تفسير القرآن العظيم - ج ٢

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٠

لأبي سعيد الخدري : ألا تحمدني على ما شهدت لك ، فقال أبو سعيد : شهدت الحق فقال زيد: أولا تحمدني على ما شهدت الحق؟ ثم رواه من حديث مالك عن زيد بن أسلم ، عن رافع بن خديج : أنه كان هو وزيد بن ثابت عند مروان بن الحكم وهو أمير المدينة ، فقال مروان : يا رافع في أي شيء نزلت هذه الآية؟ فذكره كما تقدم عن أبي سعيد رضي الله عنهم ، وكان مروان يبعث بعد ذلك يسأل ابن عباس كما تقدم ، فقال له ما ذكرناه ولا منافاة بين ما ذكره ابن عباس وما قاله هؤلاء ، لأن الآية عامة في جميع ما ذكر ، والله أعلم.

وقد روى ابن مردويه أيضا من حديث محمد بن أبي عتيق وموسى بن عقبة عن الزهري ، عن محمد بن ثابت الأنصاري ، أن ثابت بن قيس الأنصاري قال : يا رسول الله ، والله لقد خشيت أن أكون هلكت ، قال «لم»؟ قال : نهى الله المرء أن يحب أن يحمد بما لم يفعل وأجدني أحب الحمد ، ونهى الله عن الخيلاء وأجدني أحب الجمال ونهى الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك وأنا امرؤ جهوري الصوت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ألا ترضى أن تعيش حميدا ، وتقتل شهيدا ، وتدخل الجنة؟» فقال : بلى يا رسول الله. فعاش حميدا وقتل شهيدا يوم مسيلمة الكذاب.

وقوله تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) يقرأ بالتاء على مخاطبة المفرد ، وبالياء على الإخبار عنهم أي لا يحسبون أنهم ناجون من العذاب بل لا بد لهم منه ولهذا قال تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ثم قال تعالى (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي هو مالك كل شيء ، والقادر على كل شيء ، فلا يعجزه شيء ، فهابوه ولا تخالفوه ، واحذروا غضبه ونقمته فإنه العظيم الذي لا أعظم منه ، والتقدير الذي لا أقدر منه.

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ(١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) (١٩٤)

قال الطبراني : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري ، حدثنا يحيى الحماني ، حدثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : أتت قريش اليهود ، فقالوا : بم جاءكم موسى؟ قالوا : عصاه ويده بيضاء للناظرين ، وأتوا النصارى فقالوا : كيف كان عيسى؟ قالوا : كان يبرئ الأكمه والأبرص ، ويحيي الموتى ، فأتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهبا ، فدعا ربه ، فنزلت هذه الآية (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

١٦١

وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) فليتفكروا فيها.

وهذا مشكل فإن هذه الآية مدنية ، وسؤالهم أن يكون الصفا ذهبا كان بمكة ، والله أعلم ، ومعنى الآية أن الله تعالى يقول : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هذه في ارتفاعها واتساعها ، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها ، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات ، وثوابت وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات ، وزروع وثمار ، وحيوان ومعادن ، ومنافع مختلفة الألوان والروائح والطعوم والخواص ، (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر ، فتارة يطول هذا ويقصر هذا ، ثم يعتدلان ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا ، ويقصر الذي كان طويلا. وكل ذلك تقدير العزيز العليم ، ولهذا قال تعالى (لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها ، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون ، الذين قال الله فيهم (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف : ١٠٥ ـ ١٠٦] ثم وصف تعالى أولي الألباب ، فقال : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ). كما ثبت في صحيح البخاري (١) عن عمران بن حصين : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «صلّ قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنبك» أي لا يقطعون ذكره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم ، (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي يفهمون ما فيهما من الحكم الدالة على عظمة الخالق وقدرته وعلمه وحكمته واختياره ورحمته. وقال الشيخ أبو سليمان الداراني : إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة ولي فيه عبرة ، رواه ابن أبي الدنيا في كتاب التوكل والاعتبار وعن الحسن البصري أنه قال : تفكر ساعة خير من قيام ليلة ، وقال الفضيل قال الحسن : الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك ، وقال سفيان بن عيينة : الفكرة نور يدخل قلبك وربما تمثل بهذا البيت : [المتقارب]

إذا المرء كانت له فكرة

ففي كل شيء له عبرة

وعن عيسى عليه‌السلام أنه قال : طوبى لمن كان قيله تذكرا وصمته تفكرا ، ونظره عبرا ، وقال لقمان الحكيم : إن طول الوحدة ألهم للفكرة ، وطول الفكرة دليل على طرق باب الجنة ، وقال وهب بن منبه ما طالت فكرة امرئ إلا فهم ولا فهم امرؤ قط إلا علم ، ولا علم امرؤ قط إلا عمل. وقال عمر بن عبد العزيز : الكلام بذكر الله عزوجل حسن ، والفكرة في نعم الله أفضل العبادة. وقال مغيث الأسود : زوروا القبور كل يوم تفكركم ، وشاهدوا الموقف بقلوبكم ، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار ، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر

__________________

(١) صحيح البخاري (تقصير باب ١٩)

١٦٢

النار ومقامعها وأطباقها. وكان يبكي عند ذلك حتى يرفع صريعا من بين أصحابه قد ذهب عقله. وقال عبد الله بن المبارك : مر رجل براهب عند مقبرة ومزبلة ، فناداه فقال : يا راهب ، إن عندك كنزين من كنوز الدنيا لك فيهما معتبر : كنز الرجال ، وكنز الأموال. وعن ابن عمر : أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة فيقف على بابها فينادي بصوت حزين ، فيقول : أين أهلك؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] وعن ابن عباس أنه قال : ركعتان مقتصدتان في تفكر ، خير من قيام ليلة والقلب ساه. وقال الحسن البصري : يا ابن آدم ، كل في ثلث بطنك ، واشرب في ثلثه ، ودع ثلثه الآخر تتنفس للفكرة. وقال بعض الحكماء : من نظر إلى الدنيا بغير العبرة ، انطمس من بصر قلبه بقدر تلك الغفلة. وقال بشر بن الحارث الحافي : لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه. وقال الحسن عن عامر بن عبد قيس ، قال : سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون : إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكر. وعن عيسى عليه‌السلام أنه قال : يا ابن آدم الضعيف اتق الله حيث ما كنت ، وكن في الدنيا ضيفا ، واتخذ المساجد بيتا ، وعلم عينيك البكاء ، وجسدك الصبر ، وقلبك الفكر ، ولا تهتم برزق غد. وعن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، أنه بكى يوما بين أصحابه ، فسئل عن ذلك ، فقال : فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها ، فاعتبرت منها بها ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها ، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادكر. وقال ابن أبي الدنيا : أنشدني الحسين بن عبد الرحمن : [مجزوء الخفيف]

