تفسير القرآن العظيم - ج ٢

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٠

وغير ذلك من أوامره وشرائعه الكاملة العظيمة الشاملة.

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) أي سميعا لأقوالكم ، بصيرا بأفعالكم ، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، حدثنا عبد الله بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر ، قال : رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقرئ هذه الآية (سَمِيعاً بَصِيراً) يقول : بكل شيء بصير ، وقد قال ابن أبي حاتم: أخبرنا يحيى بن عبدك القزويني ، أنبأنا المقرئ يعني أبا عبد الرحمن عبد الله بن يزيد ، حدثنا حرملة يعني ابن عمران التجيبي المصري ، حدثني أبو يونس ، سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) إلى قوله : (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) ويضع إبهامه على أذنه ، والتي تليها على عينه ويقول : هكذا سمعت رسول الله يقرؤها ويضع إصبعيه. قال أبو زكريا : وصفه لنا المقري ، ووضع أبو زكريا إبهامه اليمنى على عينه اليمنى ، والتي تليها على الأذن اليمنى ، وأرانا فقال : هكذا وهكذا. رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، وابن مردويه في تفسيره من حديث أبي عبد الرحمن المقري بإسناده نحوه ، وأبو يونس هذا مولى أبي هريرة واسمه سليم بن جبير.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (٥٩)

قال البخاري (١) : حدثنا صدقة بن الفضل ، حدثنا حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) قال : نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في سرية ، وهكذا أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجة من حديث حجاج بن محمد الأعور به. وقال الترمذي : حديث حسن غريب ، ولا نعرفه إلا من حديث ابن جريج.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي ، قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار ، فلما خرجوا وجد عليهم في شيء ، قال : فقال لهم : أليس قد أمركم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تطيعوني؟ قالوا : بلى. قال : اجمعوا لي حطبا ، ثم دعا بنار فأضرمها فيه ، ثم قال : عزمت عليكم لتدخلنها ، قال : فهمّ القوم أن يدخلوها قال : فقال لهم شاب منهم : إنما فررتم إلى رسول الله من النار ، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها ، قال : فرجعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبروه ، فقال لهم «لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا ، إنما

__________________

(١) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب ١٠)

(٢) مسند أحمد ١ / ٨٢.

٣٠١

الطاعة في المعروف» ، أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش به.

وقال أبو داود (١) : حدثنا مسدّد ، حدثنا يحيى عن عبيد الله ، حدثنا نافع عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ، ما لم يؤمر بمعصية ، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» وأخرجاه من حديث يحيى القطان.

وعن عبادة بن الصامت قال : «بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السمع والطاعة ، في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا ، وأثرة علينا. وأن لا ننازع الأمر أهله ، قال : «إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان» ، أخرجاه (٢) ، وفي الحديث الآخر عن أنس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اسمعوا وأطيعوا ، وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة» ، رواه البخاري.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع ، وإن كان عبدا حبشيا مجدّع الأطراف ، رواه مسلم. وعن أم الحصين أنها سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب في حجة الوداع يقول : «ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله ، اسمعوا له وأطيعوا» رواه مسلم ، وفي لفظ له «عبدا حبشيا مجدوعا».

وقال ابن جرير (٣) : حدثني علي بن مسلم الطوسي ، حدثنا ابن أبي فديك ، حدثني عبد الله بن محمد بن عروة عن هشام بن عروة عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سيليكم بعدي ولاة ، فيليكم البرّ ببره والفاجر بفجوره ، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق وصلوا وراءهم فإن أحسنوا فلكم ولهم وإن أساؤوا فلكم وعليهم».

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي ، وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء فيكثرون» قالوا : يا رسول الله ، فما تأمرنا؟ قال «أوفوا ببيعة الأول فالأول ، وأعطوهم حقهم ، فإن الله سائلهم عما استرعاهم» ، أخرجاه.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رأى من أميره شيئا فكرهه فليصبر ، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية» ، أخرجاه.

وعن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يقول «من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» رواه مسلم. وروى مسلم أيضا عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة ، قال : دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص

__________________

(١) سنن أبي داود (جهاد باب ٨٧)

(٢) صحيح البخاري (فتن باب ٢) وصحيح مسلم (إمارة حديث ٤٢)

(٣) تفسير الطبري ٤ / ١٥٣.

٣٠٢

جالس في ظل الكعبة والناس حوله مجتمعون عليه ، فأتيتهم فجلست إليه ، فقال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه ، ومنا من ينتضل (١) ، ومنا من هو في جشره(٢) ، إذ نادى منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الصلاة جامعة ، فاجتمعنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إنه لم يكن نبي من قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ، وينذرهم شر ما يعلمه لهم ، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها ، وسيصيب آخرها بلاء ، وأمور تنكرونها ، وتجيء فتن يرفق بعضها بعضا ، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن : هذه مهلكتي ، ثم تنكشف وتجئ الفتنة فيقول المؤمن : هذه هذه ، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة ، فلتأته منيته وهو يؤمن با لله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ، ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه ، فليطعه إن استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر ، قال : فدنوت منه فقلت : أنشدك بالله ، آنت سمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه ، وقال : سمعته أذناي ، ووعاه قلبي ، فقلت له : هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، ونقتل أنفسنا ، والله تعالى يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) [النساء : ٢٩] قال : فسكت ساعة ، ثم قال : أطعه في طاعة الله ، واعصه في معصية الله (٣).

