تفسير القرآن العظيم - ج ٢

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٠

حديث آخر فيه ذكر قتل الولد : وهو ثابت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم؟ وفي رواية أكبر قال «أن تجعل لله ندا وهو خلقك». قلت : ثم أي؟ قال «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك». قلت : ثم أي؟ قال «أن تزاني حليلة جارك» ثم قرأ (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ـ إلى قوله ـ إِلَّا مَنْ تابَ) [الفرقان : ٦٨] (١).

حديث آخر فيه ذكر شرب الخمر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، حدثني ابن صخر أن رجلا حدثه عن عمارة بن حزم أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص وهو بالحجر بمكة ، وسأله رجل عن الخمر فقال : والله إن عظيما عند الله الشيخ مثلي يكذب في هذا المقام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذهب فسأله ، ثم رجع فقال : سألته عن الخمر ، فقال «هي أكبر الكبائر ، وأم الفواحش من شرب الخمر ترك الصلاة ووقع على أمه وخالته وعمته» غريب من هذا الوجه.

طريق أخرى : رواها الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن داود بن صالح عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وعمر بن الخطاب وأناسا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رضي الله عنهم أجمعين ، جلسوا بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكروا أعظم الكبائر ، فلم يكن عندهم ما ينتهون إليه ، فأرسلوني إلى عبد الله بن عمرو بن العاص أسأله عن ذلك ، فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر ، فأتيتهم فأخبرتهم ، فأنكروا ذلك ، فوثبوا إليه حتى أتوه في داره ، فأخبرهم أنهم تحدثوا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ملكا من بني إسرائيل أخذ رجلا فخيره بين أن يشرب خمرا ، أو يقتل نفسا ، أو يزني أو يأكل لحم خنزير أو يقتله ، فاختار شرب الخمر ، وإنه لما شربها لم يمتنع من شيء أراده منه ، وإن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لنا مجيبا «ما من أحد يشرب خمرا إلا لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ، ولا يموت أحد وفي مثانته منها شيء إلا حرم الله عليه الجنة ، فإن مات في أربعين ليلة مات ميتة جاهلية» هذا حديث غريب من هذا الوجه جدا ، وداود بن صالح هذا هو التمار المدني مولى الأنصار ، قال الإمام أحمد : لا أرى به بأسا. وذكره ابن حبان في الثقات ولم أر أحدا جرحه.

حديث آخر : عن عبد الله بن عمرو وفيه ذكر اليمين الغموس. قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن فراس ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن عمرو عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «أكبر الكبائر الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، أو قتل النفس ـ شعبة الشاك ـ واليمين

__________________

(١) صحيح البخاري (أو باب ٢٠) وصحيح مسلم (إيمان حديث ١٤١ و ١٤٢)

(٢) مسند أحمد ٢ / ٢٠١.

٢٤١

الغموس» ورواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث شعبة ، وزاد البخاري وشيبان كلاهما عن فراس به.

حديث آخر في اليمين الغموس : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، حدثنا الليث بن سعد ، حدثنا هشام بن سعد ، عن محمد بن زيد بن مهاجر بن قنفذ التيمي ، عن أبي أمامة الأنصاري ، عن عبد الله بن أنيس الجهني ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أكبر الكبائر الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، واليمين الغموس ، وما حلف حالف بالله يمين صبر (١) فأدخل فيها مثل جناح البعوضة إلا كانت وكتة في قلبه إلى يوم القيامة» ، وهكذا رواه أحمد (٢) في مسنده وعبد بن حميد في تفسيره ، كلاهما عن يونس بن محمد المؤدب عن الليث بن سعد به ، وأخرجه الترمذي عن عبد بن حميد به ، وقال : حسن غريب ، وأبو أمامة الأنصاري هذا هو ابن ثعلبة ولا يعرف اسمه ، وقد روى عن أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحاديث. قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي : وقد رواه عبد الرحمن بن إسحاق المدني عن محمد بن زيد ، عن عبد الله بن أبي أمامة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن أنيس ، فزاد عبد الله بن أبي أمامة. (قلت) هكذا وقع في تفسير ابن مردويه وصحيح ابن حبان من طريق عبد الرحمن بن إسحاق كما ذكره شيخنا فسح الله في أجله.

حديث آخر : عن عبد الله بن عمرو في التسبب إلى شتم الوالدين ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي ، حدثنا وكيع عن مسعر وسفيان ، عن سعد بن إبراهيم ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن عمرو ، رفعه سفيان إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووقفه مسعر على عبد الله بن عمرو ، قال «من الكبائر أن يشتم الرجل والديه ، قالوا : وكيف يشتم الرجل والديه؟ قال «يسب الرجل أبا الرجل ، فيسب أباه ، ويسب أمه ، فيسب أمه» أخرجه البخاري عن أحمد بن يونس ، عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه ، عن عمه حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه» قالوا : وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال «يسب الرجل أبا الرجل ، فيسب أباه ويسب أمه ، فيسب أمه» (٣) وهكذا رواه مسلم من حديث سفيان وشعبة ويزيد بن الهاد ، ثلاثتهم عن سعد بن إبراهيم بن مرفوعا بنحوه ، وقال الترمذي : صحيح ، وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر».

حديث آخر في ذلك : قال ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، حدثنا زهير بن محمد عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي

__________________

(١) يمين الصبر هي التي ألزم صاحبها نفسه بها.

(٢) مسند أحمد ٣ / ٤٩٥.

(٣) صحيح البخاري (أدب باب ٤) وصحيح مسلم (ايمان حديث ١٤٥)

٢٤٢

هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أكبر الكبائر عرض الرجل المسلم ، والسبّتان والسبّة» هكذا روي هذا الحديث ، وقد أخرجه أبو داود في كتاب الأدب من سننه عن جعفر بن مسافر ، عن عمرو بن أبي سلمة ، عن زهير بن محمد بن العلاء عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق ، ومن الكبائر السبتان بالسبة» وكذا رواه ابن مردويه من طريق عبد الله بن العلاء بن زبر ، عن العلاء ، عن أبيه عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر مثله.

