٣٥

أعلم ، وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس ثم سأل عالما هل لي من توبة؟ فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه ، فهاجر إليه فمات في الطريق ، فقبضته ملائكة الرحمة كما ذكرناه غير مرة ، وإذا كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى ، لأن الله وضع عنا الآصار ، والأغلال التي كانت عليهم وبعث نبينا بالحنيفية المسحة.

فأما الآية الكريمة وهي قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) الآية ، فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف : هذا جزاؤه إن جازاه ، وقد رواه ابن مردويه بإسناده مرفوعا من طريق محمد بن جامع العطار عن العلاء بن ميمون العنبري ، عن حجاج الأسود ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة مرفوعا ولكن لا يصح ، ومعنى هذه الصيغة أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه ، وكذا كل وعيد على ذنب ، لكن قد يكون كذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه على قولي أصحاب الموازنة والإحباط ، وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد ، والله أعلم بالصواب ، وبتقدير دخول القاتل في النار ، أما على قول ابن عباس ومن وافقه أنه لا توبة له ، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحا ينجو به فليس بمخلد فيها أبدا ، بل الخلود هو المكث الطويل ، وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان» ، وأما حديث معاوية «كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا ، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا» فعسى للترجي ، فإذا انتفى الترجي في هاتين الصورتين لا تنفي وقوع ذلك في أحدهما وهو القتل لما ذكرنا من الأدلة ، وأما من مات كافرا فالنص أن الله لا يغفر له البتة ، وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه حق من حقوق الآدميين ، وهي لا تسقط بالتوبة ، ولكن لا بد من ردها إليهم ولا فرق بين المقتول والمسروق منه ، والمغصوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين ، فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة ، ولكنه لا بد من ردها إليهم في صحة التوبة ، فإن تعذر ذلك فلا بد من المطالبة يوم القيامة ، لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة ، إذ قد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها ، ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة أو يعوض الله المقتول بما يشاء من فضله من قصور الجنة ونعيمها ، ورفع درجته فيها ونحو ذلك والله أعلم.

ثم لقاتل العمد أحكام في الدنيا وأحكام في الآخرة ، فأما في الدنيا فتسلط أولياء المقتول عليه ، قال الله تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) [الإسراء : ٣٣] ، ثم هم مخيرون بين أن يقتلوا ، أو يعفوا ، أو يأخذوا دية مغلظة أثلاثا ، ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة (١) ، كما هو مقرر في كتاب الأحكام ، واختلف الأئمة هل تجب عليه كفارة عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ، على أحد القولين كما تقدم في كفارة الخطأ ، على

__________________

(١) الخلفة : الحامل من النوق. وقد تقدم شرح معنى الحقة والجذعة.

٣٣٦

قولين فالشافعي وأصحابه وطائفة من العلماء يقولون نعم ، يجب عليه ، لأنه إذا وجبت عليه الكفارة في الخطأ فلأن تجب عليه في العمد أولى ، فطردوا هذا في كفارة اليمين الغموس واعتذروا بقضاء الصلاة المتروكة عمدا كما أجمعوا على ذلك في الخطأ ، وقال أصحابه ، الإمام أحمد وآخرون: قتل العمد أعظم من أن يكفر فلا كفارة فيه ، وكذا اليمين الغموس ولا سبيل لهم إلى الفرق بين هاتين الصورتين وبين الصلاة المتروكة عمدا ، فإنهم يقولون بوجوب قضائها إذا تركت عندا.

وقد احتج من ذهب إلى وجوب الكفارة في قتل العمد بما رواه الإمام أحمد (١) حيث قال : حدثنا عارم بن الفضل ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن إبراهيم بن أبي عبلة ، عن الغريف بن عياش عن واثلة بن الأسقع ، قال : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفر من بني سليم فقالوا : إن صاحبا لنا قد أوجب (٢) ، قال : «فليعتق رقبة يفدي الله بكل عضو منها عضوا منه من النار» وقال أحمد (٣) : حدثنا إبراهيم بن إسحاق ، حدثنا ضمرة بن ربيعة عن إبراهيم بن أبي عبلة عن الغريف الديلمي ، قال : أتينا واثلة بن الأسقع الليثي فقلنا له حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : أتينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في صاحب لنا قد أوجب ، فقال : «أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار» وكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث إبراهيم بن أبي عبلة به ، ولفظ أبي داود (٤) عن الغريف الديلمي (٥) قال : أتينا واثلة بن الأسقع فقلنا له : حدثنا حديثا ليس فيه زيادة ولا نقصان فغضب فقال : إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته فيزيد وينقص ، قلنا : إنما أردنا حديثا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أتينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صاحب لنا قد أوجب ، يعني النار ، بالقتل فقال : «أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (٩٤)

