تفسير القرآن العظيم - ج ٢

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٠

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (١)

يقول تعالى آمرا خلقه بتقواه ، وهي عبادته وحده لا شريك له ، ومنبها لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة ، وهي آدم عليه‌السلام (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) وهي حواء عليها‌السلام خلقت من ضلعه الأيسر ، من خلفه وهو نائم ، فاستيقظ فرآها فأعجبته ، فأنس إليها وأنست إليه.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن مقاتل ، حدثنا وكيع عن أبي هلال عن قتادة ، عن ابن عباس ، قال : خلقت المرأة من الرجل فجعل نهمتها في الرجل وخلق الرجل من الأرض فجعل نهمته في الأرض ، فاحبسوا نساءكم. وفي الحديث الصحيح : «إن المرأة خلقت من ضلع ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج».

وقوله : (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) أي وذرأ منهما أي من آدم وحواء رجالا كثيرا ونساء ، ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وصفاتهم وألوانهم ولغاتهم ، ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر.

ثم قال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) أي واتقوا الله بطاعتكم إياه. قال إبراهيم ومجاهد والحسن (الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) أي كما يقال : أسألك بالله وبالرحم ، وقال الضحاك : واتقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها ولكن بروها وصلوها ، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن والضحاك والربيع وغير واحد وقرأ بعضهم : والأرحام بالخفض (١) على العطف على الضمير في به أي تساءلون بالله وبالأرحام ، كما قال مجاهد وغيره.

وقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) أي هو مراقب لجميع أحوالكم وأعمالكم ، كما قال : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المجادلة : ٦]. وفي الحديث الصحيح «اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك» وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب. ولهذا ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب واحد وأم واحدة ليعطف بعضهم على بعض ، ويحننهم على ضعفائهم.

وقد ثبت في صحيح مسلم (٢) من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين

__________________

(١) هي قراءة إبراهيم النخعي وقتادة والأعمش وحمزة. انظر تفسير القرطبي ٥ / ٢.

(٢) صحيح مسلم (زكاة حديث ٦٩ ـ ٧٠)

١٨١

قدم عليه أولئك النفر من مضر وهم مجتابو النّمار (١) ـ أي من عريهم وفقرهم ـ قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ، حتى ختم الآية. وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) [الحشر : ١٨] ، ثم حضهم على الصدقة فقال : «تصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من صاع بره ، من صاع تمره» وذكر تمام الحديث ، وهكذا رواه أحمد (٢) وأهل السنن عن ابن مسعود في خطبة الحاجة ، وفيها : ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) الآية.

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) (٤)

يأمر تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحلم كاملة موفرة ، وينهى عن أكلها وضمها إلى أموالهم ، ولهذا قال : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) قال سفيان الثوري عن أبي صالح : لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الرزق الحلال الذي قدر لك. وقال سعيد بن جبير : لا تتبدلوا الحرام من أموال الناس بالحلال من أموالكم ، يقول : لا تبذروا أموالكم الحلال وتأكلوا أموالهم الحرام. وقال سعيد بن المسيب والزهري : لا تعط مهزولا وتأخذ سمينا. وقال إبراهيم النخعي والضحاك : لا تعط زائفا وتأخذ جيدا. وقال السدي : كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ، ويجعل مكانها الشاة المهزولة ويقول : شاة بشاة ، ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح مكانه الزيف ويقول درهم بدرهم.

وقوله (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) قال مجاهد وسعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والسدي وسفيان بن حسين : أي لا تخلطوها فتأكلوها جميعا.

وقوله : (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) قال ابن عباس : أي إثما كبيرا عظيما. وروى ابن مردويه عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله (حُوباً كَبِيراً) قال : «إثما كبيرا» ولكن في إسناده محمد بن يوسف الكديمي وهو ضعيف وروي هكذا عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وابن سيرين وقتادة ومقاتل بن حيان والضحاك وأبي مالك وزيد بن أسلم وأبي سنان مثل قول ابن عباس وفي الحديث المروي في سنن أبي داود «اغفر لنا حوبنا وخطايانا».

وروى ابن مردويه بإسناده إلى واصل مولى أبي عيينة عن ابن سيرين عن ابن عباس ، أن أبا أيوب طلق امرأته فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أبا أيوب إن طلاق أم أيوب كان حوبا» قال ابن سيرين :

__________________

(١) اجتاب : لبس. والنمار : جمع نمرة ، وهي شملة مخططة من مآزر الأعراب.

(٢) مسند أحمد ٤ / ٣٥٨.

١٨٢

الحوب الإثم ، ثم قال ابن مردويه : حدثنا عبد الباقي حدثنا بشر بن موسى ، حدثنا هوذة بن خليفة ، حدثنا عوف عن أنس أن أبا أيوب أراد طلاق أم أيوب ، فاستأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إن طلاق أم أيوب لحوب» فأمسكها ، ثم روى ابن مردويه والحاكم في مستدركه من حديث علي بن عاصم عن حميد الطويل ، سمعت أنس بن مالك أيضا يقول : أراد أبو طلحة أن يطلق أم سليم امرأته فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن طلاق أم سليم لحوب» فكف. والمعنى : إن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثم عظيم وخطأ كبير فاجتنبوه.

وقوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى) ، أي إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف أن لا يعطيها مهر مثلها فليعدل إلى ما سواها من النساء ، فإنهن كثير ولم يضيق الله عليه. وقال البخاري : حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام عن ابن جريج ، أخبرني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة : أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق ، وكان يمسكها عليه ، ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت فيه (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا) أحسبه قال : كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله. ثم قال البخاري (١) : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله. حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) ، قالت : يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن. ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. قال عروة : قالت عائشة : وإن الناس استفتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذه الآية فأنزل الله (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) [النساء : ١٢٧] ، قالت عائشة : وقول الله في الآية الأخرى (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) [النساء : ١٢٧] رغبة أحدكم عن يتيمته إذا كانت قليلة المال والجمال ، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال.

وقوله : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) أي انكحوا ما شئتم من النساء سواهن إن شاء أحدكم ثنتين وإن شاء ثلاثا ، وإن شاء أربعا. كما قال الله تعالى : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) [فاطر : ١] أي منهم من له جناحان ، ومنهم من له ثلاثة ، ومنهم من له أربعة ، ولا ينفي ما عدا ذلك في الملائكة لدلالة الدليل عليه ، بخلاف قصر الرجال على أربع ، فمن هذه الآية كما قال ابن عباس وجمهور العلماء ، لأن المقام مقام امتنان وإباحة ، فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لذكره.

