تفسير القرآن العظيم - ج ٢

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٠

١
٢

سورة آل عمران

هي مدنية ، لأن صدرها إلى ثلاث وثمانين آية منها نزلت في وفد نجران وكان قدومهم في سنة تسع من الهجرة ، كما سيأتي بيان ذلك عند تفسير آية المباهلة منها ، إن شاء الله تعالى ، وقد ذكرنا ما ورد في فضلها مع سورة البقرة أول البقرة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) (٤)

قد ذكرنا الحديث الوارد في أن اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) و (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) عند تفسير آية الكرسي وقد تقدم الكلام على قوله (الم) في أول سورة البقرة بما يغني عن إعادته ، وتقدم الكلام على قوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) في تفسير آية الكرسي.

وقوله تعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) يعني نزل عليك القرآن يا محمد بالحق ، أي لا شك فيه ولا ريب ، بل هو منزل من عند الله ، أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا ، وقوله : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي من الكتب المنزلة قبله من السماء على عباد الله الأنبياء ، فهي تصدقه بما أخبرت به وبشرت في قديم الزمان ، وهو يصدقها ، لأنه طابق ما أخبرت به ، وبشرت من الوعد من الله بإرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنزال القرآن العظيم عليه. وقوله : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ) أي على موسى بن عمران ، (وَالْإِنْجِيلَ) أي على عيسى ابن مريم عليهما‌السلام ، (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هذا القرآن (هُدىً لِلنَّاسِ) أي في زمانهما. (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) وهو الفارق بين الهدى والضلال ، والحق والباطل ، والغي والرشاد ، بما يذكره الله تعالى من الحجج والبينات والدلائل الواضحات ، والبراهين القاطعات ، ويبينه ويوضحه ويفسره ويقرره ويرشد إليه وينبه عليه من ذلك.

وقال قتادة والربيع بن أنس : الفرقان ـ هاهنا ـ القرآن. واختار ابن جرير (١) أنه مصدر هاهنا لتقدم ذكر القرآن في قوله : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) وهو القرآن. وأما ما رواه ابن أبي حاتم عن أبي صالح ، أن المراد بالفرقان هاهنا التوراة ، فضعيف أيضا لتقدم

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ١٦٨.

٣

ذكر التوراة ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) أي جحدوا بها وأنكروها وردوها بالباطل ، (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي يوم القيامة ، (وَاللهُ عَزِيزٌ) أي منيع الجناب عظيم السلطان ، (ذُو انْتِقامٍ) أي ممن كذب بآياته وخالف رسله الكرام وأنبياءه العظام.

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٦)

يخبر تعالى أنه يعلم غيب السماء والأرض ، لا يخفى عليه شيء من ذلك ، (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) أي يخلقكم في الأرحام كما يشاء من ذكر وأنثى ، وحسن وقبيح ، وشقي وسعيد ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي هو الذي خلق ، وهو المستحق للإلهية وحده لا شريك له ، وله العزة التي لا ترام ، والحكمة والأحكام. وهذه الآية فيها تعريض ، بل تصريح بأن عيسى ابن مريم عبد مخلوق ، كما خلق الله سائر البشر ، لأن الله صوره في الرحم وخلقه كما يشاء ، فكيف يكون إلها كما زعمته النصارى ، عليهم لعائن الله ، وقد تقلب في الأحشاء وتنقل من حال إلى حال؟ كما قال تعالى : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) [الزمر : ٦].

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٩)

يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات ، هن أم الكتاب ، أي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد ، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم ، فمن رد ما اشتبه إلى الواضح منه وحكم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى ومن عكس انعكس ولهذا قال تعالى (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أي أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم وقد تحتمل شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المراد.

وقد اختلفوا في المحكم والمتشابه فروي عن السلف عبارات كثيرة فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وأحكامه وحدوده وفرائضه وما يؤمر به ويعمل به وعن ابن عباس (١) أيضا أنه قال المحكمات قوله

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ١٧٢.

٤

تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) [الأنعام : ١٥١] والآيات (١) بعدها. وقوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] إلى ثلاث آيات بعدها ورواه ابن أبي حاتم وحكاه عن سعيد بن جبير به قال : حدثنا أبي حدّثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن إسحاق بن سويد أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا في هذه الآية وهي (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) فقال أبو فاختة : فواتح السور ، وقال يحيى بن يعمر : الفرائض والأمر والنهي والحلال والحرام.

وقال ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير : هنّ أمّ الكتاب لأنهنّ مكتوبات في جميع الكتب ، وقال مقاتل بن حيان : لأنه ليس من أهل دين إلا يرضى بهنّ.

وقيل في المتشابهات : المنسوخة والمقدم منه والمؤخر والأمثال فيه والأقسام وما يؤمن به ولا يعمل به ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقيل هي الحروف المقطعة في أوائل السور قاله مقاتل بن حيان ، وعن مجاهد : المتشابهات يصدق بعضها بعضا وهذا إنما هو في تفسير قوله (كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) [الزمر : ٢٣] هناك ذكروا أن المتشابه هو الكلام الذي يكون في سياق واحد والمثاني هو الكلام في شيئين متقالين كصفة الجنة وصفة النار وذكر حال الأبرار وحال الفجار ونحو ذلك. وأما هاهنا فالمتشابه هو الذي يقابل المحكم ، وأحسن ما قيل فيه هو الذي قدمنا وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار رحمه‌الله حيث قال منه آيات محكمات فهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم الباطل ليس لهن تصريف عما وضعن عليه ، قال : والمتشابهات في الصدق ليس لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل ويحرفن عن الحق.

