تفسير القرآن العظيم - ج ٢

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٠

أعلم ، قال : «أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» ، ثم قال : «أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم» ثم أوصى بالإحسان إلى الوالدين ، فإن الله سبحانه جعلهما سببا لخروجك من العدم إلى الوجود وكثيرا ما يقرن الله سبحانه بين عبادته والإحسان إلى الوالدين ، كقوله (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) [لقمان : ١٤] ، وكقوله (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء : ٢٣] ثم عطف على الإحسان إليهما الإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء كما جاء في الحديث «الصدقة على المسكين صدقة ، وعلى ذي الرحم صدقة وصلة» (١).

ثم قال تعالى : (وَالْيَتامى) وذلك لأنهم فقدوا من يقوم بمصالحهم ومن ينفق عليهم فأمر الله بالإحسان إليهم والحنو عليهم ثم قال (وَالْمَساكِينِ) وهم المحاويج من ذوي الحاجات الذين لا يجدون ما يقوم بكفايتهم ، فأمر الله سبحانه بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم وتزول به ضرورتهم وسيأتي الكلام على الفقير والمسكين في سورة براءة.

وقوله (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) ، يعني الذي بينك وبينه قرابة ، (وَالْجارِ الْجُنُبِ) الذي ليس بينك وبينه قرابة ، وكذا روي عن عكرمة ومجاهد وميمون بن مهران والضحاك وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة ، وقال أبو إسحاق عن نوف البكالي في قوله : والجار ذي القربى : يعني الجار المسلم ، والجار الجنب يعني اليهودي والنصراني ، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، وقال جابر الجعفي عن الشعبي عن علي وابن مسعود : والجار ذي القربى يعني المرأة وقال مجاهد أيضا في قوله : والجار الجنب يعني الرفيق في السفر ، وقد وردت الأحاديث بالوصايا بالجار ، فلنذكر منها ما تيسر وبالله المستعان.

الحديث الأول : قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن عمر بن محمد بن زيد أنه سمع أباه محمدا يحدث عن عبد الله بن عمر : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» أخرجاه في الصحيحين من حديث عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر به.

الحديث الثاني : قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا سفيان عن داود بن شابور ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» وروى أبو داود والترمذي نحوه من حديث سفيان بن عيينة ، عن بشير أبي إسماعيل ،

__________________

(١) مسند أحمد ٤ / ١٧ و ١٨ و ٢٤١.

(٢) مسند أحمد ٢ / ٨٥.

(٣) مسند أحمد ٢ / ١٦٠.

٢٦١

زاد الترمذي : وداود بن شابور ، كلاهما عن مجاهد به ، ثم قال الترمذي : حسن غريب من هذا الوجه ، وقد روى عن مجاهد عائشة وأبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والحديث الثالث : قال أحمد (١) أيضا : حدثنا عبد الله بن يزيد ، أخبرنا حيوة ، أخبرنا شرحبيل بن شريك أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره» ورواه الترمذي عن أحمد بن محمد ، عن عبد الله بن المبارك ، عن حيوة بن شريح به ، وقال حسن غريب.

الحديث الرابع : قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان عن أبيه ، عن عباية بن رفاعة ، عن عمر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يشبع الرجل دون جاره» ، تفرد به أحمد.

الحديث الخامس : قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان ، حدثنا محمد بن سعد الأنصاري ، سمعت أبا ظبية الكلاعي ، سمعت المقداد بن الأسود يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه «ما تقولون في الزنا؟» قالوا حرام حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره» ، قال «ما تقولون في السرقة؟» قالوا : حرمها الله ورسوله ، فهي حرام ، قال «لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره» تفرد به أحمد ، وله شاهد في الصحيحين من حديث ابن مسعود : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم؟ قال : «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» قلت : ثم أي؟ قال : «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك». قلت ثم أي؟ قال «أن تزاني حليلة جارك».

الحديث السادس : قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا يزيد ، حدثنا هشام عن حفصة ، عن أبي العالية ، عن رجل من الأنصار قال : خرجت من أهلي أريد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا به قائم ورجل معه مقبل عليه ، فظننت أن لهما حاجة ، قال الأنصاري : لقد قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى جعلت أرثي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طول القيام ، فلما انصرف قلت : يا رسول الله ، لقد قام بك هذا الرجل حتى جعلت أرثي لك من طول القيام. قال : «ولقد رأيته؟» قلت : نعم. قال «أتدري من هو؟». قلت : لا ، قال «ذاك جبريل ، ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» ثم قال «أما إنك لو سلمت عليه لرد عليك السلام».

__________________

(١) مسند أحمد ٢ / ١٦٧.

(٢) مسند أحمد ١ / ٥٤ ـ ٥٥.

(٣) مسند أحمد ٦ / ٨.

(٤) مسند أحمد ٥ / ٣٢.

٢٦٢

الحديث السابع : قال عبد بن حميد في مسنده : حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا أبو بكر يعني المدني ، عن جابر بن عبد الله ، قال : جاء رجل من العوالي ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجبريل عليه‌السلام ، يصليان حيث يصلى على الجنائز ، فلما انصرف قال الرجل : يا رسول الله ، من هذا الرجل الذي رأيت معك؟ قال «وقد رأيته؟» قال : نعم. قال «لقد رأيت خيرا كثيرا ، هذا جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى رأيت أنه سيورثه» ، تفرد به من هذا الوجه وهو شاهد للذي قبله.

الحديث الثامن : قال أبو بكر البزار : حدثنا عبيد الله بن محمد أبو الربيع الحارثي ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ، أخبرني عبد الرحمن بن الفضل عن عطاء الخراساني ، عن الحسن ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الجيران ثلاثة : جار له حق واحد ، وهو أدنى الجيران حقا ، وجار له حقان ، وجار له ثلاثة حقوق ، وهو أفضل الجيران حقا ، فأما الذي له حق واحد فجار مشرك لا رحم له ، له حق الجوار ، وأما الذي له حقان فجار مسلم ، له حق الإسلام وحق الجوار ، وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الجوار وحق الإسلام وحق الرحم» قال البزار : لا نعلم أحدا روى عن عبد الرحمن بن الفضل إلا ابن أبي فديك.

الحديث التاسع : قال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي عمران ، عن طلحة بن عبد الله ، عن عائشة ، أنها سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال «إلى أقربهما منك بابا» ، ورواه البخاري من حديث شعبة به ،

الحديث العاشر : روى الطبراني وأبو نعيم عن عبد الرحمن ، فزاد : قال : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ فجعل الناس يتمسحون بوضوئه ، فقال «ما يحملكم على ذلك»؟ قالوا : حب الله ورسوله. قال «من سره أن يحب الله ورسوله فليصدق الحديث إذا حدث ، وليؤد الأمانة إذا ائتمن».