__________________

(١) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب ١)

١٨٣

قال الشافعي : وقد دلت سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المبينة عن الله أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة ، وهذا الذي قاله الشافعي رحمه‌الله مجمع عليه بين العلماء إلا ما حكي عن طائفة من الشيعة ، أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع إلى تسع. وقال بعضهم : بلا حصر. وقد يتمسك بعضهم بفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جمعه بين أكثر من أربع إلى تسع كما ثبت في الصحيحين ، وأما إحدى عشرة كما جاء في بعض ألفاظ البخاري : وقد علقه البخاري وقد روينا عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوج بخمس عشرة امرأة ، ودخل منهن بثلاث عشرة ، واجتمع عنده إحدى عشرة ، ومات عن تسع. وهذا عند العلماء من خصائصه دون غيره من الأمة لما سنذكره من الأحاديث الدالة على الحصر في أربع ، ولنذكر الأحاديث في ذلك.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا إسماعيل ومحمد بن جعفر قالا : حدثنا معمر عن الزهري ، قال ابن جعفر في حديثه : أنبأنا ابن شهاب عن سالم عن أبيه أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اختر منهن أربعا» فلما كان في عهد عمر طلق نساءه ، وقسم ماله بين بنيه ، فبلغ ذلك عمر فقال : إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك ، ولعلك لا تمكث إلا قليلا. وايم الله لتراجعن نساءك ولترجعن في مالك أو لأورثهن منك ولآمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال.

وهكذا رواه الشافعي والترمذي وابن ماجة والدار قطني والبيهقي وغيرهم ، من طرق عن إسماعيل بن علية وغندر ويزيد بن زريع وسعيد بن أبي عروبة وسفيان الثوري وعيسى بن يونس ، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي ، والفضل بن موسى وغيرهم من الحفاظ ، عن معمر بإسناده مثله إلى قوله : «اختر منهن أربعا» وباقي الحديث في قصة عمر من أفراد أحمد ، وهي زيادة حسنة وهي مضعّفة لما علل به البخاري هذا الحديث فيما حكاه عنه الترمذي حيث قال بعد روايته له سمعت البخاري يقول : هذا الحديث غير محفوظ. والصحيح ما روى شعيب وغيره عن الزهري. حدّثت عن محمد بن سويد الثقفي أن غيلان بن سلمة ـ فذكره. قال البخاري : وإنما حديث الزهري عن سالم ، عن أبيه أن رجلا من ثقيف طلق نساءه فقال له عمر : لتراجعن نساءك أو لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغال. وهذا التعليل فيه نظر ، والله أعلم ـ وقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري مرسلا. وهكذا رواه مالك عن الزهري مرسلا. قال أبو زرعة : وهو أصح. وقال البيهقي : ورواه عقيل عن الزهري : بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبي سويد. وقال أبو حاتم : وهذا وهم إنما هو الزهري ، عن محمد بن سويد. بلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فذكره. قال البيهقي : ورواه يونس وابن عيينة عن الزهري عن

__________________

(١) مسند أحمد ٢ / ١٤.

١٨٤

محمد بن أبي سويد وهذا كما علله البخاري وهذا الإسناد الذي قدمناه من مسند الإمام أحمد ، رجاله ثقات على شرط الشيخين ثم قد روي من غير طريق معمر بل والزهري. قال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو علي الحافظ ، حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي ، حدثنا أبو بريد عمرو بن يزيد الجرمي ، أخبرنا سيف بن عبيد الله حدثنا سرار بن مجشر ، عن أيوب ، عن نافع وسالم ، عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة كان عنده عشر نسوة فأسلم وأسلمن معه ، فأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يختار منهن أربعا. هكذا أخرجه النسائي في سننه ، قال أبو علي بن السكن : تفرد به سرار بن مجشر وهو ثقة. وكذا وثقه ابن معين قال أبو علي : وكذا رواه السميدع بن واهب عن سرار. قال البيهقي : وروينا من حديث قيس بن الحارث أو الحارث بن قيس ، وعروة بن مسعود الثقفي وصفوان بن أمية يعني حديث غيلان بن سلمة فوجه الدلالة أنه لو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لسوغ له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سائرهن في بقاء العشرة وقد أسلمن معه فلما أمره بإمساك أربع وفراق سائرهن دل على أنه لا يجوز الجمع بين أكثر من أربع بحال ، فإذا كان هذا في الدوام ، ففي الاستئناف بطريق الأولى والأحرى ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

حديث آخر في ذلك : روى أبو داود (١) وابن ماجة في سننهما من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن حميضة بن الشمردل وعند ابن ماجة بنت الشمردل ، حكى أبو داود أن منهم من يقول الشمرذل بالذال المعجمة عن قيس بن الحارث ، وعند أبي داود في رواية الحارث بن قيس بن عميرة الأسدي قال : أسلمت وعندي ثمان نسوة فذكرت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «اختر منهن أربعا» ، وهذا الإسناد حسن : ومجرد هذا الاختلاف لا يضر مثله لما للحديث من الشواهد.

حديث آخر في ذلك : قال الشافعي في مسنده : أخبرني من سمع ابن أبي الزناد يقول أخبرني عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن عن عوف بن الحارث عن نوفل بن معاوية الديلي رضي الله عنه ، قال : أسلمت وعندي خمس نسوة فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اختر أربعا أيتهن شئت وفارق الأخرى» فعمدت إلى أقدمهن صحبة عجوز عاقر معي منذ ستين سنة فطلقتها.

فهذه كلها شواهد بصحة ما تقدم من حديث غيلان كما قاله البيهقي رحمه‌الله.

وقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ، أي فإن خشيتم من تعداد النساء أن لا تعدلوا بينهن ، كما قال تعالى ، (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) [النساء : ١٢٩] فمن خاف من ذلك فليقتصر على واحدة أو على الجواري السراري فإنه

__________________

(١) سنن أبي داود (طلاق باب ٢٥) وسنن ابن ماجة (نكاح باب ٤٠)

١٨٥

لا يجب قسم بينهن ، ولكن يستحب فمن فعل فحسن ، ومن لا فلا حرج ، وقوله : (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) قال بعضهم ذلك أدنى ألا تكثر عيالكم ، قاله زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة والشافعي رحمهم‌الله ، وهو مأخوذ من قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) [التوبة : ٢٨] أي فقرا (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) [التوبة : ٢٨] وقال الشاعر : [الوافر]

فما يدري الفقير متى غناه

وما يدري الغنيّ متى يعيل

وتقول العرب : عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر ولكن في هذا التفسير هاهنا نظر ، فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر كذلك يخشى من تعداد السراري أيضا والصحيح قول الجمهور (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) أي لا تجوروا ، يقال : عال في الحكم إذا قسط وظلم وجار ، وقال أبو طالب في قصيدته المشهورة : [الطويل]

بميزان قسط لا يخيس شعيرة

له شاهد من نفسه غير عائل (١)

وقال هشيم عن أبي إسحاق قال : كتب عثمان بن عفان إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه فيه : إني لست بميزان لا أعول. رواه ابن جرير (٢).