ولهذا قال تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) أي إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرّفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه لأنه دافع لهم وحجة عليهم ولهذا قال الله تعالى : (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) أي الإضلال لأتباعهم إيهاما لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن وهو حجة عليهم لا لهم كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وتركوا الاحتجاج بقوله (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) [الزخرف : ٥٩] وبقوله (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩] وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله وعبد ورسول من رسل الله.

__________________

(١) المراد الآيات ١٥٢ و ١٥٢ و ١٥٣ من سورة الأنعام كما جاء في تفسير الطبري.

٥

وقوله تعالى (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) أي تحريفه على ما يريدون وقال مقاتل بن حيان والسدي: يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من القرآن. وقد قال الإمام أحمد (١) حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت : قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) إلى قوله (أُولُوا الْأَلْبابِ) فقال : «فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم» هكذا وقع الحديث في مسند الإمام أحمد من رواية ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها ليس بينهما أحد. وهكذا رواه ابن ماجة (٢) من طريق إسماعيل بن علية وعبد الوهاب الثقفي كلاهما عن أيوب به. ورواه محمد بن يحيى العبدي في مسنده عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب به وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب وكذا رواه غير واحد عن أيوب وقد رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أيوب به ، ورواه أبو بكر بن المنذر في تفسيره من طريقين عن النعمان بن محمد بن الفضل السدوسي ولقبه عارم : حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا أيوب عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة به وتابع أيوب أبو عامر الخراز وغيره عن ابن أبي مليكة. فرواه الترمذي عن بندار ، عن أبي داود الطيالسي ، عن أبي عامر الخراز ، فذكره وهكذا رواه سعيد بن منصور في سننه عن حماد بن يحيى الأبح ، عن عبد الله بن أبي مليكة ، عن عائشة. ورواه ابن جرير من حديث روح بن القاسم ونافع بن عمر الجمحي ، كلاهما عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة به. وقال نافع في روايته عن ابن أبي مليكة : حدثتني عائشة ، فذكره.

وقد روى هذا الحديث البخاري (٣) عند تفسير هذه الآية ، ومسلم في كتاب القدر (٤) من صحيحه ، وأبو داود في السنة (٥) من سننه ، ثلاثتهم عن القعنبي ، عن يزيد بن إبراهيم التستري ، عن ابن أبي مليكة ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : تلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هذه الآية : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) إلى قوله : (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه ؛ فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» لفظ البخاري. وكذا رواه الترمذي أيضا ، عن بندار عن أبي داود الطيالسي ، عن يزيد بن إبراهيم به ؛ وقال : حسن صحيح ؛ وذكر أن يزيد بن إبراهيم التستري تفرد بذكر القاسم في هذا الإسناد. وقد رواه غير واحد عن ابن أبي مليكة عن عائشة ،

__________________

(١) المسند ج ٦ ص ٤٨.

(٢) سنن ابن ماجة (مقدمة باب ٧)

(٣) صحيح البخاري (تفسير سورة ٣ باب ١)

(٤) هو في صحيح مسلم في أول كتاب العلم الذي يلي كتاب القدر ، حديث رقم ١.

(٥) سنن أبي داود (سنّة باب ٢)

٦

ولم يذكر القاسم ؛ كذا قال.

وقد رواه ابن أبي حاتم فقال : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا يزيد بن إبراهيم التستري وحماد بن سلمة ، عن ابن أبي مليكة ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عن قول الله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم».

وقال ابن جرير (١) : حدثنا علي بن سهل ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن حماد بن سلمة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : نزع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الآية : (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «قد حذركم الله فإذا رأيتموهم فاعرفوهم» ورواه ابن مردويه من طريق أخرى عن القاسم عن عائشة به.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أبو كامل ، حدثنا حماد عن أبي غالب ، قال : سمعت أبا أمامة يحدث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) قال «هم الخوارج». وفي قوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران : ١٠٦] قال «هم الخوارج» وقد رواه ابن مردويه من غير وجه ، عن أبي غالب عن أبي أمامة مرفوعا فذكره.

وهذا الحديث أقل أقسامه أن يكون موقوفا من كلام الصحابي ، ومعناه صحيح ، فإن أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج ، وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم غنائم حنين ، فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدل في القسمة ، ففاجأوه بهذه المقالة ، فقال قائلهم وهو ذو الخويصرة ـ بقر الله خاصرته ـ : اعدل فإنك لم تعدل ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل ، أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني». فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب ، وفي رواية : خالد بن الوليد ، رسول الله في قتله ، فقال «دعه فانه يخرج من ضئضىء هذا ، أي من جنسه ، قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم» ثم كان ظهورهم أيام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتلهم بالنهروان ، ثم تشعبت منهم شعوب ، وقبائل وآراء ، وأهواء ، ومقالات ، ونحل كثيرة منتشرة ، ثم نبعت القدرية ، ثم المعتزلة ، ثم الجهمية ، وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوقصلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ١٧٩.

(٢) المسند ج ٥ ص ٢٦٢.

٧

واحدة» قالوا : من هم يا رسول الله؟ قال : «من كان على ما أنا عليه وأصحابي» ، أخرجه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة.

وقال الحافظ أبو يعلي : حدثنا أبو موسى حدثنا عمرو بن عاصم ، حدثنا المعتمر عن أبيه ، عن قتادة ، عن الحسن بن جندب بن عبد الله ، أنه بلغه عن حذيفة ، أو سمعه منه ، يحدث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ذكر «إن في أمتي قوما يقرءون القرآن ، ينثرونه نثر الدقل (١) يتأولونه على غير تأويله» لم يخرجوه.

