تفسير القرآن العظيم - ج ٢

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٠

تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) (١٢)

يقول تعالى : ولكم أيها الرجال نصف ما ترك أزواجكم إذا متن من غير ولد ، فإن كان لهن ولد ، فلكم الربع مما تركن من بعد الوصية أو الدين. وقد تقدم أن الدين مقدم على الوصية ، وبعده الوصية ثم الميراث ، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء وحكم أولاد البنين وإن سفلوا حكم أولاد الصلب ثم قال (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) إلى آخره وسواء في الربع أو الثمن الزوجة والزوجتان الاثنتان والثلاث والأربع يشتركن فيه. وقوله : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ) إلخ الكلام عليه كما تقدم.

وقوله تعالى : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) الكلالة مشتقة من الإكليل ، وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه ، والمراد هنا من يرثه من حواشيه لا أصوله ولا فروعه ، كما روى الشعبي عن أبي بكر الصديق أنه سئل عن الكلالة ، فقال : أقول فيها برأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه ، الكلالة من لا ولد له ولا والد ، فلما ولي عمر قال : إني لأستحي أن أخالف أبا بكر في رأي رآه ، رواه ابن جرير (١) وغيره.

وقال ابن أبي حاتم في تفسيره : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد عن سفيان ، عن سليمان الأحول ، عن طاوس ، قال : سمعت ابن عباس يقول : كنت آخر الناس عهدا بعمر ، فسمعته يقول : القول ما قلت وما قلت وما قلت ، قال : الكلالة من لا ولد له ولا والد وهكذا قال علي وابن مسعود وصح عن غير وجه عن ابن عباس وزيد بن ثابت ، وبه يقول الشعبي والنخعي والحسن وقتادة وجابر بن زيد والحكم ، وبه يقول أهل المدينة وأهل الكوفة والبصرة ، وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف ، بل جميعهم ، وقد حكى الإجماع عليه غير واحد ، وورد فيه حديث مرفوع ، قال أبو الحسين بن اللبان وقد روي عن ابن عباس ما يخالف ذلك ، وهو أنه من لا ولد له ، والصحيح عنه الأول ، ولعل الراوي ما فهم عنه ما أراد.

وقوله تعالى : (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) أي من أم كما هو في قراءة بعض السلف ، منهم سعد بن أبي وقاص ، وكذا فسرها أبو بكر الصديق فيما رواه قتادة عنه (فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) وإخوة الأم يخالفون بقية الورثة من وجوه [أحدها] أنهم يرثون مع من أدلوا به ، وهي الآم. [الثاني] أن ذكورهم وإناثهم في الميراث سواء. [الثالث] أنهم لا يرثون إلا إن كان ميتهم يورث كلالة ، فلا يرثون مع أب ولا جد ولا ولد

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٦٢٥.

٢٠١

ولا ولد ابن. [الرابع] أنهم لا يزادون على الثلث ، وإن كثر ذكورهم وإناثهم.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب ، أخبرنا يونس عن الزهري ، قال : قضى عمر أن ميراث الإخوة من الأم بينهم للذكر مثل الأنثى ، قال الزهري : ولا أرى عمر قضى بذلك حتى علم بذلك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لهذه الآية هي التي قال الله تعالى فيها (فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ).

واختلف العلماء في المسألة المشتركة ، وهي زوج وأم أو جدة واثنان من ولد الأم وواحد أو أكثر من ولد الأبوين ، فعلى قول الجمهور للزوج النصف ، وللأم أو الجدة السدس ولولد الأم الثلث ويشاركهم فيه ولد الأب والأم بما بينهم من القدر المشترك وهو إخوة الأم ، وقد وقعت هذه المسألة في زمن أمير المؤمنين عمر ، فأعطى الزوج النصف ، والأم السدس ، وجعل الثلث لأولاد الأم ، فقال له أولاد الأبوين : يا أمير المؤمنين ، هب أن أبانا كان حمارا ، ألسنا من أم واحدة؟ فشرك بينهم وصح التشريك عنه وعن عثمان ، وهو إحدى الروايتين عن ابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس رضي الله عنهم ، وبه يقول سعيد بن المسيب وشريح القاضي ومسروق وطاوس ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز والثوري وشريك ، وهو مذهب مالك والشافعي وإسحاق بن راهويه ، وكان علي بن أبي طالب لا يشرك بينهم ، بل يجعل الثلث لأولاد الأم ، ولا شيء لأولاد الأبوين ، والحالة هذه لأنهم عصبة. وقال وكيع بن الجراح : لم يختلف عنه في ذلك. وهذا قول أبي بن كعب وأبي موسى الأشعري. وهو المشهور عن ابن عباس. وهو مذهب الشعبي وابن أبي ليلى وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد وزفر بن الهذيل والإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن آدم ونعيم بن حماد وأبي ثور وداود بن علي الظاهري ، واختاره أبو الحسين بن اللبان الفرضي رحمه‌الله في كتابه الإيجاز.

وقوله : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) أي لتكون وصيته على العدل لا على الإضرار والجور والحيف بأن يحرم بعض الورثة أو ينقصه ، أو يزيده على ما قدّر الله له من الفريضة ، فمن سعى في ذلك ، كان كمن ضاد الله في حكمته ، وقسمته. ولهذا قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو النضر الدمشقي الفراديسي ، حدثنا عمر بن المغيرة عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «الإضرار في الوصية من الكبائر» وكذا رواه ابن جرير (١) من طريق عمر بن المغيرة هذا ، وهو أبو حفص بصري سكن المصيصة ، قال أبو القاسم بن عساكر : ويعرف بمفتي المساكين ، وروى عنه غير واحد من الأئمة ، وقال فيه أبو حاتم الرازي : هو شيخ ، وقال علي بن المديني هو مجهولا لا أعرفه ، لكن رواه النسائي في

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٦٣١. وفيه «الضرار» في موضع «الإضرار».

٢٠٢

سننه عن علي بن حجر عن علي بن مسهر ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس موقوفا «الإضرار في الوصية من الكبائر» وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج ، عن عائذ بن حبيب ، عن داود بن أبي هند ، ورواه ابن جرير من حديث جماعة من الحفاظ عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس موقوفا ، وفي بعضها : ويقرأ ابن عباس (غَيْرَ مُضَارٍّ). قال ابن جرير : والصحيح الموقوف.