الحديث الحادي عشر : قال أحمد (٢) : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لهيعة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن أول خصمين يوم القيامة جاران».

وقوله تعالى : (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) قال الثوري ، عن جابر الجعفي ، عن الشعبي ، عن علي وابن مسعود ، قالا : هي المرأة ، وقال ابن أبي حاتم : وروي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى وإبراهيم النخعي والحسن وسعيد بن جبير في إحدى الروايات ، نحو ذلك ، وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة : هو الرفيق في السفر ، وقال سعيد بن جبير : هو الرفيق الصالح ، وقال

__________________

(١) مسند أحمد ٦ / ١٧٥.

(٢) مسند أحمد ٤ / ١٥١.

٢٦٣

زيد بن أسلم : هو جليسك في الحضر ورفيقك في السفر ، وأما ابن السبيل ، فعن ابن عباس وجماعة : هو الضيف ، وقال مجاهد وأبو جعفر الباقر والحسن والضحاك ومقاتل : هو الذي يمر عليك مجتازا في السفر ، وهذا أظهر ، وإن كان مراد القائل بالضيف المار في الطريق ، فهما سواء ، وسيأتي الكلام على أبناء السبيل في سورة براءة ، وبالله الثقة وعليه التكلان.

وقوله تعالى : (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وصية بالأرقاء ، لأن الرقيق ضعيف الحيلة أسير في أيدي الناس ، فلهذا ثبت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل يوصي أمته في مرض الموت ، يقول «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم» فجعل يرددها حتى ما يفيض بها لسانه ، وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا إبراهيم بن أبي العباس ، حدثنا بقية ، حدثنا بحير بن سعد عن خالد بن معدان ، عن المقدام بن معد يكرب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة ، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة ، وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة ، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة» ورواه النسائي من حديث بقية ، وإسناده صحيح ، ولله الحمد.

وعن عبد الله بن عمرو أنه قال لقهرمان له : هل أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال : لا. قال : فانطلق فأعطهم ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم» رواه مسلم (٢). وعن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «للمملوك طعامه وكسوته ، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق» رواه مسلم (٣) أيضا وعن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين ، أو أكلة أو أكلتين ، فإنه ولي حره وعلاجه» (٤) أخرجاه ، ولفظه للبخاري ولمسلم : «فليقعده معه فليأكل ، فإن كان الطعام مشفوها قليلا ، فليضع في يده أكلة أو أكلتين». وعن أبي ذر رضي الله عنه ،. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «هم إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا تكلفوهم ما يغلبهم ، فإن كلفتموهم فأعينوهم» أخرجاه (٥).

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) ، أي مختالا في نفسه ، معجبا متكبرا فخورا على الناس ، يرى أنه خير منهم فهو في نفسه كبير ، وهو عند الله حقير ، وعند الناس بغيض ، قال مجاهد في قوله (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً) يعني متكبرا (فَخُوراً) يعني يعدّ ما أعطى ، وهو لا يشكر الله تعالى يعني يفخر على الناس بما أعطاه الله من نعمه ،

__________________

(١) مسند أحمد ٤ / ١٣١.

(٢) صحيح مسلم (زكاة حديث ٤٠)

(٣) صحيح مسلم (أيمان حديث ٤١)

(٤) صحيح البخاري (أطعمة باب ٥٥)

(٥) صحيح البخاري (إيمان باب ٢٢) وصحيح مسلم (أيمان حديث ٤٠)

٢٦٤

وهو قليل الشكر لله على ذلك ، وقال ابن جرير (١) : حدثني القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا محمد بن كثير ، عن عبد الله بن واقد أبي رجاء الهروي ، قال : لا تجد سيء الملكة إلا وجدته مختالا فخورا ، وتلا (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) الآية ، ولا عاقا إلا وجدته جبارا شقيا ، وتلا (وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) [مريم : ٣٢] ، وروى ابن أبي حاتم عن العوام بن حوشب مثله في المختال الفخور ، وقال : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نعيم عن الأسود بن شيبان ، حدثنا يزيد بن عبد الله بن الشخير ، قال : قال مطرف : كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقائه ، فلقيته ، فقلت : يا أبا ذر ، بلغني أنك تزعم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدثكم «إن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة»؟ فقال : أجل ، فلا إخالني أكذب على خليلي ثلاثا؟ قلت : من الثلاثة الذين يبغض الله؟ قال : المختال الفخور. أو ليس تجدونه عندكم في كتاب الله المنزل ، ثم قرأ الآية (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) ، وحدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا وهيب بن خالد ، عن أبي تميمة عن رجل من بلهجيم ، قال : قلت : يا رسول الله ، أوصني ، قال «إياك وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المخيلة ، وإن الله لا يحب المخيلة».

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) (٣٩)

يقول تعالى ذاما الذين يبخلون بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به من بر الوالدين والإحسان إلى الأقارب ، واليتامى ، والمساكين ، والجار ذي القربى ، والجار الجنب ، والصاحب بالجنب ، وابن السبيل ، وما ملكت أيمانكم من الأرقاء ، ولا يدفعون حق الله فيها ، ويأمرون الناس بالبخل أيضا ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وأي داء أدوأ من البخل». وقال : «إياكم والشح ، فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالقطيعة فقطعوا ، وأمرهم بالفجور ففجروا».

وقوله تعالى : (وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) فالبخيل جحود لنعمة الله لا تظهر عليه ولا تبين ، لا في مأكله ولا في ملبسه ولا في إعطائه وبذله ، كما قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) [العاديات : ١٠٨] أي بحاله وشمائله (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات : ٨] وقال هاهنا (وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ولهذا توعدهم بقوله : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) والكفر هو الستر والتغطية ، فالبخيل يستر نعمة الله عليه ويكتمها ويجحدها فهو كافر لنعم الله عليه ، وفي الحديث «إن الله إذا أنعم نعمة على عبد أحب أن يظهر أثرها عليه» ، وفي الدعاء النبوي «واجعلنا شاكرين لنعمتك ، مثنين بها عليك قابليها ،

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٨٧.

٢٦٥

وأتممها علينا».