وقد روى ابن أبي حاتم وأبو حاتم ابن مردويه وابن حبان في صحيحه من طريق عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم ، حدثنا محمد بن شعيب عن عمر بن محمد بن زيد عن عبد الله بن عمر عن هشام بن عروة ، عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) قال : «لا تجوروا» قال ابن أبي حاتم : قال أبي ، هذا حديث خطأ ، والصحيح : عن عائشة موقوف ، وقال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عباس وعائشة ومجاهد وعكرمة والحسن وأبي مالك وأبي رزين والنخعي والشعبي والضحاك وعطاء الخراساني وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان أنهم قالوا : لا تميلوا ، وقد استشهد عكرمة رحمه‌الله ببيت أبي طالب الذي قدمناه ، ولكن ما أنشده كما هو المروي في السيرة ، وقد رواه ابن جرير ثم أنشده جيدا واختار ذلك.

وقوله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس: النحلة المهر ، وقال محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة : نحلة فريضة ، وقال مقاتل وقتادة وابن جريج : نحلة أي فريضة. زاد ابن جريج : مسماة ، وقال ابن زيد : النحلة في كلام العرب : الواجب ، يقول : لا تنكحها إلا بشيء واجب لها ، وليس ينبغي لأحد بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينكح امرأة إلا بصداق واجب ، ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذبا بغير حق ، ومضمون كلامهم : أن الرجل يجب عليه دفع الصداق إلى المرأة حتما ، وأن يكون طيب النفس

__________________

(١) البيت في القرطبي ٥ / ٢١ والطبري ٣ / ٥٨٢. وقد أورد الطبري ثلاث روايات مختلفات لهذا البيت فلينظر.

(٢) تفسير الطبري ٣ / ٥٨٢.

١٨٦

بذلك كما يمنع المنيحة ويعطي النحلة طيبا بها كذلك يجب أن يعطي المرأة صداقها طيبا بذلك فإن طابت هي له به بعد تسميته أو عن شيء منه فليأكله حلالا طيبا ، ولهذا قال : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً).

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن السدي عن يعقوب بن المغيرة بن شعبة عن علي قال : إذا اشتكى أحدكم شيئا فليسأل امرأته ثلاثة دراهم أو نحو ذلك فليبتع بها عسلا ثم ليأخذ ماء السماء فيجتمع هنيئا مريئا شفاء مباركا. وقال هشيم عن سيار عن أبي صالح قال : كان الرجل إذا زوج ابنته أخذ صداقها دونها فنهاهم الله عن ذلك ، ونزل (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير (١).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا وكيع عن سفيان عن عمير الخثعمي عن عبد الملك بن المغيرة الطائفي عن عبد الرحمن بن البيلماني قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) قالوا : يا رسول الله فما العلائق بينهم؟ قال : «ما تراضى عليه أهلوهم» وقد روى ابن مردويه من طريق حجاج بن أرطأة عن عبد الملك بن المغيرة عن عبد الرحمن بن البيلماني عن عمر بن الخطاب قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أنكحوا الأيامى ـ ثلاثا ـ» فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله ما العلائق بينهم؟ قال : «ما تراضى عليه أهلوهم» ابن السلماني ضعيف ثم فيه انقطاع أيضا.

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) (٦)

ينهى سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها الله للناس قياما ، أي تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها ومن هاهنا يؤخذ الحجر على السفهاء وهم أقسام ، فتارة يكون الحجر للصغر ، فإن الصغير مسلوب العبارة ، وتارة يكون الحجر للجنون ، وتارة لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين ، وتارة للفلس ، وهو ما إذا أحاطت الديون برجل وضاق ماله عن وفائها ، فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه ، حجر عليه.

وقال الضحاك عن ابن عباس ، في قوله (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) قال : هم بنوك والنساء ، وكذا قال ابن مسعود والحكم بن عيينة والحسن والضحاك : هم النساء والصبيان ، وقال سعيد بن جبير : هم اليتامى ، وقال مجاهد وعكرمة وقتادة : هم النساء.

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٥٨٣.

١٨٧

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن النساء سفهاء إلا التي أطاعت قيمها» ورواه ابن مردويه مطولا وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن مسلم بن إبراهيم ، حدثنا حرب بن سريح ، عن معاوية بن قرة ، عن أبي هريرة (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) قال : هم الخدم ، وهم شياطين الإنس.

وقوله : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً). قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، يقول : لا تعمد إلى مالك وما خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو بنيك ثم تنظر إلى ما في أيديهم ولكن أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسوتهم ومؤنتهم ورزقهم.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن فراس ، عن الشعبي ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، قال : ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم : رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ، ورجل أعطى ماله سفيها ، وقد قال : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) ، ورجل كان له على رجل دين فلم يشهد عليه.

وقال مجاهد : (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) ، يعني في البر والصلة.

وهذه الآية الكريمة تضمنت الإحسان إلى العائلة ومن تحت الحجر بالفعل من الإنفاق في الكساوي والأرزاق والكلام الطيب وتحسين الأخلاق.

وقوله تعالى : (وَابْتَلُوا الْيَتامى) قال ابن عباس ومجاهد والحسن والسدي ومقاتل بن حيان : أي اختبروهم (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) قال مجاهد : يعني الحلم ، قال الجمهور من العلماء البلوغ في الغلام تارة يكون بالحلم ، وهو أن يرى في منامه ما ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد ، وفي سنن أبي داود (٢) عن علي قال : حفظت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل» وفي الحديث الآخر عن عائشة وغيرها من الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رفع القلم عن ثلاثة ، عن الصبي حتى يحتلم ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق» (٣) ، أو يستكمل خمس عشرة سنة وأخذوا ذلك من الحديث الثابت في الصحيحين عن ابن عمر ، قال : عرضت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني ، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني ، فقال

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٥٨٨.

