تفسير القرآن العظيم - ج ٢

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٠

وروى هشام عن قتادة : بنت الربيبة وبنت ابنتها لا تصلح وإن كانت أسفل ببطون كثيرة ، وكذا قال قتادة عن أبي العالية.

ومعنى قوله (اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) أي نكحتموهن ، قاله ابن عباس وغير واحد. وقال ابن جريج عن عطاء : هو أن تهدى إليه فيكشف ويفتش ويجلس بين رجليها. وقلت : أرأيت إن فعل ذلك في بيت أهلها؟ قال : هو سواء ، وحسبه قد حرم ذلك عليه ابنتها.

وقال ابن جرير (١) : وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأة لا يحرّم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها أو قبل النظر إلى فرجها بشهوة ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع.

وقوله تعالى : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) أي وحرمت عليكم زوجات أبنائكم الذين ولدتموهم من أصلابكم ، يحترز بذلك عن الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية. كما قال تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) [الأحزاب : ٣٧] ، وقال ابن جريج : سألت عطاء عن قوله (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ). قال : كنا نحدث ـ والله أعلم ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نكح امرأة زيد ، قال المشركون بمكة في ذلك ، فأنزل الله عزوجل : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) ونزلت (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) [الأحزاب : ٤] ، ونزلت (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) [الأحزاب : ٤٠].

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا الجرح بن الحارث عن الأشعث ، عن الحسن بن محمد : أن هؤلاء الآيات مبهمات (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) ، ثم قال : وروي عن طاوس وإبراهيم والزهري ومكحول ، نحو ذلك. (قلت) معنى مبهمات أي عامة في المدخول بها وغير المدخول ، فتحرم بمجرد العقد عليها ، وهذا متفق عليه ، فإن قيل : فمن أين تحرم امرأة ابنه من الرضاعة كما هو قول الجمهور ، ومن الناس من يحكيه إجماعا وليس من صلبه ، فالجواب من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».

وقوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) الآية. أي وحرم عليكم الجمع بين الأختين معا في التزويج ، وكذا في ملك اليمين إلا ما كان منكم في جاهليتكم فقد عفونا عنه وغفرناه. فدل على أنه لا مثنوية فيما يستقبل ولا استثناء فيما سلف ، كما قال (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) [الدخان : ٥٦] فدل على أنهم لا يذوقون فيها الموت أبدا ، وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديما وحديثا على أنه يحرم الجمع بين الأختين

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٦٦٥.

٢٢١

في النكاح ، ومن أسلم وتحته أختان ، خيّر فيمسك إحداهما ويطلق الأخرى لا محالة. قال الإمام أحمد (١) : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لهيعة عن أبي وهب الجيشاني ، عن الضحاك بن فيروز ، عن أبيه ، قال : أسلمت وعندي امرأتان أختان ، فأمرني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أطلق أحداهما. ثم رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة من حديث ابن لهيعة ، وأخرجه أبو داود والترمذي أيضا من حديث يزيد بن أبي حبيب ، كلاهما عن أبي وهب الجيشاني ، قال الترمذي واسمه ديلم بن الهوشع. عن الضحاك بن فيروز الديلمي ، عن أبيه به ، وفي لفظ للترمذي. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اختر أيتهما شئت» ، ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن (٢).

وقد رواه ابن ماجة أيضا بإسناد آخر فقال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد السلام بن حرب عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة ، عن أبي وهب الجيشاني عن أبي خراش الرعيني ، قال : قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعندي أختان تزوجتهما في الجاهلية ، فقال «إذا رجعت فطلق إحداهما» (٣) قلت : فيحتمل أن أبا خراش هذا هو الضحاك بن فيروز ، ويحتمل أن يكون غيره ، فيكون أبو وهب قد رواه عن اثنين عن فيروز الديلمي ، والله أعلم.

وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن يحيى بن محمد بن يحيى ، حدثنا أحمد بن يحيى الخولاني ، حدثنا هيثم بن خارجة ، حدثنا يحيى بن إسحاق عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة ، عن رزيق بن حكيم ، عن كثير بن مرة ، عن الديلمي ، قال : قلت : يا رسول الله ، إن تحتي أختين ، قال «طلق أيهما شئت» ، فالديلمي المذكور أولا هو الضحاك بن فيروز الديلمي قال أبو زرعة الدمشقي : كان يصحب عبد الملك بن مروان ، والثاني هو أبو فيروز الديلمي رضي الله عنه ، وكان من جملة الأمراء باليمن الذين ولوا قتل الأسود العنسي المتنبي لعنه الله.

وأما الجمع بين الأختين في ملك اليمين فحرام أيضا لعموم الآية. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة ، عن عبد الله بن أبي عنبة أو عتبة عن ابن مسعود أنه سئل عن الرجل يجمع بين الأختين ، فكرهه فقال له ـ يعني السائل : يقول الله تعالى : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) فقال له ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : وبعيرك مما ملكت يمينك. وهذا هو المشهور عن الجمهور والأئمة الأربعة وغيرهم ، وإن كان بعض السلف قد توقف في ذلك. قال الإمام مالك (٤) ، عن ابن شهاب ، عن قبيصة بن ذؤيب : أن رجلا سأل عثمان بن عفان عن الأختين في ملك اليمين ، هل يجمع بينهما؟ فقال عثمان : أحلتهما آية وحرمتهما آية ، وما كنت لأصنع ذلك ، فخرج من عنده ، فلقي رجلا من أصحاب

__________________

(١) مسند أحمد ٤ / ٢٣٢.

(٢) سنن الترمذي (نكاح باب ٣٤)

(٣) سنن ابن ماجة (نكاح باب ٣٩)

(٤) موطأ مالك (نكاح حديث ٣٤)

٢٢٢

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله عن ذلك ، فقال : لو كان لي من الأمر شيء ثم وجدت أحدا فعل ذلك لجعلته نكالا. قال مالك : قال ابن شهاب : أراه علي بن أبي طالب. قال : وبلغني عن الزبير بن العوام مثل ذلك.

قال ابن عبد البر النمري رحمه‌الله في كتاب الاستذكار : إنما كنى قبيصة بن ذؤيب عن علي بن أبي طاب لصحبته عبد الملك بن مروان ، وكانوا يستثقلون ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ثم قال أبو عمر (١) : حدثني خلف بن أحمد قراءة عليه : أن خلف بن مطرف حدثهم : حدثنا أيوب بن سليمان وسعيد بن سليمان ومحمد بن عمر بن لبابة ، قالوا : حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن إبراهيم ، حدثنا أبو عبد الرحمن المقري عن موسى بن أيوب الغافقي ، حدثني عمي إياس بن عامر ، قال : سألت علي بن أبي طالب فقلت : إن لي أختين مما ملكت يميني ، اتخذت إحداهما سرية فولدت لي أولادا ثم رغبت في الأخرى فما أصنع؟ فقال علي رضي الله عنه : تعتق التي كنت تطأ ثم تطأ الأخرى ، قلت : فإن ناسا يقولون : بل تزوجها ثم تطأ الأخرى ، فقال علي : أرأيت إن طلقها زوجها أو مات عنها ، أليس ترجع إليك؟ لأن تعتقها أسلم لك. ثم أخذ علي بيدي فقال لي : إنه يحرم عليك مما ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله عزوجل من الحرائر إلا العدد ، أو قال : إلا الأربع ، ويحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب ، ثم قال أبو عمر (٢) : هذا الحديث رحلة (٣) ، لو لم يصب الرجل من أقصى المغرب أو المشرق إلى مكة غيره لما خابت رحلته. قلت : وقد روي عن علي نحو ما روي عن عثمان.

وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن العباس ، حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي ، حدثنا عبد الرحمن بن غزوان ، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال لي علي بن أبي طالب : حرمتهما آية وأحلتهما آية ـ يعني الأختين ـ قال ابن عباس : يحرمهن عليّ قرابتي منهن ولا يحرمهن عليّ قرابة بعضهن من بعض ، يعني الإماء وكانت الجاهلية يحرمون ما تحرمون إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين. فلما جاء الإسلام أنزل الله (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) [النساء : ٢٢] (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) يعني في النكاح.

ثم قال أبو عمر : روى الإمام أحمد بن حنبل ، حدثنا محمد بن سلمة عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن ابن مسعود ، قال : يحرم من الإماء ما يحرم من الحرائر إلا العدد ، وعن ابن مسعود والشعبي نحو ذلك. قال أبو عمر : وقد روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف منهم

__________________

(١) هو ابن عبد البرّ.

(٢) أي يستحق أن تشدّ الرحال إلى من يرويه. يقال : هو رحلة زمانه ، أي تشد الرحال إليه لاستماع حديثه.

(٣) رواه السيوطي باختصار في الدر المنثور ٢ / ٢٤٤.

٢٢٣

ابن عباس ، ولكنهم اختلف عليهم ، ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار والحجاز ولا العراق ولا ما وراءهما من المشرق ولا بالشام ولا المغرب ، إلا من شذ عن جماعتهم باتباع الظاهر ونفي القياس ، وقد ترك من يعمل ذلك ما اجتمعنا عليه ، وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء كما لا يحل ذلك في النكاح. وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ) إلى آخر الآية ، أن النكاح وملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء ، فكذلك يجب أن يكون نظرا وقياسا الجمع بين الأختين وأمهات النساء والربائب. وكذلك هو عند جمهورهم ، وهم الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها.

وقوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي وحرم عليكم من الأجنبيات المحصنات ، وهن المزوجات (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ، يعني إلا ما ملكتموهن بالسبي فإنه يحل لكم وطؤهن إذا استبرأتموهن ، فإن الآية نزلت في ذلك. وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان هو الثوري عن عثمان البتي ، عن أبي الخليل ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : أصبنا نساء من سبي أوطاس ، ولهن أزواج ، فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج ، فسألنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) فاستحللنا بها فروجهن.

وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع عن هشيم ، ورواه النسائي من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج ، ثلاثتهم عن عثمان البتي ، ورواه ابن جرير من حديث أشعث بن سوراي عن عثمان البتي ، ورواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة عن قتادة ، كلاهما عن أبي الخليل صالح بن أبي مريم ، عن أبي سعيد الخدري ، فذكره ، وهكذا رواه عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة ، عن أبي الخليل ، عن أبي سعيد الخدري به.

وقد روي من وجه آخر عن أبي الخليل ، عن أبي علقمة الهاشمي ، عن أبي سعيد الخدري ، قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد ، عن قتادة ، عن أبي الخليل ، عن أبي علقمة ، عن أبي سعيد الخدري أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصابوا سبايا يوم أوطاس ، لهن أزواج من أهل الشرك ، فكأن أناسا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفوا وتأثموا من غشيانهن ، قال : فنزلت هذه الآية في ذلك (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث سعيد بن أبي عروبة ، زاد مسلم : وشعبة ، ورواه الترمذي من حديث همام بن يحيى ، ثلاثتهم عن قتادة بإسناده نحوه. وقال الترمذي : هذا حديث

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ٧٢.

(٢) مسند أحمد ٣ / ٨٤.

٢٢٤

حسن ، ولا أعلم أن أحدا ذكر أبا علقمة في هذا الحديث إلا ما ذكر همام عن قتادة ـ كذا قال ـ وقد تابعه سعيد وشعبة ، والله أعلم.

وقد روى الطبراني من حديث الضحاك عن ابن عباس : أنها نزلت في سبايا خيبر ، وذكر مثل حديث أبي سعيد ، وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن بيع الأمة يكون طلاقا لها من زوجها أخذا بعموم هذه الآية ، وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن مثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم أنه سئل عن الأمة تباع ولها زوج؟ قال : كان عبد الله يقول : بيعها طلاقها. ويتلو هذه الآية (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وكذا رواه سفيان عن منصور ومغيرة والأعمش عن إبراهيم عن ابن مسعود ، قال : بيعها طلاقها وهو منقطع ، ورواه سفيان الثوري عن خالد ، عن أبي قلابة ، عن ابن مسعود ، قال : إذا بيعت الأمة ولها زوج ، فسيدها أحق ببضعها. ورواه سعيد عن قتادة ، قال : إن أبي بن كعب وجابر بن عبد الله وابن عباس ، قالوا : بيعها طلاقها. وقال ابن جرير (٢) : حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية عن خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : طلاق الأمة ست : بيعها طلاقها ، وعتقها طلاقها ، وهبتها طلاقها ، وبراءتها طلاقها ، وطلاق زوجها طلاقها ، وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب قوله (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) قال : هنّ ذوات الأزواج حرم الله نكاحهن إلا ما ملكت يمينك ، فبيعها طلاقها. قال معمر : وقال الحسن مثل ذلك ، وهكذا رواه سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن في قوله (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) قال إذا كان لها زوج ، فبيعها طلاقها. وروى عوف عن الحسن : بيع الأمة طلاقها ، وبيعه طلاقها.

فهذا قول هؤلاء من السلف ، وقد خالفهم الجمهور قديما وحديثا ، فرأوا أن بيع الأمة ليس طلاقا لها لأن المشتري نائب عن البائع ، والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة وباعها مسلوبة عنها ، واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة المخرج في الصحيحين (٣) وغيرهما ، فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها ونجزت عتقها ، ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث ، بل خيرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بين الفسخ والبقاء ، فاختارت الفسخ وقصتها مشهورة ، فلو كان بيع الأمة طلاقها كما قال هؤلاء ما خيرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما خيرها دل على بقاء النكاح ، وأن المراد من الآية المسبيات فقط ، والله أعلم.

وقد قيل : المراد بقوله (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) يعني العفائف حرام عليكم حتى تملكوا عصمتهن بنكاح وشهود ومهور وولي ، واحدة أو اثنتين أو ثلاثا أو أربعا ، حكاه ابن

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٤.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٥.

(٣) صحيح البخاري (شروط باب ٣ وطلاق باب ١٤) وصحيح مسلم (عتق حديث ٦)

٢٢٥

جرير (١) عن أبي العالية وطاوس وغيرهما. وقال عمر وعبيدة (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) ما عدا الأربع حرام عليكم إلا ما ملكت أيمانكم.

