تفسير القرآن العظيم - ج ٢

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٠

واليدين إلى المرفقين بضربتين ، لأن لفظ اليدين يصدق إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين ، وعلى ما يبلغ المرفقين ، كما في آية الوضوء ، ويطلق ويراد بهما ما يبلغ الكفين ، كما في آية السرقة (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة : ٣٨] قالوا : وحمل ما أطلق هاهنا على ما قيد في آية الوضوء أولى لجامع الطهورية ، وذكر بعضهم : ما رواه الدار قطني عن ابن عمر ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «التيمم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين» ولكن لا يصح ، لأن في أسانيده ضعفاء ، لا يثبت الحديث بهم ، وروى أبو داود (١) عن ابن عمر ، في حديث ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه ، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه ، ولكن في إسناده محمد بن ثابت العبدي ، وقد ضعفه بعض الحافظ ، ورواه غيره من الثقات ، فوقفوه على فعل ابن عمر ، قال البخاري وأبو زرعة وابن عدي : وهو الصواب ، وقال البيهقي : رفع هذا الحديث منكر ، واحتج الشافعي بما رواه عن إبراهيم بن محمد ، عن أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية ، عن الأعرج ، عن ابن الصمة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تيمم فمسح وجهه وذراعيه.

وقال ابن جرير (٢) : حدثني موسى بن سهل الرملي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا خارجة بن مصعب ، عن عبد الله بن عطاء ، عن موسى بن عقبة ، عن الأعرج ، عن أبي جهيم ، قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبول ، فسلمت عليه ، فلم يرد عليّ حتى فرغ ، ثم قام إلى الحائط فضرب بيديه عليه ، فمسح بهما وجهه ، ثم ضرب بيديه على الحائط فمسح بهما يديه إلى المرفقين ، ثم رد علي السلام.

والقول الثاني : أنه يجب مسح الوجه واليدين إلى الكفين بضربتين ، وهو قول الشافعي في القديم.

والثالث : أنه يكفي مسح الوجه والكفين بضربة واحدة. قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن الحكم ، عن ذر ، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ، أن رجلا أتى عمر ، فقال : إني أجنبت فلم أجد ماء ، فقال عمر لا تصل ، فقال عمار : أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء ، فأما أنت فلم تصل ، وأما أنا فتمعكت في التراب فصليت ، فلما أتينا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكرت ذلك له ، فقال «إنما كان يكفيك ، وضرب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده الأرض ، ثم نفخ فيها ومسح بها وجهه وكفيه» وقال أحمد أيضا : حدثنا عفان ، حدثنا أبان ، حدثنا قتادة ، عن عزرة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ، عن

__________________

(١) سنن أبي داود (طهارة باب ١٢٢)

(٢) تفسير الطبري ٤ / ١١٥)

(٣) مسند أحمد ٤ / ٢٦٥.

٢٨١

عمار ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في التيمم «ضربة للوجه والكفين» (١).

[طريق أخرى] قال أحمد (٢) : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الواحد ، عن سليمان الأعمش ، حدثنا شقيق ، قال : كنت قاعدا مع عبد الله وأبي موسى ، فقال أبو موسى لعبد الله : لو أن رجلا لم يجد الماء لم يصل؟ فقال عبد الله : لا ، فقال أبو موسى : أما تذكر إذا قال عمار لعمر : ألا تذكر إذ بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإياك في إبل ، فأصابتني جنابة فتمرغت في التراب ، فلما رجعت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبرته ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال «إنما كان يكفيك أن تقول هكذا ، وضرب بكفيه إلى الأرض ، ثم مسح كفيه جميعا ، ومسح وجهه مسحة واحدة بضربة واحدة»؟

فقال عبد الله : لا جرم ، ما رأيت عمر قنع بذاك ، قال : فقال له أبو موسى : فكيف بهذه الآية في سورة النساء (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)؟ قال : فما درى عبد الله ما يقول ، وقال : لو رخصنا لهم في التيمم لأوشك أحدهم إذا برد الماء على جلده أن يتيمم.

وقال تعالى في آية المائدة (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) [النساء : ٤٣] استدل بذلك الشافعي ، على أنه لا بد في التيمم ، أن يكون بتراب طاهر ، له غبار يعلق بالوجه واليدين منه شيء ، كما روى الشافعي بإسناده المتقدم عن ابن الصمة : أنه مر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يبول ، فسلم عليه فلم يرد عليه ، حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه ، فضرب بيده عليه ، ثم مسح وجهه وذراعيه.

وقوله : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) [المائدة : ٦] أي في الدين الذي شرعه لكم (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) [المائدة : ٦] فلهذا أباح لكم ، إذا لم تجدوا الماء ، أن تعدلوا إلى التيمم بالصعيد ، (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة : ٦] ولهذا كانت هذه الأمة مخصوصة بمشروعية التيمم ، دون سائر الأمم ، كما ثبت في الصحيحين ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي ، نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل» وفي لفظ «فعنده طهوره ومسجده ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة» (٣) وتقدم في حديث حذيفة عند مسلم «فضلنا على الناس بثلاث ، جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض مسجدا وتربتها طهورا إذا لم نجد الماء».

وقال تعالى في هذه الآية الكريمة : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) أي ومن عفوه عنكم وغفرانه لكم أن شرع التيمم ، وأباح لكم فعل الصلاة به إذا فقدتم

__________________

(١) مسند أحمد ٤ / ٢٦٣.

(٢) مسند أحمد ٤ / ٢٦٥.

(٣) صحيح البخاري (تيمم باب ١ وصلاة باب ٥٦) وصحيح مسلم (مساجد حديث ٤ و ٥)

٢٨٢

الماء ، توسعة عليكم ورخصة لكم ، وذلك أن هذه الآية الكريمة فيها تنزيه الصلاة ، أن تفعل على هيئة ناقصة ، من سكر حتى يصحو المكلف ويعقل ما يقول ، أو جنابة حتى يغتسل ، أو حدث حتى يتوضأ ، إلا أن يكون مريضا أو عادما للماء ، فإن الله عزوجل قد أرخص في التيمم ، والحالة هذه رحمة بعباده ورأفة بهم ، وتوسعة عليهم ، ولله الحمد والمنة.