وقوله تعالى (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) اختلف القراء في الوقف هاهنا ، فقيل : على الجلالة ، كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : التفسير على أربعة أنحاء : فتفسير لا يعذر أحد في فهمه ، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها ، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم ، وتفسير لا يعلمه إلا الله ، ويروى هذا القول عن عائشة وعروة وأبي الشعثاء وأبي نهيك وغيرهم. وقد قال الحافظ أبو القاسم في المعجم الكبير : حدثنا هاشم بن مزيد ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، حدثني أبي ، حدثني ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري ، أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال : أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا ، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) الآية ، وأن يزداد علمهم فيضيعوه ولا يبالون عليه» غريب جدا. وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا أحمد بن عمرو ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن ابن العاص ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا ، فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما تشابه فآمنوا به» وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه ، قال : كان ابن عباس يقرأ : وما يعلم تأويله إلا الله ، ويقول الراسخون آمنا به ، وكذا رواه ابن جرير عن عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس أنهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله ، وحكى ابن جرير أن في قراءة عبد الله بن مسعود : «إن تأويله إلا عند الله الراسخون في العلم يقولون آمنا به» ، وكذا عن أبي بن كعب ، واختار ابن جرير هذا القول (٢).

ومنهم من يقف على قوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول ، وقالوا : الخطاب بما لا يفهم بعيد ، وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد ، عن ابن عباس أنه قال : أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله ، وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به ، وكذا قال الربيع بن أنس.

__________________

(١) الدقل : رديء التمر ويابسه.

(٢) انظر تفسير الطبري ٣ / ١٨٤.

٨

وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) الذي أراد ما أراد (إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) ، ثم ردوا تأويل المتشابهات على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد ، فاتسق بقولهم الكتاب وصدق بعضه بعضا ، فنفذت الحجة ، وظهر به العذر ، وزاح به الباطل ، ودفع به الكفر ، وفي الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا لابن عباس ، فقال «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل».

ومن العلماء من فصل في هذا المقام وقال : التأويل يطلق ، ويراد به في القرآن معنيان : أحدهما التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه ، ومنه قوله تعالى : (وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) [يوسف : ١٠٠] وقوله (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) [الأعراف : ٥٣] أي حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد ، فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عزوجل ، ويكون قوله (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) مبتدأ و (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) خبره ، وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر ، وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشيء كقوله (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) أي بتفسيره ، فإن أريد به هذا المعنى ، فالوقف على (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار ، وإن لم يحيطوا علما بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه ، وعلى هذا يكون قوله : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) حالا منهم ، وساغ هذا ، وهو أن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه ، كقوله (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ ـ إلى قوله ـ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا) [الحشر : ٨ ـ ١٠] ، وقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢] أي وجاءت الملائكة صفوفا صفوفا.

وقوله إخبارا عنهم (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) ، أي المتشابه ، (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) أي الجميع من المحكم والمتشابه حق وصدق ، وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له ، لأن الجميع من عند الله وليس شيء من عند الله بمختلف ولا متضاد ، لقوله : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] ، ولهذا قال تعالى : (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولوا العقول السليمة والفهوم المستقيمة.

وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف الحمصي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا فياض الرقي ، حدثنا عبد الله بن يزيد وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنسا وأبا أمامة وأبا الدرداء رضي الله عنهم قال : حدثنا أبو الدرداء أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سئل عن الراسخين في العلم ، فقال : «من برت يمينه ، وصدق لسانه ، واستقام قلبه ، ومن أعفّ بطنه وفرجه ، فذلك من الراسخين في العلم».

٩

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن الزهري ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ، قال : سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوما يتدارءون ، فقال «إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، وإنما أنزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا ، فلا تكذبوا بعضه ببعض ، فما علمتم منه فقولوا ، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه» وتقدم رواية ابن مردويه لهذا الحديث من طريق هشام بن عمار ، عن ابن أبي حازم ، عن أبيه ، عن عمرو بن شعيب به.

وقد قال أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا زهير بن حرب ، حدثنا أنس بن عياض ، عن أبي حازم ، عن أبي سلمة ، قال : لا أعلمه إلا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «نزل القرآن على سبعة أحرف ، والمراء في القرآن كفر ـ قالها ثلاثا ـ ما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه جل جلاله» وهذا إسناد صحيح ، ولكن فيه علة بسبب قول الراوي «لا أعلمه إلا عن أبي هريرة».

وقال ابن المنذر في تفسيره : حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني نافع بن يزيد ، قال : يقال : الراسخون في العلم المتواضعون لله ، المتذللون لله في مرضاته ، لا يتعاظمون على من فوقهم ولا يحقرون من دونهم.

ثم قال تعالى مخبرا أنهم دعوا ربهم قائلين (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) ، أي لا تملها عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه ولا تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ ، الذين يتبعون ما تشابه من القرآن ، ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم ، ودينك القويم ، (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ) أي من عندك (رَحْمَةً) تثبت بها قلوبنا وتجمع بها شملنا ، وتزيدنا بها إيمانا وإيقانا ، (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).