نزهة المؤمن الفكر

لذّة المؤمن العبر

نحمد الله وحده

نحن كل على خطر

ربّ لاه وعمره

قد تقضّى وما شعر

رب عيش قد كان فوق

المنى مونق الزّهر

في خرير من العيون

وظل من الشجر

وسرور من النبات

وطيّب من الثمر

غيّرته وأهله

سرعة الدهر بالغير

نحمد الله وحده

إن في ذا لمعتبر

إن في ذا لعبرة

للبيب إن اعتبر

وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته ، فقال (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف : ١٠٥ ـ ١٠٦] ومدح عباده المؤمنين (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قائلين (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا

١٦٣

باطِلاً) أي ما خلقت هذا الخلق عبثا ، بل بالحق لتجزي الذين أساؤوا بما عملوا ، وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى. ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل ، فقالوا (سُبْحانَكَ) أي عن أن تخلق شيئا باطلا (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) أي يا من خلق الخلق بالحق والعدل ، يا من هو منزه عن النقائص والعيب والعبث ، قنا من عذاب النار بحولك وقوتك وقيضنا لأعمال ترضى بها عنا ، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم ، وتجيرنا به من عذابك الأليم.

ثم قالوا (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) أي أهنته وأظهرت خزيه لأهل الجمع (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أي يوم القيامة لا مجير لهم منك. ولا محيد لهم عما أردت بهم (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) أي داعيا يدعو إلى الإيمان ، وهو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) أي يقول آمنوا بربكم فآمنا ، أي فاستجبنا له واتبعناه ، أي بإيماننا واتباعنا نبيك ، (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أي استرها ، (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) فيما بيننا وبينك ، (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) أي ألحقنا بالصالحين ، (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) قيل : معناه على الإيمان برسلك ، وقيل : معناه على ألسنة رسلك. وهذا أظهر.

وقد قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو اليمان ، حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمرو بن محمد ، عن أبي عقال ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «عسقلان أحد العروسين يبعث الله منها يوم القيامة سبعين ألفا لا حساب عليهم ، ويبعث منها خمسين ألفا شهداء وفودا إلى الله ، وبها صفوف الشهداء رؤوسهم مقطعة في أيديهم تثج (٢) أوداجهم دما ، يقولون (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) فيقول الله : صدق عبيدي اغسلوهم بنهر البيضة. فيخرجون منه نقاء بيضا. فيسرحون في الجنة حيث شاؤوا» وهذا الحديث يعد من غرائب المسند ، ومنهم من يجعله موضوعا ، والله أعلم.

(وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي على رؤوس الخلائق ، (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) أي لا بد من الميعاد الذي أخبرت عنه رسلك وهو القيام يوم القيامة بين يديك ، وقد قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا الحارث بن سريج ، حدثنا المعتبر ، حدثنا الفضل بن عيسى ، حدثنا محمد بن المنكدر أن جابر بن عبد الله حدثه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «العار والتخزية تبلغ من ابن آدم في القيامة في المقام بين يدي الله عزوجل ما يتمنى العبد أن يؤمر به إلى النار» حديث غريب.

وقد ثبت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده ، فقال البخاري (٣) رحمه‌الله : حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا محمد بن جعفر ،

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ٢٢٥)

(٢) تثج : تسيل.

(٣) صحيح البخاري (تفسير سورة آل عمران باب ١٧)

١٦٤

أخبرني شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن كريب ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : بت عند خالتي ميمونة ، فتحدث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أهله ساعة ثم رقد ، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء ، فقال (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) الآيات ، ثم قام فتوضأ واستن (١) ، فصلى إحدى عشرة ركعة ، ثم أذن بلال فصلى ركعتين ، ثم خرج فصلى بالناس الصبح. وهكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن إسحاق الصنعاني ، عن ابن أبي مريم به. ثم رواه البخاري (٢) من طرق عن مالك ، عن مخرمة بن سليمان ، عن كريب أن ابن عباس أخبره أنه بات عند ميمونة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي خالته ، قال : فاضطجعت في عرض الوسادة ، واضطجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهله في طولها ، فنام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا انتصف الليل أو قبله أو بعده بقليل ، استيقظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من منامه فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده ، ثم قرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران ، ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها ، فأحسن وضوءه ، ثم قام يصلي. قال ابن عباس رضي الله عنهما : فقمت فصنعت مثل ما صنع ، ثم ذهبت فقمت إلى جنبه ، فوضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده اليمنى على رأسي ، وأخذ بأذني اليمنى يفتلها ، فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ، ثم أوتر ، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن ، فقام فصلى ركعتين خفيفتين ، ثم خرج فصلى الصبح. وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طرق عن مالك به. ورواه مسلم أيضا وأبو داود من وجوه أخر عن مخرمة بن سليمان به.

طريق أخرى : لهذا الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما : قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن علي ، حدثنا أبو يحيى بن أبي مسرّة ، أنبأنا خلاد بن يحيى ، أنبأنا يونس بن أبي إسحاق ، عن المنهال بن عمرو ، عن علي بن عبد الله بن عباس ، عن عبد الله بن عباس ، قال : أمرني العباس أن أبيت بآل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحفظ صلاته. قال : فصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالناس صلاة العشاء الآخرة حتى إذا لم يبق في المسجد أحد غيره ، قام فمر بي ، فقال : من هذا؟ عبد الله؟ قلت : نعم ، قال : فمه (٣)؟ قلت : أمرني العباس أن أبيت بكم الليلة. قال : «فالحق الحق» فلما أن دخل قال : افرشنّ عبد الله؟ فأتى بوسادة من مسوح. قال : فنام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليها حتى سمعت غطيطه ، ثم استوى على فراشه قاعدا ، قال : فرفع رأسه إلى السماء فقال «سبحان الملك القدوس» ثلاث مرات ثم تلا هذه الآيات من آخر سورة آل عمران حتى ختمها. وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من حديث علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه حديثا في ذلك أيضا.