حديث آخر فيه ذكر الجمع بين الصلاتين من غير عذر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا معتمر بن سليمان عن أبيه ، عن حنش ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر» وهكذا رواه أبو عيسى الترمذي عن أبي سلمة يحيى بن خلف عن المعتمر بن سليمان به ، ثم قال : حنش هو أبو علي الرحبي ، وهو حسين بن قيس ، وهو ضعيف عند أهل الحديث ، ضعفه أحمد وغيره. وروى ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا إسماعيل بن علية عن خالد الحذاء ، عن حميد بن هلال ، عن أبي قتادة يعني العدوي ، قال : قرئ علينا كتاب عمر : من الكبائر جمع بين الصلاتين ـ يعني بغير عذر ـ والفرار من الزحف ، والنهبة ، وهذا إسناد صحيح. والغرض أنه إذا كان الوعيد فيمن جمع بين الصلاتين كالظهر والعصر ، تقديما أو تأخيرا ، وكذا المغرب والعشاء هما من شأنه أن يجمع بسبب من الأسباب الشرعية ، فإذا تعاطاه أحد بغير شيء من تلك الأسباب يكون مرتكبا كبيرة ، فما ظنك بترك الصلاة بالكلية ، ولهذا روى مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة» (١). وفي السنن مرفوعا عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، من تركها فقد كفر» ، وقال «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله» ، وقال «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله».

حديث آخر : فيه اليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله. قال ابن أبي حاتم. حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل ، حدثنا أبي ، حدثنا شبيب بن بشر عن عكرمة ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان متكئا ، فدخل عليه رجل فقال : ما الكبائر؟ فقال «الشرك بالله ، واليأس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، وهذا أكبر الكبائر» وقد رواه البزار عن عبد الله بن إسحاق العطار ، عن أبي عاصم النبيل ، عن شبيب بن بشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن رجلا قال : يا رسول الله ما الكبائر؟ قال «الإشراك بالله واليأس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله عزوجل» وفي إسناده نظر ، والأشبه أن يكون موقوفا ، فقد روي عن ابن

__________________

(١) صحيح مسلم (إيمان حديث ١٣٤)

٢٤٣

مسعود نحو ذلك. قال ابن جرير (١) : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هشيم ، أخبرنا مطرف عن وبرة بن عبد الرحمن عن أبي الطفيل قال : قال ابن مسعود : أكبر الكبائر الإشراك بالله ، واليأس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، وكذا رواه من حديث الأعمش وأبي إسحاق عن وبرة عن أبي الطفيل عن عبد الله به ، ثم رواه من طرق عدة عن أبي الطفيل عن ابن مسعود وهو صحيح إليه بلا شك.

حديث آخر : فيه سوء الظن بالله. قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن إبراهيم بن بندار ، حدثنا أبو حاتم بكر بن عبدان ، حدثنا محمد بن مهاجر ، حدثنا أبو حذيفة البخاري عن محمد بن عجلان ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه قال : أكبر الكبائر سوء الظن بالله عزوجل ، حديث غريب جدا.

حديث آخر : فيه التعرب (٢) بعد الهجرة قد تقدم في رواية عمرو بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة مرفوعا قال ابن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أحمد بن رشدين ، حدثنا عمرو بن خالد الحراني ، حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب ، عن محمد بن سهل بن أبي حثمة عن أبيه ، قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «الكبائر سبع ، ألا تسألوني عنهن؟ الشرك بالله ، وقتل النفس والفرار يوم الزحف ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، وقذف المحصنة ، والتعرب بعد الهجرة» ، وفي إسناده نظر ، ورفعه غلط فاحش ، والصواب ما رواه ابن جرير (٣) : حدثنا تميم بن المنتصر ، حدثنا يزيد ، أخبرنا محمد بن إسحاق عن محمد بن سهل بن أبي حثمة ، عن أبيه ، قال : إني لفي هذا المسجد ، مسجد الكوفة ، وعلي رضي الله عنه يخطب الناس على المنبر يقول : يا أيها الناس ، الكبائر سبع فأصاخ الناس ، فأعادها ثلاث مرات ، ثم قال : لم لا تسألوني عنها؟ قالوا : يا أمير المؤمنين ، ما هي؟ قال : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والفرار يوم الزحف ، والتعرب بعد الهجرة. فقلت لأبي : يا أبت ، التعرب بعد الهجرة ، كيف لحق هاهنا؟ قال يا بني وما أعظم من أن يهاجر الرجل حتى إذا وقع سهمه في الفيء ، ووجب عليه الجهاد ، خلع ذلك من عنقه ، فرجع أعرابيا كما كان.

حديث آخر : قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا هشام ، حدثنا أبو معاوية يعني شيبان ، عن منصور ، عن هلال بن يساف ، عن سلمة بن قيس الأشجعي ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع «ألا إنما هن أربع أن لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ،

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٤٢.

(٢) أي العودة إلى حياة الأعراب بعد سكنى المدينة.

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٤٠.

(٤) مسند أحمد ٤ / ٣٣٩.

٢٤٤

ولا تزنوا ، ولا تسرقوا» قال : فما أنا بأشح عليهن مني إذ سمعتهن من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم رواه أحمد أيضا والنسائي وابن مردويه من حديث منصور بإسناده مثله.

حديث آخر : تقدم من رواية عمر بن المغيرة عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «الإضرار في الوصية من الكبائر» والصحيح ما رواه غيره عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال ابن أبي حاتم : وهو الصحيح عن ابن عباس من قوله.

حديث آخر في ذلك : قال ابن جرير (١) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، حدثنا عباد بن عباد ، عن جعفر بن الزبير ، عن القاسم عن أبي أمامة ، أن أناسا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكروا الكبائر وهو متكئ ، فقالوا : الشرك بالله ، وأكل مال اليتيم ، وفرار من الزحف ، وقذف المحصنة ، وعقوق الوالدين ، وقول الزور ، والغلول ، والسحر ، وأكل الربا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فأين تجعلون (الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) [آل عمران : ٧٧] إلى آخر الآية. في إسناده ضعف ، وهو حسن.