ذكر سبب نزول مشروعية التيمم :

وإنما ذكرنا ذلك هاهنا لأن هذه الآية التي في النساء متقدمة النزول على آية المائدة ، وبيانه أن هذه نزلت قبل تحتّم تحريم الخمر ، والخمر إنما حرم بعد أحد بيسير يقال : في محاصرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لبني النضير ، وأما المائدة فإنها من أواخر ما نزل ولا سيما صدرها ، فناسب أن يذكر السبب هاهنا ، وبالله الثقة.

قال أحمد (١) : حدثنا ابن نمير عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجالا في طلبها فوجدوها ، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء فصلوا بغير وضوء ، فشكوا ذلك إلى رسول الله ، فأنزل الله آية التيمم ، فقال أسيد بن الحضير لعائشة : جزاك الله خيرا ، فو الله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيرا.

طريق أخرى : قال البخاري (٢) : حدثنا عبد الله بن يوسف ، أنبأنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش ، انقطع عقد لي ، فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على التماسه ، وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا : ألا ترى إلى ما صنعت عائشة ، أقامت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء؟ فجاء أبو بكر ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام ، فقال : حبست رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء؟ قالت عائشة : فعاتبني أبو بكر ، وقال ما شاء الله أن يقول ، وجعل يطعن بيده في خاصرتي ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رأس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على فخذي فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم ، فتيمموا ، فقال أسيد بن الحضير : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ، قالت : فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته ، وقد رواه البخاري أيضا عن قتيبة وإسماعيل ، ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك.

حديث آخر : قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي عن صالح قال ، قال ابن

__________________

(١) مسند أحمد ٦ / ٥٧.

(٢) صحيح البخاري (تيمم باب ١)

(٣) مسند أحمد ٤ / ٢٦٤.

٢٨٣

شهاب : حدثني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس ، عن عمار بن ياسر : أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عرس بذات الجيش ومعه زوجته عائشة ، فانقطع عقد لها من جزع ظفار ، فحبس الناس ابتغاء عقدها ، وذلك حتى أضاء الفجر ، وليس مع الناس ماء ، فأنزل الله على رسوله رخصة التطهير بالصعيد الطيب ، فقام المسلمون مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضربوا بأيديهم إلى الأرض ، ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئا ، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب ، ومن بطون أيديهم إلى الآباط. وقد رواه ابن جرير (١) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا صيفي ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن عبيد الله ، عن أبي اليقظان ، قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهلك عقد لعائشة ، فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أضاء الفجر ، فتغيظ أبو بكر على عائشة ، فنزلت عليه رخصة المسح بالصعيد الطيب ، فدخل أبو بكر فقال لها : إنك لمباركة نزلت فيك رخصة ، فضربنا بأيدينا ضربة لوجوهنا ، وضربة لأيدينا إلى المناكب والآباط.

حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا الحسن بن أحمد بن الليث ، حدثنا محمد بن مرزوق ، حدثنا العباس بن أبي سويّة ، حدثني الهيثم بن رزيق المالكي من بني مالك بن كعب بن سعد وعاش مائة وسبع عشرة سنة ، عن أبيه ، عن الأسلع بن شريك ، قال : كنت أرحل ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأصابتني جنابة في ليلة باردة ، وأراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرحلة ، فكرهت أن أرحل ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا جنب ، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض ، فأمرت رجلا من الأنصار فرحلها ، ثم رضفت أحجارا فأسخنت بها ماء فاغتسلت ، ثم لحقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فقال : «يا أسلع ما لي أرى رحلتك تغيرت» قلت : يا رسول الله لم أرحلها ، رحلها رجل من الأنصار ، قال «ولم»؟ قلت : إني أصابتني جنابة فخشيت القر على نفسي ، فأمرته أن يرحلها ، ورضفت أحجارا فأسخنت بها ماء فاغتسلت به ، فأنزل الله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) إلى قوله (إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) وقد روي من وجه آخر عنه.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) (٤٦)

يخبر تعالى عن اليهود ـ عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ـ أنهم يشترون الضلالة بالهدى ، ويعرضون عما أنزل الله على رسوله ، ويتركون ما بأيديهم من العلم عن الأنبياء الأولين في صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليشتروا به ثمنا قليلا من حطام الدنيا ، (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ١١٥.

٢٨٤

السَّبِيلَ) أي يودون لو تكفرون بما أنزل عليكم أيها المؤمنون وتتركون ما أنتم عليه من الهدى والعلم النافع ، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ) أي هو أعلم بهم ويحذركم منهم ، (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) أي كفى به وليا لمن لجأ إليه ونصيرا لمن استنصره.

ثم قال تعالى : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) «من» في هذا لبيان الجنس كقوله (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠] ، وقوله (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) [النساء : ٤٦] أي يتأولون الكلام على غير تأويله ، ويفسرونه بغير مراد الله عزوجل قصدا منهم وافتراء (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا) أي يقولون سمعنا ما قلته يا محمد ولا نطيعك فيه ، هكذا فسره مجاهد وابن زيد ، وهو المراد ، وهذا أبلغ في كفرهم وعنادهم وأنهم يتولون عن كتاب الله بعد ما عقلوه وهم يعلمون ما عليهم في ذلك من الإثم والعقوبة ، وقوله (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) أي اسمع ما نقول ، لا سمعت ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وقال مجاهد والحسن : واسمع غير مقبول منك ، قال ابن جرير : والأول أصح ، وهو كما قال : وهذا استهزاء منهم واستهتار ، عليهم لعنة الله ، (وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ) أي يوهمون أنهم يقولون : راعنا سمعك بقولهم راعنا ، وإنما يريدون الرعونة بسبهم النبي ، وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا) [البقرة : ١٠٤] ولهذا قال تعالى عن هؤلاء اليهود الذين يريدون بكلامهم خلاف ما يظهرونه (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ) ، يعني بسبهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي قلوبهم مطرودة عن الخير مبعدة منه ، فلا يدخلها من الإيمان شيء نافع لهم ، وقد تقدم الكلام على قوله تعالى : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٨٨] والمقصود أنهم لا يؤمنون إيمانا نافعا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧) إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) (٤٨)

يقول تعالى آمرا أهل الكتاب بالإيمان بما نزل على عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكتاب العظيم الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات ، ومتهددا لهم إن لم يفعلوا بقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) قال بعضهم : معناه من قبل أن نطمس وجوها ، فطمسها هو ردها إلى الأدبار وجعل أبصارهم من ورائهم ، ويحتمل أن يكون المراد : من قبل أن نطمس وجوها فلا نبقي لها سمعا ولا بصرا ولا أثرا ، ومع ذلك نردها إلى ناحية الأدبار.