قال الإمام أحمد (٦) : حدثنا يحيى بن أبي بكير وخلف بن الوليد وحسين بن محمد قالوا : حدثنا إسرائيل عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : مر رجل من بني سليم بنفر من

__________________

(١) مسند أحمد ٤ / ١٠٧.

(٢) أي فعل فعلا استوجب به النار.

(٣) مسند أحمد ٣ / ٤٩١.

(٤) سنن أبي داود (عتق باب ١٣)

(٥) في أبي داود : «الغريف بن الديلمي».

(٦) مسند أحمد ١ / ٢٢٩ ، ٢٧٢.

٣٣٧

أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرعى غنما له فسلم عليهم ، فقالوا : لا يسلم علينا إلا ليتعوذ منا ، فعمدوا إليه فقتلوه ، وأتوا بغنمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلى آخرها.

ورواه الترمذي في التفسير عن عبد بن حميد ، عن عبد العزيز بن أبي رزمة ، عن إسرائيل به ، ثم قال : هذا حديث حسن صحيح ، وفي الباب عن أسامة بن زيد ، ورواه الحاكم من طريق عبيد الله بن موسى عن إسرائيل به ، ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه ، ورواه ابن جرير من حديث عبيد الله بن موسى وعبد الرحيم بن سليمان ، كلاهما عن إسرائيل به ، وقال في بعض كتبه غير التفسير ، وقد رواه من طريق عبد الرحمن فقط ، وهذا خبر عندنا صحيح سنده ، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيما لعلل منها : أنه لا يعرف له مخرج عن سماك إلا من هذا الوجه ، ومنها أن عكرمة في روايته عندهم نظر ، ومنها أن الذي نزلت فيه هذه الآية عندهم مختلف فيه فقال بعضهم : نزلت في محلم بن جثامة ، وقال بعضهم : أسامة بن زيد ، وقيل غير ذلك.

قلت : وهذا كلام غريب وهو مردود من وجوه : أحدها أنه ثابت عن سماك حدث به عنه غير واحد من الأئمة الكبار ، الثاني أن عكرمة محتج به في الصحيح ، الثالث أنه مروي من غير هذا الوجه عن ابن عباس ، كما قال البخاري (١) : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) قال : قال ابن عباس كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون ، فقال : السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمته ، فأنزل الله في ذلك (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) قال ابن عباس : عرض الدنيا تلك الغنيمة ، وقرأ ابن عباس (السَّلامَ) ، وقال سعيد بن منصور : حدثنا منصور عن عمرو بن دينار ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس ، قال : لحق المسلمون رجلا في غنيمة له ، فقال : السلام عليكم ، فقتلوه وأخذوا غنيمته ، فنزلت (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً). وقد رواه ابن جرير (٢) وابن أبي حاتم من طريق سفيان بن عيينة به ، وقد (٣) في ترجمة : أن أخاه فزارا ، هاجر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عن أمر أبيه بإسلامهم وإسلام قومهم ، فلقيته سرية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في عماية الليل ، وكان قد قال لهم إنه مسلم ، فلم يقبلوا منه فقتلوه فقال أبوه : فقدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأعطاني ألف دينار ودية أخرى وسيرني ، فنزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية.

وأما قصة محلم بن جثامة ، فقال الإمام أحمد (٤) رحمه‌الله : حدثنا يعقوب : حدثني أبي

__________________

(١) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب ٥)

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٢٢٦.

(٣) بياض في الأصل بعد هذا اللفظ.

(٤) مسند أحمد ٦ / ١١.