ذكر أقوال السلف في ذلك :

قد تقدم ما روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما في ضمن الأحاديث المذكورة ، وقال ابن جرير (٢) : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية عن ابن عون ، عن الحسن ، أن أناسا سألوا عبد الله بن عمرو بمصر ، فقالوا : نرى أشياء من كتاب الله عزوجل أمر أن يعمل بها لا يعمل بها ، فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك ، فقدم وقدموا معه ، فلقيه عمر رضي الله عنه فقال : متى قدمت؟ فقال : منذ كذا وكذا. قال : أبإذن قدمت؟ قال : فلا أدري كيف رد عليه. فقال: يا أمير المؤمنين ، إن ناسا لقوني بمصر فقالوا : إنا نرى أشياء في كتاب الله أمر أن يعمل بها فلا يعمل بها ، فأحبوا أن يلقوك في ذلك. قال : فاجمعهم لي. قال : فجمعتهم له. قال ابن عون : أظنه قال : في بهو ، فأخذ أدناهم رجلا فقال : أنشدك بالله وبحق الإسلام عليك ، أقرأت القرآن كله؟ قال : نعم. قال : فهل أحصيته في نفسك؟ فقال : اللهم لا. قال : ولو قال : نعم ، لخصمه. قال : فهل أحصيته في بصرك؟ فهل أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أمرك؟ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم قال : فثكلت عمر أمه ، أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله ، قد علم ربنا أنه ستكون لنا سيئات ، قال : وتلا (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) الآية. ثم قال : هل علم أهل المدينة؟ أو قال : هل علم أحد بما قدمتم؟ قالوا : لا. قال : لو علموا لوعظت بكم ، إسناد حسن ومتن حسن وإن كان من رواية الحسن

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٤٥.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٤٧.

٢٤٥

عن عمر ، وفيها انقطاع إلا أن مثل هذا اشتهر ، فتكفي شهرته.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو أحمد يعني الزبيري ، حدثنا علي بن صالح عن عثمان بن المغيرة ، عن مالك بن جوين ، عن علي رضي الله عنه. قال : الكبائر الإشراك بالله ، وقتل النفس ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنة ، والفرار من الزحف ، والتعرب بعد الهجرة ، والسحر ، وعقوق الوالدين ، وأكل الربا ، وفراق الجماعة ، ونكث الصفقة.

وتقدم عن ابن مسعود أنه قال : أكبر الكبائر الإشراك بالله ، واليأس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله عزوجل. وروى ابن جرير (١) من حديث الأعمش عن أبي الضحى ، عن مسروق والأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، كلاهما عن ابن مسعود ، قال : الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها ، ومن حديث سفيان الثوري وشعبة عن عاصم بن أبي النجود ، عن زر بن حبيش ، عن ابن مسعود قال : الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها ثم تلا (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) الآية.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا صالح بن حيان عن ابن بريدة ، عن أبيه ، قال : أكبر الكبائر الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، ومنع فضول الماء بعد الري ، ومنع طروق الفحل إلا بجعل.

وفي الصحيحين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ» ، وفيهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم : رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه ابن السبيل» وذكر تمام الحديث (٢).

وفي مسند الإمام أحمد (٣) من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده مرفوعا «من منع فضل الماء وفضل الكلأ منعه الله فضله يوم القيامة».

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسين بن محمد بن شنبة الواسطي ، حدثنا أبو أحمد عن سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، عن عائشة ، قالت : ما أخذ على النساء من الكبائر ، قال ابن أبي حاتم : يعني قوله تعالى : (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ) [الممتحنة : ١٢] ، وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، حدثنا زياد بن مخراق عن معاوية بن قرة ، قال : أتينا أنس بن مالك فكان فيما حدثنا قال : لم أر مثل الذي بلغنا عن ربنا تعالى لم نخرج له عن كل أهل ومال ، ثم سكت هنيهة ثم قال : والله لما

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٤٠.

(٢) صحيح البخاري (شهادات باب ٢٢ وأحكام باب ٤٨) وصحيح مسلم (إيمان حديي ١٧٣)

(٣) مسند أحمد ٢ / ١٧٩.

٢٤٦

كلفنا من ذلك تجاوز لنا عما دون الكبائر ، وتلا (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) الآية (١).

أقوال ابن عباس في ذلك :

روى ابن جرير (٢) من حديث المعتمر بن سليمان عن أبيه ، عن طاوس ، قال : ذكروا عند ابن عباس الكبائر فقالوا : هي سبع ، فقال : هي أكثر من سبع وسبع ، قال : فلا أدري كم قالها من مرة.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا قبيصة ، حدثنا سفيان عن ليث عن طاوس ، قال: قلت لابن عباس : ما السبع الكبائر؟ قال : هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. ورواه ابن جرير عن ابن حميد ، عن جرير ، عن ليث ، عن طاوس قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال: أرأيت الكبائر السبع التي ذكرهن الله؟ قال : هن إلى السبعين أدنى منهن إلى سبع ، وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن طاوس عن أبيه قال : قيل لابن عباس : الكبائر سبع؟ قال : هن إلى السبعين أقرب ، وكذا قال أبو العالية الرياحي رحمه‌الله. وقال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا شبل عن قيس بن سعد ، عن سعيد بن جبير : أن رجلا قال لابن عباس : كم الكبائر سبع؟ قال : هن إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع ، غير أنه لا كبيرة مع استغفار ، ولا صغيرة مع إصرار ، وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شبل به ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) قال : الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب ، رواه ابن جرير. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا ابن فضيل ، حدثنا شبيب عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : الكبائر كل ما وعد الله عليه النار كبيرة ، وكذا قال سعيد بن جبير والحسن البصري. وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، أخبرنا أيوب عن محمد بن سيرين ، قال : نبئت أن ابن عباس كان يقول : كل ما نهى الله عنه كبيرة ، وقد ذكرت الطرفة ، قال : هي النظرة ، وقال أيضا : حدثنا أحمد بن حازم ، أخبرنا أبو نعيم ، حدثنا عبد الله بن معدان عن أبي الوليد ، قال : سألت ابن عباس عن الكبائر ، فقال كل شيء عصي الله فيه فهو كبيرة.

أقوال التابعين :

قال ابن جرير (٣) : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية عن ابن عون ، عن محمد،

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٤٧.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٤٣ ـ ٤٤.

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٤١.

٢٤٧

قال : سألت عبيدة عن الكبائر فقال : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله بغير حقها ، وفرار يوم الزحف ، وأكل مال اليتيم بغير حقه ، وأكل الربا ، والبهتان. قال : ويقولون : أعرابية بعد هجرة ، قال ابن عون : فقلت لمحمد : فالسحر؟ قال : إن البهتان يجمع شرا كثيرا.