ولهذا اختلف الأئمة في الإقرار للوارث ، هل هو صحيح أم لا؟ على قولين [أحدهما] لا يصح لأنه مظنة التهمة أن يكون قد أوصى له بصيغة الإقرار. وقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» (١). وهذا مذهب مالك وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة ، والقول القديم للشافعي رحمهم‌الله ، وذهب في الجديد إلى أنه يصح الإقرار. وهو مذهب طاوس وعطاء والحسن وعمر بن عبد العزيز وهو اختيار أبي عبد الله البخاري في صحيحه ، واحتج بأن رافع بن خديج أوصى أن لا تكشف الفزارية عما أغلق عليه بابها ، قال: وقال بعض الناس لا يجوز إقراره لسوء الظن به للورثة ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث» وقال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [النساء : ٥٨] فلم يخص وارثا ولا غيره ، انتهى ما ذكره. فمتى كان الإقرار صحيحا مطابقا لما في نفس الأمر ، جرى فيه هذا الخلاف ، ومتى كان حيلة ووسيلة إلى زيادة بعض الورثة ونقصان بعضهم ، فهو حرام بالإجماع وبنص هذه الآية الكريمة (غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ). ثم قال تعالى :

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) (١٤)

أي هذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قربهم من الميت واحتياجهم إليه وفقدهم له عند عدمه ، هي حدود الله ، فلا تعتدوها ولا تجاوزوها ، ولهذا قال (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي فيها فلم يزد بعض الورثة ولم ينقص بعضها بحيلة ووسيلة ، بل تركهم على حكم الله وفريضته وقسمته (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) أي لكونه غير ما حكم الله به وضاد الله في حكمه ، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به ،

__________________

(١) صحيح البخاري (وصايا باب ٦) وسنن أبي داود (وصايا باب ٦). وسنن الترمذي (وصايا باب ٥) وسنن النسائي (وصايا باب ٥) وسنن ابن ماجة (وصايا باب ٦)

٢٠٣

ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم ـ قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن أيوب عن أشعث بن عبد الله ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة ، فإذا أوصى وحاف في وصيته فيختم بشر عمله فيدخل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة ، فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة» قال : ثم يقول أبو هريرة ، اقرءوا إن شئتم (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ ـ إلى قوله ـ عَذابٌ مُهِينٌ) قال أبو داود (٢) في باب الإضرار في الوصية من سننه : حدثنا عبدة بن عبد الله ، أخبرنا عبد الصمد ، حدثنا نصر بن علي الحدّاني ، حدثنا الأشعث بن عبد الله بن جابر الحداني ، حدثني شهر بن حوشب أن أبا هريرة حدثه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت ، فيضارّان في الوصية ، فتجب لهما النار» وقال قرأ عليّ أبو هريرة من هاهنا (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) ـ حتى بلغ ـ (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [النساء : ١٢] وهكذا رواه الترمذي وابن ماجة من حديث ابن عبد الله بن جابر الحداني به ، وقال الترمذي : حسن غريب ، وسياق الإمام أحمد أتم وأكمل.

(وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) (١٦)

كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا ثبت زناها بالبينة العادلة ، حبست في بيت فلا تمكن من الخروج منه إلى أن تموت ، ولهذا قال (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) يعني الزنا (مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ، فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك ، قال ابن عباس رضي الله عنه : كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور ، فنسخها بالجلد أو الرجم ، وكذا روى عن عكرمة ، وسعيد بن جبير والحسن وعطاء الخراساني وأبي صالح وقتادة وزيد بن أسلم والضحاك ، أنها منسوخة ، وهو أمر متفق عليه.

قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا سعيد عن قتادة ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن عبادة بن الصامت ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل عليه الوحي ، أثر عليه ، وكرب لذلك ، وتربّد وجهه ، فأنزل الله عزوجل عليه ذات يوم ، فلما سري عنه ، قال : «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا ، الثيب بالثيب ، والبكر بالبكر ، الثيب جلد مائة

__________________

(١) مسند أحمد ٢ / ٢٧٨.

(٢) سنن أبي داود (وصايا باب ٣)

(٣) مسند أحمد ٥ / ٣١٨.

٢٠٤

ورجم بالحجارة ، والبكر جلد مائة ثم نفي سنة» ، وقد رواه مسلم وأصحاب السنن من طرق عن قتادة ، عن الحسن ، عن حطان ، عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولفظه «خذوا عني خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا ، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. وهكذا رواه أبو داود الطيالسي عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن عبادة ، أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا نزل عليه الوحي ، عرف ذلك في وجهه ، فلما أنزلت (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) فلما ارتفع الوحي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خذوا قد جعل الله لهن سبيلا ، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة».

وقد روى الإمام أحمد (١) أيضا هذا الحديث عن وكيع بن الجراح ، حدثنا الفضل بن دلهم عن الحسن عن قبيصة بن حريث ، عن سلمة بن المحبق ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خذوا عني خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا ، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم». وكذا رواه أبو داود (٢) مطولا من حديث الفضل بن دلهم ، ثم قال : وليس هو بالحافظ ، كان قصابا بواسط.

حديث آخر قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا عباس بن حمدان ، حدثنا أحمد بن داود حدثنا عمرو بن عبد الغفار ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي ، عن مسروق ، عن أبي كعب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «البكران يجلدان وينفيان ، والثيبان يجلدان ويرجمان ، والشيخان يرجمان» هذا حديث غريب من هذا الوجه ـ وروى الطبراني من طريق ابن لهيعة عن أخيه عيسى بن لهيعة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت سورة النساء ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا حبس بعد سورة النساء». وقد ذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى القول بمقتضى هذا الحديث ، وهو الجمع بين الجلد والرجم في حق الثيب الزاني ، وذهب الجمهور إلى أن الثيب الزاني إنما يرجم فقط من غير جلد ، قالوا : لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجم ماعزا (٣) والغامدية واليهوديين ، ولم يجلدهم قبل ذلك ، فدل على أن الرجم ليس بحتم ، بل هو منسوخ على قولهم ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) أي واللذان يأتيان الفاحشة فآذوهما ، قال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وغيرهما : أي بالشتم والتعيير والضرب بالنعال ، وكان الحكم كذلك ، حتى نسخه الله بالجلد أو الرجم ، وقال عكرمة وعطاء والحسن وعبد الله بن كثير : نزلت في الرجل والمرأة إذا زنيا. وقال السدي : نزلت في الفتيان من قبل أن

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ٤٧٦.