(٢) سنن أبي داود (وصايا باب ٩)

(٣) صحيح البخاري (طلاق باب ١١ وحدود باب ٢٢) وسنن أبي داود (حدود باب ١٧) وسنن الترمذي (حدود باب ١) وسنن النسائي (طلاق باب ٢١) وسنن ابن ماجة (طلاق باب ١٥)

١٨٨

عمر بن عبد العزيز لما بلغه هذا الحديث : إن هذا الفرق بين الصغير والكبير.

واختلفوا في إنبات الشعر الخشن حول الفرج ، وهي الشعرة ، هل تدل على بلوغ أم لا؟ على ثلاثة أقوال ، يفرق في الثالث بين صبيان المسلمين فلا يدل على ذلك لاحتمال المعالجة ، وبين صبيان أهل الذمة فيكون بلوغا في حقهم لأنه لا يتعجل بها إلى ضرب الجزية عليه. فلا يعالجها ، والصحيح أنها بلوغ في حق الجميع لأن هذا أمر جبلي يستوي فيه الناس واحتمال المعالجة بعيد ، ثم قد دلت السنة على ذلك في الحديث الذي رواه الإمام أحمد (١) عن عطية القرظي رضي الله عنه ، قال : عرضنا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم قريظة ، فكان من أنبت قتل ومن لم ينبت خلى سبيله ، فكنت فيمن لم ينبت فخلي سبيلي ، وقد أخرجه أهل السنن الأربعة بنحوه ، وقال الترمذي : حسن صحيح وإنما كان كذلك لأن سعد بن معاذ كان قد حكم فيهم بقتل المقاتلة وسبي الذرية.

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الغريب : حدثنا ابن علية عن إسماعيل بن أمية ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عمر ، أن غلاما ابتهر جارية في شعره ، فقال عمر رضي الله عنه : انظروا إليه فلم يوجد أنبت فدرأ عنه الحد ، قال أبو عبيد : ابتهرها أي قذفها ، والابتهار أن يقول فعلت بها وهو كاذب ، فإن كان صادقا فهو الابتيار ، قال الكميت في شعره : [المتقارب]

قبيح بمثلي نعت الفتاة

إما ابتهارا وإما ابتيارا (٢)

وقوله عزوجل : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) قال سعيد بن جبير : يعني صلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم. وكذا روي عن ابن عباس والحسن البصري وغير واحد من الأئمة وهكذا قال الفقهاء : متى بلغ الغلام مصلحا لدينه وماله انفك الحجر عنه فيسلم إليه ماله الذي تحت يد وليه بطريقه ، وقوله : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) ينهى تعالى عن أكل أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية (إِسْرافاً وَبِداراً) أي مبادرة قبل بلوغهم ، ثم قال تعالى : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) من كان في غنية عن مال اليتيم فليستعفف عنه ولا يأكل منه شيئا ، وقال الشعبي : هو عليه كالميتة والدم (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ).

قال ابن أبي حاتم : حدثنا الأشج ، حدثنا عبد الله بن سليمان ، حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة ، (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) نزلت في مال اليتيم ، وحدثنا الأشج وهارون بن إسحاق قالا : حدثنا عبدة بن سليمان عن هشام عن أبيه عن عائشة : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجا أن يأكل منه،

__________________

(١) مسند أحمد ٤ / ٣١٠.

(٢) البيت للكميت في ديوانه ١ / ٢٠٢ ولسان العرب (بهر ، بور) وتهذيب اللغة ١٥ / ٢٦٦ ومقاييس اللغة ١ / ٣٠٩ ومجمل اللغة ١ / ٢٩٨ وتاج العروس (بهر ، بور)

١٨٩

وحدثنا أبي ، حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني ، حدثنا علي بن مسهر عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت : أنزلت هذه الآية في والي اليتيم (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) بقدر قيامه عليه. ورواه البخاري عن إسحاق عن عبد الله بن نمير عن هشام به.

قال الفقهاء : له أن يأكل أقل الأمرين : أجرة مثله أو قدر حاجته ، واختلفوا هل يرد إذا أيسر؟ على قولين [أحدهما] لا ، لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيرا ، وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي ، لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل ، قال أحمد (١) : حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا حسين عن عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده : أن رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ليس لي مال ولي يتيم؟ فقال : «كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل (٢) مالا ومن غير أن تقي مالك ـ أو قال ـ تفدي مالك بماله» شك حسين ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، حدثنا حسين المكتب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن عندي يتيما عنده مال وليس لي مال. آكل من ماله؟ قال : «بالمعروف غير مسرف» ورواه أبو داود (٣) والنسائي وابن ماجة من حديث حسين المعلم به وروى ابن حبان في صحيحه وابن مردويه في تفسيره من حديث يعلى بن مهدي عن جعفر بن سليمان عن أبي عامر الخزاز ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر أن رجلا قال : يا رسول الله فيم أضرب يتيمي؟ قال : «ما كنت ضاربا منه ولدك غير واق مالك بماله ولا متأثل منه مالا» وقال ابن جرير (٤) : حدثنا الحسن بن يحيى ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا الثوري عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال : جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال : إن في حجري أيتاما وإن لهم إبلا ولي إبل ، وأنا أمنح في إبلي وأفقر (٥) ، فماذا يحل لي من ألبانها؟ فقال : إن كنت تبغي ضالتها وتهنأ جرباها وتلوط حوضها وتسقي عليها فاشرب غير مضر بنسل ، ولا ناهك في الحلب (٦) ، ورواه مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد به ، وبهذا القول وهو عدم أداء البدل ، يقول عطاء بن أبي رباح وعكرمة وإبراهيم النخعي وعطية العوفي والحسن البصري. [والثاني] نعم ، لأن مال اليتيم على الحظر ، وإنما أبيح للحاجة فيرد بدله كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة ، وقد قال ابن أبي الدنيا : حدثنا ابن خيثمة ، حدثنا وكيع عن سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ١٨٦.

(٢) أي غير جامع مالا.

(٣) سنن أبي داود (وصايا باب ٨)

(٤) تفسير الطبري ٣ / ٦٠٠.

(٥) أمنح في إبلي : أقدم الناقة لمن ينتفع بها وقتا ثم يردّها. وأفقر : أعير البعير للركوب.

(٦) غير ناهك في الحلب : غير مبالغ فيه. ولاط الحوض : طينه وأصلحه. وهنا البعير : طلاه بالهناء أي القطران.

١٩٠

حارثة بن مضرب قال : قال عمر رضي الله عنه : إني أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة والي اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن احتجت استقرضت ، فإذا أيسرت قضيت.