وقوله تعالى : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي هذا التحريم كتاب كتبه الله عليكم ، فالزموا كتابه ، ولا تخرجوا عن حدوده ، والزموا شرعه وما فرضه. وقال عبيدة وعطاء والسدي في قوله (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) يعني الأربع. وقال إبراهيم (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) يعني ما حرم عليكم.

وقوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) أي ما عدا من ذكرن من المحارم ، هن لكم حلال ، قاله عطاء وغيره. وقال عبيدة والسدي (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) ما دون الأربع ، وهذا بعيد ، والصحيح قول عطاء كما تقدم. وقال قتادة : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) يعني ما ملكت أيمانكم ، وهذه الآية هي التي احتج بها من احتج على تحليل الجمع بين الأختين ، وقول من قال : أحلتهما آية وحرمتهما آية.

وقوله تعالى : (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) أي تحصلوا بأموالكم من الزوجات إلى أربع ، أو السراري ما شئتم بالطريق الشرعي ، ولهذا قال (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ).

وقوله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) أي كما تستمتعون بهن فآتوهن مهورهن في مقابلة ذلك ، كما قال تعالى : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) [النساء : ٢١] وكقوله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) [النساء : ٤] ، وكقوله (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) [البقرة : ٢٢٩] وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة ، ولا شك أنه كان مشروعا في ابتداء الإسلام ، ثم نسخ بعد ذلك ، وقد ذهب الشافعي وطائفة من العلماء إلى أنه أبيح ثم نسخ مرتين. وقال آخرون : أكثر من ذلك. وقال آخرون : إنما أبيح مرة ثم نسخ ولم يبح بعد ذلك. وقد روي عن ابن عباس وطائفة من الصحابة القول بإباحتها للضرورة ، وهو راوية عن الإمام أحمد ، وكان ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والسدي يقرءون «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة» ، وقال مجاهد : نزلت في نكاح المتعة ، ولكن الجمهور على خلاف ذلك. والعمدة ما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نكاح المتعة ، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر (٢). ولهذا الحديث ألفاظ مقررة هي في كتاب الأحكام. وفي صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني ، عن أبيه ، أنه غزا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة ، فقال «يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء ،

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٦)

(٢) صحيح البخاري (نكاح باب ٣١) وصحيح مسلم (نكاح حديث ٢٩ ـ ٣١)

٢٢٦

وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا» (١) وفي رواية لمسلم : في حجة الوداع ، وله ألفاظ موضعها كتاب الأحكام.

وقوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) من حمل هذه الآية على نكاح المتعة إلى أجل مسمى ، قال : فلا جناح عليكم إذا انقضى الأجل أن تراضوا على زيادة به ، وزيادة للجعل (٢) ، قال السدي : إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى ، يعني الأجر الذي أعطاها على تمتعه بها قبل انقضاء الأجل بينهما ، فقال : أتمتع منك أيضا بكذا وكذا ، فازداد قبل أن يستبرئ رحمها يوم تنقضي المدة ، وهو قوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ). قال السدي : إذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل ، وهي منه بريئة وعليها أن تستبرئ ما في رحمها ، وليس بينهما ميراث ، فلا يرث واحد منهما صاحبه ، ومن قال بهذا القول الأول جعل معناه كقوله (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) [النساء : ٤] ، أي إذا فرضت لها صداقا فأبرأتك منه أو عن شيء منه ، فلا جناح عليك ولا عليها في ذلك. وقال ابن جرير (٣) : حدثنا محمد بن الأعلى ، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه ، قال : زعم الحضرمي أن رجالا كانوا يفرضون المهر ، ثم عسى أن يدرك أحدهم العسرة ، فقال : ولا جناح عليكم أيها الناس فيما تراضيتم به من بعد الفريضة. يعني إن وضعت لك منه شيئا فهو لك سائغ. واختار هذا القول ابن جرير. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) والتراضي أن يوفيها صداقها ثم يخيرها ، يعني في المقام أو الفراق. وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) مناسب ذكر هذين الوصفين بعد شرع هذه المحرمات.

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٥)

يقول تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) أي سعة وقدرة (أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) أي الحرائر العفائف المؤمنات. وقال ابن وهب : أخبرني عبد الجبار عن ربيعة (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ) قال ربيعة : الطول الهوى ، يعني ينكح الأمة

__________________

(١) صحيح مسلم (نكاح حديث ٢١)

(٢) الجعل : الأجر المتفق عليه.

(٣) تفسير الطبري ٤ / ١٦.

٢٢٧

إذا كان هواه فيها ، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، ثم أخذ يشنع على هذا القول ويرده (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) أي فتزوجوا من الإماء المؤمنات اللاتي يملكهن المؤمنون ، ولهذا قال (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) ، قال ابن عباس وغيره : فلينكح من إماء المؤمنين ، وكذا قال السدي ومقاتل بن حيان. ثم اعترض بقوله (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي هو العالم بحقائق الأمور وسرائرها ، وإنما لكم أيها الناس الظاهر من الأمور ؛ ثم (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) فدل على أن السيد هو ولي أمته لا تزوج إلا بإذنه ، وكذلك هو ولي عبده ليس له أن يتزوج بغير إذنه ، كما جاء في الحديث «أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر» أي زان. فإن كان مالك الأمة امرأة زوجها من يزوج المرأة بإذنها لما جاء في الحديث «لا تزوج المرأة المرأة ولا المرأة نفسها ، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها» (١) وقوله تعالى : (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي وادفعوا مهورهن بالمعروف ، أي عن طيب نفس منكم ، ولا تبخسوا منه شيئا استهانة بهن لكونهن إماء مملوكات ، وقوله تعالى : (مُحْصَناتٍ) أي عفائف عن الزنا لا يتعاطينه ، ولهذا قال (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) وهن الزواني اللاتي لا يمنعن من أرادهن بالفاحشة ـ وقوله تعالى : (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) ، قال ابن عباس : المسافحات هن الزواني المعلنات ، يعني الزواني اللاتي لا يمنعن أحدا أرادهن بالفاحشة. و (مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) يعني أخلاء ، وكذا روي عن أبي هريرة ومجاهد والشعبي والضحاك وعطاء الخراساني ويحيى بن أبي كثير ومقاتل بن حيان والسدي ، قالوا : أخلاء. وقال الحسن البصري : يعني الصديق. وقال الضحاك أيضا (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) ذات الخليل الواحد المقرة به ، نهى الله عن ذلك. يعني تزويجها ما دامت كذلك.