(٢) سنن أبي داود (حدود باب ٢٣)

(٣) هو ما عز بن مالك. انظر قصته في سنن أبي داود (حدود باب ٢٣)

٢٠٥

يتزوجوا. وقال مجاهد : نزلت في الرجلين إذا فعلا ـ لا يكني ، وكأنه يريد اللواط ـ والله أعلم ، وقد روى أهل السنن من حديث عمرو بن أبي عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط ، فاقتلوا الفاعل والمفعول به». وقوله : (فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا) أي أقلعا ونزعا عما كانا عليه وصلحت أعمالهما وحسنت ، (فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) أي لا تعنفوهما بكلام قبيح بعد ذلك ، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له (إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً). وقد ثبت في الصحيحين «إذا زنت أمة أحدكم ، فليجلدها الحد ولا يثرب عليها» أي ثم لا يعيرها بما صنعت بعد الحد الذي هو كفارة لما صنعت.

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٨)

يقول سبحانه وتعالى : إنما يتقبل الله التوبة ممن عمل السوء بجهالة ثم يتوب ولو قبل معاينة الملك روحه قبل الغرغرة. قال مجاهد وغير واحد : كل من عصى الله خطأ أو عمدا ، فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب ، وقال قتادة عن أبي العالية أنه كان يحدث أن أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يقولون : كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة ، رواه ابن جرير (١). وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة ، قال : اجتمع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرأوا أن كل شيء عصي الله به ، فهو جهالة عمدا كان أو غيره. وقال ابن جريج : أخبرني عبد الله بن كثير عن مجاهد ، قال : كل عامل بمعصية الله فهو جاهل حين عملها قال ابن جريج : وقال لي عطاء بن أبي رباح ، نحوه. وقال أبو صالح عن ابن عباس : من جهالته عمل السوء ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (٢) (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) قال : ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت. وقال الضحاك (٣) : ما كان دون الموت فهو قريب. وقال قتادة والسدي : ما دام في صحته ، وهو مروي عن ابن عباس. وقال الحسن البصري (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) ، ما لم يغرغر. وقال عكرمة : الدنيا كلها قريب.

ذكر الأحاديث في ذلك :

قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا علي بن عياش ، وعصام بن خالد ، قالا : حدثنا ابن ثوبان عن

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٦٤٠.

(٢) تفسير الطبري ٣ / ٦٤٢.

(٣) تفسير الطبري ٣ / ٦٤٣.

(٤) مسند أحمد ٢ / ١٣٢.

٢٠٦

أبيه ، عن مكحول ، عن جبير بن نفير ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» رواه الترمذي وابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان به ، وقال الترمذي : حسن غريب. ووقع في سنن ابن ماجة ، عن عبد الله بن عمرو وهو وهم إنما هو عبد الله بن عمر بن الخطاب.

حديث آخر : قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن معمر ، حدثنا عبد الله بن الحسن الخراساني ، حدثنا يحيى بن عبد الله البابلتي ، حدثنا أيوب بن نهيك الحلبي ، سمعت عطاء بن أبي رباح ، قال : سمعت عبد الله بن عمر ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «ما من عبد مؤمن يتوب قبل الموت بشهر إلا قبل الله منه وأدنى من ذلك ، وقبل موته بيوم وساعة يعلم الله منه التوبة والإخلاص إليه إلا قبل منه».

حديث آخر : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة عن إبراهيم بن ميمونة ، أخبرني رجل من ملحان يقال له أيوب قال : سمعت عبد الله بن عمر يقول : من تاب قبل موته بعام تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بشهر تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بجمعة تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه ، فقلت له : إنما قال الله (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) فقال : إنما أحدثك ما سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهكذا رواه أبو داود الطيالسي وأبو عمر الحوضي وأبو عامر العقدي عن شعبة.

حديث آخر : قال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسين بن محمد حدثنا محمد بن مطرف ، عن زيد بن اسلم ، عن عبد الرحمن بن البيلماني ، قال : اجتمع أربعة من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أحدهم سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم» ، فقال الآخر: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : نعم. قال : وأنا سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم» ، فقال الثالث : أنت سمعت هذا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : نعم. قال : وأنا سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة» ، قال الرابع : أنت سمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : نعم. قال : وأنا سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر بنفسه». وقد رواه سعيد بن منصور عن الدراوردي ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن السلماني ، فذكر قريبا منه.

حديث آخر : قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد ، حدثنا عمران بن عبد الرحيم ، حدثنا عثمان بن الهيثم ، حدثنا عوف عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر».

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ٤٢٥.

٢٠٧

أحاديث في ذلك مرسلة :

قال ابن جرير (١) : حدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي عن عوف ، عن الحسن ، قال: بلغني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» ، هذا مرسل حسن عن الحسن البصري رحمه‌الله. وقد قال ابن جرير أيضا رحمه‌الله : حدثنا ابن بشار ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي عن قتادة ، عن العلاء بن زياد ، عن أبي أيوب بشير بن كعب أن نبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» ، وحدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الأعلى عن سعيد ، عن قتادة ، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ، فذكر مثله.

حديث آخر : قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا أبو داود ، حدثنا عمران عن قتادة ، قال : كنا عند أنس بن مالك وثم أبو قلابة ، فحدث أبو قلابة فقال : إن الله تعالى لما لعن إبليس سأله النظرة ، فقال : وعزتك وجلالك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح ، فقال الله عزوجل : وعزتي لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح. وقد ورد هذا في حديث مرفوع رواه الإمام أحمد (٢) في مسنده من طريق عمرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العتواري ، كلاهما عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «قال إبليس : وعزتك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، فقال الله عزوجل : وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني» فقد دلت هذه الأحاديث على أن من تاب إلى الله عزوجل وهو يرجو الحياة ، فإن توبته مقبولة ، ولهذا قال تعالى (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) وأما متى وقع الإياس من الحياة ، وعاين الملك ، وحشرجت الروح في الحلق وضاق بها الصدر ، وبلغت الحلقوم ، وغرغرت النفس صاعدة في الغلاصم ، فلا توبة مقبولة حينئذ ، ولات حين مناص ، ولهذا قال (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) وهذا كما قال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ) [غافر : ٨٤] ، وكما حكم تعالى بعدم توبة أهل الأرض إذا عاينوا الشمس طالعة من مغربها في قوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) [الأنعام : ١٥٨] ، وقوله (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) يعني أن الكافر إذا مات على كفره وشركه لا ينفعه ندمه ولا توبته ، ولا يقبل منه فدية ولو بملء الأرض.