__________________

(١) استنّ : استاك.

(٢) صحيح البخاري (تفسير سورة آل عمران باب ١٩)

(٣) فمه : أي فماذا؟ وهي م؟ الاستفهامية ، والهاء الساكنة زائدة للوقف على السؤال.

١٦٥

طريق أخرى : رواها ابن مردويه من حديث عاصم بن بهدلة عن بعض أصحابه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج ذات ليلة بعد ما مضى ليل ، فنظر إلى السماء وتلا هذه الآية (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) إلى آخر السورة ثم قال «اللهم اجعل في قلبي نورا ، وفي سمعي نورا وفي بصري نورا ، وعن يميني نورا ، وعن شمالي نورا ، ومن بين يدي نورا ، ومن خلفي نورا ، ومن فوقي نورا ، ومن تحتي نورا وأعظم لي نورا يوم القيامة» وهذا الدعاء ثابت في بعض طرق الصحيح من رواية كريب عن ابن عباس رضي الله عنه.

ثم روى ابن مردويه وابن أبي حاتم من حديث جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : أتت قريش اليهود ، فقالوا : بم جاءكم موسى من الآيات؟ قالوا : عصاه ويده البيضاء للناظرين. وأتوا النصارى فقالوا : كيف كان عيسى فيكم؟ قالوا : كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى ، فأتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا ، فدعا ربه عزوجل ، فنزلت (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) قال : فليتفكروا فيها ، لفظ ابن مردويه.

وقد تقدم هذا الحديث من رواية الطبراني في أول الآية ، وهذا يقتضي أن تكون هذه الآيات مكية ، والمشهور أنها مدنية ، ودليله الحديث الآخر. قال ابن مردويه : حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل ، حدثنا أحمد بن علي الحراني ، حدثنا شجاع بن أشرس ، حدثنا حشرج بن نباتة الواسطي أبو مكرم عن الكلبي وهو أبو جناب ، عن عطاء قال : انطلقت أنا وابن عمر وعبيد بن عمير إلى عائشة رضي الله عنها ، فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب ، فقالت : يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا؟ قال : قول الشاعر : زر غبا تزدد حبا. فقال ابن عمر : ذرينا أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبكت وقالت : كل أمره كان عجبا ، أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي ، ثم قال «ذريتي أتعبد لربي عزوجل» قالت : فقلت والله إني لأحب قربك ، وإني أحب أن تعبّد لربك ، فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء ، ثم قام يصلي فبكى حتى بل لحيته ، ثم سجد فبكى حتى بل الأرض ، ثم اضطجع على جنبه فبكى حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح. قالت : فقال : يا رسول الله ، ما يبكيك وقد غفر الله لك ذنبك ما تقدم وما تأخر؟ فقال : «ويحك يا بلال ، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل علي في هذه الليلة (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) ثم قال «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها».

وقد رواه عبد بن حميد في تفسيره عن جعفر بن عون عن أبي جناب الكلبي عن عطاء. قال: دخلت أنا وعبد الله بن عمر وعبيد بن عمير على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي في خدرها ، فسلمنا عليها ، فقالت : من هؤلاء؟ قال : فقلنا : هذا عبد الله بن عمر وعبيد بن

١٦٦

عمير. قالت : يا عبيد بن عمير. ما يمنعك من زيارتنا ، قال : ما قال الأول : زر غبا تزدد حبا. قالت : إنا لنحب زيارتك وغشيانك. قال عبد الله بن عمر : دعينا من بطالتكما (١) هذه ، أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : فبكت ثم قالت : كل أمره كان عجبا ، أتاني في ليلتي حتى دخل معي في فراشي ، حتى لصق جلده بجلدي ، ثم قال : «يا عائشة ائذني لي أتعبد لربي». قالت : إني لأحب قربك وأحب هواك. قالت : فقام إلى قربة في البيت فما أكثر صب الماء ، ثم قام فقرأ القرآن ، ثم بكى حتى رأيت أن دموعه قد بلغت حقويه ، قالت : ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه ، ثم بكى حتى رأيت دموعه بلغت حجره ، قالت : ثم اتكأ على جنبه الأيمن ووضع يده تحت خده ، قالت : ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت الأرض فدخل عليه بلال فآذنه بصلاة الفجر ، ثم قال : الصلاة يا رسول الله ، فلما رآه بلال يبكي قال : يا رسول الله ، تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال «يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا؟ ومالي لا أبكي وقد نزل عليّ الليلة (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) إلى قوله (سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) ثم قال : «ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها» وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه عن عمران بن موسى ، عن عثمان بن أبي شيبة ، عن يحيى بن زكريا ، عن إبراهيم بن سويد النخعي ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، قال : دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة فذكر نحوه. وهكذا رواه عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا في كتاب التفكر والاعتبار عن شجاع بن أشرس به. ثم قال : حدثني الحسن بن عبد العزيز : سمعت سنيدا يذكر عن سفيان هو الثوري رفعه ، قال «من قرأ آخر آل عمران فلم يتفكر فيها ويله» يعد بأصابعه عشرا ـ قال الحسن بن عبد العزيز : فأخبرني عبيد بن السائب قال : قيل للأوزاعي : ما غاية التفكر فيهن؟ قال : يقرؤهن وهو يعقلهن. قال ابن أبي الدنيا : وحدثني قاسم بن هاشم ، حدثنا علي بن عياش ، حدثنا عبد الرحمن بن سليمان قال : سألت الأوزاعي عن أدنى ما يتعلق به المتعلق من الفكر فيهن وما ينجيه من هذا الويل؟ فأطرق هنية ثم قال : يقرؤهنّ وهو يعقلهن.

حديث آخر : فيه غرابة : قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الرحمن بن بشير بن نمير ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم البستي (ح) قال : وحدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد ، حدثنا أحمد بن عمرو قال : أنبأنا هشام بن عمار ، أنبأنا سليمان بن موسى الزهري ، أنبأنا مظاهر بن أسلم المخزومي ، أنبأنا سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة ، قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة. مظاهر بن أسلم ضعيف.