وقد حمل بعض السلف هذه الآية على بخل اليهود بإظهار العلم الذي عندهم من صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتمانهم ذلك ، ولهذا قال تعالى : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) ، رواه ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، وقاله مجاهد وغير واحد ، ولا شك أن الآية محتملة لذلك ، والظاهر أن السياق في البخل بالمال ، وإن كان البخل بالعلم داخلا في ذلك بطريق الأولى ، فإن السياق في الإنفاق على الأقارب والضعفاء ، وكذلك الآية التي بعدها وهي قوله (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ) فإنه ذكر الممسكين المذمومين وهم البخلاء ، ثم ذكر الباذلين المرائين الذين يقصدون بإعطائهم السمعة وأن يمدحوا بالكرم ، ولا يريدون بذلك وجه الله ، وفي حديث الثلاثة الذين هم أول من تسجر بهم النار وهم : العالم ، والغازي ، والمنفق المراؤون بأعمالهم ، «يقول صاحب المال : ما تركت من شيء تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك ، فيقول الله : كذبت إنما أردت أن يقال : جواد فقد قيل» أي فقد أخذت جزاءك في الدنيا وهو الذي أردت بفعلك ، وفي الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال لعدي بن حاتم «إن أباك رام أمرا فبلغه» (١). وفي حديث آخر : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن عبد الله بن جدعان : هل ينفعه إنفاقه وإعتاقه؟ فقال : «لا ، إنه لم يقل يوما من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» (٢) ، ولهذا قال تعالى : (وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية ، أي إنما حملهم على صنيعهم هذا القبيح وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها الشيطان ، فإنه سول لهم وأملى لهم ، وقارنهم فحسن لهم القبائح ، ولهذا قال تعالى : (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً) ، ولهذا قال الشاعر : [الطويل]

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فكل قرين بالمقارن يقتدي (٣)

ثم قال تعالى : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ) الآية ، أي وأي شيء يضرهم لو آمنوا بالله وسلكوا الطريق الحميدة ، وعدلوا عن الرياء إلى الإخلاص والإيمان بالله ورجاء موعوده في الدار الآخرة لمن أحسن عملا ، وأنفقوا مما رزقهم الله في الوجوه التي يحبها الله ويرضاها ، وقوله (وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) أي وهو عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة ، وعليم بمن يستحق التوفيق منهم فيوفقه ، ويلهمه رشده ، ويقيضه لعمل صالح يرضى به عنه ، وبمن يستحق الخذلان والطرد عن جناية الأعظم الإلهي الذي من طرد عن بابه ، فقد خاب وخسر في الدنيا والآخرة ، عياذا بالله من ذلك.

__________________

(١) مسند أحمد ٤ / ٢٥٨.

(٢) مسند أحمد ٦ / ١٢٠.

(٣) البيت لعدي بن زيد. وهو في تفسير الطبري ٤ / ٩٠.

٢٦٦

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً(٤٠) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) (٤٢)

يقول تعالى مخبرا : إنه لا يظلم أحدا من خلقه يوم القيامة مثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة ، بل يوفيها له ويضاعفها له إن كانت حسنة ، كما قال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) [الأنبياء : ٤٧] ، وقال تعالى مخبرا عن لقمان أنه قال : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ) [لقمان : ١٦] ، وقال تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٦ ـ ٧] وفي الصحيحين من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الشفاعة الطويل ، وفيه «فيقول الله عزوجل ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ، فأخرجوه من النار» وفي لفظ : «أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان ، فأخرجوه من النار فيخرجون خلقا كثيرا» ثم يقول أبو سعيد : اقرءوا إن شئتم (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) (١) ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عيسى بن يونس عن هارون بن عنترة ، عن عبد الله بن السائب ، عن زاذان ، قال : قال عبد الله بن مسعود : يؤتى بالعبد والأمة يوم القيامة فينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين : هذا فلان بن فلان ، من كان له حق فليأت إلى حقه فتفرح المرأة أن يكون لها الحق على أبيها أو أمها أو أخيها أو زوجها ، ثم قرأ (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١] فيغفر الله من حقه ما يشاء ولا يغفر من حقوق الناس شيئا ، فينصب للناس فينادى : هذا فلان بن فلان ، من كان له حق فليأت إلى حقه. فيقول : رب فنيت الدنيا من أين أوتيهم حقوقهم؟ فيقول : خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل ذي حق حقه بقدر طلبته ، فإن كان وليا لله ففضل له مثقال ذرة ضاعفها الله له حتى يدخله بها الجنة ثم قرأ علينا (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) قال : ادخل الجنة وإن كان عبدا شقيا قال الملك : رب فنيت حسناته وبقي طالبون كثير ، فيقول : خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكوا له صكا إلى النار ، ورواه ابن جرير من وجه آخر عن زاذان به نحوه ولبعض هذا الأثر شاهد في الحديث الصحيح.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا فضيل يعني ابن مرزوق عن عطية العوفي حدثني عبد الله بن عمر ، قال : نزلت هذه الآية في الأعراب (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠] قال رجل : فما للمهاجرين يا أبا عبد الرحمن؟ قال : ما هو أفضل

__________________

(١) صحيح البخاري (إيمان باب ١٥) وصحيح مسلم (إيمان حديث ٣٠٤)

٢٦٧

من ذلك (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً).

وحدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، حدثني عبد الله بن لهيعة ، حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله : (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) فأما المشرك فيخفف عنه العذاب يوم القيامة ولا يخرج من النار أبدا ، وقد استدل له بالحديث الصحيح أن العباس قال : يا رسول الله ، إن عمك أبا طالب كان يحوطك وينصرك ، فهل نفعته بشيء؟ قال «نعم هو في ضحضاح من نار ، ولو لا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» (١).

وقد يكون هذا خاصا بأبي طالب من دون الكفار بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده : حدثنا عمران ، حدثنا قتادة عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة».

وقال أبو هريرة وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك في قوله : (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) : يعني الجنة ، نسأل الله رضاه والجنة ، وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا سليمان يعني ابن المغيرة ، عن علي بن زيد ، عن أبي عثمان ، قال : بلغني عن أبي هريرة أنه قال : بلغني أن الله تعالى يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة ، قال : فقضي أني انطلقت حاجا أو معتمرا ، فلقيته فقلت : بلغني عنك حديث أنك تقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «يجزى العبد بالحسنة ألف ألف حسنة» فقلت : ويحكم ما أحد أكثر مني مجالسة لأبي هريرة ، وما سمعت هذا الحديث منه فتحملت أريد أن الحقه فوجدته قد انطلق حاجا ، فانطلقت إلى الحج في طلب هذا الحديث فلقيته فقلت : يا أبا هريرة : إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة قال : يا أبا عثمان ، وما تعجب من ذا والله يقول (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [البقرة : ٢٤٥] ويقول (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) [التوبة : ٣٨] والذي نفسي بيده لقد سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن الله ليضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة» قال : وهذا حديث غريب ، وعلي بن زيد بن جدعان عنده مناكير ، ورواه أحمد (٣) أيضا فقال : حدثنا يزيد حدثنا مبارك بن فضالة عن علي بن زيد ، عن أبي عثمان النهدي ، قال أتيت أبا هريرة ، فقلت له : بلغني أنك تقول : إن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة! قال : وما أعجبك من ذلك؟ فو الله لقد سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله ليضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة».