وقوله تعالى : (فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) اختلف القراء في أحصن ، فقرأه بعضهم بضم الهمزة وكسر الصاد مبني لما لم يسم فاعله ، وقرئ بفتح الهمزة والصاد فعل لازم ، ثم قيل : معنى القراءتين واحد ، واختلفوا فيه على قولين : أحدهما : أن المراد بالإحصان هاهنا الإسلام ، وروي ذلك عن عبد الله بن مسعود وابن عمر وأنس والأسود بن يزيد وزر بن حبيش وسعيد بن جبير وعطاء وإبراهيم النخعي والشعبي والسدي ، وروى نحوه الزهري عن عمر بن الخطاب وهو منقطع ، وهذا هو القول الذي نص عليه الشافعي في رواية الربيع ، قال : وإنما قلنا ذلك ، استدلالا بالسنة ، وإجماع أكثر أهل العلم. وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثا مرفوعا ، قال : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله ، حدثنا أبي عن أبيه ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن رجل ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي بن أبي طالب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَإِذا أُحْصِنَ) قال «إحصانها إسلامها وعفافها» وقال : المراد به هاهنا التزويج. قال : وقال

__________________

(١) سنن ابن ماجة (نكاح باب ١٥)

٢٢٨

علي : اجلدوهن ، ثم قال ابن أبي حاتم : وهو حديث منكر (١). (قلت) وفي إسناده ضعف ، وفيه من لم يسم ، ومثله لا تقوم به حجة. وقال القاسم وسالم : إحصانها إسلامها وعفافها. وقيل : المراد به هاهنا التزويج ، وهو قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة وطاوس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم. ونقله أبو علي الطبري في كتابه الإيضاح عن الشافعي ، فيما رواه أبو الحكم بن عبد الحكم عنه. وقد روى ليث بن أبي سليم عن مجاهد أنه قال : إحصان الأمة أن ينكحها الحر ، وإحصان العبد أن ينكح الحرة ، وكذا روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، رواهما ابن جرير (٢) في تفسيره. وذكره ابن أبي حاتم عن الشعبي والنخعي. وقيل : معنى القراءتين متباين. فمن قرأ : أحصن بضم الهمزة فمراده التزويج ، ومن قرأ بفتحها فمراده الإسلام. اختاره أبو جعفر بن جرير(٣) في تفسيره وقرره ونصره ، والأظهر ـ والله أعلم ـ أن المراد بالإحصان هاهنا التزويج ، لأن سياق الآية يدل عليه حيث يقول سبحانه وتعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) والله أعلم. والآية الكريمة سياقها كلها في الفتيات المؤمنات فتعين أن المراد بقوله : (فَإِذا أُحْصِنَ) أي تزوجن ، كما فسره ابن عباس ومن تبعه ، وعلى كل من القولين إشكال على مذهب الجمهور ، وذلك أنهم يقولون : إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة ، سواء كانت مسلمة أو كافرة ، مزوجة أو بكرا ، مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لاحد على غير المحصنة ممن زنى من الإماء. وقد اختلفت أجوبتهم عن ذلك ، فأما الجمهور فقالوا : لا شك أن المنطوق مقدم على المفهوم. وقد وردت أحاديث عامة في إقامة الحد على الإماء ، فقدمناها على مفهوم الآية. فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه أنه خطب فقال : يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن منهم ومن لم يحصن ، فإن أمة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زنت ، فأمرني أن أجلدها ، فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن جلدتها أن أقتلها ، فذكرت ذلك لنبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أحسنت اتركها حتى تماثل» (٤) ، وعند عبد الله بن أحمد عن غير أبيه «فإذا تعالت (٥) من نفسها حدّها خمسين» وعن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها ، فليجلدها الحد ، ولا يثرب عليها ، ثم إن زنت الثانية ، فليجلدها الحد ، ولا يثرب عليها ، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو

__________________

(١) انظر الدر المنثور ٢ / ٢٥٤.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٢٦.

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٢٦.

(٤) صحيح مسلم (حدود حديث ٣٤)

(٥) تعالت المرأة : طهرت.

٢٢٩

بحبل من شعر» (١) ولمسلم «إذا زنت ثلاثا فليبعها في الرابعة» ، وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي قال : أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش ، فجلدنا ولائد من ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنا.

الجواب الثاني : جواب من ذهب إلى أن الأمة إذا زنت ولم تحصن فلا حد عليها ، وإنما تضرب تأديبا وهو المحكي عن ابن عباس رضي الله عنه. وإليه ذهب طاوس وسعيد بن جبير وأبو عبيد القاسم بن سلام وداود بن علي الظاهري في رواية عنه وعمدتهم مفهوم الآية ، وهو من مفاهيم الشرط ، وهو حجة عند أكثرهم فقدم على العموم عندهم ، وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ قال : «إن زنت فحدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم بيعوها ولو بضفير». قال ابن شهاب : لا أدري أبعد الثالثة أو الرابعة وأخرجاه في الصحيحين. وعند مسلم قال ابن شهاب : الضفير الحبل. قالوا : فلم يؤقت فيه عدد كما أقت في المحصنة ، وكما وقت في القرآن بنصف ما على المحصنات من العذاب ، فوجب الجمع بين الآية والحديث بذلك ، والله أعلم ـ وأصرح من ذلك ما رواه سعيد بن منصور عن سفيان ، عن مسعر ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليس على أمة حد حتى تحصن ـ أو حتى تزوج ـ فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات» وقد رواه ابن خزيمة عن عبد الله بن عمران العابدي عن سفيان به مرفوعا ، وقال : رفعه خطأ إنما هو من قول ابن عباس. وكذا رواه البيهقي من حديث عبد الله بن عمران وقال مثل ما قاله ابن خزيمة.

قالوا : وحديث علي وعمر قضايا أعيان ، وحديث أبي هريرة عنه أجوبة :

أحدها : أن ذلك محمول على الأمة المزوجة جمعا بينه وبين هذا الحديث.

الثاني : أن لفظة الحد في قوله «فليجلدها الحد» مقحمة من بعض الرواة بدليل الجواب الثالث ، وهو أن هذا من حديث صحابيين وذلك من رواية أبي هريرة فقط ، وما كان عن اثنين فهو أولى بالتقديم من رواية واحد ، وأيضا فقد رواه النسائي بإسناد على شرط مسلم من حديث عباد بن تميم عن عمه ، وكان قد شهد بدرا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا زنت الأمة فاجلدوها ، ثم إذا زنت فاجلدوها ، ثم إذا زنت فاجلدوها ، ثم إذا زنت فبيعوها ولو بضفير».

الرابع : أنه لا يبعد أن بعض الرواة أطلق لفظة الحد في الحديث على الجلد ، لأنه لما كان الجلد اعتقد أنه حد ، أو أنه أطلق لفظة الحد على التأديب ، كما أطلق الحد على ضرب من زنى

__________________

(١) صحيح البخاري (حدود باب ٣٦) وصحيح مسلم (حدود حديث ٣٠) وسنن أبي داود (حدود باب ٣٢) ومسند أحمد ٢ / ٢٤٩.