(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا

__________________

(١) بطل في حديثه بطالة : هزل.

١٦٧

وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) (١٩٥)

يقول تعالى : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) أي فأجابهم ربهم ، كما قال الشاعر : [الطويل]

وداع دعا : يا من يجيب إلى الندى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب (١)

قال سعيد بن منصور : حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار ، عن سلمة رجل من آل أم سلمة ، قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله لا نسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء. فأنزل الله تعالى :(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) إلى آخر الآية. وقالت الأنصار : هي أول ظعينة (٢) قدمت علينا ، وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة. ثم قال : صحيح على شرط البخاري ، ولم يخرجاه ، وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم سلمة قالت : آخر آية نزلت هذه الآية (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) إلى آخرها ، رواه ابن مردويه.

ومعنى الآية أن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا ما سألوا مما تقدم ذكره فاستجاب لهم ربهم عقب ذلك بفاء التعقيب ، كما قال تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة : ١٨٦ ـ ١٨٧] وقوله تعالى : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) هذا تفسير للإجابة ، أي قال لهم مجيبا لهم أنه لا يضيع عمل عامل لديه ، بل يوفى كل عامل بقسط عمله من ذكر أو أنثى ، وقوله (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي جميعكم في ثوابي سواء ، (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) أي تركوا دار الشرك وأتوا إلى دار الإيمان وفارقوا الأحباب والإخوان والخلان والجيران ، (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) أي ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجأوهم إلى الخروج من بين أظهرهم ، ولهذا قال (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) أي إنما كان ذنبهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده ، كما قال تعالى : (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) [الممتحنة : ١] وقال تعالى : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج : ٨] وقوله تعالى : (وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا) وهذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل الله فيعقر جواده ويعفر وجهه بدمه وترابه.

وقد ثبت في الصحيحين أن رجلا قال : يا رسول الله ، أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر ، أيكفر الله عني خطاياي؟ قال «نعم ثم قال : كيف قلت؟ فأعاد عليه ما قال ، فقال : نعم ، إلا الدّين ، قاله لي جبريل آنفا» ولهذا قال تعالى : (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ

__________________

(١) البيت لكعب بن سعد الغنوي في الأصمعيات ص ٩٦ ولسان العرب (جوب) والتنبيه والإيضاح ١ / ٥٧) وجمهرة أشعار العرب ص ٧٠٥ وتاج العروس (جوب) وبلا نسبة في تهذيب اللغة ١١ / ٢١٩.

(٢) الظعينة : المرأة.

١٦٨

وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن ، وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقوله (ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ) أضافه إليه ونسبه إليه ليدل على أنه عظيم ، لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلا كثيرا ، كما قال الشاعر : [الخفيف]

إن يعذّب يكن غراما وإن يعط

جزيلا فإنه لا يبالي (١)

وقوله تعالى : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) أي عنده حسن الجزاء لمن عمل صالحا. قال ابن أبي حاتم : ذكر عن دحيم بن إبراهيم قال : قال الوليد بن مسلم ، أخبرني حريز بن عثمان أن شداد بن أوس كان يقول : يا أيها الناس ، لا تتهموا الله في قضائه ، فإنه لا يبغي على مؤمن ، فإذا أنزل بأحدكم شيء مما يحب ، فليحمد الله ، وإذا أنزل به شيء مما يكره ، فليصبر وليحتسب ، فإن الله عنده حسن الثواب.

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) (١٩٨)

يقول تعالى : لا تنظروا إلى ما هؤلاء الكفار مترفون فيه من النعمة والغبطة والسرور ، فعما قليل يزول هذا كله عنهم ويصبحون مرتهنين بأعمالهم السيئة ، فإنما نمد لهم فيما هم فيه استدراجا ، وجميع ما هم فيه (مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) وهذه الآية كقوله تعالى : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) [غافر : ٤] ، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) [يونس : ٦٩ ـ ٧٠] ، وقال تعالى : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان : ٢٤] وقال تعالى : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) [الطارق : ١٧] أي قليلا ، وقال تعالى : (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [القصص : ٦١] وهكذا لما ذكر حال الكفار في الدنيا وذكر أن مآلهم إلى النار ، قال بعده (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ).

وقال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن نصر ، حدثنا أبو طاهر سهل بن عبد الله ، أنبأنا هشام بن عمار ، أنبأنا سعيد بن يحيى ، أنبأنا عبيد الله بن الوليد الوصافي عن محارب بن دثار ، عن

__________________

(١) الرواية المشهورة : «إن يعاقب». والبيت للأعشى في ديوانه ص ٥٩ ولسان العرب (غرم) ومقاييس اللغة ٤ / ٤١٩ وتاج العروس (غرم). والغرام : هو اللازم من العذاب والبلاء. وقال الزجاج : هو أشد العذاب في اللغة.

١٦٩

عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إنما سموا الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء ، كما أن لوالديك عليك حقا كذلك لولدك عليك حق» كذا رواه ابن مردويه عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن جناب ، حدثنا عيسى بن يونس عن عبد الله بن الوليد الوصافي ، عن محارب بن دثار ، عن ابن عمر ، قال : إنما سماهم الله أبرارا لأنهم بروا الآباء والأبناء ، كما أن لوالديك عليك حقا كذلك لولدك عليك حق ، وهذا أشبه ، والله أعلم. ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا هشام الدستوائي عن رجل عن الحسن ، قال : الأبرار الذين لا يؤذون الذر. وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن خيثمة عن الأسود ، قال : قال عبد الله يعني ابن مسعود : ما من نفس برة ولا فاجرة إلا الموت خير لها ، لئن كان برا لقد قال الله تعالى (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) وكذا رواه عبد الرزاق عن الأعمش عن الثوري به. وقرأ (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) [آل عمران : ١٧٨].

وقال ابن جرير (١) : حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا ابن أبي جعفر عن فرج بن فضالة ، عن لقمان عن أبي الدرداء أنه كان يقول : ما من مؤمن إلا والموت خير له ، وما من كافر إلا والموت خير له ، ومن لم يصدقني فإن الله يقول (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) ويقول (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ).