__________________

(١) صحيح البخاري (مناقب الأنصار باب ٤٠) وصحيح مسلم (إيمان حديث ٣٥٧)

(٢) مسند أحمد ٥ / ٥٢١.

(٣) مسند أحمد ٢ / ٢٩٦.

٢٦٨

ورواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال : حدثنا أبو خلاد وسليمان بن خلاد المؤدب ، حدثنا محمد الرفاعي عن زياد بن الجصاص ، عن أبي عثمان النهدي ، قال : لم يكن أحد أكثر مجالسة مني لأبي هريرة ، فقدم قبلي حاجا وقدمت بعده ، فإذا أهل البصرة يؤثرون عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة» فقلت : ويحكم ما كان أحد أكثر مجالسة مني لأبي هريرة ، وما سمعت منه هذا الحديث ، فهممت أن ألحقه فوجدته قد انطلق حاجا ، فانطلقت إلى الحج أن ألقاه في هذا الحديث ، ورواه ابن أبي حاتم من طريق أخرى فقال : حدثنا بشر بن مسلم ، حدثنا الربيع بن روح ، حدثنا محمد بن خالد الذهبي ، عن زياد الجصاص ، عن أبي عثمان قال : قلت : يا أبا هريرة سمعت إخواني بالبصرة يزعمون أنك تقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة» فقال أبو هريرة : والله بل سمعت نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة» ثم تلا هذه الآية (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) [التوبة : ٣٨].

وقوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) يقول تعالى مخبرا عن هول يوم القيامة وشدة أمره وشأنه ، فكيف يكون الأمر والحال يوم القيامة حين يجيء من كل أمة بشهيد ، يعني الأنبياء عليهم‌السلام ، كما قال تعالى : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) [الزمر : ٦٩] ؛ وقال تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [النحل : ٨٤] ، وقال البخاري (١) : حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان عن الأعمش ، عن إبراهيم عن عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اقرأ علي» فقلت : يا رسول الله أقرأ عليك ، وعليك أنزل؟ «قال نعم إني أحب أن أسمعه من غيري» فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) فقال «حسبك الآن» فإذا عيناه تذرفان ، ورواه هو ومسلم أيضا من حديث الأعمش به ، وقد روي من طرق متعددة عن ابن مسعود فهو مقطوع به عنه ورواه أحمد من طريق أبي حيان وأبي رزين عنه.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا ، حدثنا الصلت بن مسعود الجحدري ، حدثنا فضيل بن سليمان ، حدثنا يونس بن محمد بن فضالة الأنصاري عن أبيه ، قال : وكان أبي ممن صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاهم في بني ظفر ، فجلس على الصخرة التي في بني ظفر اليوم ، ومعه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قارئا فقرأ حتى أتى على هذه الآية (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) فبكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى اضطرب لحياه وجنباه ، فقال : «يا رب ، هذا شهدت على من أنا بين

__________________

(١) صحيح البخاري (فضائل القرآن باب ٣٢)

٢٦٩

أظهرهم ، فكيف بمن لم أره».

وقال ابن جرير (١) : حدثني محمد بن عبد الله الزهري حدثنا سفيان ، عن المسعودي ، عن جعفر بن عمرو بن حريث ، عن أبيه ، عن عبد الله هو ابن مسعود في هذه الآية ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «شهيد (٢) عليهم ما دمت فيهم ، فإذا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم».

وأما ما ذكره أبو عبد الله القرطبي في التذكرة حيث قال : باب ما جاء في شهادة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على أمته ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، أخبرنا رجل من الأنصار عن المنهال بن عمرو أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : ليس من يوم إلا تعرض فيه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمته غدوة وعشية ، فيعرفهم بأسمائهم وأعمالهم ، فلذلك يشهد عليهم ، يقول الله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) فإنه أثر وفيه انقطاع ، فإنه فيه رجلا مبهما لم يسم ، وهو من كلام سعيد بن المسيب لم يرفعه ، وقد قبله القرطبي فقال بعد إيراده : قد تقدم أن الأعمال تعرض على الله كل يوم اثنين وخميس ، وعلى الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجمعة ، قال : ولا تعارض ، فإنه يحتمل أن يخص نبينا بما يعرض عليه كل يوم ، ويوم الجمعة مع الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.

وقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) أي لو انشقت وبلعتهم مما يرون من أهوال الموقف وما يحل بهم من الخزي والفضيحة والتوبيخ ، كقوله : (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) [النبأ : ٤٠].

وقوله : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) إخبار عنهم بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه ولا يكتمون منه شيئا. وقال ابن جرير (٣) : حدثنا حاكم ، حدثنا عمرو عن مطرف ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال له : سمعت الله عزوجل يقول ـ يعني إخبارا عن المشركين يوم القيامة أنهم قالوا ـ (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] وقال في الآية الأخرى : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) فقال ابن عباس : أما قوله : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام ، قالوا : تعالوا فلنجحد ، فقالوا (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً).

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن رجل ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ،

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٩٥.

(٢) في الطبري : «شهيدا عليهم ما دمت فيهم فإذا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد». والإشارة إلى الآية ١١٧ من سورة المائدة ، ولفظها في القرآن : «وكنت عليهم شهيدا ...».

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٩٦.