والأحاديث في هذا كثيرة. وقال ابن جرير (٤) : حدثنا محمد بن الحسين ، حدثنا أحمد بن مفضل ، حدثنا أسباط عن السدي في قوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية عليها خالد بن الوليد وفيها عمار بن ياسر ، فساروا قبل القوم الذين يريدون ، فلما بلغوا قريبا منهم عرّسوا وأتاهم ذو العيينتين فأخبرهم ، فأصبحوا قد هربوا غير رجل فأمر أهله فجمعوا متاعهم ، ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل حتى أتى عسكر خالد ، فسأل عن عمار بن ياسر فأتاه فقال : يا أبا اليقظان ، إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا ، وإني بقيت فهل إسلامي نافعي غدا ، وإلا هربت؟ قال عمار : بل هو ينفع فأقم ، فأقام ، فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدا غير الرجل ، فأخذه وأخذ ماله ، فبلغ عمارا الخبر ، فأتى خالدا فقال : خل عن الرجل فإنه قد أسلم وإنه في أمان مني ، فقال خالد : وفيم أنت تجير؟ فاستبا وارتفعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأجاز أمان عمار ونهاه أن يجير الثانية على أمير ، فاستبا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال خالد : أتترك هذا العبد

__________________

(١) انتضل القوم وتناضلوا : تراموا بالسهام.

(٢) الجشر : الدواب.

(٣) صحيح مسلم (إمارة حديث ٤٦)

(٤) تفسير الطبري ٤ / ١٥١.

٣٠٣

الأجدع يسبني ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا خالد لا تسب عمارا فإنه من يسب عمارا يسبه الله ، ومن يبغضه يبفضه الله ، ومن يلعن عمارا يلعنه الله» فغضب عمار فقام فتبعه خالد فأخذ بثوبه فاعتذر إليه فرضي عنه فأنزل الله عزوجل قوله (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق عن السدي مرسلا ، ورواه ابن مردويه من رواية الحكم بن ظهير عن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس فذكره بنحوه والله أعلم.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) يعني أهل الفقه والدين ، وكذا قال مجاهد وعطاء والحسن البصري وأبو العالية (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) يعني العلماء والظاهر والله أعلم أنها عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء كما تقدم. وقد قال تعالى : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) [المائدة : ٦٣] وقال تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل : ٤٣] وفي الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصى أميري فقد عصاني» (١) ، فهذه أوامر بطاعة العلماء والأمراء ، ولهذا قال تعالى (أَطِيعُوا اللهَ) أي اتبعوا كتابه (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أي خذوا بسنته (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) أي فيما أمروكم به من طاعة الله لا في معصية الله ، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله كما تقدم في الحديث الصحيح «إنما الطاعة في المعروف» ، وقال الإمام أحمد (٢): حدثنا عبد الرحمن حدثنا همام حدثنا قتادة عن أبي مراية عن عمران بن حصين عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا طاعة في معصية الله». وقوله (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) قال مجاهد وغير واحد من السلف أي إلى كتاب الله وسنة رسوله. وهذا أمر من الله عزوجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة كما قال تعالى (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) [الشورى : ١٠] فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق ، وماذا بعد الحق إلا الضلال ، ولهذا قال تعالى (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر ، وقوله (ذلِكَ خَيْرٌ) أي التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله ، والرجوع إليهما في فصل النزاع خير (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي وأحسن عاقبة ومآلا كما قاله السدي وغير واحد. وقال مجاهد : وأحسن جزاء وهو قريب.

__________________

(١) صحيح البخاري (أحكام باب ١) وصحيح مسلم (إمارة حديث ٣٢) وسنن النسائي (بيعة باب ٢٧)

(٢) مسند أحمد ٤ / ٤٢٦.

٣٠٤

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) (٦٣)

هذا إنكار من الله عزوجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين ، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله ، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخصاما ، فجعل اليهودي يقول : بيني وبينك محمد ، وذاك يقول : بيني وبينك كعب بن الأشرف ، وقيل : في جماعة من المنافقين ممن أظهروا الإسلام ، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية ، وقيل غير ذلك ، والآية أعم من ذلك كله ، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة. وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل ، وهو المراد بالطاغوت هاهنا ، ولهذا قال (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) إلى آخرها. وقوله (يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) أي يعرضون عنك إعراضا كالمستكبرين عن ذلك ، كما قال تعالى عن المشركين : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) [لقمان : ٢١] وهؤلاء بخلاف المؤمنين الذين قال الله فيهم (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) [النور : ٥١].

ثم قال تعالى في ذم المنافقين : (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي فكيف بهم إذا ساقتهم المقادير إليك في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم ، واحتاجوا إليك في ذلك (ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) أي يعتذرون إليك ويحلفون ما أردنا بذهابنا إلى غيرك ، وتحاكمنا إلى أعدائك إلا الإحسان والتوفيق ، أي المداراة والمصانعة لا اعتقادا منا صحة تلك الحكومة ، كما أخبرنا تعالى عنهم في قوله (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى ـ إلى قوله ـ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) [المائدة : ٥٢]. وقد قال الطبراني : حدثنا أبو زيد أحمد بن يزيد الحوطي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا صفوان بن عمر عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه ، فتنافر إليه ناس من المسلمين ، فأنزل الله عزوجل (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ـ إلى قوله ـ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً).

ثم قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) هذا الضرب من الناس هم

٣٠٥

المنافقون ، والله يعلم ما في قلوبهم وسيجزيهم على ذلك ، فإنه لا تخفى عليه خافية ، فاكتف به يا محمد فيهم ، فإنه عالم بظواهرهم وبواطنهم. ولهذا قال له (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي لا تعنفهم على ما في قلوبهم (وَعِظْهُمْ) أي وانههم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر ، (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) أي وأنصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٦٥)

يقول تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ) أي فرضت طاعته على من أرسله إليهم. وقوله (بِإِذْنِ اللهِ) قال مجاهد : أي لا يطيع أحد إلا بإذني ، يعني لا يطيعهم إلا من وفقته لذلك ، كقوله (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) [آل عمران : ١٥٢] أي عن أمره وقدره ومشيئته وتسليطه إياكم عليهم. وقوله (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) الآية ، يرشد تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم ، فيستغفروا الله عنده ويسألوه أن يستغفر لهم ، فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم ، ولهذا قال (لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) وقد ذكر جماعة منهم الشيخ أبو نصر بن الصباغ في كتابه الشامل الحكاية المشهورة عن العتبي ، قال : كنت جالسا عند قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء أعرابي فقال : السلام عليك يا رسول الله ، سمعت الله يقول (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) وقد جئتك مستغفرا لذنبي مستشفعا بك إلى ربي. ثم أنشأ يقول : [البسيط]

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه

فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

ثم انصرف الأعرابي ، فغلبتني عيني فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم ، فقال يا عتبي ، الحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له».