قال ابن عباس وأبو العالية والربيع بن أنس (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) قالوا : نزلت في

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٦٤٣.

(٢) مسند أحمد ٣ / ٤١.

٢٠٨

أهل الشرك. وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا سليمان بن داود ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، قال : حدثني أبي عن مكحول أن عمر بن نعيم حدثه عن أسامة بن سلمان أن أبا ذر حدثهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «إن الله يقبل توبة عبده أو يغفر لعبده ما لم يقع الحجاب». قيل : وما وقوع الحجاب؟ قال «أن تخرج النفس وهي مشركة» ، ولهذا قال الله تعالى : (أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي موجعا شديدا مقيما.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١) وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) (٢٢)

قال البخاري (٢) : حدثنا محمد بن مقاتل ، حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا الشيباني عن عكرمة ، عن ابن عباس ، ـ قال الشيباني : وذكره أبو الحسن السوائي ، ولا أظنه ذكره إلا عن ابن عباس ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) قال : كانوا إذا مات الرجل ، كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاؤوا زوجوها ، وإن شاؤوا لم يزوجوها ، فهم أحق بها من أهلها ، فنزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) هكذا رواه البخاري وأبو داود والنسائي وابن مردويه وابن أبي حاتم من حديث أبي إسحاق الشيباني واسمه سليمان بن أبي سليمان ، عن عكرمة ، وعن أبي الحسن السوائي واسمه عطاء ، كوفي أعمى ، كلاهما عن ابن عباس بما تقدم.

وقال أبو داود (٣) : حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي ، حدثني علي بن حسين عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها ، فأحكم الله تعالى عن ذلك ، أي نهى عن ذلك ، تفرد به أبو داود.

وقد رواه غير واحد عن ابن عباس بنحو ذلك. فقال وكيع عن سفيان ، عن علي بن بذيمة،

__________________

(١) مسند أحمد ٥ / ١٧٤.

(٢) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب ٦)

(٣) سنن أبي داود (نكاح باب ٢٤)

٢٠٩

عن مقسم ، عن ابن عباس : كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها ، فجاء رجل فألقى عليها ثوبا كان أحق بها ، فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً). وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) قال : كان الرجل إذا مات وترك جارية ، ألقى عليها حميمه ثوبه فمنعها من الناس فإن كانت جميلة تزوجها ، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها ، وروى العوفي عنه : كان الرجل من أهل المدينة إذا مات حميم أحدهم ، ألقى ثوبه على امرأته ، فورث نكاحها ، ولم ينكحها أحد غيره ، وحبسها عنده حتى تفتدي منه بفدية ، فأنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً). وقال زيد بن أسلم في الآية : كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية ، ورث امرأته من يرث ماله ، وكان يعضلها حتى يرثها ، أو يزوجها من أراد ، وكان أهل تهامة يسيء الرجل صحبة المرأة حتى يطلقها ، ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها ، فنهى الله المؤمنين عن ذلك ، رواه ابن أبي حاتم.

وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن إسحاق ، حدثنا علي بن المنذر ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، عن أبيه ، قال : لما توفي أبو قيس بن الأسلت ، أراد ابنه أن يتزوج امرأته ، وكان لهم ذلك في الجاهلية ، فأنزل الله (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً).

ورواه ابن جرير (١) من حديث محمد بن فضيل به. ثم روى من طريق ابن جريج قال : أخبرني عطاء أن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل وترك امرأة ، حبسها أهله على الصبي يكون فيهم ، فنزلت (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) الآية. وقال ابن جريج : قال مجاهد : كان الرجل إذا توفي ، كان ابنه أحق بامرأته ينكحها إن شاء إذا لم يكن ابنها ، أو ينكحها من شاء أخاه أو ابن أخيه. وقال ابن جريج : قال عكرمة : نزلت في كبيشة بنت معن بن عاصم من الأوس ، توفي عنها أبو قيس بن الأسلت ، فجنح عليها ابنه ، فجاءت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، لا أنا ورثت زوجي ، ولا أنا تركت فأنكح ، فأنزل الله هذه الآية. وقال السدي عن أبي مالك : كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها ، جاء وليه فألقى عليها ثوبا ، فإن كان له ابن صغير ، أو أخ ، حبسها حتى يشب ، أو تموت فيرثها ، فإن هي انفلتت فأتت أهلها ولم يلق عليها ثوبا ، نجت ، فأنزل الله (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً). وقال مجاهد في هذه الآية : كان الرجل يكون في حجره اليتيمة هو يلي أمرها ، فيحسبها رجاء أن تموت امرأته فيتزوجها أو يزوجها ابنه ، رواه ابن أبي حاتم. ثم قال : وروي عن الشعبي وعطاء بن أبي رباح وأبي مجلز والضحاك والزهري وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان ، نحو ذلك. قلت : فالآية تعم ما كان يفعله أهل الجاهلية وما ذكره مجاهد ، ومن وافقه ، وكل ما كان فيه نوع من ذلك ،

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٦٤٨.

٢١٠

والله أعلم.

وقوله (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) أي لا تضارّوهن في العشرة ، لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه أو حقا من حقوقها عليك ، أو شيئا من ذلك على وجه القهر لها والاضطهاد. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) يقول : ولا تقهروهن (لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) يعني الرجل ، تكون له امرأة وهو كاره لصحبتها ، ولها عليه مهر فيضرها لتفتدي ، وكذا قال الضحاك وقتادة ، واختاره ابن جرير.

وقال ابن المبارك وعبد الرزاق : أخبرنا معمر ، قال أخبرني سماك بن الفضل عن ابن السلماني ، قال : نزلت هاتان الآيتان ، إحداهما في أمر الجاهلية ، والأخرى في أمر الإسلام قال عبد الله بن المبارك : يعني قوله (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) في الجاهلية ، (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) في الإسلام (١).

وقوله (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب والشعبي والحسن البصري ومحمد بن سيرين وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وعطاء الخراساني والضحاك وأبو قلابة وأبو صالح والسدي وزيد بن أسلم وسعيد بن أبي هلال (٢) : يعني بذلك الزنا ، يعني إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها ، وتضاجرها حتى تتركه لك ، وتخالعها ، كما قال تعالى في سورة البقرة : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) [البقرة : ٢٢٩].