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢٠٠)

يخبر تعالى عن طائفة من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالله حق الإيمان ، ويؤمنون بما أنزل على محمد مع ما هم مؤمنون به من الكتب المتقدمة ، وأنهم خاشعون لله أي مطيعون له ، خاضعون متذللون بين يديه ، (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) ، أي لا يكتمون ما بأيديهم من البشارات بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر صفته ونعته ومبعثه وصفة أمته ، وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم ، سواء كانوا هودا أو نصارى ، وقد قال تعالى في سورة القصص : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) [القصص : ٥٢ ـ ٥٤] ، وقد قال تعالى :

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٥٥٨.

١٧٠

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [البقرة : ١٢١]. وقد قال تعالى : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف : ١٥٩] ، وقال تعالى: (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) [آل عمران : ١١٣] ، وقال تعالى : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) [الإسراء : ١٠٧] وهذه الصفات توجد في اليهود ، ولكن قليلا كما وجد في عبد الله بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود ، ولم يبلغوا عشرة أنفس ، وأما النصارى فكثير منهم يهتدون وينقادون للحق ، كما قال تعالى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) [المائدة : ٨٢] إلى قوله تعالى : (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) ، وهكذا قال هاهنا (أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الآية.

وقد ثبت في الحديث أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، لما قرأ سورة (كهيعص) بحضرة النجاشي ملك الحبشة وعنده البطاركة والقساوسة ، بكى وبكوا معه حتى أخضبوا لحاهم ، وثبت في الصحيحين أن النجاشي لما مات نعاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أصحابه وقال «إن أخا لكم بالحبشة قد مات ، فصلوا عليه» فخرج إلى الصحراء فصفّهم وصلى عليه.

وروى ابن أبي حاتم والحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث حماد بن سلمة عن ثابت ، عن أنس بن مالك ، قال : لما توفي النجاشي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «استغفروا لأخيكم» فقال بعض الناس : يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة ، فنزلت (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ) الآية ، ورواه عبد بن حميد وابن أبي حاتم من طريق أخرى عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن الحسن عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم رواه ابن مردويه من طرق عن حميد ، عن أنس بن مالك ، بنحو ما تقدم ورواه أيضا ابن جرير من حديث أبي بكر الهذلي عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن جابر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين مات النجاشي «إن أخاكم أصحمة قد مات» ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلى كما يصلي على الجنائز فكبر عليه أربعا ، فقال المنافقون : يصلي على علج (١) مات بأرض الحبشة ، فأنزل الله (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) الآية (٢).

وقال أبو داود (٣) : حدثنا محمد بن عمرو الرازي ، حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق ، حدثني يزيد بن رومان ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : لما مات

__________________

(١) العلج : الرجل من كفار العجم. الجمع : علوج وأعلاج.

(٢) تفسير الطبري ٣ / ٥٥٨.

(٣) سنن أبي داود (جهاد باب ٢٧)

١٧١

النجاشي كنا نحدث (١) أنه لا يزال يرى على قبره نور.

وقد روى الحافظ أبو عبد الله الحاكم في مستدركه : أنبأنا أبو العباس السياري بمرو ، حدثنا عبد الله بن علي الغزال ، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق ، حدثنا ابن المبارك ، حدثنا مصعب بن ثابت عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه ، قال : نزل بالنجاشي عدو من أرضهم ، فجاءه المهاجرون فقالوا : إنا نحب أن نخرج إليهم حتى نقاتل معك وترى جرأتنا ونجزيك بما صنعت بنا ، فقال : لا ، دواء بنصرة الله عزوجل خير من دواء بنصرة الناس ، قال : وفيه نزلت (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ) الآية. ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه.

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني مسلمة أهل الكتاب. وقال عباد بن منصور : سألت الحسن البصري عن قول الله (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) الآية ، قال : هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاتبعوه ، وعرفوا الإسلام فأعطاهم الله تعالى أجر اثنين : للذي كانوا عليه من الإيمان قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالذي اتبعوا محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رواهما ابن أبي حاتم.

وقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين» فذكر منهم : ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي.

وقوله تعالى : (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي لا يكتمون ما بأيديهم من العلم كما فعله الطائفة المرذولة منهم ، بل يبذلون ذلك مجانا ، ولهذا قال تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ، قال مجاهد : (سَرِيعُ الْحِسابِ) يعني سريع الإحصاء ، رواه ابن أبي حاتم وغيره.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا) قال الحسن البصريرحمه‌الله : أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم وهو الإسلام ، فلا يدعوه لسراء ولا لضراء ولا لشدة ولا لرخاء ، حتى يموتوا مسلمين ، وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم ، وكذا قال غير واحد من علماء السلف ، وأما المرابطة فهي المداومة في مكان العبادة والثبات ، وقيل : انتظار الصلاة بعد الصلاة ، قاله ابن عباس وسهل بن حنيف ومحمد بن كعب القرظي وغيرهم ، وروى ابن أبي حاتم هاهنا الحديث الذي رواه مسلم والنسائي من حديث مالك بن أنس عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟

__________________

(١) في أبي داود : «نتحدث».

١٧٢

إسباغ الوضوء على المكاره (١) ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط» (٢). وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد ، حدثنا موسى بن إسحاق ، حدثنا أبو جحيفة علي بن يزيد الكوفي ، أنبأنا ابن أبي كريمة عن محمد بن يزيد ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، قال : أقبل عليّ أبو هريرة يوما ، فقال : أتدري يا ابن أخي فيم نزلت هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا) قلت : لا. قال : أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزو يرابطون فيه ، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ويصلون الصلاة في مواقيتها ، ثم يذكرون الله فيها ، فعليهم أنزلت (اصْبِرُوا) أي على الصلوات الخمس ، (وَصابِرُوا) أنفسكم وهواكم ، (وَرابِطُوا) في مساجدكم ، (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما عليكم ، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طريق سعيد بن منصور ابن المبارك عن مصعب بن ثابت ، عن داود بن صالح ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة بنحوه.