وقوله (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جميع الأمور ، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا ، ولهذا قال (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكمت به ، وينقادون له في الظاهر والباطن ، فيسلمون لذلك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة ، كما ورد في الحديث «والذي نفسي بيده ، لا يؤمن أحدكم حتى يكون

٣٠٦

هواه تبعا لم جئت به».

وقال البخاري (١) : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا معمر عن الزهري ، عن عروة ، قال : خاصم الزبير رجلا في شراج الحرة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك» فقال الأنصاري : يا رسول الله إن كان ابن عمتك ، فتلون وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال : «اسق يا زبير ، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ، ثم أرسل الماء إلى جارك». واستوعى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري ، وكان أشار عليهماصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمر لهما فيه سعة ، قال الزبير : فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) الآية. هكذا رواه البخاري هاهنا ، أعني في كتاب التفسير من صحيحه من حديث معمر ، وفي كتاب الشرب من حديث ابن جريج ومعمر أيضا ، وفي كتاب الصلح من حديث شعيب بن أبي حمزة ، ثلاثتهم عن الزهري ، عن عروة ، فذكره ، وصورته صورة الإرسال ، وهو متصل في المعنى.

وقد رواه الإمام أحمد (٢) من هذا الوجه فصرح بالإرسال ، فقال : حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب عن الزهري ، أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه كان يخاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شراج الحرة ، كانا يسقيان بها كلاهما ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للزبير «اسق ثم أرسل إلى جارك» فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟

فتلون وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال : «اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر» فاستوعى (٣) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للزبير حقه ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري ، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استوعى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للزبير حقه في صريح الحكم ، قال عروة : فقال الزبير : والله ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) ، هكذا رواه الإمام أحمد ، وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير ، فإنه لم يسمع منه.

والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله ، فإن أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم ، رواه كذلك في تفسيره ، فقال : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني الليث ويونس عن ابن شهاب ، أن عروة بن الزبير حدثه أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام ، أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في شراج (٤) الحرة كانا يسقيان به كلاهما النخل ، فقال الأنصاري : سرح الماء يمر ، فأبى عليه

__________________

(١) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب ١١)

(٢) مسند أحمد ١ / ١٦٥ ـ ١٦٦.

(٣) استوعى الشيء : أخذه كله. والجدد : الحائط.

(٤) شراج : جمع شريج ، وهو مسيل الماء. والحرة : موضع بالمدينة.

٣٠٧

الزبير ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك» فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله ، أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال : «اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر» واستوعى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للزبير حقه ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه السعة له وللأنصار ، فلما أحفظ الأنصاري رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، استوعى للزبير حقه في صريح الحكم ، فقال الزبير : ما أحسب هذه الآية إلا في ذلك (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) وهكذا رواه النسائي من حديث ابن وهب به. ورواه أحمد والجماعة كلهم من حديث الليث به. وجعله أصحاب الأطراف في مسند عبد الله بن الزبير. وكذا ساقه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن الزبير. والله أعلم.

والعجب كل العجب من الحاكم أبي عبد الله النيسابوري فإنه روى هذا الحديث من طريق ابن أخي ابن شهاب عن عمه عن عروة ، عن عبد الله بن الزبير ، عن الزبير ، فذكره ، ثم قال :

صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه. فإني لا أعلم أحدا قام بهذا الإسناد عن الزهري بذكر عبد الله بن الزبير غير ابن أخيه وهو عنه ضعيف.

وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن علي أبو دحيم ، حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا الفضل بن دكين ، حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار ، عن سلمة رجل من آل أبي سلمة ، قال : خاصم الزبير رجلا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقضى للزبير ، فقال الرجل : إنما قضى له لأنه ابن عمته ، فنزلت : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) الآية.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن عثمان ، حدثنا أبو حيوة ، حدثنا سعيد بن عبد العزيز ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب في قوله (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) قال : نزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة ، اختصما في ماء ، فقضى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسقي الأعلى ثم الأسفل ، هذا مرسل ولكن فيه فائدة تسمية الأنصاري.

ذكر سبب آخر غريب جدا : ـ قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، أخبرنا ابن وهب ، وأخبرني عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود ، قال : اختصم رجلان إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقضى بينهما ، فقال المقضي عليه : ردنا إلى عمر بن الخطاب ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نعم» ، انطلقا إليه ، فلما أتيا إليه ، فقال الرجل : يا ابن الخطاب قضى لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على هذا. فقال : ردنا إلى عمر بن الخطاب ، فردنا إليك : فقال : أكذاك؟ قال : نعم. فقال عمر : مكانكما حتى أخرج إليكما فأقضي بينكما. فخرج إليها مشتملا على سيفه فضرب الذي قال : ردنا إلى عمر فقتله ، وأدبر الآخر فأتى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، قتل عمر والله صاحبي ، ولو لا أني أعجزته لقتلني ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن» فأنزل الله (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) الآية ، فهدر دم ذلك الرجل

٣٠٨

وبرىء عمر من قتله ، فكره الله أن يسن ذلك بعد ، فأنزل (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٦٦] ، وكذا رواه ابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود به ، وهو أثر غريب مرسل ، وابن لهيعة ضعيف والله أعلم.