وقال ابن جرير (١) : حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم ، عن أبي إسحاق ، عن عبيد بن عمير ، قال : الكبائر سبع ، ليس منهن كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله ، الإشراك بالله منهن (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ) [الحج : ٣١] ، و (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) [النساء : ١٠] ، و (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) [البقرة : ٢٧٥] (الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ) [النور : ٢٣] ، والفرار من الزحف (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) [الأنفال : ١٥] ، والتعرب بعد الهجرة (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) [محمد : ٢٥] ، وقتل المؤمن (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) [النساء : ٩٣] ، وكذا رواه ابن أبي حاتم أيضا في حديث أبي إسحاق عن عبيد بن عمير بنحوه.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا المثنى ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء يعني ابن أبي رباح ، قال : الكبائر سبع : قتل النفس ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، ورمي المحصنة ، وشهادة الزور ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير عن مغيرة ، قال : كان يقال : شتم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من الكبائر.

قلت : وقد ذهب طائفة من العلماء إلى تكفير من سب الصحابة ، وهو رواية عن مالك بن أنس رحمه‌الله. وقال محمد بن سيرين : ما أظن أحدا ينتقص أبا بكر وعمر وهو يحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رواه الترمذي.

وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عبد الله بن عياش ، قال زيد بن أسلم في قول الله عزوجل (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) من الكبائر : الشرك بالله ، والكفر بآيات الله ورسله ، والسحر ، وقتل الأولاد ، ومن دعى لله ولدا أو صاحبة ـ ومثل ذلك من الأعمال والقول الذي لا يصلح معه عمل. وأما كل ذنب يصلح معه دين ، ويقبل معه عمل ، فإن الله يغفر السيئات بالحسنات.

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٤٠.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٤١.

٢٤٨

وقال ابن جرير (١) : حدثنا بشر بن معاذ ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد عن قتادة (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) الآية : إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر ؛ وذكر لنا أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «اجتنبوا الكبائر ، وسدودا ، وأبشروا».

وقد روى ابن مردويه من طرق عن أنس وعن جابر مرفوعا «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» ، ولكن في إسناده من جميع طرقه ضعف ، إلا ما رواه عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن ثابت ، عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» فإنه إسناد صحيح على شرط الشيخين. وقد رواه أبو عيسى الترمذي منفردا به من هذا الوجه عن عباس العنبري ، عن عبد الرزاق ، ثم قال : هذا حديث حسن صحيح ، وفي الصحيح شاهد لمعناه وهو قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذكر الشفاعة «أترونها للمؤمنين المتقين؟ لا ولكنها للخاطئين المتلوثين» (٢).

وقد اختلف علماء الأصول والفروع في حد الكبيرة ، فمن قائل : هي ما عليه حد في الشرع ، ومنهم من قال : هي ما عليه وعيد مخصوص من الكتاب والسنة ، وقيل غير ذلك. قال أبو القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي في كتابه الشرح الكبير الشهير في كتاب الشهادات منه : ثم اختلف الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم في الكبائر وفي الفرق بينها وبين الصغائر ، ولبعض الأصحاب في تفسير الكبيرة وجوه : أحدها : أنها المعصية الموجبة للحد. والثاني : أنها المعصية التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص كتاب أو سنة ، وهذا أكثر ما يوجد لهم ، وهو إلى الأول أميل ، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفسير الكبائر. والثالث : قال إمام الحرمين في الإرشاد وغيره : كل جريمة تنبئ بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة ، فهي مبطلة للعدالة. والرابع : ذكر القاضي أبو سعيد الهروي أن الكبيرة كل فعل نص الكتاب على تحريمه وكل معصية توجب في جنسها حدا من قتل أو غيره ، وترك كل فريضة مأمور بها على الفور والكذب في الشهادة والرواية واليمين ، هذا ما ذكروه على سبيل الضبط ، ثم قال : وفصل القاضي الروياني فقال : الكبائر سبع : قتل النفس بغير الحق ، والزنا ، واللواطة ، وشرب الخمر ، والسرقة ، وأخذ المال غصبا ، والقذف ، وزاد في الشامل على السبع المذكورة : شهادة الزور ، وأضاف إليها صاحب العدة : أكل الربا والإفطار في رمضان بلا عذر ، واليمين الفاجرة ، وقطع الرحم ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، وأكل مال اليتيم ، والخيانة في الكيل والوزن ، وتقديم الصلاة على وقتها ، وتأخيرها عن وقتها بلا عذر ، وضرب المسلم بلا حق ، والكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمدا ، وسب أصحابه ، وكتمان الشهادة بلا عذر ، وأخذ الرشوة ، والقيادة بين الرجال والنساء ، والسعاية عند السلطان ، ومنع الزكاة ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة ، ونسيان القرآن بعد تعلمه ، وإحراق الحيوان بالنار ، وامتناع

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٤٧.

(٢) مسند أحمد ٢ / ٧٥.

٢٤٩

المرأة من زوجها بلا سبب ، واليأس من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، ويقال : الوقيعة في أهل العلم ، وحملة القرآن ، ومما يعد من الكبائر : الظهار ، وأكل لحم الخنزير والميتة إلا عن ضرورة ، ثم قال الرافعي : وللتوقف مجال في بعض هذه الخصال.

قلت : وقد صنف الناس في الكبائر مصنفات منها ما جمعه شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي الذي بلغ نحوا من سبعين كبيرة ، وإذا قيل : إن الكبيرة ما توعد عليها الشارع بالنار بخصوصها ، كما قال ابن عباس وغيره وما تتبّع ذلك ، اجتمع منه شيء كثير ، وإذا قيل كل ما نهى الله عنه فكثير جدا ، والله أعلم.

(وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٣٢)

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : قالت أم سلمة: يا رسول الله ، يغزو الرجال ولا نغزو ، ولنا نصف الميراث ، فأنزل الله (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ). ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أم سلمة أنها قالت : قلت : يا رسول الله ، فذكره ، وقال : غريب. ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أن أم سلمة قالت : يا رسول الله ، فذكره. ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، وابن مردويه والحاكم في مستدركه من حديث الثوري عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، لا نقاتل فنستشهد ، ولا نقطع الميراث ، فنزلت الآية ، ثم أنزل الله (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) [آل عمران : ١٩٥] ، ثم قال ابن أبي حاتم : وكذا روى سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح بهذا اللفظ ، وروى يحيى القطان ووكيع بن الجراح عن الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أم سلمة قالت : قلت يا رسول الله ، وروي عن مقاتل بن حيان وخصيف نحو ذلك ، وروى ابن جرير من حديث ابن جريج عن عكرمة ومجاهد أنهما قالا : أنزلت في أم سلمة. وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن شيخ من أهل مكة ، قال : نزلت هذه الآية في قول النساء : ليتنا الرجال ، فنجاهد كما يجاهدون ، ونغزو في سبيل الله عزوجل. وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية ، حدثني أحمد بن عبد الرحمن ، حدثني أبي ، حدثنا الأشعث بن إسحاق عن جعفر يعني ابن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في الآية ، قال : أتت امرأة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت : يا رسول الله ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، وشهادة امرأتين برجل ، فنحن في العمل هكذا ، إن عملت امرأة حسنة كتبت لها نصف حسنة ، فأنزل الله هذه الآية (وَلا تَتَمَنَّوْا) الآية ، فإنه عدل مني وأنا صنعته.