قال العوفي عن ابن عباس في الآية وهي (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) وطمسها أن تعمى

٢٨٥

(فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) يقول : نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم ، فيمشون القهقرى ، ونجعل لأحدهم عينين من قفاه ، وكذا قال قتادة وعطية العوفي ، وهذا أبلغ في العقوبة والنكال ، وهو مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ، ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبل الضلالة ، يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم ، وهذا كما قال بعضهم في قوله (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا) [يس : ٨] : إن هذا مثل ضربه الله لهم في ضلالهم ، ومنعهم عن الهدى. قال مجاهد : من قبل أن نطمس وجوها ، يقول : عن صراط الحق فنردها على أدبارها ، أي في الضلال. قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عباس والحسن نحو هذا. قال السدي : فنردها على أدبارها ، فنمنعها عن الحق ، قال : نرجعها كفارا ونردهم قردة ، وقال ابن زيد : نردهم إلى بلاد الشام من أرض الحجاز.

وقد ذكر أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية. قال ابن جرير (١) : حدثنا أبو كريب حدثنا جابر بن نوح عن عيسى بن المغيرة ، قال : تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب ، فقال : أسلم كعب زمان عمر ، أقبل وهو يريد بيت المقدس ، فمر على المدينة ، فخرج إليه عمر فقال : يا كعب ، أسلم. فقال : ألستم تقرأون في كتابكم (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) ـ إلى ـ (أَسْفاراً) [الجمعة : ٥] وأنا قد حملت التوراة ، قال : فتركه عمر ثم خرج حتى انتهى إلى حمص ، فسمع رجلا من أهلها حزينا وهو يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) الآية ، قال كعب : يا رب أسلمت مخافة أن تصيبه هذه الآية ، ثم رجع فأتى أهله في اليمن ، ثم جاء بهم مسلمين.

وقد رواه ابن أبي حاتم بلفظ آخر من وجه آخر فقال : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نفيل ، حدثنا عمرو بن واقد عن يونس بن حلبس ، عن أبي إدريس عائذ الله الخولاني ، قال : كان أبو مسلم الجليلي معلم كعب ، وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فبعثه إليه لينظر أهو هو؟ قال كعب : فركبت حتى أتيت المدينة ، فإذا تال يقرأ القرآن يقول (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) فبادرت الماء فاغتسلت ، وإني لأمس وجهي مخافة أن أطمس ثم أسلمت.

وقوله (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) يعني الذين اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الاصطياد وقد مسخوا قردة وخنازير ، وسيأتي بسط قصتهم في سورة الأعراف.

وقوله (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) أي إذا أمر بأمر فإنه لا يخالف ولا يمانع. ثم أخبر تعالى أنه (لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ). أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به ، (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) ، أي من

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ١٢٧.

٢٨٦

الذنوب (لِمَنْ يَشاءُ) ، أي من عباده ، وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة فلنذكر منها ما تيسر :

الحديث الأول : قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا صدقة بن موسى ، حدثنا أبو عمران الجوني عن يزيد بن بابنوس عن عائشة ، قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الدواوين عند الله ثلاثة : ديوان لا يعبأ الله به شيئا ، وديوان لا يترك الله منه شيئا ، وديوان لا يغفره الله ، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله ، قال الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية ، وقال (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) [المائدة : ٧٢] ، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا ، فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه أو صلاة تركها ، فإن الله يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء ، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا ، القصاص لا محالة» تفرد به أحمد.

الحديث الثاني : قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا أحمد بن مالك ، حدثنا زائدة بن أبي الرّقاد ، عن زياد النميري ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «الظلم ثلاثة : فظلم لا يغفره الله ، وظلم يغفره الله ، وظلم لا يتركه الله ، فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك ، وقال (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ، وأما الظلم الذي يغفره الله فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم ، وأما الظلم الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضا حتى يدين لبعضهم من بعض».

الحديث الثالث : قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا صفوان بن عيسى ، حدثنا ثور بن يزيد عن أبي عون ، عن أبي إدريس ، قال : سمعت معاوية يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا ، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا» ورواه النسائي عن محمد بن مثنى عن صفوان بن عيسى به.

الحديث الرابع : قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا عبد الحميد ، حدثنا شهر ، حدثنا ابن غنم أن أبا ذر حدثه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «إن الله يقول : يا عبدي ما عبدتني ورجوتني ، فإني غافر لك على ما كان فيك ، يا عبدي إنك إن لقيتني بقراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي ، لقيتك بقرابها مغفرة» تفرد به أحمد من هذا الوجه.

الحديث الخامس : قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبي ، حدثنا حسين عن

__________________

(١) مسند أحمد ٦ / ٢٤٠.

(٢) مسند أحمد ٦ / ٩٩.

(٣) مسند أحمد ٥ / ١٥٤.

(٤) مسند أحمد ٥ / ١٦٦.

٢٨٧

ابن بريدة أن يحيى بن يعمر حدثه أن أبا الأسود الدئلي حدثه أن أبا ذر حدثه قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «ما من عبد قال : لا إله إلا الله ثم مات على ذلك ، إلا دخل الجنة ، قلت : وإن زنى وإن سرق؟ قال : وإن زنى وإن سرق. قلت : وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق ثلاثا ، ثم قال في الرابعة : على رغم أنف أبي ذر» ، قال : فخرج أبو ذر وهو يجر إزاره وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر ، وكان أبو ذر يحدث بهذا ويقول : وإن رغم أنف أبي ذر. أخرجاه من حديث حسين به.