طريق أخرى : قال سعيد بن منصور : حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : قال عمر رضي الله عنه : إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم ، إن احتجت أخذت منه ، فإذا أيسرت رددته ، وإن استغنيت استعففت ، إسناد صحيح وروى البيهقي عن ابن عباس نحو ذلك ، وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) يعني القرض ، قال وروي عن عبيدة وأبي العالية ، وأبي وائل ، وسعيد بن جبير في إحدى الروايات ومجاهد والضحاك والسدي نحو ذلك ، وروي من طريق السدي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) قال : يأكل بثلاث أصابع ، ثم قال : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا ابن مهدي عن سفيان عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) قال : يأكل من ماله يقوت على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم ، قال وروي عن مجاهد وميمون بن مهران في إحدى الروايات والحاكم نحو ذلك ، وقال عامر الشعبي : لا يأكل منه إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة فإن أكل منه قضاه ، رواه ابن أبي حاتم وقال ابن وهب : حدثنا نافع بن أبي نعيم القارئ قال : سألت يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة عن قول الله تعالى : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) الآية ، فقال : ذلك في اليتيم إن كان فقيرا أنفق عليه بقدر فقره ، ولم يكن للولي منه شيء ، وهذا بعيد من السياق ، لأنه قال (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) يعني من الأولياء. (وَمَنْ كانَ فَقِيراً) أي منهم (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) أي بالتي هي أحسن كما قال في الآية الأخرى (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) [الأنعام : ١٥٢] أي لا تقربوه إلا مصلحين له ، فإن احتجتم إليه أكلتم منه بالمعروف.

وقوله : (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) يعني بعد بلوغهم الحلم وإيناسكم الرشد منهم فحينئذ سلموا إليهم أموالهم فإذا دفعتم إليهم أموالهم (فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) وهذا أمر من الله تعالى للأولياء أن يشهدوا على الأيتام إذا بلغوا الحلم وسلموا إليهم أموالهم لئلا يقع من بعضهم جحود وإنكار لما قبضه وتسلمه ، ثم قال : (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) أي وكفى بالله محاسبا وشهيدا ورقيبا على الأولياء في حال نظرهم للأيتام وحال تسليمهم للأموال هل هي كاملة موفرة أو منقوصة مبخوسة ، مروج حسابها ، مدلس أمورها؟ الله عالم بذلك كله ، ولهذا ثبت في صحيح مسلم (١) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تلين مال يتيم».

__________________

(١) صحيح مسلم (إمارة حديث ١٧)

١٩١

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (١٠)

قال سعيد بن جبير وقتادة : كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئا ، فأنزل الله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) الآية ، أي الجميع فيه سواء في حكم الله تعالى ، يستوون في أصل الوراثة ، وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله لكل منهم بما يدلي به إلى الميت من قرابة ، أو زوجية ، أو ولاء ، فإنه لحمة كلحمة النسب. وقد روى ابن مردويه من طريق ابن هراسة عن سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال : جاءت أم كجّة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله إن لي ابنتين قد مات أبوهما وليس لهما شيء ، فأنزل الله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) الآية ، وسيأتي هذا الحديث عند آيتي الميراث بسياق آخر ، والله أعلم.

وقوله (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) الآية ، قيل : المراد وإذا حضر قسمة الميراث ذوو القربى ممن ليس بوارث (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ) فليرضخ لهم من التركة نصيب ، وإن ذلك كان واجبا في ابتداء الإسلام ، وقيل يستحب.

واختلفوا هل هو منسوخ أم لا على قولين ، فقال البخاري (١) : حدثنا أحمد بن حميد ، أخبرنا عبيد الله الأشجعي عن سفيان عن الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ). قال : هي محكمة وليست بمنسوخة. تابعه سعيد عن ابن عباس. وقال ابن جرير (٢) : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا عباد بن العوام عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال : هي قائمة يعمل بها ، وقال الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الآية ، قال : هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم (٣) ، وهكذا روي عن ابن مسعود وأبي موسى وعبد الرحمن بن أبي بكر وأبي العالية والشعبي والحسن ، وقال ابن سيرين وسعيد بن جبير ومكحول وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح والزهري ويحيى بن يعمر : إنها واجبة ، وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج ، عن إسماعيل بن علية عن يونس بن عبيد عن ابن سيرين قال : ولي عبيدة وصية فأمر بشاة فذبحت

__________________

(١) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب ٣)

(٢) تفسير الطبري ٣ / ٦٠٦.

(٣) تفسير الطبري ٣ / ٦٠٥.

١٩٢

فأطعم أصحاب هذه الآية وقال : لو لا هذه الآية لكان هذا من مالي ، وقال مالك فيما يروى عنه من التفسير في جزء مجموع عن الزهري : أن عروة أعطى من مال مصعب حين قسم ماله ، وقال الزهري : هي محكمة. وقال مالك : عن عبد الكريم عن مجاهد قال : هي حق واجب ما طابت به الأنفس.

ذكر من ذهب إلى أن ذلك أمر بالوصية لهم :

قال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج ، أخبرني ابن أبي مليكة : أن أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق والقاسم بن محمد أخبراه أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر ، قسم ميراث أبيه عبد الرحمن وعائشة حية ، قالا : فلم يدع في الدار مسكينا ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه ، قالا : وتلا (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى) ، قال القاسم : فذكرت ذلك لابن عباس ، فقال : ما أصاب ، ليس ذلك له إنما ذلك إلى الوصية وإنما هذه الآية في الوصية يريد الميت يوصي لهم ، رواه ابن أبي حاتم.

ذكر من قال هذه الآية منسوخة بالكلية :

قال سفيان الثوري ، عن محمد بن السائب الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) قال : منسوخة ، وقال إسماعيل بن مسلم المكي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس ، قال في هذه الآية (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى) نسختها الآية التي بعدها (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء : ١١]. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في هذه الآية (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى) كان ذلك قبل أن تنزل الفرائض ، فأنزل الله بعد ذلك الفرائض فأعطى كل ذي حق حقه ، فجعلت الصدقة فيما سمى المتوفى ، رواهن ابن مردويه. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ) نسختها آية الميراث فجعل لكل إنسان نصيبه مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر. وحدثنا أسيد بن عاصم ، حدثنا سعيد بن عامر عن همام ، حدثنا قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال : إنها منسوخة ، كانت قبل الفرائض كان ما ترك الرجل من مال أعطى منه اليتيم والفقير والمسكين وذوي القربى إذا حضروا القسمة ثم نسخ بعد ذلك نسختها المواريث فألحق الله بكل ذي حق حقه ، وصارت الوصية من ماله يوصي بها لذوي قرابته حيث شاء. وقال مالك ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب : هي منسوخة ، نسختها المواريث والوصية. وهكذا روي عن عكرمة وأبي الشعثاء والقاسم بن محمد وأبي صالح وأبي مالك وزيد بن أسلم والضحاك وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان وربيعة بن أبي

١٩٣

عبد الرحمن أنهم قالوا : إنها منسوخة.