قال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي ، وقال ابن جرير (٢) : حدثنا أبو كريب ، قالا جميعا : حدثنا وكيع عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن أم سلمة ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» ثم قرأ (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) ، ورواه ابن مردويه من طريق محمد بن بكار ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن أم سلمة ، وهي أسماء بنت يزيد بن السكن ، سمعها تحدث : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان يكثر من دعائه «اللهم مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك» قالت : قلت : يا رسول الله ، وإن القلب ليتقلب؟ قال : «نعم ، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا قلبه بين إصبعين من أصابع الله عزوجل ، فإن شاء أقامه ،

__________________

(١) المسند ج ٢ ص ١٨٥.

(٢) تفسير الطبري ٣ / ١٨٧.

١٠

وإن شاء أزاغه» فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب.

وهكذا رواه ابن جرير من حديث أسد بن موسى ، عن عبد الحميد بن بهرام به مثله ، رواه أيضا عن المثنى عن الحجاج بن منهال عن عبد الحميد بن بهرام به مثله ، وزاد : «قلت يا رسول الله ، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال : «بلى ، قولي اللهم رب النبي محمد ، اغفر لي ذنبي ، وأذهب غيظ قلبي ، وأجرني من مضلات الفتن» (١).

ثم قال ابن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا محمد بن هارون بن بكار الدمشقي ، حدثنا العباس بن الوليد الخلال ، أخبرنا يزيد بن يحيى بن عبيد الله ، أخبرنا سعيد بن بشير عن قتادة ، عن حسان الأعرج ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثيرا ما يدعو «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» قلت : يا رسول الله ، ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء ، فقال «ليس من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن ، إذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه ، أما تسمعين قوله (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) غريب من هذا الوجه ، ولكن أصله ثابت في الصحيحين وغيرهما من طرق كثيرة بدون زيادة ذكر هذه الآية الكريمة.

وقد رواه أبو داود (٢) والنسائي وابن مردويه من حديث أبي عبد الرحمن المقري ، زاد النسائي وابن حبان وعبد الله بن وهب كلاهما عن سعيد بن أبي أيوب : حدثني عبد الله بن الوليد التجيبي عن سعيد بن المسيب ، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان إذا استقيظ من الليل قال «لا إله إلا أنت ، سبحانك ، اللهم إني أستغفرك لذنبي ، وأسألك رحمة ، اللهم زدني علما ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني ، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب» لفظ ابن مردويه.

وقال عبد الرزاق عن مالك عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك عن عبادة بن نسى أنه أخبره أنه سمع قيس بن الحارث يقول : أخبرني أبو عبد الله الصنابحي أنه صلى وراء أبي بكر الصديق رضي الله عنه المغرب ، فقرأ أبو بكر في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورتين من قصار المفصل ، وقرأ في الركعة الثالثة ، قال : فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه ، فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الآية : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) الآية. قال أبو عبيد : وأخبرني عبادة بن نسى أنه كان عند عمر بن عبد العزيز في خلافته ، فقال عمر لقيس : كيف أخبرتني عن أبي عبد الله؟ قال عمر : فما تركناها منذ سمعناها منه وإن كنت قبل ذلك لعلى غير

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ١٨٨.

(٢) سنن أبي داود (أدب باب ٩٩)

١١

ذلك ، فقال له رجل : على أي شيء كان أمير المؤمنين قبل ذلك ، قال : كنت أقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] ، وقد روى هذا الأثر الوليد بن مسلم عن مالك والأوزاعي ، كلاهما عن أبي عبيد به ، وروى هذا الأثر الوليد أيضا عن ابن جابر ، عن يحيى بن يحيى الغساني ، عن محمود بن لبيد ، عن الصنابحي ، أنه صلى خلف أبي بكر المغرب ، فقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة قصيرة يجهر بالقراءة ، فلما قام إلى الثالثة ، ابتدأ القراءة ، فدنوت منه حتى إن ثيابي لتمس ثيابه ، فقرأ هذه الآية (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) الآية.

وقوله (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) [آل عمران : ٩] أي يقولون في دعائهم : إنك يا ربنا ستجمع بين خلقك يوم معادهم ، وتفصل بينهم وتحكم فيهم فيما اختلفوا فيه ، وتجزي كلا بعمله وما كان عليه في الدنيا من خير وشر.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) (١١)

يخبر تعالى عن الكفار بأنهم وقود النار (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر : ٥٢] وليس ما أوتوه في الدنيا من الأموال والأولاد بنافع لهم عند الله ، ولا بمنجيهم من عذابه وأليم عقابه ، كما قال تعالى : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) [التوبة : ٥٥] وقال تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ، مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) [آل عمران : ١٩٦ ـ ١٩٧] ، وقال هاهنا (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بآيات الله ، وكذبوا رسله ، وخالفوا كتابه ، ولم ينتفعوا بوحيه إلى أنبيائه (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) أي حطبها الذي تسجر (١) به ، وتوقد به ، كقوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨]. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا ابن لهيعة ، أخبرني ابن الهاد عن هند بنت الحارث ، عن أم الفضل أم عبد الله بن عباس ، قالت : بينما نحن بمكة ، قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الليل فنادى «هل بلغت اللهم ، هل بلغت» ثلاثا ، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : نعم ، ثم أصبح فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليظهرن الإسلام حتى يرد الكفر إلى مواطنه ، ولتخوضنّ البحار بالإسلام ، وليأتين على الناس زمان يتعلمون القرآن ويقرءونه ، ثم يقولون : قد قرأنا وعلمنا ، فمن هذا الذي هو خير منا ، فهل في أولئك من خير؟» قالوا : يا رسول الله ، فمن أولئك؟ قال «أولئك منكم ، وأولئك هم وقود النار» وكذا رأيته بهذا اللفظ.