٢٣٠

من المرضى بعثكال نخل فيه مائة شمراخ (١) ، وعلى جلد من زنى بأمة امرأته إذا أذنت له فيها مائة ، وإنما ذلك تعزير وتأديب عند من يراه كأحمد وغيره من السلف. وإنما الحد الحقيقي هو جلد البكر مائة. ورجم الثيب أو اللائط ، والله أعلم. وقد روى ابن ماجة وابن جرير (٢) في تفسيره : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة أنه سمع سعيد بن جبير يقول : لا تضرب الأمة إذا زنت ما لم تتزوج ، وهذا إسناد صحيح عنه ، ومذهب غريب إن أراد أنها لا تضرب الأمة أصلا لاحدا ، وكأنه أخذ بمفهوم الآية ولم يبلغه الحديث ، وإن أراد أنها لا تضرب حدا ، ولا ينفي ضربها تأديبا فهو كقول ابن عباس رضي الله عنه ومن تبعه في ذلك ، والله أعلم.

الجواب الثالث : أن الآية دلت على أن الأمة المحصنة تحد نصف حد الحرة ، فأما قبل الإحصان فعمومات الكتاب والسنة شاملة لها في جلدها مائة ، كقوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور : ٢] وكحديث عبادة بن الصامت «خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة ورجمها بالحجارة» والحديث في صحيح مسلم (٣) وغير ذلك من الأحاديث. وهذا القول هو المشهور عن داود بن علي الظاهري وهو في غاية الضعف ، لأن الله تعالى إذا كان أمر بجلد المحصنة من الإماء بنصف ما على الحرة من العذاب ، وهو خمسون جلدة ، فكيف يكون حكمها قبل الإحصان أشد منه بعد الإحصان وقاعدة الشريعة في ذلك عكس ما قال؟ وهذا الشارع عليه‌السلام سأله أصحابه عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ، فقال : اجلدوها ، ولم يقل : مائة ، فلو كان حكمها كما زعم داود لوجب بيان ذلك لهم ، لأنهم إنما سألوا عن ذلك لعدم بيان حكم جلد المائة بعد الإحصان في الإماء ، وإلا فما الفائدة في قولهم : ولم تحصن لعدم الفرق بينهما لو لم تكن الآية نزلت ، لكن لما علموا حكم أحد الحكمين سألوا عن حكم الآخر فبينه لهم ، كما في الصحيحين أنهم لما سألوه عن الصلاة عليه فذكرها لهم ، ثم قال «والسلام ما قد علمتم» وفي لفظ لما أنزل الله قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب : ٥٦] قالوا : هذا السلام عليك قد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك وذكر الحديث وهكذا هذا السؤال.

الجواب الرابع : عن مفهوم الآية جواب أبي ثور وهو أغرب من قول داود من وجوه ، وذلك أنه يقول : فإذا أحصن فإن عليهن نصف ما على المحصنات المزوجات وهو الرجم ، وهو

__________________

(١) العثكال والعثكول : العذق عليه البسر ، وهو من النخل كالعنقود من الكرم. والشمراخ : غصن دقيق ينبت في أعلى الغصن الغليظ. فالعثكال يتكون عادة من شماريخ عدة.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٢٦.

(٣) صحيح مسلم (حدود حديث ١٢)

٢٣١

لا ينصف فيجب أن ترجم الأمة المحصنة إذا زنت ، وأما قبل الإحصان فيجب جلدها خمسين ، فأخطأ في فهم الآية ، وخالف الجمهور في الحكم ، بل قد قال أبو عبد الله الشافعي رحمه‌الله : ولم يختلف المسلمون في أن لا رجم على مملوك في الزنا ، وذلك لأن الآية دلت على أن عليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ، والألف واللام في المحصنات للعهد ، وهن المحصنات المذكورات في أول الآية : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) والمراد بهن الحرائر فقط من غير تعرض لتزويج غيره ، وقوله : (نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) يدل على أن المراد من العذاب الذي يمكن تنصيفه وهو الجلد لا الرجم ، والله أعلم. وقد روى أحمد (١) نصا في رد مذهب أبي ثور من رواية الحسن بن سعد عن أبيه : إن صيفة كانت قد زنت برجل من الحمس (٢) ، فولدت غلاما ، فادعاه الزاني ، فاختصما إلى عثمان ، فرفعهما إلى علي بن أبي طالب ، فقال علي : أقضي فيهما بقضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الولد للفراش ، وللعاهر الحجر ، وجلدهما خمسين خمسين ، وقيل : بل المراد من المفهوم التنبيه بالأعلى على الأدنى أي إن الإماء على النصف من الحرائر في الحد وإن كن محصنات وليس عليهن رجم أصلا لا قبل النكاح ولا بعده ، وإنما عليهن الجلد في الحالتين بالسنة ، قال ذلك صاحب الإفصاح ، وذكر هذا عن الشافعي فيما رواه ابن عبد الحكم عنه ، وقد ذكره البيهقي في كتاب السنن والآثار ، وهو بعيد من لفظ الآية ، لأنا إنما استفدنا تنصيف الحد من الآية لا من سواها فكيف يفهم منها التنصيف فيما عداها وقال : بل أريد بأنها في حال الإحصان لا يقيم الحد عليها إلا الإمام ولا يجوز لسيدها إقامة الحد عليها والحالة هذه وهو قول في مذهب أحمد رحمه‌الله ، فأما قبل الإحصان فله ذلك ، والحد في كلا الموضعين نصف حد الحرة ، وهذا أيضا بعيد لأنه ليس في لفظ الآية ما يدل عليه ، ولو لا هذه لم ندر ما حكم الإماء في التنصيف ، ولوجب دخولهن في عموم الآية في تكميل الحد مائة ، أو رجمهن كما ثبت في الدليل عليه ، وقد تقدم عن علي أنه قال : أيها الناس أقيموا الحد على أرقائكم من أحصن منهم ومن لم يحصن ، وعموم الأحاديث المتقدمة ليس فيها تفصيل بين المزوجة وغيرها لحديث أبي هريرة الذي احتج به الجمهور : «إذا زنت أمة أحدكم ، فتبين زناها ، فليجلدها الحد ، ولا يثرب عليها».

ملخص الآية : أنها إذا زنت أقوال : أحدها تجلد خمسين قبل الإحصان وبعده. وهل تنفى؟ فيه ثلاثة أقوال : أحدها إنها تنفى عنه. والثاني لا تنفى عنه مطلقا والثالث أنها تنفى نصف سنة وهو نصف نفي الحرة ، وهذا الخلاف في مذهب الشافعي ، وأما أبو حنيفة فعنده أن

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ١٠٤.

(٢) كذا في الأصول. وفي مسند «أن يحنّس وصفية كانا من سبي الخمس فزنت صفية برجل من الخمس» إلخ وهو الصواب.

٢٣٢

النفي تعزير ليس من تمام الحد ، وإنما هو رأي الإمام إن شاء فعله وإن شاء تركه في حق الرجال والنساء ، وعند مالك أن النفي إنما هو على الرجال وأما النساء فلا ، لأن ذلك مضاد لصيانتهن وما ورد شيء من النفي في الرجال ولا النساء. نعم حديث عبادة وحديث أبي هريرة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وبإقامة الحد عليه ، رواه البخاري وذلك مخصوص بالمعنى وهو أن المقصود من النفي الصون ، وذلك مفقود في نفي النساء ، والله أعلم.