وهذا مذهب جمهور الفقهاء والأئمة الأربعة وأصحابهم ، وقد اختار ابن جرير هاهنا قولا غريبا جدا وحاصله أن معنى الآية عنده (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) أي وإذا حضر قسمة مال الوصية أولو قرابة الميت (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا) لليتامى والمساكين إذا حضروا (قَوْلاً مَعْرُوفاً) هذا مضمون ما حاوله بعد طول العبارة والتكرار ، وفيه نظر ، والله أعلم (١). وقال العوفي عن ابن عباس (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) هي قسمة الميراث ، وهكذا قال غير واحد ، والمعنى على هذا لا على ما سلكه ابن جرير رحمه‌الله ، بل المعنى أنه إذا حضر هؤلاء الفقراء من القرابة الذين لا يرثون واليتامى والمساكين قسمة مال جزيل ، فإن أنفسهم تتوق إلى شيء منه إذا رأوا هذا يأخذ وهذا يأخذ ، وهم يائسون لا شيء يعطونه ، فأمر الله تعالى وهو الرؤوف الرحيم أن يرضخ لهم شيء من الوسط يكون برا بهم وصدقة عليهم ، وإحسانا إليهم وجبرا لكسرهم. كما قال الله تعالى : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) [الأنعام : ١٤١] وذم الذين ينقلون المال خفية خشية أن يطلع عليهم المحاويج وذوو الفاقة. كما أخبر عن أصحاب الجنة (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) [القلم : ١٧] أي بليل. وقال (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) [القلم ٢٣ ـ ٢٤] ف (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) [محمد : ١٠] فمن جحد حق الله عليه عاقبه في أعز ما يملكه ، ولهذا جاء في الحديث «ما خالطت الصدقة مالا إلا أفسدته» أي منعها يكون سبب محق ذلك المال بالكلية.

وقوله تعالى : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ) الآية. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هذا في الرجل يحضره الموت ، فيسمعه رجل يوصي بوصية تضر بورثته ، فأمر الله تعالى الذي يسمعه أن يتقي الله ويوقفه ويسدده للصواب. فينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضيعة ، وهكذا قال مجاهد وغير واحد ، وثبت في الصحيحين أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده ، قال : يا رسول الله ، إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة ، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال «لا». قال : فالشطر؟ قال «لا». قال : فالثلث؟ قال: «الثلث ، والثلث كثر». ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» (٢) وفي الصحيح عن ابن عباس قال : لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «الثلث ، والثلث كثير» (٣).

__________________

(١) خلاصة رأي ابن جرير أن أولى الأقوال بالصحة قول من قال إن هذه الآية محكمة غير منسوخة. قال : وإنما عنى بها الوصية لأولي قربى الموصي ، وعنى باليتامى والمساكين أن يقال لهم قول معروف ـ انظر تفسير الطبري ٣ / ٦٠٨.

(٢) صحيح البخاري (وصايا باب ٢ ومناقب الأنصار باب ٤٩) وصحيح مسلم (وصية حديث ٥ و ٨)

(٣) صحيح مسلم (وصية حديث ١٠)

١٩٤

قال الفقهاء : إن كان ورثة الميت أغنياء ، استحب للميت أن يستوفي في وصيته الثلث ، وإن كانوا فقراء استحب أن ينقص الثلث ، وقيل : المراد بالآية فليتقوا الله في مباشرة أموال اليتامى ولا يأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ، حكاه ابن جرير (١) من طريق العوفي عن ابن عباس ، وهو قول حسن يتأيد بما بعده من التهديد في أكل أموال اليتامى ظلما ، أي كما تحب أن تعامل ذريتك من بعدك ، فعامل الناس في ذراريهم إذا وليتهم.

ثم أعلمهم أن من أكل أموال اليتامى ظلما ، فإنما يأكل في بطنه نارا ؛ ولهذا قال (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) أي إذا أكلوا أموال اليتامى بلا سبب فإنهما يأكلون نارا تتأجج في بطونهم يوم القيامة ، وفي الصحيحين من حديث سليمان بن بلال عن ثور بن زيد ، عن سالم أبي الغيث ، عن أبي هريرة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اجتنبوا السبع الموبقات» قيل : يا رسول الله ، وما هن؟ قال : «الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» (٢) وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبيدة ، أخبرنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمّي ، حدثنا أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري ، قال: قلنا : يا رسول الله ، ما رأيت ليلة أسري بك؟ قال «انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير. رجال كل رجل منهم له مشفران كمشفري البعير ، وهو موكل بهم رجال يفكون لحاء أحدهم ، ثم يجاء بصخرة من نار فتقذف في فيّ أحدهم حتى يخرج من أسفله ، ولهم خوار وصراخ ، قلت : يا جبريل ، من هؤلاء؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ، إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا» وقال السدي (٣) : يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومن مسامعه وأنفه وعينيه ، يعرفه كل من رآه بأكل مال اليتيم. وقال ابن مردويه : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد ، حدثنا أحمد بن عمرو ، حدثنا عقبة بن مكرم ، حدثنا يونس بن بكير ، حدثنا زياد بن المنذر عن نافع بن الحارث ، عن أبي برزة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يبعث يوم القيامة القوم من قبورهم تأجج أفواههم نارا» قيل «يا رسول الله ، من هم؟ قال «ألم تر أن الله قال (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) الآية» ، رواه ابن أبي حاتم عن أبي زرعة ، عن عقبة بن مكرم ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن أحمد بن علي بن المثنى عن عقبة بن مكرم. وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا أحمد بن عصام ، حدثنا أبو عامر العبدي ، حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري ، عن عثمان بن محمد ، عن المقبري ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أحرج مال الضعيفين المرأة واليتيم» أي أوصيكم باجتناب

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٦١٤.

(٢) صحيح البخاري (وصايا باب ٢٣) ومسلم (إيمان حديث ١٤٤)

(٣) تفسير الطبري ٣ / ٦١٥.

١٩٥

مالهما.