طريق أخرى : ـ قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم في تفسيره : حدثنا شعيب بن شعيب ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا عتبة بن ضمرة ، حدثني أبي أن رجلين اختصما إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقضى للمحق على المبطل ، فقال المقضي عليه : لا أرضى ، فقال صاحبه : فما تريد؟ قال : أن نذهب إلى أبي بكر الصديق ، فذهبا إليه ، فقال الذي قضي له : قد اختصمنا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقضى لي ، فقال أبو بكر : أنتما على ما قضى به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأبى صاحبه أن يرضى ، فقال : نأتي عمر بن الخطاب ، فقال المقضي له : قد اختصمنا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقضى لي عليه ، فأبى أن يرضى ، فسأله عمر بن الخطاب فقال كذلك ، فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده قد سله ، فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى فقتله ، فأنزل (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) الآية.

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) (٧٠)

يخبر تعالى عن أكثر الناس أنهم لو أمروا بما هم مرتكبونه من المناهي لما فعلوه ، لأن طباعهم الرديئة مجبولة على مخالفة الأمر ، وهذا من علمه تبارك وتعالى بما لم يكن أو كان ، فكيف كان يكون ، ولهذا قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) الآية ، قال ابن جرير (١) : حدثني المثنى ، حدثني إسحاق ، حدثنا أبو زهير عن إسماعيل ، عن أبي إسحاق السبيعي ، قال: لما نزلت (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) الآية ، قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي».

ورواه ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن منير ، حدثنا روح ، حدثنا هشام عن الحسن بإسناده عن الأعمش ، قال : لما نزلت (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) الآية ، قال أناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو فعل ربنا لفعلنا ، فبلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «للإيمان أثبت في قلوب أهله من الجبال الرواسي».

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ١٦٣.

٣٠٩

وقال السدي : افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من اليهود ، فقال اليهودي : والله لقد كتب الله علينا القتل فقتلنا أنفسنا ، فقال ثابت : والله لو كتب علينا (أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) لفعلنا ؛ فأنزل الله هذه الآية.

ورواه ابن أبي حاتم حدثنا أبي ، حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا بشر بن السري ، حدثنا مصعب بن ثابت عن عمه عامر بن عبد الله بن الزبير قال : لما نزلت (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم».

وحدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو ، عن شريح بن عبيد ، قال : لما تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) الآية ، أشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده إلى عبد الله بن رواحة ، فقال : «لو أن الله كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل» يعني ابن رواحة.

ولهذا قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) أي ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به وتركوا ما ينهون عنه (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أي من مخالفة الأمر وارتكاب النهي (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) ، قال السدي : أي وأشد تصديقا (وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا) أي من عندنا (أَجْراً عَظِيماً) يعني الجنة (وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي في الدنيا والآخرة ، ثم قال تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً). أي من عمل بما أمره الله به وترك ما نهاه الله عنه ورسوله فإن الله عزوجل يسكنه دار كرامته ويجعله مرافقا للأنبياء ثم لمن بعدهم في الرتبة وهم الصديقون ، ثم الشهداء والصالحون الذين صلحت سرائرهم وعلانيتهم ثم أثنى عليهم تعالى فقال : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً).

وقال البخاري (١) : حدثنا محمد بن عبد الله بن حوشب ، حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة» وكان في شكواه التي قبض فيها أخذته بحة شديدة فسمعته يقول : «مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين» فعلمت أنه خيّر ، وكذا رواه مسلم من حديث شعبة عن سعد بن إبراهيم به. وهذا معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الآخر «اللهم الرفيق الأعلى» ثلاثا ثم قضى ، عليه أفضل الصلاة والتسليم.

ذكر سبب نزول هذه الآية الكريمة :

قال ابن جرير (٢) : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن

__________________

(١) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب ١٢)

(٢) تفسير الطبري ٤ / ١٦٦.

٣١٠

سعيد بن جبير ، قال : جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو محزون ، فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم: «يا فلان ما لي أراك محزونا؟» فقال : يا نبي الله شيء فكرت فيه ، فقال : ما هو؟ قال : نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك ، فلم يرد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا ، فأتاه جبريل بهذه الآية (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ) الآية ، فبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبشره.

وقد روي هذا الأثر مرسلا عن مسروق ، وعن عكرمة ، وعامر الشعبي وقتادة ، وعن الربيع بن أنس وهو من أحسنها سندا ، قال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع قوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ) الآية ، وقال : إن أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : قد علمنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم له فضل على من آمن به في درجات الجنة ممن اتبعه وصدقه ، وكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضا. فأنزل الله في ذلك ، يعني هذه الآية ، فقال : يعني رسول الله «إن الأعلين ينحدرون إلى من هو أسفل منهم ، فيجتمعون في رياض فيذكرون ما أنعم الله عليهم ويثنون عليه ، وينزل لهم أهل الدرجات فيسعون عليهم بما يشتهون وما يدعون به ، فهم في روضة يحبرون ويتنعمون فيه».

وقد روي مرفوعا من وجه آخر ، فقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم ، حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيد ، حدثنا عبد الله بن عمران ، حدثنا فضيل بن عياض عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، قالت : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إنك لأحب إليّ من نفسي ، وأحب إليّ من أهلي ، وأحب إلي من ولدي ، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك ، وإذا ذكرت موتي وموتك ، عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين ، وإن دخلت الجنة خشيت أن لا أراك ، فلم يرد عليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزلت عليه (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً). وهكذا رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه في صفة الجنة من طريق الطبراني عن أحمد بن عمرو بن مسلم الخلال ، عن عبد الله بن عمران العابدي به ، ثم قال : لا أرى بإسناده بأسا ، والله أعلم.