٣٣٨

عن محمد (١) بن إسحاق ، حدثنا يزيد بن عبد الله بن قسيط عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدود رضي الله عنه ، قال : بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى إضم فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي ، ومحلم بن جثامة بن قيس ، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم ، مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود (٢) له ، معه متيع له ووطب من لبن ، فلما مر بنا سلم علينا ، فأمسكنا عنه ، وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله ، لشيء كان بينه وبينه ، وأخذ بعيره ومتيعه ، فلما قدمنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبرناه الخبر نزل فينا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ـ إلى قوله تعالى ـ خَبِيراً) تفرد به أحمد.

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا جرير عن ابن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم محلم بن جثامة مبعثا ، فلقيهم عامر بن الأضبط فحياهم بتحية الإسلام ، وكانت بينهم إحنة في الجاهلية ، فرماه محلم بسهم فقتله ، فجاء الخبر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتكلم فيه عيينة والأقرع : فقال الأقرع يا رسول الله ، سر اليوم وغر غدا ، فقال عيينة : لا والله حتى تذوق نساؤه من الثكل ما ذاق نسائي ، فجاء محلم في بردين فجلس بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليستغفر له ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا غفر الله لك» ، فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه ، فما مضت له سابعة حتى مات ودفنوه ، فلفظته الأرض ، فجاؤوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكروا ذلك له ، فقال : «إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم ، ولكن الله أراد أن يعظكم» ثم طرحوه بين صدفي جبل وألقوا عليه الحجارة فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا) الآية.

وقال البخاري (٤) : قال حبيب بن أبي عمرة عن سعيد ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمقداد : «إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فقتلته ، فكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة من قبل» هكذا ذكره البخاري معلقا مختصرا ، وقد روي مطولا موصولا ، فقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا حماد بن علي البغدادي ، حدثنا جعفر بن سلمة ، حدثنا أبو بكر بن علي بن مقدم ، حدثنا حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية فيها المقداد بن الأسود ، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا ، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأهوى عليه المقداد فقتله ، فقال له رجل من أصحابه : أقتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله؟ والله لأذكرن ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : يا رسول الله ، إن رجلا شهد أن لا إله إلا الله ، فقتله المقداد ، فقال :

__________________

(١) في المسند : «عن إسحاق».

(٢) القعود : البعير.

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٢٢٤.

(٤) صحيح البخاري (ديات باب ١)

٣٣٩

«ادعوا لي المقداد ، يا مقداد : أقتلت رجلا يقول لا إله إلا الله ، فكيف لك بلا إله إلا الله غدا؟» قال : فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا) ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمقداد : «كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته ، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل».

وقوله : (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) أي خير مما رغبتم فيه عرض الحياة الدنيا الذي حملكم على قتل مثل هذا الذي ألقى إليكم السلام ، وأظهر لكم الإيمان فتغافلتم عنه واتهمتموه بالمصانعة والتقية لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ، فما عند الله من الرزق الحلال خير لكم من مال هذا.

وقوله : (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) أي قد كنتم من قبل هذه الحال كهذا الذي يسر إيمانه ويخفيه من قومه ، كما تقدم في الحديث المرفوع آنفا ، وكما قال تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) [الأنفال : ٢٦] ، وهذا مذهب سعيد بن جبير لما رواه الثوري عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير في قوله : (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) تخفون إيمانكم في المشركين ، ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج : أخبرني عبد الله بن كثير عن سعيد بن جبير في قوله : (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الراعي بإيمانه ، وهذا اختيار ابن جرير ، وقال ابن أبي حاتم ، وذكر عن قيس ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : قوله (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) لم تكونوا مؤمنين (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) أي تاب عليكم فحلف أسامة لا يقتل رجلا يقول : لا إله إلا الله بعد ذلك الرجل ، وما لقي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه ، وقوله : (فَتَبَيَّنُوا) تأكيد لما تقدم ، وقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) قال سعيد بن جبير : هذا تهديد ووعيد.

(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٩٦)

قال البخاري (١) : حدثنا حفص بن عمر ، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن البراء ، قال لما نزلت (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيدا فكتبها ، فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته ، فأنزل الله (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) ، حدثنا محمد بن يوسف عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء ، قال : لما نزلت (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ادع فلانا ، فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف ، فقال اكتب (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

__________________

(١) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب ١٦)

٣٤٠