وتقدم في سورة البقرة من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : لما نزلت (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) الآية ، انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل الشيء فيحسن له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) [البقرة : ٢٢٠] ، قال : فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (١١)

هذه الآية الكريمة والتي بعدها والآية التي هي خاتمة هذه السورة هن آيات علم الفرائض ، وهو مستنبط من هذه الآيات الثلاث ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هو كالتفسير لذلك. ولنذكر منها ما هو متعلق بتفسير ذلك. وأما تقرير المسائل ونصب الخلاف والأدلة ، والحجاج بين الأئمة ، فموضعه كتب الأحكام ، والله المستعان.

وقد ورد الترغيب في تعلم الفرائض وهذه الفرائض الخاصة من أهم ذلك ، وقد روى أبو داود وابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي ، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «العلم ثلاثة ، وما سوى ذلك فهو فضل : آية محكمة ، أو سنة قائمة ، أو فريضة عادلة» (١) وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا أبا هريرة تعلموا الفرائض وعلموه فإنه نصف العلم ، وهو ينسى ، وهو أول شيء ينزع من أمتي» رواه ابن ماجة (٢) وفي إسناده ضعف. وقد روي من حديث ابن مسعود وأبي سعيد ، وفي كل منهما نظر. قال ابن عيينة : إنما سمي الفرائض نصف العلم ، لأنه يبتلى به الناس كلهم.

وقال البخاري (٣) عند تفسير هذه الآية : حدثنا إبراهيم بن موسى. حدثنا هشام أن ابن جريج أخبرهم قال : أخبرني ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : عادني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين ، فوجدني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا أعقل شيئا ، فدعا بماء فتوضأ منه ، ثم رش

__________________

(١) سنن أبي داود (فرائض باب ١)

(٢) سنن ابن ماجة (فرائض باب ١)

(٣) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب ٤)

١٩٦

علي فأفقت فقلت : ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج به ، ورواه الجماعة كلهم من حديث سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن جابر.

حديث آخر عن جابر في سبب نزول الآية قال أحمد (١) : حدثنا زكريا بن عدي ، حدثنا عبيد الله هو ابن عمرو الرقي ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر ، قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع ، قتل أبوهما معك في يوم أحد شهيدا ، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ، ولا ينكحان إلا ولهما مال ، قال : فقال «يقضي الله في ذلك» فنزلت آية الميراث ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عمهما فقال : «أعط ابنتي سعد الثلثين ، وأمهما الثمن ، وما بقي فهو لك». وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل به ، قال الترمذي : ولا يعرف إلا من حديثه. والظاهر أن حديث جابر الأول إنما نزل بسبب الآية الأخيرة من هذه السورة كما سيأتي ، فإنه إنما كان له إذ ذاك أخوات ، ولم يكن له بنات ، وإنما كان يرث كلالة ، ولكن ذكرنا الحديث هاهنا تبعا للبخاري رحمه‌الله فإنه ذكره هاهنا ، والحديث الثاني عن جابر أشبه بنزول هذه الآية ، والله أعلم.

فقوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) أي يأمركم بالعدل فيهم ، فإن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جميع الميراث للذكور دون الإناث ، فأمر الله تعالى بالتسوية بينهم في أصل الميراث ، وفاوت بين الصنفين ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، وذلك لاحتياج الرجل إلى مؤنة النفقة والكلفة ومعاناة التجارة والتكسب وتحمل المشاق ، فناسب أن يعطى ضعفي ما تأخذه الأنثى ، وقد استنبط بعض الأذكياء من قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالدة بولدها ، حيث أوصى الوالدين بأولادهم ، فعلم أنه أرحم بهم منهم ، كما جاء في الحديث الصحيح وقد رأى امرأة من السبي فرق بينها وبين ولدها ، فجعلت تدور على ولدها ، فلما وجدته من السبي أخذته فألصقته بصدرها وأرضعته. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه «أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على ذلك»؟ قالوا : لا يا رسول الله. قال «فو الله لله أرحم بعباده من هذه بولدها» (٢) وقال البخاري هاهنا (٣) : حدثنا محمد بن يوسف عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : كان المال للولد ، وكانت الوصية للوالدين ، فنسخ الله من ذلك ما أحب ، فجعل

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ٣٥٢.

(٢) صحيح البخاري (أدب باب ١٨) وصحيح مسلم (توبة حديث ٢٢)

(٣) صحيح البخاري تفسير سورة النساء باب ٥)

١٩٧

للذكر مثل حظ الأنثيين ، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث ، وجعل للزوجة الثمن والربع. وللزوج الشطر والربع.

وقال العوفي عن ابن عباس قوله (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وذلك لما أنزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين ، كرهها الناس أو بعضهم وقالوا : تعطى المرأة الربع أو الثمن ، وتعطى البنت النصف ، ويعطى الغلام الصغير ، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ، ولا يحوز الغنيمة ، اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ينساه ، أو نقول له فيغير ، فقال بعضهم : يا رسول الله تعطى الجارية نصف ما ترك أبوها ، وليست تركب الفرس ولا تقاتل القوم ، ويعطى الصبي الميراث وليس يغني شيئا وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم ويعطونه الأكبر فالأكبر. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير (١) أيضا.

وقوله (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) قال بعض الناس : قوله (فَوْقَ) زائدة ، وتقديره فإن كن نساء اثنتين ، كما في قوله (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) [الأنفال : ١٢] وهذا غير مسلم لا هنا ولا هناك. فإنه ليس في القرآن شيء زائد لا فائدة فيه ، وهذا ممتنع ، ثم قوله (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) لو كان المراد ما قالوه لقال : فلهما ثلث ما ترك وإنما استفيد كون الثلثين للبنتين من حكم الأختين في الآية الأخيرة ، فإنه تعالى حكم فيها للأختين بالثلثين. وإذا ورث الأختان الثلثين فلأن يرث البنتان الثلثين بالطريق الأولى. وقد تقدم في حديث جابر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حكم لابنتي سعد بن الربيع بالثلثين ، فدل الكتاب والسنة على ذلك ، وأيضا فإنه قال (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) فلو كان للبنتين النصف لنص عليه أيضا ، فلما حكم به للواحدة على انفرادها ، دل على أن البنتين في حكم الثلاث ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) إلى آخره ، الأبوان لهما في الإرث أحوال [أحدها] أن يجتمعا مع الأولاد فيفرض لكل واحد منهما السدس ، فإن لم يكن للميت إلا بنت واحدة ، فرض لها النصف ، وللأبوين لكل واحد منهما السدس ؛ وأخذ الأب السدس الآخر بالتعصيب ، فيجمع له والحالة هذه بين الفرض والتعصيب. [الحال الثاني] أن ينفرد الأبوان بالميراث ، فيفرض للأم والحالة هذه الثلث ، ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب المحض ، ويكون قد أخذ ضعفي ما فرض للأم ، وهو الثلثان ، فلو كان معهما ـ والحالة هذه ـ زوج أو زوجة أخذ الزوج النصف والزوجة الربع.