والثاني أن الأمة إذا زنت تجلد خمسين بعد الإحصان وتضرب تأديبا غير محدود بعدد محصور ، وقد تقدم ما رواه ابن جرير عن سعيد بن جبير أنها لا تضرب قبل الإحصان ، وإن أراد نفيه فيكون مذهبا بالتأويل وإلا فهو كالقول الثاني.

القول الآخر أنها تجلد قبل الإحصان مائة ، وبعده خمسين ، كما هو المشهور عن داود وأضعف الأقوال : أنها تجلد قبل الإحصان خمسين ، وترجم بعده ، وهو قول أبي ثور وهو ضعيف أيضا ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

وقوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) أي إنما يباح نكاح الإماء بالشروط المتقدمة لمن خاف على نفسه الوقوع في الزنا ، وشق عليه الصبر عن الجماع ، وعنت بسبب ذلك كله ، فله حينئذ أن يتزوج بالأمة ، وإن ترك تزوجها وجاهد نفسه في الكف عن الزنا فهو خير له لأنه إذا تزوجها جاء أولاده أرقاء لسيدها إلا أن يكون الزوج عربيّا ، فلا تكون أولاده منها أرقاء في قول قديم للشافعي ، ولهذا قال (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

ومن هذه الآية الكريمة ، استدل جمهور العلماء في جواز نكاح الإماء على أنه لا بد من عدم الطول لنكاح الحرائر ومن خوف العنت لما في نكاحهن من مفسدة رق الأولاد ، ولما فيهن من الدناءة في العدول عن الحرائر إليهن ، وخالف الجمهور أبو حنيفة وأصحابه في اشتراط الأمرين ، فقالوا : متى لم يكن الرجل مزوجا بحرة ، جاز له نكاح الأمة المؤمنة والكتابية أيضا سواء كان واجدا لطول حرة أم لا ، وسواء خاف العنت أم لا ، وعمدتهم فيما ذهبوا إليه قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [المائدة : ٥] أي العفائف وهو يعم الحرائر والإماء ، وهذه الآية عامة وهذه أيضا ظاهرة في الدلالة على ما قاله الجمهور ، والله أعلم.

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) (٢٨)

يخبر تعالى أنه يريد أن يبين لكم أيها المؤمنون ما أحل لكم وحرم عليكم مما تقدم ذكره في

٢٣٣

هذه السورة وغيرها ، (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يعني طرائقهم الحميدة واتباع شرائعه التي يحبها ويرضاها ، (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) أي من الإثم والمحارم ، (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله. وقوله : (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) أي يريد أتباع الشياطين من اليهود والنصارى والزناة أن تميلوا عن الحق إلى الباطل ميلا عظيما (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) أي في شرائعه وأوامره ونواهيه وما يقدره لكم ، ولهذا أباح الإماء بشروط ، كما قال مجاهد وغيره (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) فناسبه التخفيف لضعفه في نفسه وضعف عزمه وهمته.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا وكيع عن سفيان ، عن ابن طاوس ، عن أبيه (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) أي في أمر النساء. وقال وكيع : يذهب عقله عندهن.

وقال موسى الكليم عليه‌السلام لنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليلة الإسراء حين مر عليه راجعا من عند سدرة المنتهى ، فقال له : ماذا فرض عليكم ، فقال : أمرني بخمسين صلاة في كل يوم وليلة ، فقال له : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فإني قد بلوت الناس قبلك على ما هو أقل من ذلك فعجزوا ، وإن أمتك أضعف أسماعا وأبصارا وقلوبا ، فرجع ، فوضع عشرا. ثم رجع إلى موسى فلم يزل كذلك حتى بقيت خمسا ، الحديث (١).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (٣١)

ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضا بالباطل ، أي بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية كأنواع الربا والقمار ، وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل ، وإن ظهرت في غالب الحكم الشرعي مما يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الربا ، حتى قال ابن جرير (٢) : حدثني ابن المثنى ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا داود عن عكرمة ، عن ابن عباس في الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول : إن رضيته أخذته ، وإلا رددته ورددت معه درهما ، قال: هو الذي قال الله عزوجل فيه (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا ابن فضيل عن داود الأودي ، عن عامر ، عن علقمة ، عن عبد الله في الآية ، قال : إنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ١٤٩ و ٤ / ٢٠٨.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٣٣.

٢٣٤

القيامة (١). وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : لما أنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) قال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، والطعام هو أفضل أموالنا ، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد ، فكيف للناس؟ فأنزل الله بعد ذلك (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) [النور : ٦١] ، وكذا قال قتادة.

وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) قرئ تجارة بالرفع وبالنصب وهو استثناء منقطع ، كأنه يقول : لا تتعاطوا الأسباب المحرمة في اكتساب الأموال ، ولكن المتاجر المشروعة التي تكون عن تراض من البائع والمشتري فافعلوها وتسببوا بها في تحصيل الأموال ، كما قال تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) [الأنعام : ١٥١] ، وكقوله (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) [الدخان : ٥٦]. ومن هذه الآية الكريمة احتج الشافعي على أنه لا يصح البيع إلا بالقبول ، لأنه يدل على التراضي نصا بخلاف المعاطاة ، فإنها قد لا تدل على الرضى ولا بد ، وخالف الجمهور في ذلك مالك وأبو حنيفة وأحمد ، فرأوا أن الأقوال كما تدل على التراضي فكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعا ، فصححوا بيع المعاطاة مطلقا ، ومنهم من قال : يصح في المحقرات وفيما يعده الناس بيعا وهو احتياط نظر من محققي المذهب ، والله أعلم.

وقال مجاهد (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) بيعا أو عطاء يعطيه أحد أحدا ، ورواه ابن جرير (٢) ، ثم قال : وحدثنا وكيع ، حدثنا أبي عن القاسم ، عن سليمان الجعفي ، عن أبيه ، عن ميمون بن مهران ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «البيع عن تراض والخيار بعد الصفقة ، ولا يحل لمسلم أن يغش مسلما» هذا حديث مرسل.

ومن تمام التراضي إثبات خيار المجلس ، كما ثبت في الصحيحين (٣) أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» وفي لفظ البخاري «إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا» ، وذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث أحمد والشافعي وأصحابهما وجمهور السلف والخلف ، ومن ذلك مشروعية خيار الشرط بعد العقد إلى ثلاثة أيام بحسب ما يتبين فيه حال البيع ولو إلى سنة في القرية ونحوها ، كما هو المشهور عن مالك رحمه‌الله ، وصححوا بيع المعاطاة مطلقا وهو قول في مذهب الشافعي ، ومنهم من قال : يصح بيع المعاطاة في المحقرات فيما يعده الناس بيعا وهو اختيار طائفة من الأصحاب كما هو متفق عليه.

وقوله (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي بارتكاب محارم الله ، وتعاطي معاصيه ، وأكل أموالكم

__________________

(١) الدر المنثور ٢ / ٢٥٧.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٣٥.