وقال ابن عباس وعكرمة والضحاك : الفاحشة المبينة النشوز والعصيان ، واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله الزنا والعصيان ، والنشوز وبذاء اللسان ، وغير ذلك. يعني أن هذا كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه ويفارقها ، وهذا جيد ، والله أعلم.

وقد تقدم فيما رواه أبو داود منفردا به من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قال : وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت ، أو ترد إليه صداقها ، فأحكم الله عن ذلك ، أي نهى عن ذلك. قال عكرمة والحسن البصري : وهذا يقتضي أن يكون السياق كله كان في أمر الجاهلية ، ولكن نهي المسلمون عن فعله في الإسلام.

وقال عبد الرحمن بن زيد : كان العضل في قريش بمكة ينكح الرجل المرأة الشريفة ، فلعلها لا توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه ، فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد ، فإذا خطبها الخاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها قال : فهذا قوله (وَلا تَعْضُلُوهُنَ

__________________

(١) حديث عبد الرزاق عبد الله بن المبارك في تفسير الطبري ٣ / ٦٥٠.

(٢) الآثار عن هؤلاء في تفسير الطبري ٣ / ٦٥٢.

٢١١

لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ).

وقال مجاهد في قوله (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) هو كالعضل في سورة البقرة.

وقوله تعالى : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي طيبوا أقوالكم لهن ، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم كما تحب ذلك منها ، فافعل أنت بها مثله ، كما قال تعالى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة : ٢٢٨] وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي» وكان من أخلاقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه جميل العشرة دائم البشر ، يداعب أهله ، ويتلطف بهم ويوسعهم نفقته ، ويضاحك نساءه حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، يتودد إليها بذلك ، قالت : سابقني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسبقته ، وذلك قبل أن أحمل اللحم ، ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني ، فقال «هذه بتلك» ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها ، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد ، يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار ، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلا قبل أن ينام ، يؤانسهم بذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد قال الله تعالى (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب : ٢١] وأحكام عشرة النساء وما يتعلق بتفصيل ذلك موضعه كتب الأحكام ، ولله الحمد.

وقوله تعالى (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) أي فعسى أن يكون صبركم مع إمساككم لهن وكراهتهن فيه ، خير كثير لكم في الدنيا والآخرة ، كما قال ابن عباس في هذه الآية : هو أن يعطف عليها فيرزق منها ولدا ، ويكون في ذلك الولد خير كثير ، وفي الحديث الصحيح «لا يفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقا رضي منها آخر».

وقوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) أي إذا أراد أحدكم أن يفارق امرأة ويستبدل مكانها غيرها فلا يأخذ مما كان أصدق الأولى شيئا ولو كان قنطارا من المال ، وقد قدمنا في سورة آل عمران الكلام على القنطار بما فيه كفاية عن إعادته هاهنا. وفي هذه الآية دلالة على جواز الإصداق بالمال الجزيل ، وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق ، ثم رجع عن ذلك ، كما قال الإمام أحمد (١) : حدثنا إسماعيل ، حدثنا سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين ، قال : نبئت عن أبي العجفاء السلمي ، قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : ألا لا تغلوا في صداق النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله ، كان أولادكم بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ما أصدق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية ، وإن كان

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٤٠ ـ ٤١.

٢١٢

الرجل ليبتلى بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه وحتى يقول : كلفت إليك علق القربة ، ثم رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق عن محمد بن سيرين عن أبي العجفاء واسمه هرم بن مسيب البصري ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

طريق أخرى عن عمر : قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا أبي عن ابن إسحاق ، حدثني محمد بن عبد الرحمن عن المجالد بن سعيد ، عن الشعبي ، عن مسروق ، قال : ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : أيها الناس ، ما إكثاركم في صدق النساء. وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وإنما الصّدقات فيما بينهم أربعمائة درهم ، فما دون ذلك ، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها. فلا أعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم. قال : ثم نزل ، فاعترضته امرأة من قريش فقالت : يا أمير المؤمنين ، نهيت الناس أن يزيدوا النساء صداقهم على أربعمائة درهم ، قال : نعم ، فقالت : أما سمعت ما أنزل الله في القرآن؟ قال : وأي ذلك؟ فقالت : أما سمعت الله يقول (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) الآية؟ قال : فقال : اللهم غفرا ، كل الناس أفقه من عمر. ثم رجع فركب المنبر فقال : إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صداقهن على أربعمائة درهم ، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب. قال أبو يعلى : وأظنه قال : فمن طابت نفسه فليفعل ، إسناده جيد قوي.

طريق أخرى : قال ابن المنذر : حدثنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق ، عن قيس بن ربيع ، عن أبي حصين ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، قال : قال عمر بن الخطاب : لا تغالوا في مهور النساء ، فقالت امرأة : ليس ذلك لك يا عمر ، إن الله يقول : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) ـ من ذهب ـ قال : وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود ، فلا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئا ، فقال عمر : إن امرأة خاصمت عمر فخصمته.

طريق أخرى عن عمر فيها انقطاع : قال الزبير بن بكار : حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن جدي قال : قال عمر بن الخطاب : لا تزيدوا في مهور النساء وإن كانت بنت ذي الغصّة ـ يعني يزيد بن الحصين الحارثي ـ فمن زاد ، ألقيت الزيادة في بيت المال. فقالت امرأة من صفة النساء طويلة ، في أنفها فطس : ما ذاك لك. قال : ولم؟ قالت : لأن الله قال (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) الآية ، فقال عمر : امرأة أصابت ورجل أخطأ.

ولهذا قال منكرا (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) أي وكيف تأخذون الصداق من المرأة وقد أفضيت إليها وأفضت إليك؟ قال ابن عباس ومجاهد والسدي وغير واحد : يعني بذلك الجماع ـ وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال للمتلاعنين بعد فراغهما من تلاعنهما «الله يعلم أن أحدكما كاذب. فهل منكما تائب؟» قالها ثلاثا ، فقال الرجل : يا رسول الله مالي؟ ـ يعني ما أصدقها ـ قال «لا مال لك. إن كنت صدقت عليها فهو

٢١٣

بما استحللت من فرجها ، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها». في سنن أبي داود وغيره عن بصرة بن أكتم أنه تزوج امرأة بكرا في خدرها ، فإذا هي حامل من الزنا ، فأتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ذلك له ، فقضى لها بالصداق ، وفرق بينهما ، وأمر بجلدها ، وقال «الولد عبد لك. فالصداق في مقابلة البضع» ولهذا قال تعالى (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ).