وقال ابن جرير (٣) : حدثني أبو السائب ، حدثني ابن فضيل عن عبد الله بن سعيد المقبري ، عن جده ، عن شرحبيل ، عن علي رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ألا أدلكم على ما يكفر الذنوب والخطايا؟ إسباغ الوضوء على المكاره ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط» ، وقال ابن جرير أيضا : حدثني موسى بن سهل الرملي ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا محمد بن مهاجر ، حدثني يحيى بن يزيد عن زيد بن أبي أنيسة ، عن شرحبيل ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويكفر به الذنوب»؟ قلنا : بلى يا رسول الله. قال «إسباغ الوضوء في أماكنها ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط».

وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن علي ، أنبأنا محمد بن عبد الله بن السلام البيروتي ، أنبأنا محمد بن غالب الأنطاكي ، أنبأنا عثمان بن عبد الرحمن ، أنبأنا الوازع بن نافع عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي أيوب رضي الله عنه ، قال : وقفه علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «هل لكم إلى ما يمحو الله به الذنوب ويعظم به الأجر؟» قلنا : نعم يا رسول الله ، وما هو؟ قال «إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة». قال : وهو قوله الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فذلك هو الرباط في المساجد ، وهذا حديث غريب من هذا الوجه جدا.

وقال عبد الله بن المبارك عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير ، حدثني داود بن

__________________

(١) أي أن يتوضأ بالرغم من كونه يتأذى بهذا الوضوء ، كأن يكون به مرض أو حاجة إلى الماء.

(٢) صحيح مسلم (طهارة حديث ٤١) وسنن الترمذي (طهارة باب ٣٩) وسنن النسائي (طهارة : باب ١٠٦) وموطأ مالك (سفر حديث ٥٥)

(٣) تفسير الطبري ٣ / ٥٦٢.

١٧٣

صالح ، قال : قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن : يا ابن أخي هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية (اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا؟) قال : قلت : لا. قال : إنه لم يكن يا ابن أخي في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزو يرابط فيه ، ولكنه انتظار الصلاة بعد (١) الصلاة ، رواه ابن جرير ، وقد تقدم سياق ابن مردويه له ، وأنه من كلام أبي هريرة رضي الله عنه ، والله أعلم.

وقيل : المراد بالمرابطة هاهنا مرابطة الغزو في نحور العدو وحفظ ثغور الإسلام وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوزة بلاد المسلمين ، وقد وردت الأخبار بالترغيب في ذلك وذكر كثرة الثواب فيه ، فروى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها».

حديث آخر : روى مسلم (٢) عن سلمان الفارسي ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله ، وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان».

حديث آخر : قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا ابن المبارك عن حيوة بن شريح ، أخبرني أبو هانئ الخولاني أن عمرو بن مالك الجنبي أخبره أنه سمع فضالة بن عبيد يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله ، فإنه ينمي له عمله إلى يوم القيامة ويأمن فتنة القبر» وهكذا رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي هانئ الخولاني وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه أيضا.

حديث آخر : قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا يحيى بن إسحاق ، وحسن بن موسى وأبو سعيد قالوا : حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا مشرح بن هاعان ، سمعت عقبة بن عامر يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه يجري عليه عمله حتى يبعث ويأمن من الفتان» وروى الحارث بن محمد بن أبي أسامة في مسنده عن المقبري وهو عبد الله بن يزيد به إلى قوله «حتى يبعث» دون ذكر «الفتان» وابن لهيعة إذا صرح بالتحديث فهو حسن ولا سيما مع ما تقدم من الشواهد.

حديث آخر : قال ابن ماجة (٥) في سننه : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا عبد الله بن وهب ، أخبرني الليث عن زهرة بن معبد عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من مات

__________________

(١) صحيح البخاري (جهاد باب ٧٣)

(٢) صحيح مسلم (إمارة حديث ١٦٣)

(٣) مسند أحمد ٦ / ٢٠.

(٤) مسند أحمد ٤ / ١٥٧.

(٥) سنن أبي ماجة (جهاد باب ٧)

١٧٤

مرابطا في سبيل الله أجرى عليه عمله الصالح الذي كان يعمله ، وأجرى عليه رزقه ، وأمن من الفتان ، وبعثه الله يوم القيامة آمنا من الفزع».

طريق أخرى : قال الإمام أحمد (١) : حدثنا موسى ، أنبأنا ابن لهيعة عن موسى بن وردان ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من مات مرابطا وقي فتنة القبر ، وأمن من الفزع الأكبر ، وغدا عليه وريح برزقه من الجنة ، وكتب له أجر المرابط إلى يوم القيامة».

حديث آخر : قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن عمرو بن حلحلة الدؤلي ، عن إسحاق بن عبد الله عن أم الدرداء ترفع الحديث ، قالت : «من رابط في شيء من سواحل المسلمين ثلاثة أيام أجزأت عنه رباط سنة».

حديث آخر : قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا كهمس ، حدثنا مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير ، قال : قال عثمان رضي الله عنه وهو يخطب على منبره : إني محدثكم حديثا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يمنعني أن أحدثكم به إلّا الضّن بكم ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها» وهكذا رواه أحمد (٤) أيضا عن روح ، عن كهمس ، عن مصعب بن ثابت ، عن عثمان ، وقد رواه ابن ماجة (٥) عن هشام بن عمار ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن مصعب بن ثابت ، عن عبد الله بن الزبير ، قال : خطب عثمان بن عفان الناس فقال : يا أيها الناس إني سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا لم يمنعني أن أحدثكم به إلا الضن بكم وبصحابتكم ، فليختر مختار لنفسه أو ليدع ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «من رابط ليلة في سبيل الله كانت كألف ليلة صيامها وقيامها».

طريق أخرى : عن عثمان رضي الله عنه. قال الترمذي (٦) : حدثنا الحسن بن علي الخلال ، حدثنا هشام بن عبد الملك ، حدثنا الليث بن سعد ، حدثنا أبو عقيل زهرة بن معبد عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان ، قال : سمعت عثمان وهو على المنبر يقول : إني كتمتكم حديثا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كراهية تفرقكم عني ، ثم بدا لي أن أحدثكموه : ليختار امرؤ لنفسه ما بدا له ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل». ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه ، قال محمد يعني البخاري

__________________

(١) مسند أحمد ٢ / ٤٠٤)

(٢) مسند أحمد ٦ / ٣٦٢.

(٣) مسند أحمد ١ / ٦٤ ـ ٦٥.