طريق أخرى : لحديث أبي ذر. قال أحمد (١) : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب ، عن أبي ذر ، قال : كنت أمشي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حرة المدينة عشاء ، ونحن ننظر إلى أحد ، فقال «يا أبا ذر» قلت : لبيك يا رسول الله. قال : «ما أحب أن لي أحدا ذاك عندي ذهبا أمسي ثالثة وعندي منه دينار إلا دينارا أرصده يعني لدين ، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا» ، وحثا عن يمينه وبين يديه وعن يساره ، قال : ثم مشينا ، فقال «يا أبا ذر ، إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة ، إلا من قال هكذا وهكذا» ، فحثا عن يمينه ومن بين يديه وعن يساره ، قال : ثم مشينا ، فقال «يا أبا ذر كما أنت حتى آتيك» قال : فانطلق حتى توارى عني ، قال : فسمعت لغطا ، فقلت : لعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرض له ، قال : فهممت أن أتبعه ، ثم ذكرت قوله: لا تبرح حتى آتيك ، فانتظرته حتى جاء ، فذكرت له الذي سمعت ، فقال «ذاك جبريل أتاني فقال : من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة» قلت : وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق» ، أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش به ، وقد رواه البخاري ومسلم أيضا ، كلاهما عن قتيبة ، عن جرير بن عبد الحميد ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن زيد بن وهب ، عن أبي ذر ، قال : خرجت ليلة من الليالي فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمشي وحده ليس معه إنسان ، قال : فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد ، قال : فجعلت أمشي في ظل القمر ، فالتفت قرآني ، فقال «من هذا؟» فقلت : أبو ذر ، جعلني الله فداك. قال «يا أبا ذر تعال». قال : فمشيت معه ساعة ، فقال «إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة ، إلا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه عن يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرا» قال فمشيت معه ساعة ، فقال لي «اجلس هاهنا» ، فأجلسني في قاع حوله حجارة ، فقال لي «اجلس هاهنا حتى أرجع إليك». قال : فانطلق في الحرة حتى لا أراه ، فلبث عني فأطال اللبث ، ثم إني سمعته وهو مقبل وهو يقول «وإن زنى وإن سرق» قال : فلما جاء لم أصبر حتى قلت : يا نبي الله ، جعلني الله فداك من تكلم في جانب الحرة ، ما سمعت أحدا يرجع إليك شيئا ، قال «ذاك جبريل عرض لي من جانب الحرة ، فقال : بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة : قلت : يا جبريل ، وإن سرق وإن زنى ، قال : نعم. قلت : وإن سرق وإن زنى ، قال : نعم : قلت : وإن سرق وإن

__________________

(١) مسند أحمد ٥ / ١٥٢.

٢٨٨

زنى؟ قال : نعم ، وإن شرب الخمر».

الحديث السادس : قال عبد بن حميد في مسنده : حدثنا عبيد الله بن موسى عن ابن أبي ليلى عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، ما الموجبتان ، قال : «من مات لا يشرك بالله شيئا وجبت له الجنة ، ومن مات يشرك بالله شيئا وجبت له النار» ، وذكر تمام الحديث تفرد به من هذا الوجه.

طريق أخرى : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن عمرو بن خلاد الحراني ، حدثنا منصور بن إسماعيل القرشي ، حدثنا موسى بن عبيدة الرّبذي ، أخبرني عبد الله بن عبيدة عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من نفس تموت لا تشرك بالله شيئا إلا حلت لها المغفرة ، إن شاء الله عذبها وإن شاء غفر لها (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) ، ورواه الحافظ أبو يعلى في مسنده من حديث موسى بن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيدة ، عن جابر : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع الحجاب» قيل : يا نبي الله وما الحجاب؟ قال «الإشراك بالله ـ قال ـ ما من نفس تلقى الله لا تشرك به شيئا إلا حلت لها المغفرة من الله تعالى ، إن يشأ أن يعذبها وإن يشأ أن يغفر لها غفر لها» ثم قرأ نبي الله (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ).

الحديث السابع : قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا زكريا عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة» تفرد به من هذا الوجه.

الحديث الثامن : قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا أبو قبيل عن عبد الله بن ناشر من بني سريع ، قال : سمعت أبا رهم قاصّ أهل الشام يقول : سمعت أبا أيوب الأنصاري يقول : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خرج ذات يوم إليهم ، فقال لهم : إن ربكم عزوجل خيرني بين سبعين ألفا يدخلون الجنة عفوا بغير حساب وبين الخبيئة عنده لأمتي ، فقال له بعض أصحابه : يا رسول الله ، أيخبأ ذلك ربك؟ فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم خرج وهو يكبر فقال «إن ربي زادني مع كل ألف سبعين ألفا والخبيئة عنده» قال أبو رهم : يا أبا أيوب : وما تظن خبيئة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأكله الناس بأفواههم ، فقالوا : وما أنت وخبيئة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال أبو أيوب : دعوا الرجل عنكم أخبركم عن خبيئة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أظن ، بل كالمستيقن إن خبيئة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله مصدقا لسانه قلبه أدخله الجنة».

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ٧٩.

(٢) مسند أحمد ٥ / ٤١٣.

٢٨٩

الحديث التاسع : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا المؤمل بن الفضل الحراني ، حدثنا عيسى بن يونس (ح) وأخبرنا هاشم بن القاسم الحراني فيما كتب إليّ ، قال : حدثنا عيسى بن يونس نفسه عن واصل بن السائب الرقاضي ، عن أبي سورة ابن أخي أبي أيوب الأنصاري ، عن أبي أيوب ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام. قال «وما دينه؟» قال : يصلي ويوحد الله تعالى. قال «استوهب منه دينه ، فإن أبي فابتعه منه» فطلب الرجل ذاك منه فأبى عليه ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره ، فقال «وجدته شحيحا في دينه» قال : فنزلت (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ).

الحديث العاشر : قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا عمرو بن الضحاك حدثنا أبي ، حدثنا مستور أبو همام الهنائي ، حدثنا ثابت عن أنس ، قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، ما تركت حاجة ولا ذا حاجة إلا قد أتيت ، قال «أليس تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله؟» ثلاث مرات؟ قال : نعم ، قال «فإن ذلك يأتي على ذلك كله».

الحديث الحادي عشر : قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو عامر ، حدثنا عكرمة بن عمار عن ضمضم بن جوش اليمامي ، قال : قال لي أبو هريرة : يا يمامي لا تقولون لرجل : والله لا يغفر الله لك ، أو لا يدخلك الجنة أبدا. قلت : يا أبا هريرة ، إن هذه كلمة يقولها أحدنا لأخيه وصاحبه إذا غضب قال : لا تقلها ، فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «كان في بني إسرائيل رجلان : كان أحدهما مجتهدا في العبادة ، وكان الآخر مسرفا على نفسه ، وكانا متآخيين ، وكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على ذنب فيقول : يا هذا أقصر ، فيقول : خلني وربي أبعثت عليّ رقيبا قال : إلى أن رآه يوما على ذنب استعظمه ، فقال له : ويحك ، أقصر! قال : خلني وربي ، أبعثت عليّ رقيبا؟ فقال والله لا يغفر الله لك أو لا يدخلك الله الجنة أبدا ، قال : فبعث الله إليهما ملكا فقبض أرواحهما ، واجتمعا عنده ، فقال للمذنب : اذهب فادخل الجنة برحمتي ، وقال للآخر : أكنت عالما ، أكنت على ما في يدي قادرا؟ اذهبوا به إلى النار : قال : «فو الذي نفس أبي القاسم بيده إنه لتكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته» ، ورواه أبو داود من حديث عكرمة بن عمار ، حدثني ضمضم بن جوش به.