وقال تعالى : (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) روي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير ، أن المراد بذلك العقد. وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس في قوله (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) قال : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. قال ابن أبي حاتم : وروي عن عكرمة ومجاهد وأبي العالية والحسن وقتادة ويحيى بن أبي كثير والضحاك والسدي ، نحو ذلك. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في الآية : هو قوله «أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله» فإن كلمة الله هي التشهد في الخطبة ، قال : وكان فيما أعطي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة أسري به ، قال له «جعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي» رواه ابن أبي حاتم ، وفي صحيح مسلم عن جابر في خطبة حجة الوداع أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فيها «واستوصوا بالنساء خيرا فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله» (١).

وقال تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) الآية ، يحرم الله تعالى زوجات الآباء تكرمة لهم ، وإعظاما واحتراما أن توطأ من بعده ، حتى إنها لتحرم عن الابن بمجرد العقد عليها ، وهذا أمر مجمع عليه. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا قيس بن الربيع حدثنا أشعث بن سوار عن عدي بن ثابت ، عن رجل من الأنصار ، قال : لما توفي أبو قيس ـ يعني ابن الأسلت ـ وكان من صالحي الأنصار ، فخطب ابنه قيس امرأته ، فقالت : إنما أعدك ولدا وأنت من صالحي قومك ، ولكن آتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستأمره فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : إن أبا قيس توفي ، فقال «خيرا» ثم قالت : إن ابنه قيسا خطبني ، وهو من صالحي قومه. وإنما كنت أعده ولدا فما ترى؟ فقال لها «ارجعي إلى بيتك» ، قال : فنزلت (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) الآية ، وقال ابن جرير (٢) : حدثنا القاسم ، حدثنا حسين ، حدثنا حجاج عن ابن جريج ، عن عكرمة في قوله (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) قال : نزلت في أبي قيس بن الأسلت خلف على أم عبيد الله بنت صخر ، وكانت تحت الأسلت أبيه وفي الأسود بن خلف ، وكان خلف على ابنة أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار ، وكان عند أبيه خلف ، وفي فاختة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد كانت عند أمية بن خلف ، فخلف عليها صفوان بن أمية.

__________________

(١) صحيح مسلم (حج حديث ١٤٧)

(٢) تفسير الطبري ٣ / ٦٦٠.

٢١٤

وقد زعم السهيلي أن نكاح نساء الآباء كان معمولا به في الجاهلية ، ولهذا قال (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) كما قال (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) [النساء : ٢٣] قال : وقد فعل ذلك كنانة بن خزيمة ، تزوج بامرأة أبيه ، فأولدها ابنه النضر بن كنانة ، قال : وقد قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم «ولدت من نكاح لا من سفاح» قال : فدل على أنه كان سائغا لهم ذلك ، فإن أراد أنهم كانوا يعدونه نكاحا فيما بينهم. فقد قال ابن جرير (١) : حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي ، حدثنا قراد ، حدثنا ابن عيينة عن عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين ، فأنزل الله تعالى (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ)(وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) ، وهكذا قال عطاء وقتادة ، ولكن فيما نقله السهيلي من قصة كنانة نظر ، والله أعلم ، وعلى كل تقدير فهو حرام في هذه الآية ، مبشع غاية التبشع ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) وقال (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) [الأنعام : ١٥١] وقال (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) [الإسراء : ٣٢] فزاد هاهنا (وَمَقْتاً) أي بغضا أي هو أمر كبير في نفسه ، ويؤدي إلى مقت الابن أباه بعد أن يتزوج بامرأته ، فإن الغالب أن من تزوج بامرأة يبغض من كان زوجها قبله ، ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة لأنهن أمهات لكونهن زوجات النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو كالأب ، بل حقه أعظم من حق الآباء بالإجماع ، بل حبه مقدم على حب النفوس صلوات الله وسلامه عليه.

وقال عطاء بن أبي رباح في قوله (وَمَقْتاً) أي يمقت الله عليه ، (وَساءَ سَبِيلاً) أي وبئس طريقا لمن سلكه من الناس ، فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه ، فيقتل ويصير ماله فيئا لبيت المال. كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق عن البراء بن عازب ، عن خاله أبي بردة ـ وفي رواية : ابن عمر ، وفي رواية : عن عمه ـ أنه بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ويأخذ ماله. وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا هشيم ، حدثنا أشعث عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب ، قال : مر بي عمي الحارث بن عمرو ومعه لواء قد عقده له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت له : أي عم أين بعثك النبي؟ قال : بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه.

مسألة : وقد أجمع العلماء على تحريم من وطئها الأب بتزويج أو ملك أو شبهة ، واختلفوا فيمن باشرها بشهوة دون الجماع ، أو نظر إلى ما لا يحل له النظر إليه منها لو كانت أجنبية ، فعن الإمام أحمد رحمه‌الله أنها تحرم أيضا بذلك ، وقد روى الحافظ بن عساكر في ترجمة خديج الحمصي مولى معاوية قال : اشترى لمعاوية جارية بيضاء جميلة ، فأدخلها عليه مجردة

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) مسند أحمد ٤ / ٢٢٩.

٢١٥

وبيده قضيب ، فجعل يهوي به إلى متاعها ، ويقول : هذا المتاع لو كان له متاع! اذهب بها إلى يزيد بن معاوية ، ثم قال : لا ، ادع لي ربيعة بن عمرو الجرسي ، وكان فقيها ، فلما دخل عليه قال: إن هذه أتيت بها مجردة فرأيت منها ذاك وذاك ، وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد ، فقال : لا تفعل يا أمير المؤمنين فإنها لا تصلح له ، ثم قال : نعم ما رأيت ، ثم قال ادع لي عبد الله بن مسعدة الفزاري ، فدعوته وكان آدم شديد الأدمة ، فقال : دونك هذه بيض بها ولدك ، قال : وكان عبد الله بن مسعدة هذا وهبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابنته فاطمة فربته ، ثم أعتقته ، ثم كان بعد ذلك مع معاوية من الناس على علي رضي الله عنه.