(٣) صحيح البخاري (بيوع باب ١٩ و ٢٢ و ٤٢ و ٤٣ و ٤٤ و ٤٦ و ٤٧) وصحيح مسلم (بيوع حديث ٤٣ و ٤٦ و ٤٧)

٢٣٥

بينكم بالباطل (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) أي فيما أمركم به ونهاكم عنه. وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال لما بعثه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عام ذات السلاسل ، قال : احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد ، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح ، قال : فلما قدمنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكرت ذلك له ، فقال «يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب» قال : قلت : يا رسول الله ، إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد ، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فذكرت قول الله عزوجل (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) فتيممت ثم صليت ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يقل شيئا ، وهكذا رواه أبو داود من حديث يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب به ، ورواه أيضا عن محمد بن أبي سلمة ، عن ابن وهب ، عن ابن لهيعة وعمر بن الحارث ، كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمران بن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جبير المصري ، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عنه ، فذكر نحوه ، وهذا ـ والله أعلم ـ أشبه بالصواب.

وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد البلخي ، حدثنا محمد بن صالح بن سهل البلخي ، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا يوسف بن خالد ، حدثنا زياد بن سعد عن عكرمة ، عن ابن عباس أن عمرو بن العاص صلى بالناس وهو جنب ، فلما قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكروا ذلك له فدعاه فسأله عن ذلك ، فقال : يا رسول الله ، خفت أن يقتلني البرد ، وقد قال الله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) الآية ، فسكت عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أورد ابن مردويه عند هذه الآية الكريمة من حديث الأعمش عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قتل نفسه بحديدة ، فحديدته في يده ، يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده ، يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن تردّى من جبل فقتل نفسه ، فهو مترد في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا» (٢) وهذا الحديث ثابت في الصحيحين ، وكذلك رواه أبو الزناد عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه ، وعن أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة» (٣) وقد أخرجه الجماعة في كتبهم من طريق أبي قلابة. وفي الصحيحين من حديث الحسن عن جندب بن عبد الله البجلي ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان رجل ممن كان قبلكم وكان به جرح فأخذ سكينا نحر بها يده ، فما رقأ

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

(٢) سنن النسائي (جنائز باب ٦٨) ومسند أحمد ٢ / ٢٥٤.

(٣) مسند أحمد ٤ / ٣٣.

٢٣٦

الدم حتى مات ، قال الله عزوجل «عبدي بادرني بنفسه ، حرمت عليه الجنة» (١).

ولهذا قال تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً) أي ومن يتعاطى ما نهاه الله عنه معتديا فيه ظالما في تعاطيه أي عالما بتحريمه متجاسرا على انتهاكه (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) الآية ، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، فليحذر منه كل عاقل لبيب ممن ألقى السمع وهو شهيد.

وقوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) الآية ، أي إذا اجتنبتم كبائر الآثام التي نهيتم عنها ، كفرنا عنكم صغائر الذنوب وأدخلناكم الجنة ، ولهذا قال (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا مؤمل بن هشام ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا خالد بن أيوب عن معاوية بن قرة ، عن أنس ، قال : الذي بلغنا عن ربنا عزوجل ، ثم لم نخرج له عن كل أهل ومال أن تجاوز لنا عما دون الكبائر ، يقول الله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ).

وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة ، فلنذكر منها ما تيسر.

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا هشيم عن مغيرة عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، عن قرثع الضبي ، عن سلمان الفارسي ، قال : قال لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أتدري ما يوم الجمعة؟» قلت : هو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم ، قال «لكن أدري ما يوم الجمعة ، لا يتطهر الرجل فيحسن طهوره ، ثم يأتي الجمعة فينصت حتى يقضي الإمام صلاته إلا كان كفارة له ما بينه وبين الجمعة المقبلة ما اجتنبت المقتلة» ، وقد روى البخاري من وجه آخر عن سلمان نحوه.

وقال أبو جعفر بن جرير (٣) : حدثني المثنى ، حدثنا أبو صالح ، حدثنا الليث ، حدثني خالد عن سعيد بن أبي هلال ، عن نعيم المجمر ، أخبرني صهيب مولى الصواري ، أنه سمع أبا هريرة وأبا سعيد يقولان : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما ، فقال : «والذي نفسي بيده» ثلاث مرات ، ثم أكب فأكب كل رجل منا يبكي لا ندري ماذا حلف عليه ، ثم رفع رأسه وفي وجهه البشر ، فكان أحب إلينا من حمر النعم ، فقال : «ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ، ويصوم رمضان ، ويخرج الزكاة ، ويجتنب الكبائر السبع ، إلا فتحت له أبواب الجنة ، ثم قيل له : ادخل بسلام» ، وهكذا رواه النسائي والحاكم في مستدركه من حديث الليث بن سعد به ، ورواه الحاكم أيضا وابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال به ثم قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه.

__________________

(١) صحيح البخاري (أنبياء باب ٥٠) وصحيح مسلم (إيمان حديث ١٨٠) ورقأ الدم : سكن وجف وانقطع بعد جريانه.

(٢) مسند أحمد ٥ / ٤٣٩.

(٣) تفسير الطبري ٤ / ٤١.

٢٣٧

[تفسير هذه السبع] وذلك بما ثبت في الصحيحين من حديث سليمان بن بلال عن ثور بن زيد ، عن سالم أبي الغيث ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «اجتنبوا السبع الموبقات». قيل : يا رسول الله ، وما هن؟ قال «الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» (١).

طريق أخرى عنه : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا فهد بن عوف ، حدثنا أبو عوانة عن عمرو بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «الكبائر سبع : أولها الإشراك بالله ، ثم قتل النفس بغير حقها ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم إلى أن يكبر ، والفرار من الزحف ، ورمي المحصنات ، والانقلاب إلى الأعراب بعد الهجرة».

فالنص على هذه السبع بأنهن كبائر ، لا ينفي ما عداهن إلا عند من يقول بمفهوم اللقب ، وهو ضعيف عند عدم القرينة ولا سيما عند قيام الدليل بالمنطوق على عدم المفهوم ، كما سنورده من الأحاديث المتضمنة من الكبائر غير هذه السبع ، فمن ذلك ما رواه الحاكم في مستدركه حيث قال : حدثنا أحمد بن كامل القاضي إملاء ، حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد ، حدثنا معاذ بن هانئ ، حدثنا حرب بن شداد ، حدثنا يحيى بن أبي كثير عن عبد الحميد بن سنان ، عن عبيد بن عمير ، عن أبيه يعني عمير بن قتادة رضي الله عنه ، أنه حدثه وكانت له صحبة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في حجة الوداع «ألا إن أولياء الله المصلون من يقم الصلوات الخمس التي كتبت عليه ، ويصوم رمضان ويحتسب صومه ، يرى أنه عليه حق ، ويعطي زكاة ماله يحتسبها ويجتنب الكبائر التي نهى الله عنها» ، ثم إن رجلا سأله فقال : يا رسول الله ، ما الكبائر؟ فقال «تسع : الشرك بالله ، وقتل نفس مؤمن بغير حق ، وفرار يوم الزحف ، وأكل مال اليتيم وأكل الربا ، وقذف المحصنة ، وعقوق الوالدين المسلمين ، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا ، ثم قال : لا يموت رجل لا يعمل هؤلاء الكبائر ، ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة إلا كان مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دار أبوابها مصاريع من ذهب» ، هكذا رواه الحاكم مطولا ، وقد أخرجه أبو داود والترمذي مختصرا من حديث معاذ بن هانئ به. وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديثه مبسوطا ، ثم قال الحاكم : رجاله كلهم يحتج بهم في الصحيحين إلا عبد الحميد بن سنان. (قلت) وهو حجازي لا يعرف إلا بهذا الحديث ، وقد ذكره ابن حبان في كتاب الثقات. وقال البخاري : في حديثه نظر ، وقد رواه ابن جرير (٢) عن سليمان بن ثابت الجحدري ، عن سلم بن سلام ، عن أيوب بن عتبة ، عن يحيى بن أبي كثير ،

__________________

(١) صحيح البخاري (وصايا باب ٢٣) وصحيح مسلم (إيمان حديث ١٤٤)

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٤٢ وفيه «سليمان بن ثابت الخراز».