وقال ابن مردويه أيضا : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي ، حدثنا أبو بكر بن ثابت بن عباس المصري ، حدثنا خالد بن عبد الله عن عطاء بن السائب ، عن عامر الشعبي ، عن ابن عباس : أن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إني لأحبك حتى إني لأذكرك في المنزل فيشق ذلك علي ، وأحب أن أكون معك في الدرجة ، فلم يرد عليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا ، فأنزل الله عزوجل هذه الآية. وقد رواه ابن جرير عن ابن حميد عن جرير عن عطاء ، عن الشعبي مرسلا.

وثبت في صحيح مسلم من حديث هقل بن زياد عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن

٣١١

أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال : كنت أبيت عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته ، فقال لي «سل» ، فقلت : يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة ، فقال : «أو غير ذلك؟» قلت : هو ذاك. قال : «فأعني على نفسك بكثرة السجود»(١).

وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، أخبرنا ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر ، عن عيسى بن طلحة ، عن عمرو بن مرة الجهني ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، شهدت أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، وصليت الخمس ، وأديت زكاة مالي. وصمت شهر رمضان ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مات على ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة وهكذا ـ ونصب إصبعيه ـ ما لم يعق والديه» تفرد به أحمد (٢). قال الإمام أحمد (٣) أيضا : حدثنا أبو سعيد مولى أبي هاشم ، حدثنا ابن لهيعة عن زبان بن فائد ، عن سهل بن معاذ بن أنس ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ ألف آية في سبيل الله كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء الصالحين ، وحسن أولئك رفيقا إن شاء الله».

وروى الترمذي من طريق سفيان الثوري ، عن أبي حمزة ، عن الحسن البصري ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء» ثم قال : هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وأبو حمزة اسمه عبد الله بن جابر شيخ بصري.

وأعظم من هذا كله بشارة ما ثبت في الصحيح والمسانيد وغيرهما من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم ، فقال : «المرء مع من أحب» ، قال أنس : فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث. وفي رواية عن أنس أنه قال : إني لأحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأحب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ، وأرجو أن الله يبعثني معهم وإن لم أعمل كعملهم ، قال الإمام مالك بن أنس ، عن صفوان بن سليم ، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم ، كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق المشرق أو المغرب ، لتفاضل ما بينهم» قالوا : يا رسول الله ، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ، قال «بلى ، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» ، أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك واللفظ لمسلم.

__________________

(١) صحيح مسلم (صلاة حديث ٢٢٥) وسنن أبي داود (تطوع باب ٢٢) وسنن النسائي (تطبيق باب ٧٩)

(٢) لم نقع عليه في مسند أحمد. والمثبت فيه حديث واحد لعمرو بن مرة الجهني ٤ / ٢٣١.

(٣) مسند أحمد ٣ / ٤٤٧. وفي إسناده بين ابن لهيعة وزبان : يحيى بن غيلان ورشدين بن سعد.

٣١٢

ورواه الإمام أحمد (١) ، حدثنا فزارة ، أخبرني فليح عن هلال يعني ابن علي ، عن عطاء ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة كما تراءون ـ أو ترون ـ الكوكب الدري الغابر في الأفق الطالع في تفاضل الدرجات». قالوا : يا رسول الله أولئك النبيون؟ قال : «بلى ، والذي نفسي بيده ، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» قال الحافظ الضياء المقدسي : هذا الحديث على شرط البخاري ، والله أعلم.

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا محمد بن عمار الموصلي ، حدثنا عفيف بن سالم عن أيوب ، عن عتبة ، عن عطاء عن ابن عمر ، قال : أتى رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسأله فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سل واستفهم» فقال : يا رسول الله فضلتم علينا بالصور والألوان والنبوة ، ثم قال : أفرأيت إن آمنت بما آمنت به وعملت بما عملت به ، إني لكائن معك في الجنة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم ، والذي نفسي بيده ، إنه ليضيء بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام» ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال : لا إله إلا الله ، كان له بها عهد عند الله ، ومن قال : سبحان الله وبحمده ، كتب له بها مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة» فقال رجل : كيف نهلك بعد هذا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضع على جبل لأثقله فتقوم النعمة من نعم الله ، فتكاد أن تستنفد ذلك كله إلا أن يتغمده الله برحمته» ونزلت هذه الآيات (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ـ إلى قوله ـ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) [الإنسان : ١] فقال الحبشي : وإن عينيّ لتريان ما ترى عيناك في الجنة؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم» فاستبكى حتى فاضت نفسه ، قال ابن عمر : فلقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدليه في حفرته بيديه.

فيه غرابة ونكارة وسنده ضعيف.

ولهذا قال تعالى : (ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ) أي من عند الله برحمته وهو الذي أهلهم لذلك لا بأعمالهم (وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) أي هو عليم بمن يستحق الهداية والتوفيق.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (٧٤)

__________________

(١) مسند أحمد ٢ / ٣٣٩.

٣١٣

يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوهم ، وهذا يستلزم التأهب لهم بإعداد الأسلحة والعدد ، وتكثير العدد بالنفير في سبيل الله (ثُباتٍ) أي جماعة بعد جماعة وفرقة بعد فرقة وسرية بعد سرية ، والثبات جمع ثبة ، وقد تجمع الثبة على ثبين ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : قوله : (فَانْفِرُوا ثُباتٍ) أي عصبا ، يعني سرايا متفرقين (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) يعني كلكم ، وكذا روي عن مجاهد وعكرمة والسدي وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان وخصيف الجزري.

وقوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) قال مجاهد وغير واحد : نزلت في المنافقين ، وقال مقاتل بن حيان : (لَيُبَطِّئَنَ) أي ليتخلفن عن الجهاد ، ويحتمل أن يكون المراد أنه يتباطأ هو في نفسه ، ويبطئ غيره عن الجهاد كما كان عبد الله بن أبي بن سلول ـ قبحه الله ـ يفعل ، يتأخر عن الجهاد ويثبط الناس عن الخروج فيه. وهذا قول ابن جريج وابن جرير ، ولهذا قال تعالى إخبارا عن المنافق أنه يقول : إذا تأخر عن الجهاد (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) أي قتل وشهادة وغلب العدو لكم لما لله في ذلك من الحكمة (قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) أي إذ لم أحضر معهم وقعة القتال يعد ذلك من نعم الله عليه ، ولم يدر ما فاته من الأجر في الصبر أو الشهادة إن قتل.

(وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ) أي نصر وظفر وغنيمة (لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) أي كأنه ليس من أهل دينكم (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) أي بأن يضرب لي بسهم معهم فأحصل عليه. وهو أكبر قصده وغاية مراده.

ثم قال تعالى : (فَلْيُقاتِلْ) أي المؤمن النافر (فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) أي يبيعون دينهم بعرض قليل من الدنيا ، وما ذلك إلا لكفرهم وعدم إيمانهم ، ثم قال تعالى : (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) أي كل من قاتل في سبيل الله سواء قتل أو غلب عند الله مثوبة عظيمة وأجر جزيل ، كما ثبت في الصحيحين: وتكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه بما نال من أجر أو غنيمة.

(وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (٧٦)

يحرض تعالى عباده المؤمنين على الجهاد في سبيله ، وعلى السعي في استنقاذ

٣١٤

المستضعفين بمكة من الرجال والنساء والصبيان المتبرمين من المقام بها ، ولهذا قال تعالى : (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ) يعني مكة ، كقوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) [محمد : ١٣] ، ثم وصفها بقوله : (الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) أي سخر لنا من عندك وليا وناصرا ، قال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا سفيان عن عبيد الله ، قال : سمعت ابن عباس قال : كنت أنا وأمي من المستضعفين. حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد عن أيوب ، عن ابن مليكة أن ابن عباس تلا (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) [النساء : ٩٨] قال : كنت أنا وأمي ممن عذر الله عزوجل.

ثم قال تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) أي المؤمنون يقاتلون في طاعة الله ورضوانه ، والكافرون يقاتلون في طاعة الشيطان ، ثم هيج تعالى المؤمنين على قتال أعدائه بقوله : (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٧٩)

كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة ، وإن لم تكن ذات النصب ، وكانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين ، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم ولم يكن الحال إذ ذاك مناسبا لأسباب كثيرة منها : قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم ، ومنها : كونهم كانوا في بلدهم ، وهو بلد حرام ، أشرف بقاع الأرض ، فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء كما يقال ، فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار ، ومع هذا لما أمروا بما كانوا يودونه ، جزع بعضهم منه ، وخافوا مواجهة الناس خوفا شديدا (وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي لو لا أخرت فرضه إلى مدة أخرى ، فإن فيه سفك الدماء ، ويتم الأولاد ، وتأيم النساء ، وهذه الآية كقوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) [محمد : ٢٠].

٣١٥

قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة وعلي بن زنجة ، قالا : حدثنا علي بن الحسن عن الحسين بن واقد ، عن عمرو بن دينار ، وعن عكرمة ، عن ابن عباس : أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ، فقالوا : يا نبي الله ، كنا في عزة ونحن مشركون ، فلما آمنا صرنا أذلة ، قال : «إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم» ، فلما حوله الله إلى المدينة ، أمره بالقتال فكفوا فأنزل الله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) الآية ، ورواه النسائي والحاكم وابن مردويه من حديث علي بن الحسن بن شقيق به.

وقال أسباط ، عن السدي : لم يكن عليهم إلا الصلاة والزكاة ، فسألوا الله أن يفرض عليهم القتال ، فلما فرض عليهم القتال (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) وهو الموت. قال الله تعالى : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى).

وقال مجاهد : إن هذه الآية نزلت في اليهود ، رواه ابن جرير (١).

وقوله : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) أي آخرة المتقي خير من دنياه. (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أي من أعمالكم بل توفونها أتم الجزاء ، وهذه تسلية لهم عن الدنيا وترغيب لهم في الآخرة وتحريض لهم على الجهاد.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا حماد بن زيد عن هشام ، قال : قرأ الحسن (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) قال : رحم الله عبدا صحبها على حسب ذلك ، وما الدنيا كلها أولها وآخرها إلا كرجل نام نومة فرأى في منامه بعض ما يحب ثم انتبه. وقال ابن معين كان أبو مسهر ينشد : [الطويل]

ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له

من الله في دار المقام نصيب

فإن تعجب الدنيا رجالا فإنها

متاع قليل والزوال قريب

وقوله تعالى : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) أي أنتم صائرون إلى الموت لا محالة ولا ينجو منه أحد منكم ، كما قال تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن : ٢٦] ، وقال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥] ، وقال تعالى : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) [الأنبياء : ٣٤] والمقصود أن كل أحد صائر إلى الموت لا محالة ، ولا ينجيه من ذلك شيء سواء جاهد أو لم يجاهد ، فإن له أجلا محتوما ، ومقاما مقسوما ، كما قال خالد بن الوليد حين جاء الموت على فراشه : لقد شهدت كذا وكذا موقفا ، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنة أو رمية ، وها أنا أموت على فراشي ، فلا

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ١٧٤.

٣١٦

نامت أعين الجبناء.