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (٢٤)

هذه الآية الكريمة هي آية تحريم المحارم من النسب وما يتبعه من الرضاع والمحارم بالصهر ، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : حرمت عليكم سبع نسبا وسبع صهرا ، وقرأ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ) الآية ؛ وحدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا سفيان عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء عن عمير ، مولى ابن عباس ، عن ابن عباس قال : يحرم من النسب سبع ومن الصهر سبع ، ثم قرأ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ) فهن النسب.

وقد استدل جمهور العلماء على تحريم المخلوقة من ماء الزاني عليه بعموم قوله تعالى : (وَبَناتُكُمْ) فإنها بنت ، فتدخل في العموم كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل ، وقد حكي عن الشافعي شيء في إباحتها لأنها ليست بنتا شرعية ، فكما لم تدخل في قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء : ١١] فإنها لا ترث بالإجماع ، فكذلك لا تدخل في هذه الآية ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) أي كما يحرم عليكم

٢١٦

أمك التي ولدتك ، كذلك يحرم عليك أمك التي أرضعتك ، ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث مالك بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة أم المؤمنين ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الرضاعة تحرّم ما تحرّم الولادة» (١) ، وفي لفظ لمسلم «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب».

وقال بعض الفقهاء : كل ما يحرم بالنسب يحرم بالرضاعة إلا في أربع صور ، وقال بعضهم: ست صور هي مذكورة في كتب الفروع والتحقيق أنه لا يستثنى شيء من ذلك ، لأنه يوجد مثل بعضها من النسب ، وبعضها إنما يحرم من جهة الصهر فلا يرد على الحديث شيء أصلا البتة ، ولله الحمد وبه الثقة.

ثم اختلف الأئمة في عدد الرضعات المحرمة ، فذهب ذاهبون إلى أنه يحرم مجرد الرضاع لعموم هذه الآية ، وهذا قول مالك ، ويروى عن ابن عمر ، وإليه ذهب سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري. وقال آخرون : لا يحرم أقل من ثلاث رضعات ، لما ثبت في صحيح مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه ، عن عائشة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «لا تحرم المصة ولا المصتان» (٢) وقال قتادة ، عن أبي الخليل ، عن عبد الله بن الحارث ، عن أم الفضل ، قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان ، والمصة ولا المصتان» ، وفي لفظ آخر «لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان» رواه مسلم. وممن ذهب إلى هذا القول : الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ، وأبو عبيد وأبو ثور ، وهو مروي عن علي وعائشة وأم الفضل وابن الزبير وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير رحمهم‌الله.

وقال آخرون : لا يحرم أقل من خمس رضعات ، لما ثبت في صحيح مسلم من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : كان فيما أنزل من القرآن «عشر رضعات معلومات يحرمن» ثم نسخن بخمس معلومات ، فتوفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن (٣) ، وروى عبد الرزاق عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، نحو ذلك. وفي حديث سهلة بنت سهيل ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرها أن ترضع سالما مولى أبي حذيفة خمس رضعات ، وكانت عائشة تأمر من يريد أن يدخل عليها أن يرضع خمس رضعات ، وبهذا قال الشافعي وأصحابه.

ثم ليعلم أنه لا بد أن تكون الرضاعة في سن الصغر دون الحولين على قول الجمهور. وكما قدمنا الكلام على هذه المسألة في سورة البقرة عند قوله (يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ

__________________

(١) صحيح البخاري (نكاح باب ٢٠ و ٢١) وصحيح مسلم (رضاع حديث ١) وموطأ مالك (رضاع حديث ١)

(٢) صحيح مسلم (رضاع حديث ١٧ و ٢٠ و ٢٣)

(٣) صحيح مسلم (رضاع حديث ٢٥)

٢١٧

أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) [البقرة : ٢٣٣] ثم اختلفوا هل يحرم لبن الفحول ، كما هو قول جمهور الأئمة الأربعة وغيرهم ، أو إنما يختص الرضاع بالأم فقط ، ولا ينتشر إلى ناحية الأب ، كما هو قول لبعض السلف؟ على قولين ، تحرير هذا كله في كتاب الأحكام الكبير.

وقوله (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) ، أما أم المرأة فإنها تحرم بمجرد العقد على ابنتها ، سواء دخل بها أو لم يدخل ، وأما الربيبة وهي بنت المرأة فلا تحرم بمجرد العقد على أمها حتى يدخل ، فإن طلق الأم قبل الدخول بها جاز له أن يتزوج بنتها ، ولهذا قال (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) في تزويجهن ، فهذا خاص بالربائب وحدهن. وقد فهم بعضهم عود الضمير إلى الأمهات والربائب ، فقال : لا تحرم واحدة من الأم ولا البنت بمجرد العقد على الأخرى حتى يدخل بها ، لقوله (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ).

وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى عن سعيد ، عن قتادة ، عن خلاس بن عمرو ، عن علي رضي الله تعالى عنه ، في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها ، أيتزوج أمها؟ قال : هي بمنزلة الربيبة ، وحدثنا ابن بشار ، حدثنا يحيى بن سعيد عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن زيد بن ثابت ، قال : إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها. وفي رواية عن قتادة ، عن سعيد ، عن زيد بن ثابت ، أنه كان يقول : إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها ، فإذا طلقها قبل أن يدخل بها فإن شاء فعل. وقال ابن المنذر : حدثنا إسحاق عن عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني أبو بكر بن حفص عن مسلم بن عويمر الأجدع ، أن بكر بن كنانة أخبره أن أباه أنكحه امرأة بالطائف ، قال : فلم أجامعها حتى توفى عمي عن أمها ، وأمها ذات مال كثير ، فقال أبي : هل لك في أمها؟ قال : فسألت ابن عباس وأخبرته الخبر ، فقال : انكح أمها؟ قال : وسألت ابن عمر ، فقال : لا تنكحها ، فأخبرت أبي بما قالا ، فكتب إلى معاوية فأخبره بما قالا ، فكتب معاوية : إني لا أحل ما حرم الله ، ولا أحرم ما أحل الله ، وأنت وذاك والنساء سواها كثير. فلم ينه ولم يأذن لي فانصرف أبي عن أمها فلم ينكحها. وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن سماك بن الفضل عن رجل عن عبد الله بن الزبير ، قال : الربيبة والأم سواء لا بأس بها إذا لم يدخل بالمرأة ، وفي إسناده رجل مبهم لم يسم. وقال ابن جريج : أخبرني عكرمة بن خالد أن مجاهدا قال له (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) أراد بهما الدخول جميعا.