٢٣٨

عن عبيد بن عمير ، عن أبيه فذكره ، ولم يذكر في الإسناد عبد الحميد بن سنان ، والله أعلم.

حديث آخر في معنى ما تقدم : قال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا عبد العزيز بن مسلم بن الوليد ، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب ، عن ابن عمرو ، قال : صعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المنبر ، فقال «لا أقسم ، لا أقسم» ، ثم نزل فقال : «أبشروا أبشروا ، من صلى الصلوات الخمس واجتنب الكبائر السبع ، نودي من أبواب الجنة : ادخل». قال عبد العزيز : لا أعلمه إلا قال : «بسلام». وقال المطلب : سمعت من سأل عبد الله بن عمرو ، أسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكرهن؟ قال : نعم «عقوق الوالدين ، وإشراك بالله ، وقتل النفس ، وقذف المحصنات ، وأكل مال اليتيم ، والفراق من الزحف ، وأكل الربا»

حديث آخر في معناه : قال أبو جعفر بن جرير (١) في التفسير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن علية ، حدثنا زياد بن مخراق عن طيسلة بن مياس ، قال : كنت مع النجدات فأصبت ذنوبا لا أراها إلا من الكبائر ، فلقيت ابن عمر ، فقلت له : إني أصبت ذنوبا لا أراها إلا من الكبائر ، قال : ما هي؟ قلت : أصبت كذا وكذا. قال : ليس من الكبائر. قلت : وأصبت كذا وكذا. قال ليس من الكبائر. قال ـ بشيء لم يسمه طيسلة ـ قال : هي تسع وسأعدهن عليك «الإشراك بالله ، وقتل النفس بغير حقها والفرار من الزحف ، وقذف المحصنة ، وأكل الربا وأكل مال اليتيم ظلما. وإلحاد في المسجد الحرام والذي يستسخر ، وبكاء الوالدين من العقوق». قال زياد : وقال طيسلة : لما رأى ابن عمر فرقي قال : أتخاف النار أن تدخلها؟ قلت : نعم. قال : وتحب أن تدخل الجنة؟ قلت : نعم. قال : أحي والداك؟ قلت : عندي أمي. قال : فو الله لئن أنت ألنت لها الكلام ، وأطعمتها الطعام لتدخلن الجنة ما اجتنبت الموجبات.

طريق أخرى : قال ابن جرير (٢) : حدثنا سليمان بن ثابت الجحدري الواسطي ، حدثنا سلم بن سلام ، حدثنا أيوب بن عتبة عن طيسلة بن علي النهدي ، قال : أتيت ابن عمر وهو في ظل أراك يوم عرفة وهو يصب الماء على رأسه ووجهه ، قلت : أخبرني عن الكبائر؟ قال : هي تسع قلت : ما هي؟ قال : «الإشراك بالله وقذف المحصنة» قال : قلت : قبل القتل؟ قال : نعم ورغما ، وقتل النفس المؤمنة ، والفرار من الزحف ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وعقوق الوالدين المسلمين ، وإلحاق بالبيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا» هكذا رواه من هذين الطريقين موقوفا. وقد رواه علي بن الجعد عن أيوب بن عتبة ، عن طيسلة بن علي ، قال : أتيت ابن عمر عشية عرفة ، وهو تحت ظل أراكة ، وهو يصب الماء على رأسه فسألته عن الكبائر؟

__________________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٤٢.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٤٢ وفيه «سليمان بن ثابت الخراز الواسطي».

٢٣٩

فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «هن سبع» قال : قلت : وما هن؟ قال «الإشراك بالله وقذف المحصنة» قال : قلت : قبل الدم؟ قال : نعم ، ورغما ، وقتل النفس المؤمنة ، والفرار من الزحف ، والسحر وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وعقوق الوالدين ، وإلحاد بالبيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا». وهكذا رواه الحسن بن موسى الأشيب عن أيوب بن عتبة اليماني وفيه ضعف ، والله أعلم.

حديث آخر : قال الإمام أحمد (١) : حدثنا زكريا بن عدي ، حدثنا بقية عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان أن أبا رهم السمعي حدثهم عن أبي أيوب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من عبد الله لا يشرك به شيئا ، وأقام الصلاة وآتى الزكاة ، وصام رمضان ، واجتنب الكبائر فله الجنة ـ أو دخل الجنة ـ» فسأله رجل ما الكبائر؟ فقال «الشرك بالله ، وقتل نفسه مسلمة ، والفرار يوم الزحف» ورواه أحمد أيضا ، والنسائي من غير وجه عن بقية.

حديث آخر : روى ابن مردويه في تفسيره من طريق سليمان بن داود اليماني ـ وهو ضعيف ـ عن الزهري ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه ، عن جده ، قال : كتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والسنن والديات ، وبعث به مع عمرو بن حزم قال : وكان في الكتاب «إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة : إشراك بالله ، وقتل النفس المؤمنة بغير حق ، والفرار في سبيل الله يوم الزحف ، وعقوق الوالدين ، ورمي المحصنة ، وتعلم السحر ، وأكل الربا وأكل مال اليتيم».

حديث آخر فيه ذكر شهادة الزور : قال الإمام أحمد (٢) حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، حدثني عبيد الله بن أبي بكر ، قال : سمعت أنس بن مالك : قال : ذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الكبائر ، أو سئل عن الكبائر ، فقال «الشرك بالله ، وقتل النفس ، وعقوق الوالدين» ، وقال : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قال : قول الزور ـ أو شهادة الزور ـ» قال شعبة : أكبر ظني أنه قال : شهادة الزور. أخرجاه من حديث شعبة ، به. وقد رواه ابن مردويه من طريقين آخرين غريبين عن أنس بنحوه.

حديث آخر : أخرجه الشيخان من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه ، قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا : بلى يا رسول الله. قال «الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين» وكان متكئا ، فجلس فقال «ألا وشهادة الزور ، ألا وقول الزور» فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت (٣).

__________________

(١) مسند أحمد ٥ / ٤١٣.

(٢) مسند أحمد ٣ / ١٣١.

(٣) صحيح البخاري (أدب باب ٦) وصحيح مسلم (إيمان حديث ١٤٣ و ١٤٤)

٢٤٠