وقد رواه ابن مردويه من حديث يزيد بن عبد الله بن الهاد ، عن هند بنت الحارث امرأة

__________________

(١) سجر التنور : ملأه وقودا وأحماه.

١٢

عبد الله بن شداد ، عن أم الفضل ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام ليلة بمكة ، فقال «هل بلغت» يقولها ثلاثا ؛ فقام عمر بن الخطاب وكان أوّاها (١) ، فقال : اللهم نعم ، وحرصت ، وجهدت ، ونصحت ، فاصبر ؛ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليظهرن الإيمان حتى يرد الكفر إلى مواطنه ، وليخوضن رجال البحار بالإسلام ، وليأتين على الناس زمان يقرءون القرآن ، فيقرءونه ويعلمونه ، فيقولون :

قد قرأنا وقد علمنا فمن هذا الذي هو خير منا؟ فما في أولئك من خير» قالوا : يا رسول الله ، فمن أولئك؟ قال : «أولئك منكم ، وأولئك هم وقود النار» ثم رواه من طريق موسى بن عبيد ، عن محمد بن إبراهيم عن بنت الهاد عن العباس بن عبد المطلب بنحوه.

وقوله تعالى : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) قال الضحاك عن ابن عباس : كصنيع آل فرعون ، وكذا روي عن عكرمة ومجاهد وأبي مالك والضحاك وغير واحد ، ومنهم من يقول : كسنة آل فرعون ، وكفعل آل فرعون ، وكشبه آل فرعون ، والألفاظ متقاربة ، والدأب بالتسكين والتحريك كنهر ونهر ، هو الصنيع والحال والشأن والأمر والعادة ، كما يقال لا يزال هذا دأبي ودأبك ، وقال امرؤ القيس : [الطويل]

وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم

يقولون لا تأسف أسى وتجمّل

كدأبك من أم الحويرث قبلها

وجارتها أم الرباب بمأسل (٢)

والمعنى كعادتك في أم الحويرث حين أهلكت نفسك في حبها وبكيت دارها ورسمها ، والمعنى في الآية أن الكافرين لا تغني عنهم الأموال ولا الأولاد ، بل يهلكون ويعذبون كما جرى لآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين للرسل فيما جاءوا به من آيات الله وحججه ، (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي شديد الأخذ أليم العذاب لا يمتنع منه أحد ولا يفوته شيء ، بل هو الفعال لما يريد الذي قد غلب كل شيء ، وذلّ له كل شيء ، لا إله غيره ولا رب سواه.

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) (١٣)

يقول تعالى : قل يا محمد للكافرين (سَتُغْلَبُونَ) أي في الدنيا ، (وَتُحْشَرُونَ) أي يوم القيامة (إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار عن عاصم بن عمر بن قتادة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أصاب من أهل بدر ما أصاب ، ورجع إلى المدينة ، جمع اليهود في سوق بني قينقاع ، وقال «يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشا».

__________________

(١) الأوّاه : الكثير الدعاء ، والرحيم الرقيق القلب. ومنه الآية : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ).

(٢) ديوان امرئ القيس ص ٩. ورواية الديوان «لا تهلك» في موضع «لا تأسف» و «كدينك» في موضع «كدأبك». والدين والدأب بمعنى. ومأسل : اسم موضع.

١٣

فقالوا : يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال ، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس ، وأنك لم تلق مثلنا ، فأنزل الله في ذلك قوله (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ ـ إلى قوله ـ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) وقد رواه محمد بن إسحاق أيضا ، عن محمد بن أبي محمد ، عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس ، فذكره ، ولهذا قال تعالى : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) أي (قَدْ كانَ لَكُمْ) أيها اليهود القائلون ما قلتم (آيَةٌ) ، أي دلالة على أن الله معز دينه ، وناصر رسوله ، ومظهر كلمته ، ومعل أمره (فِي فِئَتَيْنِ) أي طائفتين (الْتَقَتا) أي للقتال (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ) وهم مشركو قريش يوم بدر ، وقوله : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) قال بعض العلماء فيما حكاه ابن جرير (١) : يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثليهم في العدد رأي أعينهم ، أي جعل الله ذلك فيما رأوه سببا لنصرة الإسلام عليهم ، وهذا لا إشكال عليه إلا من جهة واحدة ، وهي أن المشركين بعثوا عمر بن سعد يومئذ قبل القتال يحزر (٢) لهم المسلمين ، فأخبرهم بأنهم ثلاثمائة يزيدون قليلا أو ينقصون ، وهكذا كان الأمر ؛ كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، ثم لما وقع القتال أمدهم الله بألف من خواص الملائكة وساداتهم.

والقول الثاني : أن المعنى في قوله تعالى : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) أي ترى الفئة المسلمة الفئة الكافرة مثليهم ، أي ضعيفهم في العدد ، ومع هذا نصرهم الله عليهم ، وهذا لا إشكال فيه على ما رواه العوفي عن ابن عباس : أن المؤمنين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، والمشركين كانوا ستمائة وستة وعشرين رجلا وكأن هذا القول مأخوذ من ظاهر هذه الآية ، ولكنه خلاف المشهور عند أهل التواريخ والسير وأيام الناس ، وخلاف المعروف عند الجمهور من أن المشركين كانوا ما بين تسعمائة إلى ألف ، كما رواه محمد بن إسحاق (٣) عن يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما سأل ذلك العبد (٤) الأسود لبني الحجاج عن عدة قريش قال : كثير ، قال «كم ينحرون كل يوم»؟ قال : يوما تسعا ويوما عشرا ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «القوم ما بين التسعمائة إلى الألف».