__________________

(١) مسند أحمد ٦ / ٣٢٢.

٢٥٠

وقال السدي في الآية : فإن الرجال قالوا : نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء ، كما لنا في السهام سهمان ، وقالت النساء : نريد أن يكون لنا أجر مثل أجر الشهداء ، فإنا لا نستطيع أن نقاتل ، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا ، فأبى الله ذلك ولكن قال لهم : سلوني من فضلي ، قال : ليس بعرض الدنيا ، وقد روي عن قتادة نحو ذلك. وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في الآية ، قال : ولا يتمنى الرجل فيقول : ليت لو أن لي مال فلان وأهله ، فنهى الله عن ذلك ، ولكن ليسأل الله من فضله وقال الحسن ومحمد بن سيرين وعطاء والضحاك ، نحو هذا ؛ وهو الظاهر من الآية ولا يرد على هذا ما ثبت في الصحيح «لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق فيقول رجل : لو أن لي مثل ما لفلان لعملت مثله فهما في الأجر سواء» ، فإن هذا شيء غير ما نهت عنه الآية ، وذلك أن الحديث حض على تمني مثل نعمة هذا ، والآية نهت عن تمني عين نعمة هذا ، فقال (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) أي في الأمور الدنيوية ، وكذا الدينية أيضا ، لحديث أم سلمة وابن عباس. وهكذا قال عطاء بن أبي رباح : نزلت في النهي عن تمني ما لفلان ، وفي تمني النساء أن يكن رجالا فيغزون ، رواه ابن جرير.

ثم قال (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) أي كل له جزاء على عمله بحسبه إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، هذا قول ابن جرير (١).

وقيل : المراد بذلك في الميراث ، أي كل يرث بحسبه ، رواه الترمذي عن ابن عباس.

ثم أرشدهم إلى ما يصلحهم ، فقال (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) لا تتمنوا ما فضلنا به بعضكم على بعض ، فإن هذا أمر محتوم ، والتمني لا يجدي شيئا ، ولكن سلوني من فضلي أعطكم ، فإني كريم وهاب ، وقد روى الترمذي وابن مردويه من حديث حماد بن واقد ، سمعت إسرائيل عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سلوا الله من فضله ، فإن الله يحب أن يسأل ، وإن أفضل العبادة انتظار الفرج» ثم قال الترمذي : كذا رواه حماد بن واقد ، وليس بالحافظ ، ورواه أبو نعيم عن إسرائيل ، عن حكيم بن جبير ، عن رجل ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح ، وكذا رواه ابن مردويه من حديث وكيع عن إسرائيل ، ثم رواه من حديث قيس بن الربيع عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سلوا الله من فضله ، فإن الله يحب أن يسأل ، وإن أحب عباده إليه الذي يحب الفرج».

ثم قال (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) أي هو عليم بمن يستحق الدنيا فيعطيه منها ، وبمن يستحق الفقر فيفقره ، وعليم بمن يستحق الآخرة فيقيضه لأعمالها ، وبمن يستحق الخذلان

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٥١.

٢٥١

فيخذله عن تعاطي الخير وأسبابه ، لهذا قال (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً).

(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) (٣٣)

قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو صالح وقتادة وزيد بن أسلم والسدي والضحاك ومقاتل بن حيان وغيرهم ، في قوله (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ) أي ورثة ، وعن ابن عباس في رواية : أي عصبة ، قال ابن جرير (١) : والعرب تسمي ابن العم مولى ، كما قال الفضل بن عباس : [البسيط]

مهلا بني عمنا مهلا موالينا

لا يظهرن بيننا ما كان مدفونا (٢)

قال : ويعني بقوله (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) ، من تركة والديه وأقربيه من الميراث ، فتأويل الكلام : ولكلكم أيها الناس جعلنا عصبة يرثونه مما ترك والده وأقربوه من ميراثهم له.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) أي والذين تحالفتم بالأيمان المؤكدة أنتم وهم ، فآتوهم نصيبهم من الميراث كما وعدتموهم في الأيمان المغلظة ، إن الله شاهد بينكم في تلك العهود والمعاقدات ، وقد كان هذا في ابتداء الإسلام ، ثم نسخ بعد ذلك وأمروا أن يوفوا لمن عاقدوا ، ولا ينشئوا بعد نزول هذه الآية معاقدة.

قال البخاري (٣) : حدثنا الصلت بن محمد ، حدثنا أبو أسامة عن إدريس ، عن طلحة بن مصرف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ) قال : ورثة ، (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهم ، فلما نزلت (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ) نسخت ، ثم قال (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصى له ، ثم قال البخاري : سمع أبو أسامة إدريس ، وسمع إدريس عن طلحة.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا إدريس الأودي ، أخبرني طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) الآية ، قال : كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه بالأخوة التي آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهم ، فلما نزلت (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) نسخت ، ثم قال : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) ، وحدثنا الحسن بن

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٥٢.

(٢) والبيت بلا نسبة في أساس البلاغة (طرح) وروايته فيه «لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا».