فهذا القول كما ترى مروي عن علي وزيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير ومجاهد وسعيد بن جبير وابن عباس ، وقد توقف فيه معاوية. وذهب إليه من الشافعية أبو الحسن أحمد بن محمد بن الصابوني فيما نقله الرافعي عن العبادي.

٢١٨

وقد روي عن ابن مسعود مثله ، ثم رجع عنه ، قال الطبراني : حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، حدثنا عبد الرزاق عن الثوري ، عن أبي فروة ، عن أبي عمرو الشيباني ، عن ابن مسعود : أن رجلا من بني كمخ من فزارة تزوج امرأة فرأى أمها فأعجبته. فاستفتى ابن مسعود ، فأمره أن يفارقها ثم تزوج أمها ، فتزوجها وولدت له أولادا ، ثم أتى ابن مسعود المدينة ، فسأل عن ذلك ، فأخبر أنها لا تحل له ، فلما رجع إلى الكوفة قال للرجل : إنها عليك حرام ففارقها.

وجمهور العلماء على أن الربيبة لا تحرم بالعقد على الأم بخلاف الأم ، فإنها تحرم بمجرد العقد. قال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن محمد بن هارون بن عزرة ، حدثنا عبد الوهاب عن سعيد ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه كان يقول : إذا طلق الرجل المرأة قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحل له أمها ، وروي أنه قال : إنها مبهمة ، فكرهها. ثم قال : وروي عن ابن مسعود وعمران بن حصين ومسروق وطاوس وعكرمة وعطاء والحسن ومكحول وابن سيرين وقتادة والزهري نحو ذلك. وهذا مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة ، وجمهور الفقهاء قديما وحديثا ، ولله الحمد والمنة.

قال ابن جرير (١) : والصواب قول من قال : الأم من المبهمات ، لأن الله لم يشترط معهن الدخول كما اشترطه مع أمهات الربائب ، مع أن ذلك أيضا إجماع من الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به متفقة عليه. وقد روي بذلك أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبر غير أن في إسناده نظرا ، وهو ما حدثني به المثنى ، حدثنا حبان بن موسى ، حدثنا ابن المبارك ، أخبرنا المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها ، دخل بالبنت أو لم يدخل ، وإذا تزوج بالأم فلم يدخل بها ثم طلقها ، فإن شاء تزوج الابنة» ، ثم قال : وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه ، فإن في إجماع الحجة على صحة القول به مستغنى عن الاستشهاد على صحته بغيره.

وأما قوله تعالى : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) فالجمهور على أن الربيبة حرام سواء كانت في حجر الرجل ، أو لم تكن في حجره ، قالوا : وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له ، كقوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) [النور : ٣٣]. وفي الصحيحين أن أم حبيبة قالت : يا رسول الله أنكح أختي بنت أبي سفيان ، وفي لفظ لمسلم عزة بنت أبي سفيان ، قال «أو تحبين ذلك»؟ قالت : نعم لست لك بمخلية ، وأحب من شاركني في خير أختي ، قال «فإن ذلك لا يحل لي». قالت : فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة ، قال «بنت أم سلمة»؟ قالت : نعم. قال «إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي ، إنها لبنت أخي من الرضاعة ، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة ، فلا تعرضن علي بناتكن

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٦٦٣.

٢١٩

ولا أخواتكن» وفي رواية للبخاري «إني لو لم أتزوج أم سلمة ما حلت لي» (١) ، فجعل المناط في التحريم مجرد تزوجه أم سلمة ، وحكم بالتحريم لذلك ، وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وجمهور الخلف والسلف.

وقد قيل : بأنه لا تحرم الربيبة إلا إذا كانت في حجر الرجل ، فإذا لم تكن كذلك فلا تحرم.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أنبأنا هشام ـ يعني ابن يوسف ـ عن ابن جريج ، حدثني إبراهيم بن عبيد بن رفاعة ، أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان ، قال : كانت عندي امرأة فتوفيت ، وقد ولدت لي فوجدت عليها ، فلقيني علي بن أبي طالب فقال : ما لك؟ فقلت : توفيت المرأة. فقال علي : لها ابنة؟ قلت : نعم وهي بالطائف. قال : كانت في حجرك؟ قلت : لا ، هي بالطائف قال : فانكحها ، قلت : فأين قول الله (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ)؟ قال : إنها لم تكن في حجرك إنما ذلك إذا كانت في حجرك.

هذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب على شرط مسلم ، وهو قول غريب جدا ، وإلى هذا ذهب داود بن علي الظاهري وأصحابه. وحكاه أبو القاسم الرافعي عن مالك رحمه‌الله ، واختاره ابن حزم ، وحكى لي شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي أنه عرض هذا على الشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية رحمه‌الله ، فاستشكله وتوقف في ذلك ، والله أعلم.

وقال ابن المنذر ، حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا الأثرم عن أبي عبيدة قوله (اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) ، قال : في بيوتكم ، وأما الربيبة في ملك اليمين فقد قال الإمام مالك بن أنس ، عن ابن شهاب : أن عمر بن الخطاب سئل عن المرأة وبنتها من ملك اليمين ، توطأ إحداهما بعد الأخرى؟ فقال عمر : ما أحب أن أخبرهما جميعا يريد أن أطأهما جميعا بملك يميني (٢) ، وهذا منقطع.

وقال سنيد بن داود في تفسيره : حدثنا أبو الأحوص ، عن طارق بن عبد الرحمن ، عن قيس ، قال : قلت لابن عباس : أيقع الرجل على امرأة وابنتها مملوكين له؟ فقال : أحلتهما آية وحرمتهما آية ، ولم أكن لأفعله. وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر رحمه‌الله : لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة وبنتها من ملك اليمين ، لأن الله حرم ذلك في النكاح ، قال (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ) وملك اليمين عندهم تبع للنكاح إلا ما روي عن عمر وابن عباس ، وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا من تبعهم.

__________________

(١) صحيح البخاري (نكاح باب ٢٠ ونفقات باب ١٦) وصحيح مسلم (رضاع حديث ١٥ و ١٦) وسنن أبي داود (نكاح باب ٦) وسنن ابن ماجة (نكاح باب ٣٤)

(٢) موطأ مالك (نكاح حديث ٣٣)

٢٢٠