الحديث الثاني عشر : قال الطبراني : حدثنا أبو الشيخ عن محمد بن الحسن بن عجلان الأصبهاني ، حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قال الله عزوجل : «من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ، ما لم يشرك بي شيئا».

الحديث الثالث عشر : قال الحافظ أبو بكر البزار والحافظ أبو يعلي : حدثنا هدبة بن خالد ،

__________________

(١) مسند أحمد ٢ / ٣٢٣.

٢٩٠

حدثنا سهل بن أبي حازم عن ثابت ، عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من وعده الله على عمل ثوابا ، فهو منجزه له ، ومن توعده على عمل عقابا ، فهو فيه بالخيار» تفردا به. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا بحر بن نصر الخولاني ، حدثنا خالد يعني ابن عبد الرحمن الخراساني ، حدثنا الهيثم بن حماد عن سلام بن أبي مطيع عن بكر بن عبد الله المزني ، عن ابن عمر ، قال : كنا أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا نشك في قاتل النفس ، وآكل مال اليتيم ، وقاذف المحصنات ، وشاهد الزور ، حتى نزلت هذه الآية (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) فأمسك أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الشهادة ، ورواه ابن جرير (١) من حديث الهيثم بن جمّاز به.

وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا عبد الملك بن أبي عبد الرحمن المقري ، حدثنا عبد الله بن عاصم ، حدثنا صالح يعني المري ، حدثنا أبو بشر عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كنا لا نشك فيمن أوجب الله له النار في الكتاب ، حتى نزلت علينا هذه الآية (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) قال : فلما سمعناها كففنا عن الشهادة وأرجينا الأمور إلى الله عزوجل.

وقال البزار : حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا شيبان بن أبي شيبة ، حدثنا حرب بن سريج عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر : قال : كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) وقال : «أخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة».

وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع ، أخبرني مجبّر عن عبد الله بن عمر أنه قال : لما نزلت (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣] إلى آخر الآية ، قام رجل فقال : والشرك بالله يا نبي الله؟ فكره ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) رواه ابن جرير ، وقد رواه ابن مردويه من طرق عن ابن عمر.

وهذه الآية (٢) التي في سورة تنزيل مشروطة بالتوبة ، فمن تاب من أي ذنب وإن تكرر منه ، تاب الله عليه ، ولهذا قال (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزمر : ٥٣] أي بشرط التوبة ، ولو لم يكن كذلك لدخل الشرك فيه ، ولا يصح ذلك لأنه تعالى قد حكم هاهنا بأنه لا يغفر الشرك ، وحكم بأنه يغفر ما عداه لمن يشاء ، أي : وإن لم يتب صاحبه فهذه أرجى من تلك من هذا الوجه ، والله أعلم.

وقوله (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) كقوله (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان :

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ١٢٩.

(٢) أي الآية ٥٣ من سورة الزمر : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا ...).

٢٩١

١٣] وثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم؟ قال : «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» (١) وذكر تمام الحديث ، وقال ابن مردويه : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد ، حدثنا أحمد بن عمرو ، حدثنا إبراهيم بن المنذر ، حدثنا معن ، حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أخبركم بأكبر الكبائر الشرك بالله» ثم قرأ (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) ، وعقوق الوالدين. ثم قرأ (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان : ١٤].

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً(٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) (٥٢)

قال الحسن وقتادة : نزلت هذه الآية وهي قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) في اليهود والنصارى حين قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه وقال ابن زيد : نزلت في قولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] ، وفي قولهم (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] ، وقال مجاهد : كانوا يقدمون الصبيان أمامهم في الدعاء والصلاة يؤمونهم ويزعمون أنهم لا ذنب لهم ، وكذا قال عكرمة وأبو مالك ، وروى ذلك ابن جرير ، وقال العوفي عن ابن عباس في قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) وذلك أن اليهود قالوا : إن أبناءنا توفوا وهم لنا قربة وسيشفعون لنا ويزكوننا ، فأنزل الله على محمد (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) الآية ، رواه ابن جرير (٢).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن مصفى ، حدثنا ابن حمير عن ابن لهيعة ، عن بشير بن أبي عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان اليهود يقومون صبيانهم يصلون بهم ، ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب ، وكذبوا ، قال الله : إني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له ، وأنزل الله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) ثم قال : وروي عن مجاهد وأبي مالك والسدي وعكرمة والضحاك ، نحو ذلك ، وقال الضحاك : قالوا : ليس لنا ذنوب كما ليس لأبنائنا ذنوب ، فأنزل الله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) فيهم.

وقيل : نزلت في ذم التمادح والتزكية ، وقد جاء في الحديث الصحيح عند مسلم عن المقداد بن الأسود قال : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نحثو في وجوه المداحين التراب ، وفي الحديث الآخر المخرج في الصحيحين من طريق خالد الحذاء عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ،

__________________

(١) صحيح البخاري (تفسير سورة البقرة باب ٣) وصحيح مسلم (إيمان حديث ١٤١ ـ ١٤٢)

(٢) تفسير الطبري ٤ / ١٣٠.

٢٩٢

عن أبيه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سمع رجلا يثني على رجل ، فقال «ويحك قطعت عنق صاحبك» ، ثم قال : «إن كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة ، فليقل أحسبه كذا ، ولا يزكي على الله أحدا».