وقوله : (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) أي حصينة منيعة عالية رفيعة ، وقيل ، هي بروج في السماء قال السدي ، وهو ضعيف ، والصحيح أنها المنيعة ، أي لا يغني حذر وتحصن من الموت ، كما قال زهير بن أبي سلمى : [الطويل]

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه

ولو رام أسباب السماء بسلم

ثم قيل : المشيدة هي المشيدة كما قال : وقصر مشيد وقيل : بل بينهما فرق ، وهو أن المشيدة بالتشديد هي المطولة ، وبالتخفيف هي المزينة بالشيد وهو الجص وقد ذكر ابن جرير (١) وابن أبي حاتم ـ هاهنا ـ حكاية مطولة عن مجاهد ، أنه ذكر أن امرأة فيمن كان قبلنا أخذها الطلق ، فأمرت أجيرها أن يأتيها بنار ، فخرج فإذا هو برجل واقف على الباب ، فقال : ما ولدت المرأة؟ فقال : جارية ، فقال : أما إنها ستزني بمائة رجل ثم يتزوجها أجيرها ويكون موتها بالعنكبوت. قال : فكر راجعا ، فبعج بطن الجارية بسكين فشقه ثم ذهب هاربا ، وظن أنها قد ماتت ، فخاطت أمها بطنها فبرئت وشبت وترعرعت ونشأت أحسن امرأة ببلدتها ، فذهب ذاك الأجير ما ذهب ودخل البحور فاقتنى أموالا جزيلة ، ثم رجع إلى بلده وأراد التزوج ، فقال لعجوز : أريد أن أتزوج بأحسن امرأة بهذه البلدة ، فقالت ليس هاهنا أحسن من فلانة ، فقال : اخطبيها علي ، فذهبت إليها فأجابت ، فدخل بها فأعجبته إعجابا شديدا ، فسألته عن أمره ومن أين مقدمه ، فأخبرها خبره وما كان من أمره في الجارية ، فقالت : أنا هي وأرته مكان السكين ، فتحقق ذلك ، فقال : لئن كنت إياها فلقد أخبرني باثنتين لا بد منهما إحداهما أنك قد زنيت بمائة رجل ، فقالت : لقد كان شيء من ذلك ولكن لا أدري ما عددهم فقال : هم مائة : والثاني أنك تموتين بالعنكبوت فاتخذ لها قصرا منيعا شاهقا ليحرزها من ذلك ، فبينما هم يوما فإذا بالعنكبوت في السقف فأراها ، فقالت : أهذه هي التي تحذرها علي ، والله لا يقتلها إلا أنا ، فأنزلوها من السقف ، فعمدت إليها فوطئتها بإبهام رجلها فقتلتها ، فطار من سمها شيء فوقع بين ظفرها ولحمها واسودت رجلها ، فكان في ذلك أجلها ، فماتت.

ونذكر هاهنا قصة صاحب الحضر وهو الساطرون (٢) لما احتال عليه سابور حتى حصره فيه وقتل من فيه بعد محاصرة سنتين ، وقالت العرب (٣) في ذلك أشعارا منها : [الخفيف]

وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة

تجبى إليه والخابور

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ١٧٥.

(٢) الساطرون معناه بالسريانية : الملك. وقال ابن هشام (سيرة ١ / ٧١) : النعمان بن المنذر من ولد ساطرون ملك الحضر. والحضر : حصن عظيم كالمدينة على شاطئ الفرات.

(٣) الشعر لعدي بن زيد كما ذكر ابن هشام في السيرة النبوية.

٣١٧

شاده مرمرا وجلّله كلسا

فللطير في ذراه وكور

لم تهبه أيدي المنون فباد

الملك عنه فبابه مهجور

ولما دخل على عثمان جعل يقول : اللهم اجمع أمة محمد ثم تمثل بقول الشاعر : [الطويل]

أرى الموت لا يبقي عزيزا ولم يدع

لعاد ملاذا في البلاد ومربعا

يبيت أهل الحصن والحصن مغلق

ويأتي الجبال في شماريخها معا

قال ابن هشام (١) : وكان كسرى سابور ذو الأكتاف قتل الساطرون ملك الحضر ، وقال ابن هشام : إن الذي قتل صاحب الحضر سابور بن أردشير بن بابك أول ملوك بني ساسان ، وأذل ملوك الطوائف ، ورد الملك إلى الأكاسرة ، فأما سابور ذو الأكتاف فهو من بعد ذلك بزمن طويل ، والله أعلم ، ذكره السهيلي ، قال ابن هشام : فحصره سنتين وذلك لأنه كان أغار على بلاد سابور في غيبته وهو في العراق ، وأشرفت بنت الساطرون وكان اسمها النضيرة ، فنظرت إلى سابور وعليه ثياب ديباج ، وعلى رأسه تاج من ذهب مكلل بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ ، فدست إليه أن تتزوجيني إن فتحت لك باب الحصن (٢) ، فقال : نعم ، فلما أمسى ساطرون شرب حتى سكر وكان لا يبيت إلا سكران ، فأخذت مفاتيح باب الحصن من تحت رأسه فبعثت بها مع مولى لها ففتح الباب ، ويقال : دلتهم على طلسم كان في الحصن لا يفتح حتى تؤخذ حمامة ورقاء فتخضب رجلاها بحيض جارية بكر زرقاء ، ثم ترسل ، فإذا وقعت على سور الحصن سقط ذلك ففتح الباب ، ففعل ذلك ، فدخل سابور ، فقتل ساطرون واستباح الحصن وخربه ، وسار بها معه وتزوجها ، فبينما هي نائمة على فراشها ليلا إذ جعلت تتململ لا تنام ، فدعا لها بالشمع ففتش فراشها فوجد فيه ورقة آس ، فقال لها سابور : هذا الذي أسهرك فما كان أبوك يصنع بك؟ قالت : كان يفرش لي الديباج ويلبسني الحرير ، ويطعمني المخ ، ويسقيني الخمر ، قال الطبري : كان يطعمني المخ والزبد ، وشهد أبكار النحل ، وصفو الخمر! وذكر أنه كان يرى مخ ساقها ، قال : فكان جزاء أبيك ما صنعت به؟! أنت إلي بذاك أسرع ، ثم أمر بها فربطت قرون رأسها بذنب فرس ، فركض الفرس حتى قتلها ، وفيه يقول عدي بن زيد العبادي أبياته المشهورة : [الخفيف]

أيها الشامت المعير بالدهر

أأنت المبرأ الموفور

أم لديك العهد الوثيق من الأيام

بل أنت جاهل مغرور

من رأيت المنون خلد أم من

ذا عليه من أن يضام خفير

أين كسرى كسرى الملوك أنوشر وأين

أم أين قبله سابور

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٧١.