٢٧٠

قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : أشياء تختلف عليّ في القرآن ، قال : ما هو؟ أشك في القرآن؟ قال : ليس هو بالشك ، ولكن اختلاف قال : فهات ما اختلف عليك من ذلك ، قال أسمع الله يقول (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] وقال (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) فقد كتموا. فقال ابن عباس : أما قوله : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله لا يغفر إلا لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره ولا يغفر شركا جحد المشركون ، فقالوا (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) رجاء أن يغفر لهم ، فختم الله على أفواههم ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، فعند ذلك (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً). وقال جويبر عن الضحاك : إن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس فقال : يا ابن عباس ، قول الله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) وقوله : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) ، فقال له ابن عباس : إني أحسبك قمت من عند أصحابك ، فقلت : ألقى على ابن عباس متشابه القرآن ، فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله تعالى جامع الناس يوم القيامة في بقيع واحد ، فيقول المشركون : إن الله لا يقبل من أحد شيئا إلا ممن وحده ، فيقولون : تعالوا نجحد : فيسألهم فيقولون (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) قال : فيختم الله على أفواههم ويستنطق جوارحهم فتشهد عليهم جوارحهم أنهم كانوا مشركين. فعند ذلك يتمنون لو أن الأرض سويت بهم (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) رواه ابن جرير (١).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) (٤٣)

ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السكر الذي لا يدري معه المصلي ما يقول ، وعن قربان محالها التي هي المساجد للجنب ، إلا أن يكون مجتازا من باب إلى باب من غير مكث ، وقد كان هذا قبل تحريم الخمر ، كما دل عليه الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة عند قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) [البقرة : ٢١٩]. فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلاها على عمر ، فقال «اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا» ، فلما نزلت هذه الآية تلاها عليه فقال «اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا» فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلوات فلما نزل قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة : ٩٠] إلى قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٩٧.

٢٧١

مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩١] فقال عمر : انتهينا انتهينا. وفي رواية إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن شرحبيل عن عمر بن الخطاب في قصة تحريم الخمر ، فذكر الحديث وفيه : فنزلت الآية التي في النساء (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) فكان منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قامت الصلاة ينادي : أن لا يقربن الصلاة سكران ، لفظ أبي داود (١).

ذكروا في سبب نزول هذه الآية ما رواه ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا شعبة ، أخبرني سماك بن حرب قال : سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال : نزلت فيّ أربع آيات ، صنع رجل من الأنصار طعاما فدعا أناسا من المهاجرين وأناسا من الأنصار ، فأكلنا وشربنا حتى سكرنا ، ثم افتخرنا ، فرفع رجل لحي بعير ففزر به أنف سعد ، فكان سعد مفزور الأنف ، وذلك قبل تحريم الخمر ، فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) الآية ، والحديث بطوله عند مسلم من رواية شعبة ، ورواه أهل السنن إلا ابن ماجة من طرق عن سماك به.

سبب آخر قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي ، حدثنا أبو جعفر عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي بن أبي طالب ، قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر ، فأخذت الخمر منا ، وحضرت الصلاة فقدموا فلانا ، قال فقرأ : قل يا أيها الكافرون ما أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون ، فأنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) هكذا رواه ابن أبي حاتم ، وكذا رواه الترمذي عن عبد بن حميد ، عن عبد الرحمن الدشتكي به ، وقال : حسن صحيح.

وقد رواه ابن جرير (٢) عن محمد بن بشار ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان الثوري ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي : أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر ، شربوا الخمر فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) [الكافرون : ١] فخلط فيها ، فنزلت (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) وهكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث الثوري به.

ورواه ابن جرير أيضا عن ابن حميد ، عن جرير ، عن عطاء ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، قال : كان علي في نفر من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيت عبد الرحمن بن عوف ، فطعموا فأتاهم بخمر فشربوا منها ، وذلك قبل أن يحرم الخمر ، فحضرت الصلاة فقدموا عليا فقرأ بهم (قُلْ

__________________

(١) سنن أبي داود (أشربة باب ١) وفيه : «ألا لا يقربن».

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٩٨.

٢٧٢

يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) فلم يقرأها كما ينبغي ، فأنزل الله عزوجل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) ثم قال : حدثني المثنى ، حدثنا الحجاج بن المنهال ، حدثنا حماد عن عطاء بن السائب ، عن عبد الرحمن بن حبيب وهو أبو عبد الرحمن السلمي : أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما وشرابا ، فدعا نفرا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلى بهم المغرب ، فقرأ : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ، وأنتم عابدون ما أعبد ، وأنا عابد ما عبدتم ، لكم دينكم ولي دين ، فأنزل الله عزوجل هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) وقال العوفي عن ابن عباس في الآية : إن رجالا كانوا يأتون الصلاة وهم سكارى قبل أن يحرم الخمر ، فقال الله (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) الآية ، رواه ابن جرير ، وكذا قال أبو رزين ومجاهد. وقال عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة : كانوا يجتنبون السكر عند حضور الصلوات ثم نسخ بتحريم الخمر.

وقال الضحاك في الآية : لم يعن بها سكر الخمر وإنما عنى بها سكر النوم ، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، ثم قال ابن جرير (١) : والصواب أن المراد سكر الشراب ، قال : ولم يتوجه النهي إلى السكران الذي لا يفهم الخطاب ، لأن ذاك في حكم المجنون ، وإنما خوطب بالنهي الثمل الذي يفهم التكليف ، وهذا حاصل ما قاله ، وقد ذكره غير واحد من الأصوليين ، وهو أن الخطاب يتوجه إلى من يفهم الكلام دون السكران الذي لا يدري ما يقال له فإن الفهم شرط التكليف ، وقد يحتمل أن يكون المراد التعريض بالنهي عن السكر بالكلية لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات من الليل والنهار ، فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائما ، والله أعلم ، وعلى هذا فيكون كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ١٠٢] وهو الأمر لهم بالتأهب للموت على الإسلام والمداومة على الطاعة لأجل ذلك.

وقوله (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) هذا أحسن ما يقال في حد السكران أنه الذي لا يدري ما يقول ، فإن المخمور فيه تخليط في القراءة وعدم تدبره وخشوعه فيها. وقد قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبي ، حدثنا أيوب عن أبي قلابة ، عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف فلينم حتى يعلم ما يقول» انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم ، ورواه هو والنسائي من حديث أيوب به. وفي بعض ألفاظ الحديث «فلعله يذهب يستغفر فيسب نفسه».

وقوله : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٩٩.

(٢) مسند أحمد ١ / ١٥٠.