وروى أبو إسحاق السبيعي ، عن حارثة ، عن علي رضي الله عنه ، قال : كانوا ألفا ، وكذا قال ابن مسعود. والمشهور أنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف ، وعلى كل تقدير كانوا ثلاثة أمثال المسلمين ، وعلى هذا فيشكل هذا القول ، والله أعلم ، لكن وجه ابن جرير هذا وجعله

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ١٩٤.

(٢) أي يقدّر عديدهم وعتادهم.

(٣) تفسير الطبري ٣ / ١٩٦.

(٤) في الطبري أنهما كانا غلامين ، أحدهما أسلم وهو غلام بني الحجاج ، والثاني عريض أبو يسار غلام بني العاص.

١٤

صحيحا كما تقول : عندي ألف ، وأنا محتاج إلى مثليها ، وتكون محتاجا إلى ثلاثة آلاف ، كذا قال ، وعلى هذا فلا إشكال.

لكن بقي سؤال آخر وهو وارد على القولين ، وهو أن يقال : ما الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى في قصة بدر (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) [الأنفال : ٤٤] فالجواب أن هذا كان في حالة والآخر كان في حالة أخرى ، كما قال السدي عن الطيب عن ابن مسعود في قوله تعالى : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا) الآية ، قال : هذا يوم بدر ، قال عبد الله بن مسعود : وقد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا ، وذلك قوله تعالى : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) الآية.

وقال أبو إسحاق عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جانبي : تراهم سبعين؟ قال : أراهم مائة ، قال : فأسرنا رجلا منهم ، فقلنا ، كم كنتم؟ قال : ألفا ، فعند ما عاين كل من الفريقين الآخر ، رأى المسلمون المشركين مثليهم ، أي أكثر منهم بالضعف ليتوكلوا ويتوجهوا ويطلبوا الإعانة من ربهم عزوجل ، ورأى المشركون المؤمنين كذلك ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع ، ثم لما حصل التصاف والتقى الفريقان ، قلل الله هؤلاء في أعين هؤلاء ، وهؤلاء في أعين هؤلاء ، ليقدم كل منهما على الآخر.

(لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) أي ليفرق بين الحق والباطل ، فيظهر كلمة الإيمان على الكفر والطغيان ، ويعز المؤمنين ويذل الكافرين ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) [آل عمران : ١٢٣] وقال هاهنا (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي إن في ذلك لمعتبرا لمن له بصيرة وفهم يهتدي به إلى حكمة الله وأفعاله وقدره الجاري بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ(١٤) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (١٥)

يخبر تعالى عما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين ، فبدأ بالنساء ، لأن الفتنة بهن أشد ، كما ثبت في الصحيح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» (١) فأما إذا كان القصد بهن الإعفاف وكثرة الأولاد ، فهذا مطلوب

__________________

(١) صحيح البخاري (نكاح باب ١٧) وصحيح مسلم (ذكر حديث ٩٧ و ٩٨)

١٥

مرغوب فيه ، مندوب إليه ، كما وردت الأحاديث بالترغيب في التزويج والاستكثار منه ، «وإن خير هذه الأمة من كان أكثرها نساء» ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الدنيا متاع ، وخير متاعها المرأة الصالحة ، إن نظر إليها سرته ، وإن أمرها أطاعته وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله» وقوله في الحديث الآخر «حبب إليّ النساء والطيب ، وجعلت قرة عيني في الصلاة» (١). وقالت عائشة رضي الله عنها : لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النساء إلا الخيل ، وفي رواية من الخيل إلا النساء ، وحب البنين تارة يكون للتفاخر والزينة ، فهو داخل في هذا ، وتارة يكون لتكثير النسل وتكثير أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممن يعبد الله وحده لا شريك له ، فهذا محمود ممدوح كما ثبت في الحديث «تزوجوا الودود الولود ، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» (٢) وحب المال كذلك تارة يكون للفخر والخيلاء ، والتكبر على الضعفاء والتجبر على الفقراء ، فهذا مذموم ، وتارة يكون للنفقة في القربات وصلة الأرحام والقرابات ووجوه البر والطاعات ، فهذا ممدوح محمود شرعا.

وقد اختلف المفسرون في مقدار القنطار على أقوال ، وحاصلها أنه المال الجزيل كما قاله الضحاك وغيره ، وقيل : ألف دينار ، وقيل : ألف ومائتا دينار وقيل اثنا عشر ألفا ، وقيل : أربعون ألفا ، وقيل : ستون ألفا ، وقيل سبعون ألفا ، وقيل : ثمانون ألفا ، وقيل غير ذلك ، وقد قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حماد ، عن عاصم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «القنطار اثنا عشر ألف أوقية ، كل أوقية خير مما بين السماء والأرض» ، وقد رواه ابن ماجة (٤) عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الصمد بن عبد الوارث عن حماد بن سلمة به ، وقد رواه ابن جرير عن بندار ، عن ابن مهدي ، عن حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة موقوفا وهذا أصح ، وهكذا رواه ابن جرير عن معاذ بن جبل وابن عمر ، وحكاه ابن أبي حاتم ، عن أبي هريرة وأبي الدرداء ، أنهم قالوا : القنطار ألف ومائتا أوقية ، ثم قال ابن جرير (٥) رحمه‌الله : حدثنا زكريا بن يحيى الضرير ، حدثنا شبابة ، حدثنا مخلد بن عبد الواحد ، عن علي بن زيد ، عن عطاء بن أبي ميمونة ، عن زر بن حبيش ، عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية». وهذا حديث منكر أيضا ، والأقرب أن يكون موقوفا على أبي بن كعب كغيره من الصحابة وقد روى ابن مردويه من طريق موسى بن عبيدة الربذي ، عن محمد بن إبراهيم ، عن موسى ، عن أم

__________________

(١) مسند أحمد ج ٣ ص ١٢٨.