وقال الإمام أحمد : حدثنا معتمر عن أبيه عن نعيم بن أبي هند قال : قال عمر بن الخطاب: من قال : أنا مؤمن فهو كافر ومن قال هو عالم فهو جاهل ومن قال هو في الجنة فهو في النار ، ورواه ابن مردويه من طريق موسى بن عبيدة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز عن عمر أنه قال : إن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه فمن قال إنه مؤمن فهو كافر ، ومن قال: هو عالم فهو جاهل ، ومن قال : إنه في الجنة فهو في النار.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة وحجاج ، أنبأنا شعبة عن سعد بن إبراهيم ، عن معبد الجهني ، قال : كان معاوية قلما يحدث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : وكان قلما يكاد أن يدع يوم الجمعة هؤلاء الكلمات أن يحدث بهن عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ، وإن هذا المال حلو خضر ، فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه ، وإياكم والتمادح فإنه الذبح» وروى ابن ماجة منه «إياكم والتمادح فإنه الذبح» عن أبي بكر بن أبي شيبة عن غندر عن شعبة به ، ومعبد هذا هو ابن عبد الله بن عويم البصري القدري.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا يحيى بن إبراهيم المسعودي ، حدثنا أبي عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، قال : قال عبد الله بن مسعود : إن الرجل ليغدو بدينه ثم يرجع وما معه منه شيء ، يلقى الرجل ليس يملك له نفعا ولا ضرا ، فيقول له : إنك والله كيت وكيت ، فلعله أن يرجع ولم يحل من حاجته بشيء ، وقد أسخط الله ، ثم قرأ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) الآية.

وسيأتي الكلام على ذلك مطولا عند قوله تعالى (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) [النجم : ٣٢] ولهذا قال تعالى : (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أي المرجع في ذلك إلى الله عزوجل لأنه أعلم بحقائق الأمور وغوامضها.

ثم قال تعالى : (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أي ولا يترك لأحد من الأجر ما يوازن مقدار الفتيل ، قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء والحسن وقتادة وغير واحد من السلف : هو ما يكون في شق النواة. وعن ابن عباس أيضا : هو ما فتلت بين أصابعك ، وكلا القولين متقارب.

وقوله (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي في تزكيتهم أنفسهم ودعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وقولهم (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] ، وقولهم

__________________

(١) مسند أحمد ٤ / ٩٣.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ١٣١.

٢٩٣

(لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) [آل عمران : ٢٤] واتكالهم على أعمال آبائهم الصالحة ، وقد حكم الله أن أعمال الآباء لا تجزي عن الأنباء شيئا في قوله (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) [البقرة : ١٣٤] ، ثم قال (وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً) أي وكفى بصنيعهم هذا كذبا وافتراء ظاهرا.

وقوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) أما الجبت ، فقال محمد بن إسحاق ، عن حسان بن فائد ، عن عمر بن الخطاب أنه قال : الجبت السحر ، والطاغوت الشيطان. وهكذا روي عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير والشعبي والحسن والضحاك والسدي ، وعن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير والشعبي والحسن وعطية : الجبت الشيطان ، وزاد ابن عباس : بالحبشية وعن ابن عباس أيضا : الجبت الشرك. وعنه : الجبت الأصنام. وعن الشعبي : الجبت الكاهن ، وعن ابن عباس : الجبت حيي بن أخطب ، وعن مجاهد : الجبت كعب بن الأشرف ، وقال العلامة أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري في كتابه الصحاح : الجبت كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك. وفي الحديث «الطيرة والعيافة والطّرق من الجبت». قال : وليس هذا من محض العربية لاجتماع الجيم والتاء في كلمة واحدة من غير حرف ذو لقيّ (١).

وهذا الحديث الذي ذكره الإمام أحمد (٢) في مسنده ، فقال : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا عوف عن حيان أبي العلاء ، حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه وهو قبيصة بن مخارق أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت» وقال عوف : العيافة زجر الطير ، والطرق الخط يخط في الأرض ، والجبت ، قال الحسن : إنه الشيطان. وهكذا رواه أبو داود (٣) في سننه ، والنسائي وابن أبي حاتم في تفسيريهما من حديث عوف الأعرابي به. وقد تقدم الكلام على الطاغوت في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إسحاق بن الضيف ، حدثنا حجاج عن ابن جريج ، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله أنه سئل عن الطواغيت ، فقال : هم كهان تنزل عليهم الشياطين. وقال مجاهد : الطاغوت الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه ، وهو صاحب أمرهم. وقال الإمام مالك : الطاغوت هو كل ما يعبد من دون الله عزوجل.

وقوله (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) أي يفضلون الكفار على

__________________

(١) أي الحرف الذي يخرج من ذلق اللسان ، وهو طرفه.

(٢) مسند أحمد ٥ / ٦٠.

(٣) سنن أبي داود (طب باب ٢٣)

٢٩٤

المسلمين بجهلهم ، وقلة دينهم ، وكفرهم بكتاب الله بأيديهم. وقد روى ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان عن عمرو ، عن عكرمة ، قال : جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم : أنتم أهل الكتاب وأهل العلم ، فأخبرونا عنا وعن محمد ، فقالوا : ما أنتم وما محمد ، فقالوا : نحن نصل الأرحام ، وننحر الكوماء (١) ، ونسقي الماء على اللبن ، ونفك العناة ، ونسقي الحجيج ، ومحمد صنبور (٢) قطع أرحامنا ، واتبعه سراق الحجيج بنو غفار ، فنحن خير أم هو؟ فقالوا : أنتم خير وأهدى سبيلا ، فأنزل الله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً) الآية ، وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس وجماعة من السلف.

وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش : ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة ، وأهل السقاية؟ قال : أنتم خير ، قال فنزلت (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) [الكوثر : ٣] ونزل (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ـ إلى ـ نَصِيراً).

وقال ابن إسحاق (٣) : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : كان الذين حزّبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق أبو رافع والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق وأبو عمار ووحوح بن عامر وهوذة بن قيس ، فأما وحوح وأبو عامر وهوذة فمن بني وائل ، وكان سائرهم من بني النضير ، فلما قدموا على قريش قالوا : هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتب الأول فاسألوهم أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم فقالوا : بل دينكم خير من دينه وأنتم أهدى منه وممن اتبعه ، فأنزل الله عزوجل (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) [آل عمران : ٢٣] إلى قوله عزوجل (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) [النساء : ٥٤] وهذا لعن لهم وإخبار بأنهم لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين ، وإنما قالوا لهم ذلك ، ليستميلوهم إلى نصرتهم ، وقد أجابوهم وجاءوا معهم يوم الأحزاب حتى حفر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حول المدينة الخندق ، فكفى الله شرهم (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) [الأحزاب : ٢٥].

(أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ

__________________

(١) الكوماء : الناقة العالية السنام.

(٢) الصنبور : الذي لا عقب له. وأصل الصنبور النخلة المنفردة التي يدق أسفلها.

(٣) سيرة ابن هشام ١ / ٥٦١.

٢٩٥

فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) (٥٥)

يقول تعالى : أم لهم نصيب من الملك ، وهذا استفهام إنكاري ، أي ليس لهم نصيب من الملك ثم وصفهم بالبخل ، فقال : (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) ، أي لأنهم لو كان لهم نصيب في الملك والتصرف لما أعطوا أحدا من الناس ولا سيما محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا ، ولا ما يملأ النقير وهو النقطة التي في النواة في قول ابن عباس والأكثرين. وهذه الآية كقوله تعالى : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) [لإسراء : ١٠٠] أي خوف أن يذهب ما بأيديكم مع أنه لا يتصور نفاده وإنما هو من بخلكم وشحكم ، ولهذا قال تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) [الإسراء : ١٠٠] أي بخيلا ، ثم قال (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) يعني بذلك حسدهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما رزقه الله من النبوة العظيمة ، ومنعهم من تصديقهم إياه حسدهم له ، لكونه من العرب وليس من بني إسرائيل. وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا يحيى الحماني ، حدثنا قيس بن الربيع عن السدي ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) الآية ، قال ابن عباس : نحن الناس دون الناس ، قال الله تعالى : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) أي فقد جعلنا في أسباط بني إسرائيل ، الذين هم من ذرية إبراهيم النبوة وأنزلنا عليهم الكتب وحكموا فيهم بالسنن ، وهي الحكمة ، وجعلنا منهم الملوك ومع هذا (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) ، أي بهذا الإيتاء وهذا الإنعام ، (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) أي كفر به وأعرض عنه وسعى في صد الناس عنه ، وهو منهم ومن جنسهم أي من بني إسرائيل. فقد اختلفوا عليهم ، فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل؟ وقال مجاهد : (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) ، أي بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) ، فالكفرة منهم أشد تكذيبا لك ، وأبعد عما جئتهم به من الهدى ، والحق المبين ، ولهذا قال متوعدا لهم (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) أي وكفى بالنار عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب الله ورسله.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً) (٥٧)

يخبر تعالى عما يعاقب به في نار جهنم من كفر بآياته وصد عن رسله ، فقال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) الآية ، أي ندخلهم نارا دخولا يحيط بجميع أجرامهم وأجزائهم ، ثم أخبر عن دوام عقوبتهم ونكالهم ، فقال (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) قال الأعمش عن ابن عمر : إذا احترقت جلودهم بدلوا جلودا غيرها بيضاء أمثال القراطيس ،

٢٩٦

رواه ابن أبي حاتم ، وقال يحيى بن يزيد الحضرمي أنه بلغه في الآية ، قال : يجعل للكافر مائة جلد ، بين كل جلدين لون من العذاب ، ورواه ابن أبي حاتم.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا حسين الجعفي عن زائدة ، عن هشام ، عن الحسن قوله : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) الآية ، قال : تنضجهم في اليوم سبعين ألف مرة. قال حسين : وزاد فيه فضيل عن هشام عن الحسن (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) كلما أنضجتهم فأكلت لحومهم قيل لهم عودوا فعادوا. وقال أيضا : ذكر عن هشام بن عمار ، حدثنا سعيد بن يحيى ـ يعني سعدان ـ حدثنا نافع مولى يوسف السلمي البصري ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قرأ رجل عند عمر هذه الآية (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) فقال عمر : أعدها علي ، فأعادها ، فقال معاذ بن جبل : عندي تفسيرها تبدل في ساعة مائة مرة. فقال عمر : هكذا سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد رواه ابن مردويه عن محمد بن أحمد بن إبراهيم ، عن عبدان بن محمد المروزي ، عن هشام بن عمار به. ورواه من وجه آخر بلفظ آخر ، فقال : حدثنا محمد بن إسحاق عن عمران ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحارث ، حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا نافع أبو هرمز ، حدثنا نافع عن ابن عمر ، قال : تلا رجل عند عمر هذه الآية : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) الآية ، قال : فقال عمر : أعدها علي ، وثم كعب ، فقال أنا عندي تفسير هذه الآية قرأتها قبل الإسلام قال : فقال هاتها يا كعب فإن جئت بها كما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدقناك ، وإلا لم ننظر إليها ، فقال : إني قرأتها قبل الإسلام : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة. فقال عمر : هكذا سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الربيع بن أنس : مكتوب في الكتاب الأول : أن جلد أحدهم أربعون ذراعا ، وسنه سبعون ذراعا ، وبطنه لو وضع فيه جبل لوسعه ، فإذا أكلت النار جلودهم بدلوا جلودا غيرها.

وقد ورد في الحديث ما هو أبلغ من هذا ، قال الإمام أحمد (١) : حدثنا وكيع ، حدثنا أبو يحيى الطويل عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يعظم أهل النار في النار حتى إن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام ، وإن غلظ جلده سبعون ذرعا ، وإن ضرسه مثل أحد» تفرد به أحمد من هذا الوجه.

وقيل المراد بقوله : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) أي سرابيلهم ، حكاه ابن جرير (٢) ، وهو ضعيف لأنه خلاف الظاهر.

وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ

__________________

(١) مسند أحمد ٢ / ٢٦.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ١٤٦.

٢٩٧

فِيها أَبَداً) هذا إخبار عن مآل السعداء في جنات عدن التي تجري فيها الأنهار في جميع فجاجها ، ومحالها وأرجائها حيث شاءوا وأين أرادوا وهم خالدون فيها أبدا لا يحولون ولا يزولون ولا يبغون عنها حولا. وقوله : (لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) أي من الحيض والنفاس والأذى والأخلاق الرذيلة ، والصفات الناقصة ، كما قال ابن عباس : مطهرة من الأقذار والأذى. وكذا قال عطاء والحسن والضحاك والنخعي وأبو صالح وعطية والسدي. وقال مجاهد : مطهرة من البول والحيض والنخام والبزاق والمني والولد. وقال قتادة : مطهرة من الأذى والمآثم ، ولا حيض ولا كلف. وقوله (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) أي ظلا عميقا كثيرا غزيرا طيبا أنيقا. قال ابن جرير (١) : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، وحدثنا ابن المثنى ، حدثنا ابن جعفر ، قالا : حدثنا شعبة ، قال : سمعت أبا الضحاك يحدث عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها : شجرة الخلد».