٢٧٣

عمار ، حدثنا عبد الرحمن الدشتكي ، أخبرنا أبو جعفر الرازي عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس في قوله : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) قال لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب ، إلا عابري سبيل ، قال : تمر به مرا ، ولا تجلس ، ثم قال : وروي عن عبد الله بن مسعود ، وأنس ، وأبي عبيدة ، وسعيد بن المسيب ، وأبي الضحى ، وعطاء ، ومجاهد ، ومسروق ، وإبراهيم النخعي ، وزيد بن أسلم ، وأبي مالك ، وعمرو بن دينار ، والحكم بن عتيبة ، وعكرمة ، والحسن البصري ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وابن شهاب ، وقتادة نحو ذلك.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا المثنى ، حدثنا أبو صالح ، حدثني الليث ، حدثنا يزيد بن أبي حبيب ، عن قول الله عزوجل (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد ، فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم ، فيردون الماء ولا يجدون ممرا إلا في المسجد ، فأنزل الله (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) ويشهد لصحة ما قاله يزيد بن أبي حبيب رحمه‌الله ، ما ثبت في صحيح البخاري : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر» (٢) وهذا قاله في آخر حياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، علما منه أن أبا بكر رضي الله عنه سيلي الأمر بعده ، ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيرا للأمور المهمة فيما يصلح للمسلمين ، فأمر بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد ، إلا بابه رضي الله عنه ، ومن روى إلا باب علي (٣) ، كما وقع في بعض السنن فهو خطأ ، والصواب ما ثبت في الصحيح.

ومن هذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد ، ويجوز له المرور ، وكذا الحائض والنفساء أيضا ، في معناه ، إلا أن بعضهم قال : يمنع مرورهما لاحتمال التلويث ، ومنهم من قال : إن أمنت كل واحدة منهما التلويث في حال المرور ، جاز لهما المرور ، وإلا فلا. وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ناوليني الخمرة من المسجد» فقلت : إني حائض ، فقال «إن حيضتك ليست في يدك» (٤) وله عن أبي هريرة مثله ، ففيه دلالة على جواز مرور الحائض في المسجد ، والنفساء في معناها ، والله أعلم.

وروى أبو داود من حديث أفلت بن خليفة العامري ، عن جسرة بنت دجاجة ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» (٥) ، قال أبو مسلم

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ١٠٢.

(٢) صحيح البخاري (صلاة باب ٨٠)

(٣) مسند أحمد ١ / ٣٣١ و ٤ / ٣٦٩.

(٤) صحيح مسلم (حيض حديث ١١ ـ ١٣)

(٥) سنن أبي داود (طهارة باب ٩٢)

٢٧٤

الخطابي : ضعف هذا الحديث جماعة وقالوا : أفلت مجهول ، لكن رواه ابن ماجة ، من حديث أبي الخطاب الهجري ، عن محدوج الذهلي ، عن جسرة ، عن أم سلمة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به ، قال أبو زرعة الرازي : يقولون : جسرة ، عن أم سلمة ، والصحيح جسرة عن عائشة ، فأما ما رواه أبو عيسى الترمذي : من حديث سالم بن أبي حفصة عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا علي لا يحل لأحد أن يجنب ، في هذا المسجد غيري وغيرك» فإنه حديث ضعيف لا يثبت ، فإن سالما هذا متروك ، وشيخه عطية ضعيف ، والله أعلم.

حديث آخر : في معنى الآية. قال ابن أبي حاتم : حدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، أخبرني ابن أبي ليلى عن المنهال ، عن زر بن حبيش ، عن علي (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) قال : لا يقرب الصلاة ، إلا أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة ، فلا يجد الماء فيصلي ، حتى يجد الماء ، ثم رواه من وجه آخر عن المنهال بن عمرو ، عن زر ، عن علي بن أبي طالب ، فذكره. قال : وروي عن ابن عباس في إحدى الروايات ، وسعيد بن جبير والضحاك ، نحو ذلك. وقد روى ابن جرير (١) ، من حديث وكيع ، عن ابن أبي ليلى عن المنهال ، عن عباد بن عبد الله ، أو عن زر بن حبيش عن علي ، فذكره. ورواه من طريق العوفي وأبي مجلز : عن ابن عباس ، فذكره. ورواه عن سعيد بن جبير ، وعن مجاهد ، والحسن بن مسلم ، والحكم بن عتيبة ، وزيد بن أسلم ، وابنه عبد الرحمن مثل ذلك. وروى من طريق ابن جريج عن عبد الله بن كثير ، قال : كنا نسمع أنه في السفر. ويستشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن من حديث أبي قلابة عن عمر بن بجدان ، عن أبي ذر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الصعيد الطيب طهور المسلم ، وإن لم تجد الماء عشر حجج ، فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك ، فإن ذلك خير» ثم قال ابن جرير بعد حكايته القولين : والأولى قول من قال (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) أي إلا مجتازي طريق فيه ، وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب ، في قوله (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ) [النساء : ٤٣] إلى آخره ، فكان معلوما بذلك أن قوله (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) لو كان معنيا به المسافر ، لم يكن لإعادة ذكره في قوله (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ) معنى مفهوم ، وقد مضى حكم ذكره قبل ذلك ، فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها ، وأنتم سكارى ، حتى تعلموا ما تقولون ، ولا تقربوها أيضا جنبا ، حتى تغتسلوا ، إلا عابري سبيل ، قال : والعابر السبيل : المجتاز مرا وقطعا ، يقال منه : عبرت هذا الطريق ، فأنا أعبره عبرا وعبورا ، ومنه يقال عبر فلان النهر ، إذا قطعه وجاوزه ، ومنه قيل للناقة القوية على الأسفار ، هي عبر الأسفار لقوتها على قطع الأسفار.

وهذا الذي نصره ، هو قول الجمهور ، وهو الظاهر من الآية ، وكأنه تعالى نهى عن تعاطي

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ١٠٠.

٢٧٥

الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها ، وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة ، وهي الجنابة المباعدة للصلاة ، ولمحلها أيضا ، والله أعلم.

وقوله (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) دليل لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة ، أبو حنيفة ومالك والشافعي ، أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد حتى يغتسل أو يتيمم ، إن عدم الماء ، أو لم يقدر على استعماله بطريقه ، وذهب الإمام أحمد : إلى أنه متى توضأ الجنب ، جاز له المكث في المسجد ، لما روى هو وسعيد بن منصور في سننه بسند صحيح : أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك. قال سعيد بن منصور في سننه : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، هو الدراوردي ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، قال : رأيت رجالا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يجلسون في المسجد وهم مجنبون ، إذا توضأوا وضوء الصلاة. وهذا إسناد على شرط مسلم ، والله أعلم.

وقوله (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) أما المرض المبيح للتيمم ، فهو الذي يخاف معه من استعمال الماء ، فوات عضو أو شينه أو تطويل البرء ، ومن العلماء من جوز التيمم بمجرد المرض ، لعموم الآية ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل ، حدثنا قيس ، عن خصيف عن مجاهد في قوله (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) قال : نزلت في رجل من الأنصار ، كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ، ولم يكن له خادم فيناوله ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ذلك له ، فأنزل الله هذه الآية ، هذا مرسل والسفر معروف ، ولا فرق فيه بين الطويل والقصير.