(٢) سنن أبي داود (نكاح باب ٣) وسنن النسائي (نكاح باب ١١) ومسند أحمد (ج ٣ ص ١٥٨ و ٢٤٥)

(٣) المسند ج ٢ ص ٣٦٣.

(٤) سنن ابن ماجة (كتاب الأدب حديث رقم ٣٦٦٠)

(٥) تفسير الطبري ٣ / ١٩٩.

١٦

الدرداء ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ مائة آية لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ مائة آية إلى ألف ، أصبح له قنطار من أجر عند الله ، القنطار منه مثل الحبل العظيم» ورواه وكيع عن موسى بن عبيدة بمعناه ، وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا أحمد بن عيسى بن زيد اللخمي ، حدثنا محمد بن عمرو بن أبي سلمة ، حدثنا زهير بن محمد ، حدثنا حميد الطويل ورجل آخر ، عن أنس بن مالك ، قال : سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول الله تعالى (وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ)؟ قال «القنطار ألفا أوقية» صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ، هكذا رواه الحاكم.

وقد رواه ابن أبي حاتم بلفظ آخر فقال : أنبأنا أحمد بن عبد الرحمن الرقي ، أنبأنا عمرو بن أبي سلمة ، أنبأنا زهير يعني ابن محمد ، أنبأنا حميد الطويل ، ورجل آخر قد سماه يعني يزيد الرقاشي ، عن أنس ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في قوله «قنطار يعني ألف دينار» وهكذا رواه ابن مردويه والطبراني (١) عن عبد الله بن محمد بن أبي مريم ، عن عمرو بن أبي سلمة ، فذكر بإسناده مثله سواء.

وروى ابن جرير عن الحسن البصري : عنه مرسلا وموقوفا عليه : القنطار ألف ومائتا دينار ، وهو رواية العوفي عن ابن عباس ، وقال الضحاك : من العرب من يقول : القنطار ألف دينار ، ومنهم من يقول : اثنا عشر ألفا.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عارم (٢) عن حماد عن سعيد الجريري ، عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري ، قال : القنطار ملء مسك الثور ذهبا ، قال أبو محمد : ورواه محمد بن موسى الحرشي عن حماد بن زيد مرفوعا ، والموقوف أصح.

وحب الخيل على ثلاثة أقسام تارة يكون ربطها أصحابها معدة لسبيل الله متى احتاجوا إليها غزوا عليها ، فهؤلاء يثابون ، وتارة تربط فخرا ونواء لأهل الإسلام ، فهذه على صاحبها وزر وتارة للتعفف واقتناء نسلها ، ولم ينس حق الله في رقابها فهذه لصاحبها ستر كما سيأتي الحديث بذلك إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) [الأنفال : ٦٠] ، وأما المسومة ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما : المسومة الراعية ، والمطهمة الحسان ، وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن عبد الله بن أبزى والسدي والربيع بن أنس وأبي سنان وغيرهم ، وقال مكحول : المسومة الغرة والتحجيل وقيل غير ذلك. وقد قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الحميد بن

__________________

(١) المعجم الصغير ١ / ٢١٢.

(٢) هو محمد بن الفضل السدوسي البصري المتوفى سنة ٢٢٣ ه‍. انظر موسوعة رجال الكتب التسعة ٣ / ٤٤٥.

(٣) مسند أحمد (ج ٥ ص ١٧٠)

١٧

جعفر ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن سويد بن قيس ، عن معاوية بن حديج ، عن أبي ذر رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليس من فرس عربي إلا يؤذن له مع كل فجر يدعو بدعوتين يقول : اللهم إنك خولتني من خولتني من بني آدم ، فاجعلني من أحب ماله وأهله إليه ، أو أحب أهله وماله إليه».

وقوله تعالى (وَالْأَنْعامِ) يعني الإبل والبقر والغنم ، (وَالْحَرْثِ) يعني الأرض المتخذة للغراس والزراعة ، وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا أبو نعامة العدوي ، عن مسلم بن بديل ، عن إياس بن زهير ، عن سويد بن هبيرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال «خير مال امرئ له مهرة مأمورة أو سكة مأبورة» المأمورة : الكثيرة النسل ، والسكة : النخل المصطف ، والمأبورة : الملقحة.

ثم قال تعالى : (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي إنما هذا زهرة الحياة الدنيا وزينتها الفانية الزائلة (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) أي حسن المرجع والثواب.

وقد قال ابن جرير (٢) : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير عن عطاء ، عن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد. قال : قال عمر بن الخطاب لما نزلت (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) قلت : الآن يا رب حين زينتها لنا ، فنزلت (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) ، ولهذا قال تعالى : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) أي قل يا محمد للناس : أأخبركم بخير مما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من زهرتها ونعيمها الذي هو زائل لا محالة ، ثم أخبر عن ذلك فقال: (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي تنخرق بين جوانبها وأرجائها الأنهار من أنواع الأشربة من العسل واللبن والخمر والماء وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر (خالِدِينَ فِيها) أي ماكثين فيها أبد الآباد لا يبغون عنها حولا ، (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) أي من الدنس والخبث والأذى والحيض والنفاس وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) أي يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم بعده أبدا ، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى التي في براءة (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ١٠٩] أي أعظم مما أعطاهم من النعيم المقيم ، ثم قال تعالى : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي يعطي كلا بحسب ما يستحقه من العطاء.