(٤) مسند أحمد ١ / ٦١.

(٥) سنن ابن ماجة (جهاد باب ٧)

(٦) سنن الترمذي (فضائل الجهاد باب ٢٥)

١٧٥

أبو صالح مولى عثمان اسمه بركان ، وذكر غير الترمذي أن اسمه الحارث ، والله أعلم. وهكذا رواه الإمام أحمد (١) من حديث الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة ، وعنده زيادة في آخره فقال يعني عثمان : فليرابط امرؤ كيف شاء هل بلغت؟ قالوا : نعم. قال : اللهم اشهد.

حديث آخر : قال أبو عيسى الترمذي (٢) : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، حدثنا محمد بن المنكدر ، قال : مر سلمان الفارسي. بشرحبيل بن السمط ، وهو في مرابط له وقد شق عليه وعلى أصحابه ، فقال : أفلا أحدثكم يا ابن السمط بحديث سمعته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : بلى ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «رباط يوم في سبيل الله أفضل ـ أو قال خير ـ من صيام شهر وقيامه ، ومن مات فيه وقي فتنة القبر ، ونمي له عمله إلى يوم القيامة» تفرد به الترمذي من هذا الوجه ، وقال : هذا حديث حسن ، وفي بعض النسخ زيادة وليس إسناده بمتصل ، وابن المنكدر لم يدرك سلمان. (قلت) : الظاهر أن محمد بن المنكدر سمعه من شرحبيل بن السمط ، وقد رواه مسلم والنسائي (٣) من حديث مكحول وأبي عبيدة بن عقبة ، كلاهما عن شرحبيل بن السمط وله صحبة عن سلمان الفارسي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان» وقد تقدم سياق مسلم بمفرده.

حديث آخر : قال ابن ماجة (٤) : حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة ، حدثنا محمد بن يعلى السلمي ، حدثنا عمر بن صبيح عن عبد الرحمن بن عمرو ، عن مكحول ، عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لرباط يوم في سبيل الله ، من وراء عورة المسلمين محتسبا من شهر رمضان أعظم أجرا من عبادة مائة سنة صيامها وقيامها ، ورباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من غير شهر رمضان أفضل عند الله وأعظم أجرا ـ أراه قال ـ من عبادة ألف سنة صيامها وقيامها ، فإن رده الله تعالى إلى أهله سالما لم تكتب عليه سيئة ألف سنة ، وتكتب له الحسنات ، ويجري له أجر الرباط إلى يوم القيامة» هذا حديث غريب ، بل منكر من هذا الوجه ، وعمر بن صبيح متهم.

حديث آخر : قال ابن ماجة : حدثنا عيسى بن يونس الرملي ، حدثنا محمد بن شعيب بن شابور عن سعيد بن خالد بن أبي طويل ، سمعت أنس بن مالك يقول : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «حرس ليلة في سبيل الله خير من صيام رجل وقيامه في أهله ألف سنة. السنة ثلاثمائة وستون يوما ، واليوم كألف سنة» وهذا حديث غريب أيضا ، وسعيد بن خالد هذا ضعفه أبو

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٦٢.

(٢) سنن النسائي (جهاد باب ٣٩) وصحيح مسلم (إمارة حديث ١٦٣)

(٣) سنن ابن ماجة (جهاد باب ٧)

(٤) سنن ابن ماجة (جهاد باب ٨)

١٧٦

زرعة وغير واحد من الأئمة ، وقال العقيلي : لا يتابع على حديثه ، وقال ابن حبان : لا يجوز الاحتجاج به. وقال الحاكم : روى عن أنس أحاديث موضوعة.

حديث آخر : قال ابن ماجة (١) : حدثنا محمد بن الصباح ، أنبأنا عبد العزيز بن محمد عن صالح بن محمد بن زائدة ، عن عمر بن عبد العزيز ، عن عقبة بن عامر الجهني ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رحم الله حارس الحرس» فيه انقطاع بين عمر بن عبد العزيز وعقبة بن عامر ، فإنه لم يدركه والله أعلم.

حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا أبو توبة ، حدثنا معاوية يعني ابن سلام عن زيد ـ يعني ابن سلام ـ أنه سمع أبا سلام قال : حدثني السلولي أنه حدثه سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين فأطنبوا السير حتى كانت عشية ، فحضرت الصلاة مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء رجل فارس فقال : يا رسول الله ، إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا ، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين ، فتبسم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال «تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله» ثم قال «من يحرسنا الليلة»؟ قال أنس بن أبي مرثد : [الغنوي] (٢) أنا يا رسول الله ، فقال «فاركب» فركب فرسا له ، فجاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا نغرّنّ من قبلك الليلة» فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مصلاه ، فركع ركعتين ثم قال «هل أحسستم فارسكم؟» فقال رجل : يا رسول الله ما أحسسناه فثوب (٣) بالصلاة ، فجعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته قال «أبشروا فقد جاءكم فارسكم» فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشعب ، فإذا هو قد جاء حتى وقف على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرتني ، فلما أصبحت اطّلعت الشعبين كليهما ، فنظرت فلم أر أحدا ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هل نزلت الليلة؟» قال : لا إلا مصليا أو قاضيا حاجة ، فقال له «أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها». ورواه النسائي عن محمد بن يحيى بن محمد بن كثير الحراني عن أبي توبة وهو الربيع بن نافع به.

حديث آخر : قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا عبد الرحمن بن شريح ، سمعت محمد بن شمير الرعيني يقول : سمعت أبا عامر التّجيبي ، قال الإمام أحمد : وقال غير زيد أبا علي الجنبي يقول : سمعت أبا ريحانة يقول كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة ، فأتينا ذات ليلة إلى شرف ، فبتنا عليه ، فأصابنا برد شديد حتى رأيت من يحفر في الأرض حفرة يدخل فيها

__________________

(١) سنن أبي داود (جهاد باب ١٦)

(٢) الزيادة من أبي داود.

(٣) ثوّب بالصلاة : دعا إلى إقامتها.

(٤) مسند أحمد ٤ / ١٣٤.