(٣) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب ٧)

٢٥٢

محمد بن الصباح ، حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) فكان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل ويقول : ترثني وأرثك ، وكان الأحياء يتحالفون ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كل حلف كان في الجاهلية أو عقد أدركه الإسلام فلا يزيده الإسلام إلا شدة ، ولا عقد ولا حلف في الإسلام» فنسختها هذه الآية (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) [الأنفال : ٧٥] ، ثم قال : وروي عن سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء والحسن وابن المسيب وأبي صالح وسليمان بن يسار والشعبي وعكرمة والسدي والضحاك وقتادة ومقاتل بن حيان ، أنهم قالوا : هم الحلفاء.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عفان ، حدثنا شريك عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ـ ورفعه ـ قال : ما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا حدة شدة». وقال ابن جرير (٢) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع عن شريك ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحدثنا أبو كريب ، حدثنا مصعب بن المقدام عن إسرائيل بن يونس ، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا حلف في الإسلام ، وكل حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة ، وما يسرني أن لي حمر النعم وأني نقضت الحلف الذي كان في دار الندوة» ، هذا لفظ ابن جرير. وقال ابن جرير أيضا : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن عوف ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «شهدت حلف المطيبين (٣) وأنا غلام مع عمومتي ، فما أحب أن لي حمر النعم ، وأنا أنكثه» قال الزهري : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لم يصب الإسلام حلفا إلا زاده شدة» قال «ولا حلف في الإسلام» ، وقد ألف النبي صلّى الله عليه وسلّم بين قريش والأنصار. وهكذا رواه الإمام أحمد (٤) عن بشر بن المفضل ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن الزهري بتمامه.

وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هشيم ، أخبرني مغيرة عن أبيه ، عن شعبة بن التوأم ، عن قيس بن عاصم : أنه سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحلف ، قال : فقال «ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به ، ولا حلف في الإسلام» وهكذا رواه أحمد عن هشيم.

وحدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع عن داود بن أبي عبد الله ، عن ابن جدعان عن جدته ، عن أم

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٣٢٩.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٥٨.

(٣) قال في لسان العرب (طيب) اجتمع بنو هاشم وبنو زهرة وتيم في دار ابن جدعان في الجاهلية وجعلوا طيبا في جفنة وغمسوا أيديهم فيه وتحالفوا على التناصر والأخذ للمظلوم من الظالم فسموا المتطيبين.

(٤) مسند أحمد ١ / ١٩٠.

٢٥٣

سلمة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «لا حلف في الإسلام ، وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة».

وحدثنا أبو كريب ، حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : لما دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة عام الفتح ، قام خطيبا في الناس فقال «يا أيها الناس ما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة ، ولا حلف في الإسلام» ثم رواه من حديث حسين المعلم وعبد الرحمن بن الحارث عن عمرو بن شعيب به.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا ابن نمير وأبو أسامة عن زكريا ، عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن جبير بن مطعم ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة». وهكذا رواه مسلم عن عبد الله بن محمد وهو أبو بكر بن أبي شيبة بإسناده مثله ، ورواه أبو داود عن عثمان ، عن محمد بن أبي شيبة ، عن محمد بن بشر وابن نمير وأبي أسامة ، ثلاثتهم عن زكريا وهو ابن أبي زائدة بإسناده مثله ، ورواه ابن جرير من حديث محمد بن بشر به. ورواه النسائي من حديث إسحاق بن يوسف الأزرق عن زكريا ، عن سعد بن إبراهيم ، عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن أبيه به.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة عن أبيه ، عن شعبة بن التوأم ، عن قيس بن عاصم أنه سأله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحلف فقال «ما كان حلف في الجاهلية فتمسكوا به ، ولا حلف في الإسلام» وكذا رواه شعبة عن مغيرة وهو ابن مقسم عن أبيه به.

وقال محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين ، قال : كنت أقرأ على أم سعد بنت سعد بن الربيع مع ابن ابنها موسى بن سعد وكانت يتيمة في حجر أبي بكر ، فقرأت عليها والذين عاقدت أيمانكم فقالت : لا ولكن (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) قالت : إنما نزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن حين أبي أن يسلم ، فحلف أبو بكر أن لا يورثه ، فلما أسلم حين حمل على الإسلام بالسيف ، أمر الله أن يؤتيه نصيبه ، رواه ابن أبي حاتم ، وهذا قول غريب ، والصحيح الأول ، وأن هذا كان في ابتداء الإسلام يتوارثون بالحلف ثم نسخ وبقي تأثير الحلف بعد ذلك ، وإن كانوا قد أمروا أن يوفوا بالعهود والعقود ، والحلف الذي كانوا قد تعاقدوه قبل ذلك ، وتقدم في حديث جبير بن مطعم وغيره من الصحابة : لا حلف في الإسلام ، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة ، وهذا نص في الرد على من ذهب إلى التوارث بالحلف اليوم ، كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، ورواية عن أحمد بن حنبل.

والصحيح قول الجمهور ومالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه ، ولهذا قال تعالى :

__________________

(١) مسند أحمد ٤ / ٨٣.

(٢) مسند أحمد ٥ / ٦١.

٢٥٤

(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) أي ورثة من قراباته من أبويه وأقربيه ، هم يرثونه دون سائر الناس ، كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» (١) أي اقسموا الميراث على أصحاب الفرائض الذين ذكرهم الله في آيتي الفرائض ، فما بقي بعد ذلك فأعطوه للعصبة.

وقوله (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) أي قبل نزول هذه الآية فآتوهم نصيبهم ، أي من الميراث ، فأيما حلف عقد بعد ذلك فلا تأثير له ، وقد قيل : إن هذه الآية نسخت الحلف في المستقبل وحكم الحلف الماضي أيضا ، فلا توارث به ، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا إدريس الأودي ، أخبرني طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) ، قال : من النصرة والنصيحة والرفادة ويوصى له وقد ذهب الميراث. ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن أبي أسامة ، وكذا روي عن مجاهد وأبي مالك نحو ذلك. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : قوله (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) قال : كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر ، فأنزل الله تعالى (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) [الأحزاب : ٦] يقول : إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية فهو لهم جائز من ثلث مال الميت ، وهذا هو المعروف ، وهكذا نص غير واحد من السلف أنها منسوخة بقوله (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) وقال سعيد بن جبير : (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) [النساء : ٣٣] ، أي من الميراث ، قال : وعاقد أبو بكر مولى فورثه ، رواه ابن جرير. وقال الزهري عن ابن المسيب : نزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنون رجالا غير أبنائهم ويورثونهم ، فأنزل الله فيهم ، فجعل لهم نصيبا في الوصية ، ورد الميراث إلى الموالي في ذي الرحم والعصبة ، وأبي الله أن يكون للمدعين ميراث ممن ادعاهم وتبناهم ، ولكن جعل لهم نصيبا من الوصية ، رواه ابن جرير.