(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) (١٧)

يصف تبارك وتعالى عباده المتقين الذين وعدهم الثواب الجزيل ، فقال تعالى : (الَّذِينَ

__________________

(١) المسند (ج ٣ ص ٤٦٨)

(٢) تفسير الطبري ٣ / ١٩٨.

١٨

يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) أي بك وبكتابك وبرسولك ، (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أي بإيماننا بك وبما شرعته لنا ، فاغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا من أمرنا بفضلك ورحمتك ، (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) ثم قال تعالى : (الصَّابِرِينَ) أي في قيامهم بالطاعات وتركهم المحرمات ، (وَالصَّادِقِينَ) فيما أخبروا به من إيمانهم بما يلتزمونه من الأعمال الشاقة ، (وَالْقانِتِينَ) والقنوت الطاعة والخضوع (وَالْمُنْفِقِينَ) أي من أموالهم في جميع ما أمروا به من الطاعات ، وصلة الأرحام والقرابات ، وسد الخلات (١) ، ومواساة ذوي الحاجات (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) دلّ على فضيلة الاستغفار وقت الأسحار ، وقد قيل : إن يعقوب عليه‌السلام ، لما قال لبنيه (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) [يوسف : ٩٨] ، إنه أخرهم إلى وقت السحر وثبت في الصحيحين وغيرهما من المساند والسنن من غير وجه عن جماعة من الصحابة ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «ينزل الله تبارك وتعالى في كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير ، فيقول : هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ (٢)» الحديث ، وقد أفرد الحافظ أبو الحسن الدار قطني في ذلك جزءا على حدة ، فرواه من طرق متعددة ، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : «من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أوله وأوسطه وآخره ، فانتهى وتره إلى السحر» (٣) ، وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل ، ثم يقول : يا نافع ، هل جاء السحر؟ فإذا قال : نعم ، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح ، رواه ابن أبي حاتم ، وقال ابن جرير (٤) : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا أبي عن حريث بن أبي مطر ، عن إبراهيم بن حاطب ، عن أبيه ، قال : سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول : يا رب ، أمرتني فأطعتك ، وهذا السحر فاغفر لي ، فنظرت فإذا هو ابن مسعود رضي الله عنه. وروى ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن نستغفر في آخر السحر سبعين مرة.

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (٢٠)

__________________

(١) الخلة : الحاجة والفقر.

(٢) صحيح البخاري (تهجد باب ١٤) وصحيح مسلم (مسافرين حديث ١٦٨ ـ ١٧٠) وسنن أبي داود (سنة باب ١٩) وسنن الترمذي (صلاة باب ٢١١ ودعوات باب ٧٨) وسنن ابن ماجة (إقامة باب ١٨٢)

(٣) صحيح البخاري (وتر باب ٢) وصحيح مسلم (مسافرين حديث ١٣٦ ـ ١٣٨)

(٤) تفسير الطبري ٣ / ٢٠٨.

١٩

شهد تعالى وكفى به شهيدا وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم ، وأصدق القائلين (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق ، وأن الجميع عبيده وخلقه وفقراء إليه ، وهو الغني عما سواه ، كما قال تعالى : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) [النساء : ١٦٦] ، ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته ، فقال (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام (قائِماً بِالْقِسْطِ) منصوب على الحال وهو في جميع الأحوال كذلك (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تأكيد لما سبق ، (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) العزيز الذي لا يرام جنابه عظمة وكبرياء ، الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا بقية بن الوليد حدثني جبير بن عمرو القرشي ، حدثنا أبو سعيد الأنصاري عن أبي يحيى مولى آل الزبير بن العوام ، عن الزبير بن العوام ، قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بعرفة يقرأ هذه الآية (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وأنا على ذلك من الشاهدين يا رب.

وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال : حدثنا علي بن حسين ، حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني ، حدثنا عمر بن حفص بن ثابت أبو سعيد الأنصاري ، حدثنا عبد الملك بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده عن الزبير ، قال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قرأ هذه الآية (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ) قال : «وأنا أشهد أي رب».

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في المعجم الكبير : حدثنا عبدان بن أحمد وعلي بن سعيد الرازي ، قالا : حدثنا عمار بن عمر بن المختار ، حدثني أبي ، حدثني غالب القطان قال :

أتيت الكوفة في تجارة ، فنزلت قريبا من الأعمش ، فلما كانت ليلة أردت أن أنحدر (٢) قام فتهجد من الليل فمر بهذه الآية (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) ثم قال الأعمش : وأنا أشهد بما شهد الله به ، واستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) قالها مرارا ، قلت : لقد سمع فيها شيئا فغدوت إليه فودعته ثم قلت : يا أبا محمد ، إني سمعتك تردد هذه الآية ، قال : أو ما بلغك ما فيها؟ قلت : أنا عندك منذ شهر لم تحدثني. قال : والله لا أحدثك بها إلى سنة ، فأقمت سنة ، فكنت على بابه ، فلما مضت السنة قلت : يا أبا محمد ، قد مضت السنة قال : حدثني أبو وائل عن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يجاء بصاحبها يوم القيامة ، فيقول الله عزوجل : عبدي عهد إليّ وأنا أحق من وفى بالعهد ، أدخلوا عبدي الجنة».

وقوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) إخبار منه تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد

__________________

(١) المسند (ج ١ ص ١٦٦)

(٢) أي أردت مغادرة المكان.

٢٠