وقوله (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) الغائط هو المكان المطمئن من الأرض ، كنى بذلك عن التغوط ، وهو الحدث الأصغر ، وأما قوله (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) فقرىء لمستم ولامستم ، واختلف المفسرون والأئمة في معنى ذلك على قولين : [أحدهما] : أن ذلك كناية عن الجماع ، لقوله تعالى : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) [البقرة : ٢٣٧] وقال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) [الأحزاب : ٤٩] قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) قال : الجماع. وروي عن علي وأبي بن كعب ومجاهد وطاوس والحسن وعبيد بن عمير وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة ومقاتل بن حيان ، نحو ذلك ، وقال ابن جرير (١) : حدثني حميد بن مسعدة ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا شعبة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال : ذكروا اللمس ، فقال ناس من الموالي : ليس بالجماع ، وقال ناس من

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ١٠٤.

٢٧٦

العرب : اللمس الجماع ، قال : فأتيت ابن عباس فقلت له : إن ناسا من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس ، فقالت الموالي : ليس بالجماع ، وقالت العرب : الجماع ، قال : فمن أي الفريقين كنت؟ قلت : كنت من الموالي ، قال : غلب فريق الموالي. إن اللمس والمس والمباشرة : الجماع ، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء ، ثم رواه عن ابن بشار ، عن غندر ، عن شعبة به نحوه ، ثم رواه من غير وجه ، عن سعيد بن جبير نحوه. ومثله قال : حدثني يعقوب ، حدثنا هشيم ، قال حدثنا أبو بشر : أخبرنا سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : اللمس والمس والمباشرة : الجماع ولكن الله يكني بما يشاء ، حدثنا عبد الحميد بن بيان ، أنبأنا إسحاق الأزرق ، عن سفيان ، عن عاصم الأحول ، عن بكر بن عبد الله ، عن ابن عباس ، قال : الملامسة : الجماع ، ولكن الله كريم يكني بما يشاء ، وقد صح من غير وجه ، عن عبد الله بن عباس ، أنه قال ذلك ، ثم رواه ابن جرير : عن بعض من حكاه ابن أبي حاتم عنهم ، ثم قال ابن جرير : وقال آخرون : عنى الله تعالى بذلك كل لمس بيد أو بغيرها من أعضاء الإنسان ، وأوجبوا الوضوء على كل من مس بشيء من جسده شيئا من جسدها مفضيا إليه ، ثم قال : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن مخارق ، عن طارق ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : اللمس ما دون الجماع ، وقد رواه من طرق متعددة ، عن ابن مسعود بمثله ، وروى من حديث الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : القبلة من المس وفيها الوضوء. وروى الطبراني بإسناده ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : يتوضأ الرجل من المباشرة ومن اللمس بيده ، ومن القبلة ، وكان يقول في هذه الآية (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) هو الغمز ، وقال ابن جرير (١) : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عبيد الله بن عمر ، عن نافع : أن ابن عمر كان يتوضأ من قبلة المرأة ، ويرى فيها الوضوء ، ويقول : هي من اللماس. وروى ابن أبي حاتم وابن جرير أيضا : من طريق شعبة عن مخارق ، عن طارق ، عن عبد الله ، قال : اللمس ما دون الجماع ، ثم قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عمر ، وعبيدة ، وأبي عثمان النهدي ، وأبي عبيدة يعني ابن عبد الله بن مسعود ، وعامر الشعبي ، وثابت بن الحجاج ، وإبراهيم النخعي ، وزيد بن أسلم ، نحو ذلك ، (قلت) وروى مالك ، عن الزهري ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه ، أنه كان يقول : قبلة الرجل امرأته وجسه بيده من الملامسة ، فمن قبل امرأته أوجسها بيده ، فعليه الوضوء ، وروى الحافظ أبو الحسن الدار قطني في سننه : عن عمر بن الخطاب نحو ذلك ، ولكن روينا عنه من وجه آخر : أنه كان يقبل امرأته ثم يصلي ولا يتوضأ ، فالرواية عنه مختلفة ، فيحمل ما قاله في الوضوء إن صح عنه ، على الاستحباب ، والله أعلم.

والقول بوجوب الوضوء من المس ، هو قول الشافعي وأصحابه ، ومالك ، والمشهور عن

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ١٠٧.

٢٧٧

أحمد بن حنبل رحمهم‌الله ، قال ناصر هذه المقالة : قد قرئ في هذه الآية لامستم ولمستم ، واللمس يطلق في الشرع على الجس باليد ، قال تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) [الأنعام : ٧] أي جسوه ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لماعز حين أقر بالزنا ، يعرّض له بالرجوع عن الإقرار : «لعلك قبلت أو لمست» ، وفي الحديث الصحيح «واليد زناها اللمس» ، وقالت عائشة رضي الله عنها : قلّ يوم إلا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطوف علينا ، فيقبل ويلمس ، ومنه ما ثبت في الصحيحين ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن بيع الملامسة ، وهو يرجع إلى الجس باليد ، على كلا التفسيرين ، قالوا : ويطلق في اللغة على الجس باليد ، كما يطلق على الجماع ، قال الشاعر : [الطويل]

ولمست كفي كفّه أطلب الغنى

واستأنسوا أيضا بالحديث الذي رواه أحمد (١) ، حدثنا عبد الله بن مهدي ، وأبو سعيد ، قالا : حدثنا زائدة ، عن عبد الملك بن عمير ، وقال أبو سعيد : حدثنا عبد الملك بن عمير ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن معاذ ، قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه رجل فقال : يا رسول الله ، ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها ، فليس يأتي الرجل من امرأته شيئا إلا أتاه منها ، غير أنه لم يجامعها ، قال : فأنزل الله عزوجل هذه الآية (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) [هود : ١١٤] ، قال : فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «توضأ ثم صلّ» قال معاذ : فقلت : يا رسول الله ، أله خاصة أم للمؤمنين عامة؟ فقال «بل للمؤمنين عامة» ، ورواه الترمذي من حديث زائدة به ، وقال : ليس بمتصل ، ورواه النسائي : من حديث شعبة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، مرسلا ، قالوا : فأمره بالوضوء ، لأنه لمس المرأة ولم يجامعها ، وأجيب بأنه منقطع بين ابن أبي ليلى ومعاذ ، فإنه لم يلقه ، ثم يحتمل أنه إنما أمره بالوضوء والصلاة للتوبة ، كما تقدم في حديث الصديق : «ما من عبد يذنب ذنبا فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غفر الله له» الحديث ، وهو مذكور في سورة آل عمران ، عند قوله (ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) [آل عمران : ١٣٥].