ثم اختلف العلماء ماذا تأخذ الأم بعد فرض الزوج والزوجة ، على ثلاثة أقوال : [أحدها] أنها تأخذ ثلث الباقي في المسألتين ، لأن الباقي كأنه جميع الميراث بالنسبة إليهما. وقد جعل

__________________

(١) رواه الطبري في تفسيره ٣ / ٦١٧ من طريق ابن عباس.

١٩٨

الله لها نصف ما جعل للأب. فتأخذ ثلث الباقي ويأخذ الأب ثلثيه ، هذا قول عمر وعثمان ، وأصح الروايتين عن علي ، وبه يقول ابن مسعود وزيد بن ثابت ، وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور العلماء. [والثاني] أنها تأخذ ثلث جميع المال لعموم قوله (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) فإن الآية أعم من أن يكون معها زوج أو زوجة أو لا ، وهو قول ابن عباس. وروي عن علي ومعاذ بن جبل نحوه. وبه يقول شريح وداود الظاهري. واختاره أبو الحسين محمد بن عبد الله بن اللبان البصري في كتابه الإيجاز في علم الفرائض وهذا فيه نظر ، بل هو ضعيف ، لأن ظاهر الآية إنما هو إذا استبد بجميع التركة ، وأما هنا فيأخذ الزوج أو الزوجة الفرض ويبقى الباقي كأنه جميع التركة فتأخذ ثلثه كما تقدم [والقول الثالث] أنها تأخذ ثلث جميع المال في مسألة الزوجة خاصة ، فإنها تأخذ الربع وهو ثلاثة من اثني عشر ، وتأخذ الأم الثلث وهو أربعة ، فيبقى خمسة للأب ، وأما في مسألة الزوج فتأخذ ثلث الباقي لئلا تأخذ أكثر من الأب لو أخذت ثلث المال ، فتكون المسألة من ستة : للزوج النصف ثلاثة وللأم ثلث الباقي بعد ذلك وهو سهم ، وللأب الباقي بعد ذلك وهو سهمان. ويحكى هذا عن ابن سيرين ، وهو قول مركب من القولين الأولين ، موافق كلا منهما في صورة وهو ضعيف أيضا ، والصحيح الأول ، والله أعلم.

والحال الثالث من أحوال الأبوين وهو اجتماعهما مع الإخوة ، سواء كانوا من الأبوين أو من الأب أو من الأم ، فإنهم لا يرثون مع الأب شيئا ، ولكنهم مع ذلك يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس ، فيفرض لها مع وجودهم السدس ، فإن لم يكن وارث سواها وسوى الأب ، أخذ الأب الباقي. وحكم الأخوين فيما ذكرناه كحكم الإخوة عند الجمهور.

وقد روى البيهقي من طريق شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس أنه دخل على عثمان ، فقال : إن الأخوين لا يردان الأم عن الثلث ، قال الله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) فالأخوان ليسا بلسان قومك إخوة ، فقال عثمان : لا أستطيع تغيير ما كان قبلي ، ومضى في الأمصار وتوارث به الناس. وفي صحة هذا الأثر نظر ، فإن شعبة هذا تكلم فيه مالك بن أنس ، ولو كان هذا صحيحا عن ابن عباس لذهب إليه أصحابه الأخصاء به ، والمنقول عنهم خلافه ، وقد روى عبد الرحمن بن أبي الزناد عن خارجة بن زيد عن أبيه أنه قال : الأخوان تسمى إخوة ، وقد أفردت لهذه المسألة جزءا على حدة.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة ، حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد ، عن قتادة قوله (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) أضروا بالأم ولا يرثون ، ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث ويحجبها ما فوق ذلك ، وكان أهل العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمهم عن الثلث أن أباهم يلي إنكاحهم ، ونفقته عليهم دون أمهم ، وهذا كلام حسن. لكن روي عن ابن عباس بإسناد صحيح أنه كان يرى أن السدس الذي حجبوه عن أمهم يكون لهم ؛ وهذا قول شاذ

١٩٩

رواه ابن جرير (١) في تفسيره فقال : حدثنا الحسن بن يحيى ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : السدس الذي حجبته الإخوة الأم لهم ، إنما حجبوا أمهم عنه ليكون لهم دون أبيهم ، ثم قال ابن جرير : وهذا قول مخالف لجميع الأمة. وقد حدثني يونس ، أخبرنا سفيان ، أخبرنا عمرو عن الحسن بن محمد ، عن ابن عباس أنه قال : الكلالة من لا ولد له ولا والد.

وقوله (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدين مقدم على الوصية وذلك عند إمعان النظر يفهم من فحوى الآية الكريمة. وقد روى أحمد والترمذي وابن ماجة وأصحاب التفاسير من حديث أبي إسحاق عن الحارث بن عبد الله الأعور ، عن علي بن أبي طالب ، قال : إنكم تقرأون (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى بالدين قبل الوصية ، وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات (٢) ، يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه. ثم قال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديث الحارث ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم. (قلت) لكن كان حافظا للفرائض معتنيا بها وبالحساب ، فالله أعلم.

وقوله (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) أي إنما فرضنا للآباء والأبناء ، وساوينا بين الكل في أصل الميراث على خلاف ما كان عليه الأمر في الجاهلية وعلى خلاف ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من كون المال للولد وللأبوين الوصية ، كما تقدم عن ابن عباس ، إنما نسخ الله ذلك إلى هذا ففرض لهؤلاء ولهؤلاء بحسبهم ، لأن الإنسان قد يأتيه النفع الدنيوي أو الأخروي أو هما من أبيه ما لا يأتيه من ابنه ، وقد يكون بالعكس ، ولذا قال (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) أي كأن النفع متوقع ومرجو من هذا كما هو متوقع ومرجو من الآخر ، فلهذا فرضنا لهذا وهذا ، وساوينا بين القسمين في أصل الميراث ، والله أعلم.

وقوله (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أي هذا الذي ذكرناه من تفصيل الميراث وإعطاء بعض الورثة أكثر من بعض ، هو فرض من الله حكم به وقضاه ، والله عليم حكيم الذي يضع الأشياء في محالها ، ويعطي كلّا ما يستحقه يحسبه ، ولهذا قال (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً).

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٦٢٢.

(٢) أبناء العلّات : هم أبناء رجل واحد من أمهات مختلفات.

٢٠٠