وقد اختار ابن جرير (٢) أن المراد بقوله فآتوهم نصيبهم ، أي من النصرة والنصيحة والمعونة ، لا أن المراد (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) من الميراث حتى تكون الآية منسوخة ، ولا أن ذلك كان حكما ثم نسخ بل إنما دلت الآية على الوفاء بالحلف المعقود على النصرة والنصيحة فقط ، فهي محكمة لا منسوخة ، وهذا الذي قاله فيه نظر ، فإن من الحلف ما كان على المناصرة والمعاونة ، ومنه ما كان على الإرث كما حكاه غير واحد من السلف ، وكما قال ابن عباس : كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه حتى نسخ ذلك ، فكيف يقولون إن هذه

__________________

(١) صحيح البخاري (فرائض باب ٥ و ٧ و ٩ و ١٥) وصحيح مسلم (فرائض حديث ٣٢) وسنن الترمذي (فرائض باب ٨)

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٥٩.

٢٥٥

الآية محكمة غير منسوخة؟ والله أعلم.

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) (٣٤)

يقول تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) أي الرجل قيم على المرأة ، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت ، (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي لأن الرجال أفضل من النساء ، والرجل خير من المرأة ، ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال ، وكذلك الملك الأعظم لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» رواه البخاري (١) من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه ، وكذا منصب القضاء وغير ذلك.

(وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) أي من المهور والنفقات والكلف التي أوجبها الله عليهم لهن في كتابه وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالرجل أفضل من المرأة في نفسه ، وله الفضل عليها والإفضال ، فناسب أن يكون قيما عليها ، كما قال الله تعالى : (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) [البقرة : ٢٢٨] ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) يعني أمراء ، عليها أن تطيعه فيما أمرها به من طاعته ، وطاعته أن تكون محسنة لأهله حافظة لماله ، وكذا قال مقاتل والسدي والضحاك. وقال الحسن البصري : جاءت امرأة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشكو أن زوجها لطمها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «القصاص» ، فأنزل الله عزوجل (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) الآية ، فرجعت بغير قصاص ، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عنه ، وكذلك أرسل هذا الخبر قتادة وابن جريج والسدي ، أورد ذلك كله ابن جرير (٢).

وقد أسنده ابن مردويه من وجه آخر فقال : حدثنا أحمد بن علي النسائي ، حدثنا محمد بن عبد الله الهاشمي ، حدثنا محمد بن محمد الأشعث حدثنا موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد ، قال : حدثنا أبي عن جدي ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي ، قال :

أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل من الأنصار بامرأة له ، فقالت : يا رسول الله إن زوجها فلان بن فلان الأنصاري وإنه ضربها فأثر في وجهها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليس له ذلك» فأنزل الله تعالى (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) أي في الأدب ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أردت أمرا وأراد الله غيره». وقال الشعبي في هذه الآية (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) قال : الصداق الذي أعطاها ، ألا ترى أنه لو قذفها لا عنها ، ولو قذفته

__________________

(١) صحيح البخاري (فتن باب ١٨)

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٦٠.

٢٥٦

جلدت.

وقوله تعالى ، (فَالصَّالِحاتُ) أي من النساء (قانِتاتٌ) قال ابن عباس وغير واحد : يعني مطيعات لأزواجهن (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) وقال السدي وغيره : أي تحفظ زوجها في غيبته في نفسها وماله. وقوله (بِما حَفِظَ اللهُ) أي المحفوظ من حفظه الله.

قال ابن جرير (١) حدثني المثني ، حدثنا أبو صالح ، حدثنا أبو معشر ، حدثنا سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك ، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك» قال : ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) إلى آخرها ، ورواه ابن أبي حاتم عن يونس بن حبيب ، عن أبي داود الطيالسي ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري به ، مثله سواء.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر : أن ابن قارظ أخبره أن عبد الرحمن بن عوف قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا صلت المرأة خمسها ، وصامت شهرها ، وحفظت فرجها ، وأطاعت زوجها ، قيل لها : ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت» تفرد به أحمد من طريق عبد الله بن قارظ عن عبد الرحمن بن عوف.

وقوله تعالى : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) أي والنساء اللاتي تتخوفون أن ينشزن على أزواجهن ، والنشوز هو الارتفاع ، فالمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها ، التاركة لأمره ، المعرضة عنه ، المبغضة له ، فمتى ظهر له منها أمارات النشوز فليعظها وليخوفها عقاب الله في عصيانه ، فإن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته وحرم عليها معصيته لما له عليها من الفضل والإفضال ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد ، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها» ، وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت عليه لعنتها الملائكة حتى تصبح» ، ورواه مسلم ، ولفظه «إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح» (٣) ، ولهذا قال تعالى : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَ).

وقوله (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الهجر هو أن لا يجامعها ، ويضاجعها على فراشها ويوليها ظهره ، وكذا قال غير واحد. وزاد آخرون منهم السدي والضحاك وعكرمة وابن عباس في رواية : ولا يكلمها مع ذلك ولا يحدثها. وقال

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٦٢.

(٢) مسند أحمد ١ / ١٩١.

(٣) صحيح البخاري (بدء الخلق باب ٧ ونكاح باب ٨٥) وصحيح مسلم (نكاح حديث ١٢١)

٢٥٧

علي بن أبي طلحة أيضا عن ابن عباس : يعظها فإن هي قبلت وإلا هجرها في المضجع ، ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها ، وذلك عليها شديد. وقال مجاهد والشعبي وإبراهيم ومحمد بن كعب ومقسم وقتادة : الهجر هو أن لا يضاجعها. وقد قال أبو داود (١) : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد ، عن أبي حرة الرقاشي ، عن عمه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «فإن خفتم نشوزهن فاهجروهن في المضاجع» قال حماد : يعني النكاح. وفي السنن والمسند عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال : يا رسول الله ما حق امرأة أحدنا عليه؟ قال «أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تقبح ، ولا تهجر إلا في البيت».