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (٥٨)

يخبر تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها. وفي حديث الحسن عن سمرة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك» رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، وهذا يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان من حقوق الله عزوجل على عباده من الصلوات والزكوات والصيام والكفارات والنذور وغير ذلك مما هو مؤتمن عليه ولا يطلع عليه العباد ، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض كالودائع وغير ذلك مما يأتمنون به بعضهم على بعض من غير اطلاع بينة على ذلك ، فأمر الله عزوجل بأدائها ، فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة ، كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء» (٢). وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا وكيع عن سفيان ، عن عبد الله بن السائب ، عن زاذان ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : إن الشهادة تكفر كل ذنب إلا الأمانة ، يؤتى بالرجل يوم القيامة ، وإن كان قتل في سبيل الله ، فيقال : أد أمانتك ، فيقول فأنى أؤديها وقد ذهبت الدنيا؟ فتمثل له الأمانة في قعر جهنم فيهوي إليها فيحملها على عاتقه ، قال : فتنزل عن عاتقه فيهوي على أثرها أبد الآبدين. قال زاذان : فأتيت البراء فحدثته ، فقال : صدق أخي : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها).

وقال سفيان الثوري عن ابن أبي ليلى ، عن رجل عن ابن عباس في الآية ، قال : هي مبهمة

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ١٤٧.

(٢) مسند أحمد ٢ / ٢٣٥. والشاة الجماء : التي ذهب قرناها.

٢٩٨

للبر والفاجر ، وقال محمد بن الحنفية : هي مسجلة (١) للبر والفاجر وقال أبو العالية الأمانة ما أمروا به ونهوا عنه. وقال ابن أبي حاتم. حدثنا أبو سعيد ، حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق ، قال : قال أبي بن كعب : من الأمانة أن المرأة ائتمنت على فرجها. وقال الربيع بن أنس : هي من الأمانات فيما بينك وبين الناس. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) ، قال : قال يدخل فيه وعظ السلطان النساء يعني يوم العيد.

وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب القرشي العبدري حاجب الكعبة المعظمة ، وهو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الذي صارت الحجابة في نسله إلى اليوم ، أسلم عثمان هذا في الهدنة بين صلح الحديبية ، وفتح مكة ، هو وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ، وأما عمه عثمان بن طلحة بن أبي طلحة ، فكان معه لواء المشركين يوم أحد ، وقتل يومئذ كافرا ، وإنما نبهنا على هذا النسب لأن كثيرا من المفسرين قد يشتبه عليه هذا بهذا ، وسبب نزولها فيه لما أخذ منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفتاح الكعبة يوم الفتح ثم رده عليه.

وقال محمد بن إسحاق (٢) في غزوة الفتح : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور ، عن صفية بنت شيبة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل بمكة واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت ، فطاف به سبعا على راحلته يستلم الركن بمحجن (٣) في يده ، فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له ، فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان ، فكسرها بيده ثم طرحها ، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكفّ (٤) له الناس في المسجد ، قال ابن إسحاق : فحدثني بعض أهل العلم أن رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام على باب الكعبة ، فقال «لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعي فهو تحت قدمي هاتين ، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج» وذكر بقية الحديث في خطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ إلى أن قال : ثم جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد ، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده ، فقال : يا رسول الله ، اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أين عثمان بن طلحة؟» فدعي له ، فقال له «هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم وفاء وبر».

__________________

(١) مسجلة : مطلقة لكل إنسان برا كان أو فاجرا.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ / ٤١١.

(٣) المحجن : عود معوج الطرف يمسكه الراكب للبعير في يده.

(٤) استكف : استجمع. من الكافة وهي الجماعة.

٢٩٩

قال ابن جرير (١) : حدثني القاسم ، حدثنا الحسين عن حجاج ، عن ابن جريج في الآية ، قال : نزلت في عثمان بن طلحة ، قبض منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفتاح الكعبة فدخل في البيت يوم الفتح ، فخرج وهو يتلو هذه الآية (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) الآية ، فدعا عثمان إليه فدفع إليه المفتاح ، قال : وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكعبة وهو يتلو هذه الآية (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) فداه أبي وأمي ما سمعته يتلوها قبل ذلك. حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا الزنجي بن خالد عن الزهري قال : دفعه إليه وقال : أعينوه.

وروى ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله عزوجل (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) قال : لما فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة دعا عثمان بن طلحة ، فلما أتاه قال «أرني المفتاح» فأتاه به ، فلما بسط يده إليه قام إليه العباس ، فقال : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، اجمعه لي مع السقاية ، فكف عثمان يده ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أرني المفتاح يا عثمان» فبسط يده يعطيه ، فقال العباس مثل كلمته الأولى ، فكف عثمان يده. ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا عثمان إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهاتني المفتاح» فقال : هاك بأمانة الله ، قال فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففتح باب الكعبة ، فوجد في الكعبة تمثال إبراهيم عليه الصلاة والسلام معه قداح يستقسم بها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما للمشركين قاتلهم الله ، وما شأن إبراهيم وشأن القداح» ثم دعا بجفنة فيها ماء ، فأخذ ماء فغمسه فيه ، ثم غمس به تلك التماثيل ، وأخرج مقام إبراهيم وكان في الكعبة ، فألزقه في حائط الكعبة ، ثم قال : «يا أيها الناس هذه القبلة» ، قال : ثم خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فطاف في البيت شوطا أو شوطين ثم نزل عليه جبريل فيما ذكر لنا برد المفتاح ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) حتى فرغ من الآية.

وهذا من المشهورات أن هذه الآية نزلت في ذلك ، وسواء كانت نزلت في ذلك أو لا ، فحكمها عام ، ولهذا قال ابن عباس ومحمد بن الحنفية : هي للبر والفاجر ، أي هي أمر لكل أحد.

وقوله : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) أمر منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس ، ولهذا قال محمد بن كعب وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب : إن هذه الآية إنما نزلت في الأمراء ، يعني الحكام بين الناس ، وفي الحديث «إن الله مع الحاكم ما لم يجر فإذا جار وكله الله إلى نفسه» ، وفي الأثر «عدل يوم كعبادة أربعين سنة».

وقوله : (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) أي يأمركم به من أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ١٤٨.

٣٠٠