ثم قال ابن جرير : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عنى الله بقوله : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) الجماع ، دون غيره من معاني اللمس ، لصحة الخبر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قبّل بعض نسائه ، ثم صلى ولم يتوضأ ، ثم قال : حدثني بذلك إسماعيل بن موسى السدي ، قال : أخبرنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ ، ثم يقبل ثم يصلي ، ولا يتوضأ ، ثم قال : حدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن حبيب ، عن عروة ، عن عائشة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قبّل بعض

__________________

(١) مسند أحمد ٥ / ٢٤٤.

٢٧٨

نسائه ، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ ، قلت : من هي إلا أنت؟ فضحكت.

وهكذا رواه أبو داود والترمذي ، وابن ماجة ، عن جماعة من مشايخهم ، عن وكيع به ، ثم قال أبو داود : روي عن الثوري أنه قال : ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني ، وقال يحيى القطان لرجل : احك عني أن هذا الحديث شبه لا شيء ، وقال الترمذي : سمعت البخاري يضعف هذا الحديث ، وقال : لا شك حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة ، وقد وقع في رواية ابن ماجة : عن أبي بكر بن أبي شيبة ، وعلي بن محمد الطنافسي ، عن وكيع ، عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، وأبلغ من ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده : من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، وهذا نص في كونه عروة بن الزبير ، ويشهد له قوله : من هي إلا أنت فضحكت ، لكن روى أبو داود عن إبراهيم بن مخلد الطالقاني ، عن عبد الرحمن بن مغراء ، عن الأعمش ، قال : حدثنا أصحاب لنا ، عن عروة المزني ، عن عائشة ، فذكره ، والله أعلم.

وقال ابن جرير أيضا : حدثنا أبو زيد ، عمر بن أنيس عن هشام بن عباد ، حدثنا مسدد بن علي ، عن ليث ، عن عطاء ، عن عائشة وعن أبي روق ، عن إبراهيم التيمي ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينال مني القبلة بعد الوضوء ، ثم لا يعيد الوضوء.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان عن أبي روق الهمداني ، عن إبراهيم التيمي ، عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبّل ثم صلى ولم يتوضأ ، رواه أبو داود والنسائي ، من حديث يحيى القطان ، زاد أبو داود : وابن مهدي ، كلاهما عن سفيان الثوري به. ثم قال أبو داود والنسائي : لم يسمع إبراهيم التيمي من عائشة (٢).

ثم قال ابن جرير أيضا : حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، حدثنا أبي ، حدثنا يزيد بن سنان ، عن عبد الرحمن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أم سلمة ، أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقبلها وهو صائم ، ثم لا يفطر ولا يحدث وضوءا. وقال أيضا : حدثنا أبو كريب ، حدثنا حفص بن غياث ، عن حجاج ، عن عمرو بن شعيب ، عن زينب السهمية ، عن عائشة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه كان يقبل ثم يصلي ولا يتوضأ. وقد رواه الإمام أحمد ، عن محمد بن فضيل ، عن حجاج بن أرطأة ، عن عمرو بن شعيب ، عن زينب السهمية ، عن عائشة ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم به ،

وقوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) استنبط كثير من الفقهاء من هذه الآية : أنه لا يجوز التيمم لعادم الماء إلا بعد طلب الماء ، فمتى طلبه فلم يجده ، جاز له حينئذ

__________________

(١) مسند أحمد ٦ / ٢١٠.

(٢) سنن أبي داود (طهارة باب ٦٨)

٢٧٩

التيمم ، وقد ذكروا كيفية الطلب في كتب الفروع ، كما هو مقرر في موضعه ، كما هو في الصحيحين من حديث عمران بن حصين : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم ، فقال «يا فلان ما منعك أن تصلي مع القوم ، ألست برجل مسلم» قال : بلى يا رسول الله ، ولكن أصابتني جنابة ولا ماء ، قال «عليك بالصعيد فإنه يكفيك» ولهذا قال تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) فالتيمم في اللغة ، هو القصد ، تقول العرب : تيممك الله بحفظه ، أي قصدك ، ومنه قول امرئ القيس شعرا : [الطويل]

ولما رأت أن المنية وردها

وأن الحصى من تحت أقدامها دامي

تيممت العين التي عند ضارج

يفيء عليها الفيء عرمضها طامي (١)

والصعيد قيل : هو كل ما صعد على وجه الأرض ، فيدخل فيه التراب والرمل والشجر والحجر والنبات ، وهو قول مالك ، وقيل : ما كان من جنس التراب ، كالرمل والزرنيخ والنورة ، وهذا مذهب أبي حنيفة ، وقيل : هو التراب فقط ، وهو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهما ، واحتجوا بقوله تعالى : (فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) [الكهف : ٤٠] أي ترابا أملس طيبا ، وبما ثبت في صحيح مسلم ، عن حذيفة بن اليمان ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا ، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء» وفي لفظ «وجعل ترابها لنا طهورا إذا لم نجد الماء» قالوا : فخصص الطهورية بالتراب ، في مقام الامتنان ، فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه.

والطيب هاهنا قيل : الحلال ، وقيل : الذي ليس بنجس ، كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، إلا ابن ماجة من حديث أبي قلابة ، عن عمرو بن بجدان ، عن أبي ذر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الصعيد الطيب طهور المسلم ، وإن لم يجد الماء عشر حجج ، فإذا وجده فليمسه بشرته فإن ذلك خير» وقال الترمذي : حسن صحيح ، وصححه ابن حبان أيضا ، ورواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده ، عن أبي هريرة وصححه الحافظ أبو الحسن القطان ، وقال ابن عباس : أطيب الصعيد تراب الحرث ، رواه ابن أبي حاتم ، ورفعه ابن مردويه في تفسيره.

وقوله : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) التيمم بدل عن الوضوء في التطهر به ، لا أنه بدل منه في جميع أعضائه ، بل يكفي مسح الوجه واليدين فقط بالإجماع ، ولكن اختلف الأئمة في كيفية التيمم على أقوال : أحدها وهو مذهب الشافعي في الجديد : أنه يجب أن يمسح الوجه

__________________

(١) رواية البيتين في ديوانه ص ٤٧٥ :

ولما رأت أن الشريعة همّها

وأن البياض من فرائصها دام

تيممت العين التي عند ضارج

يفيء عليها الطلح عرمضها طام

وهما في لسان العرب (ضرج ، عرمض) ومقاييس اللغة ٣ / ٢٦٢ و ٤ / ٤٣٥ وتاج العروس (ضرج)

٢٨٠