وقوله : (وَاضْرِبُوهُنَ) ، أي إذا لم يرتد عن بالموعظة ولا بالهجران ، فلكم أن تضربوهن ضربا غير مبرح ، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في حجة الوداع «واتقوا الله في النساء ، فإنهن عندكم عوان ، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» وكذا قال ابن عباس وغير واحد : ضربا غير مبرح ، قال الحسن البصري : يعني غير مؤثر وقال الفقهاء : هو أن لا يكسر فيها عضوا ولا يؤثر فيها شيئا ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يهجرها في المضجع ، فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضربا غير مبرح ، ولا تكسر لها عظما ، فإن أقبلت وإلا فقد أحل الله لك منها الفدية. وقال سفيان بن عيينة عن الزهري ، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر ، عن إياس بن عبد الله بن أبي ذباب قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تضربوا إماء الله» فجاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ذئرت النساء على أزواجهن ، فرخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ضربهن ، فأطاف بآل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة (٢). وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا سليمان بن داود يعني أبا داود الطيالسي ، حدثنا أبو عوانة عن داود الأودي ، عن عبد الرحمن المسلي ، عن الأشعث بن قيس ، قال : ضفت عمر رضي الله عنه ، فتناول امرأته فضربها ، فقال : يا أشعث ، احفظ عني ثلاثا حفظتها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تسأل الرجل فيم ضرب امرأته ، ولا تنم إلا على وتر» ، ونسيت الثالثة ، وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن مهدي عن أبي عوانة ، عن داود الأودي به.

وقوله تعالى : (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) أي إذا أطاعت المرأة زوجها في جميع

__________________

(١) سنن أبي داود (نكاح باب ٤٢)

(٢) سنن ابن ماجة (نكاح باب ٣٤ و ٥١) وسنن أبي داود (نكاح باب ٤٢) وذئرت النساء : نشزت.

(٣) مسند أحمد ١ / ٢٠.

٢٥٨

ما يريده منها مما أباحه الله له منها ، فلا سبيل له عليها بعد ذلك ، وليس له ضربها ولا هجرانها. وقوله (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) تهديد للرجال إذا بغوا على النساء من غير سبب ، فإن الله العلي الكبير وليهن ، وهو ينتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن.

(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) (٣٥)

ذكر الحال الأول وهو إذا كان النفور والنشوز من الزوجة. ثم ذكر الحال الثاني وهو إذا كان النفور من الزوجين ، فقال تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) وقال الفقهاء : إذا وقع الشقاق بين الزوجين ، أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة ينظر في أمرهما ويمنع الظالم منهما من الظلم ، فإن تفاقم أمرهما وطالت خصومتهما ، بعث الحاكم ثقة من أهل المرأة وثقة من قوم الرجل ليجتمعا فينظرا في أمرهما ويفعلا ما فيه المصلحة مما يريانه من التفريق أو التوفيق ، وتشوف الشارع إلى التوفيق ، ولهذا قال تعالى : (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما).

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أمر الله عزوجل أن يبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل. ورجلا مثله من أهل المرأة ، فينظران أيهما المسيء ، فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقصروه (١) على النفقة ، وإن كانت المرأة هي المسيئة ، قصروها على زوجها ومنعوها النفقة ، فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا ، فأمرهما جائز ، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره الآخر ، ثم مات أحدهما ، فإن الذي رضي يرث الذي لم يرض ولا يرث الكاره الراضي ، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن ابن طاوس ، عن عكرمة بن خالد ، عن ابن عباس ، قال : بعثت أنا ومعاوية حكمين ، قال معمر : بلغني أن عثمان بعثهما وقال لهما : إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرقا ففرقا ، وقال : أنبأنا ابن جريج ، حدثني ابن أبي مليكة أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة ، فقالت : تصير إلي وأنفق عليك ، فكان إذا دخل عليها قالت : أين عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة؟ ، فقال : على يسارك في النار إذا دخلت ، فشدت عليها ثيابها فجاءت عثمان فذكرت له ذلك ، فضحك ، فأرسل ابن عباس ومعاوية ، فقال ابن عباس ، لأفرقن بينهما ، فقال معاوية : ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف ، فأتياهما فوجداهما قد أغلقا عليهما أبوابهما فرجعا ، وقال عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة قال : شهدت عليا وجاءته امرأة وزوجها مع

__________________

(١) ألزموه بها.

٢٥٩

كل واحد منهما فئام (١) من الناس ، فأخرج هؤلاء حكما وهؤلاء حكما ، فقال علي للحكمين : أتدريان ما عليكما؟ إن عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله لي وعلي ، وقال الزوج : أما الفرقة فلا ، فقال علي : كذبت والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله عزوجل لك وعليك ، رواه ابن أبي حاتم ، ورواه ابن جرير (٢) عن يعقوب عن ابن علية عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، عن علي مثله ، ورواه من وجه آخر عن ابن سيرين ، عن عبيدة عن علي به.

وقد أجمع جمهور العلماء على أن الحكمين لهما الجمع والتفرقة حتى قال إبراهيم النخعي : إن شاء الحكمان أن يفرقا بينهما بطلقة أو بطلقتين أو ثلاث فعلا ، وهو رواية عن مالك ، وقال الحسن البصري : الحكمان يحكمان في الجمع لا في التفرقة ، وكذا قال قتادة وزيد بن أسلم ، وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وداود ، ومأخذهم قوله تعالى : (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) ولم يذكر التفريق ، وأما إذا كانا وكيلين من جهة الزوجين فإنه ينفذ حكمهما في الجمع والتفرقة بلا خلاف.

وقد اختلف الأئمة في الحكمين ، هل هما منصوبان من جهة الحاكم ، فيحكمان وإن لم يرض الزوجان. أو هما وكيلان من جهة الزوجين؟ على قولين والجمهور على الأول ، لقوله تعالى : (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) فسماهما حكمين ومن شأن الحكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه ، وهذا ظاهر الآية ، والجديد من مذهب الشافعي وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، الثاني منهما بقول علي رضي الله عنه للزوج حين قال : أما الفرقة فلا ، قال : كذبت حتى تقر بما أقرت به ، قالوا : فلو كانا حاكمين لما افتقر إلى إقرار الزوج ، والله أعلم ، قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر : وأجمع العلماء على أن الحكمين إذا اختلف قولهما فلا عبرة بقول الآخر ، وأجمعوا على أن قولهما نافذ في الجمع وإن لم يوكلهما الزوجان ، واختلفوا هل ينفذ قولهما في التفرقة ، ثم حكي عن الجمهور أنه ينفذ قولهما فيها أيضا من غير توكيل.

(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) (٣٦)

يأمر تبارك وتعالى بعبادته وحده لا شريك له ، فإنه هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الآنات والحالات ، فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا من مخلوقاته ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ بن جبل «أتدري ما حق الله على العباد؟ قال : الله ورسوله

__________________

(١) فئام : جماعة.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٧٣.

٢٦٠