١٧٧

ويلقي عليه الجحفة يعني الترس ، فلما رأى ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الناس نادى «من يحرسنا في هذه الليلة فأدعو له بدعاء يكون له فيه فضل؟» فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله فقال «ادن» فدنا ، فقال «من أنت؟» فتسمى له الأنصاري ، ففتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدعاء فأكثر منه. فقال أبو ريحانة : فلما سمعت ما دعا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلت : أنا رجل آخر ، فقال «ادن» ، فدنوت فقال «من أنت؟» قال : فقلت : أنا أبو ريحانة ، فدعا بدعاء هو دون ما دعا للأنصاري ، ثم قال «حرمت النار على عين دمعت ـ أو بكت ـ من خشية الله ، وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله» وروى النسائي منه «حرمت النار» إلى آخره عن عصمة بن الفضل عن زيد بن الحباب به ، وعن الحارث بن مسكين عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن شريح به ، وأتم وقال في الروايتين عن أبي علي الجنبي.

حديث آخر : قال الترمذي (١) : حدثنا نصر بن علي الجهضمي ، حدثنا بشر بن عمر ، حدثنا شعيب بن رزيق أبو شيبة عن عطاء الخراساني ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس ، قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله» ثم قال : حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث شعيب بن رزيق ، قال وفي الباب عن عثمان وأبي ريحانة. (قلت) وقد تقدما ، ولله الحمد والمنة.

حديث آخر : ـ قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يحيى بن غيلان ، حدثنا رشدين عن زياد ، عن سهل بن معاذ ، عن أبيه معاذ بن رضي الله عنه أنس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من حرس من وراء المسلمين متطوعا لا بأجرة سلطان ، لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم ، فإن الله يقول (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١] تفرد به أحمد رحمه‌الله.

حديث آخر : ـ روى البخاري (٣) في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة ، إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش ، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه ، مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة كان في الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع». فهذا آخر ما تيسر إيراده من الأحاديث المتعلقة بهذا المقام ، ولله الحمد على جزيل الإنعام ، على تعاقب الأعوام والأيام.

وقال ابن جرير (٤) : حدثني المثنى ، حدثنا مطرف بن عبد الله المدني ، حدثنا مالك عن زيد بن أسلم قال : كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف

__________________

(١) سنن الترمذي (فضائل الجهاد باب ١٢)

(٢) مسند أحمد ٣ / ٤٣٧ ـ ٤٣٨.

(٣) صحيح البخاري (جهاد باب ٧٠ ورقاق باب ١٠)

(٤) تفسير الطبري ٣ / ٥٦٢.

١٧٨

منهم ، فكتب إليه عمر : أما بعد ، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة يجعل الله بعدها فرجا ، وإنه لن يغلب عسر يسرين ، وإن الله تعالى يقول في كتابه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

وهكذا روى الحافظ بن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك من طريق محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة ، قال : أملى علي عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس ، وودعته للخروج ، وأنشدها معي إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة ، وفي رواية سنة سبع وسبعين ومائة : [الكامل]

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا

لعلمت أنك في العبادة تلعب

من كان يخضب خدّه بدموعه

فنحورنا بدمائنا تتخضّب

أو كان يتعب خيله في باطل

فيخولنا يوم الصبيحة تتعب

ريح العبير لكم ونحن عبيرنا

وهج السنابك والغبار الأطيب

ولقد أتانا من مقال نبينا

قول صحيح صادق لا يكذب

لا يستوي وغبار خيل الله في

أنف امرئ ودخان نار تلهب

هذا كتاب الله ينطق بيننا

ليس الشهيد بميت لا يكذب

قال : فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام ، فلما قرأه ذرفت عيناه وقال : صدق أبو عبد الرحمن ونصحني ، ثم قال : أنت ممن يكتب الحديث؟ قال : قلت : نعم ، قال فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا وأملى عليّ الفضيل بن عياض : حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رجلا قال : يا رسول الله ، علمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله ، فقال «هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر ، وتصوم فلا تفطر؟» فقال : يا رسول الله ، أنا أضعف من أن أستطيع ذلك ، ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فو الذي نفسي بيده لو طوّقت ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله ، أو ما علمت أن الفرس المجاهد ليستن (١) في طوله ، فيكتب له بذلك الحسنات».

وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي في جميع أموركم وأحوالكم ، كما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن «اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن» (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي في الدنيا والآخرة ـ وقال ابن جرير (٢) : حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أنبأنا أبو صخر عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول في قول الله عزوجل (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) واتقوا الله فيما بيني وبينكم لعلكم تفلحون غدا إذا لقيتموني.

انتهى تفسير سورة آل عمران ، ولله الحمد والمنة ، نسأله الموت على الكتاب والسنة آمين ...

__________________

(١) استنّ الغرس : عدا شوطا أو شوطين ولا راكب عليه. والطّول : الحبل.

(٢) تفسير الطبري ٣ / ٥٦٤.

١٧٩

سورة النساء

قال العوفي عن ابن عباس : نزلت سورة النساء بالمدينة. وكذا روى ابن مردويه ، عن عبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت ، وروى من طريق عبد الله بن لهيعة ، عن أخيه عيسى ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما نزلت سورة النساء قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا حبس» وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا أبو البختري عبد الله بن محمد بن شاكر ، حدثنا محمد بن بشر العبدي ، حدثنا مسعر بن كدام عن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [النساء : ٤٠] الآية ، و (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) الآية ، و (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] و (لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ) [النساء : ٦٤] الآية ، (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ١١٠] ثم قال : هذا إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن سمع من أبيه فقد اختلف في ذلك.

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن رجل عن ابن مسعود قال : خمس آيات من النساء لهن أحب إلي من الدنيا جميعا (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [النساء : ٣١] وقوله : (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) [النساء : ٤٠] وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] وقوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) ، وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ١٥٢] رواه ابن جرير. ثم روى من طريق صالح المري عن قتادة عن ابن عباس قال : ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت ، أولاهن (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [النساء : ٢٦] والثانية (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) [النساء : ٢٧] والثالثة (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) [النساء : ٢٨] ثم ذكر قول ابن مسعود سواء ـ يعني في الخمسة الباقية ـ وروى الحاكم من طريق أبي نعيم عن سفيان بن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، عن ابن أبي مليكة : سمعت ابن عباس يقول : سلوني عن سورة النساء فإني قرأت القرآن وأنا صغير. ثم قال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه.

١٨٠