(٢) في السيرة : «أتتزوجيني إن فتحت لك باب الحضر».

٣١٨

وبنو الأصفر الكرام ملوك

الروم لم يبق منهم مذكور

وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة

تجبى إليه والخابور

شاده مرمرا وجلله كلسا

فللطير في ذراه وكور

لم يهبه ريب المنون فباد

الملك عنه فبابه مهجور

وتذكر رب الخورنق إذ شرف

يوما وللهدى تفكير

سره ماله وكثرة ما يملك

والبحر معرضا والسدير

فارعوى قلبه وقال فما غبطة

حي إلى الممات يصير

ثم أضحوا كأنهم ورق جف

فألوت به الصبا والدبور

ثم بعد الفلاح والملك والأمة

وارتهم هناك القبور

وقوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ) أي خصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو ذلك ، هذا معنى قول ابن عباس وأبي العالية والسدي (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي قحط وجدب ونقص في الثمار والزروع أو موت أولاد أو إنتاج أو غير ذلك كما يقوله أبو العالية والسدي (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) أي من قبلك وبسبب اتباعنا لك واقتدائنا بدينك ، كما قال تعالى عن قوم فرعون (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف : ١٣١] وكما قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) [الحج : ١١] ، وهكذا قال هؤلاء المنافقون الذين دخلوا في الإسلام ظاهرا وهم كارهون له في نفس الأمر ، ولهذا إذا أصابهم شر إنما يسندونه إلى أتباعهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال السدي : وإن تصبهم حسنة ، قال : والحسنة الخصب ، تنتج مواشيهم وخيولهم ، ويحسن حالهم وتلد نساؤهم الغلمان ، قالوا (هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) والسيئة الجدب والضرر في أموالهم ، تشاءموا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا (هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) يقولون : بتركنا ديننا واتباعنا محمدا أصابنا هذا البلاء ، فأنزل الله عزوجل (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فقوله : قل كل من عند الله ، أي الجميع بقضاء الله وقدره ، وهو نافذ في البر والفاجر والمؤمن والكافر.

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، قل كل من عند الله ، أي الحسنة والسيئة. وكذا قال الحسن البصري. ثم قال تعالى منكرا على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصادرة عن شك وريب ، وقلة فهم وعلم وكثرة جهل وظلم (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً).

ذكر حديث غريب يتعلق بقوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ).

قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا السكن بن سعيد ، حدثنا عمر بن يونس ، حدثنا إسماعيل بن حماد عن مقاتل بن حيان ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقبل أبو بكر وعمر في قبيلتين من الناس وقد ارتفعت أصواتهما ، فجلس أبو بكر قريبا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجلس عمر قريبا من أبي بكر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم

٣١٩

ارتفعت أصواتكما؟» فقال رجل : يا رسول الله ، قال أبو بكر : يا رسول الله الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فما قلت يا عمر؟» فقال : قلت الحسنات والسيئات من الله ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أول من تكلم فيه جبريل وميكائيل ؛ فقال ميكائيل مقالتك يا أبا بكر ؛ وقال جبريل مقالتك يا عمر» فقال : «نختلف فيختلف أهل السماء وإن يختلف أهل السماء يختلف أهل الأرض ، فتحاكما إلى إسرافيل فقضى بينهم أن الحسنات والسيئات من الله». ثم أقبل على أبي بكر وعمر فقال : «احفظا قضائي بينكما ، لو أراد الله أن لا يعصى لما خلق إبليس».

قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيمية : هذا حديث موضوع مختلق باتفاق أهل المعرفة.

ثم قال تعالى مخاطبا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد جنس الإنسان ليحصل الجواب (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) أي من فضل الله ومنه ولطفه ورحمته (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) أي فمن قبلك ، ومن عملك أنت ، كما قال تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى : ٣٠] قال السدي والحسن البصري وابن جريج وابن زيد (فَمِنْ نَفْسِكَ) أي بذنبك. وقال قتادة في الآية (فَمِنْ نَفْسِكَ) عقوبة لك يا ابن آدم بذنبك. قال : وذكر لنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يصيب رجلا خدش عود ولا عثرة قدم ، ولا اختلاج عرق إلا بذنب ، وما يعفو الله أكثر» وهذا الذي أرسله قتادة قد روي متصلا في الصحيح (١) «والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن هم ولا حزن ، ولا نصب ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه بها من خطاياه».

وقال أبو صالح (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) أي بذنبك وأنا الذي قدرتها عليك ، رواه ابن جرير (٢) ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عمار ، حدثنا سهل يعني ابن بكار ، حدثنا الأسود بن شيبان ، حدثني عقبة بن واصل ابن أخي مطرف عن مطرف بن عبد الله ، قال : ما تريدون من القدر أما تكفيكم الآية التي في سورة النساء (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ)؟ أي من نفسك والله ما وكلوا إلى القدر وقد أمروا وإليه يصيرون.

وهذا كلام متين قوي في الرد على القدرية والجبرية أيضا. ولبسطه موضع آخر. وقوله تعالى: (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) أي تبلغهم شرائع الله وما يحبه الله ويرضاه ، وما يكرهه ويأباه (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) أي على أنه أرسلك وهو شهيد أيضا بينك وبينهم ، وعالم بما تبلغهم

__________________

(١) صحيح البخاري (مرض باب ١) وصحيح مسلم (بر حديث ٥٠ و ٥١ و ٥٢)

(٢) تفسير الطبري ٤ / ١٧٩.

٣٢٠