تفسير القرآن العظيم - ج ٢

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٠

قال الله عزوجل : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) استدلوا به علة أن الشخص قد تتقلب به الأحوال ، فيكون في حال أقرب إلى الكفر ، وفي حال أقرب إلى الإيمان ، لقوله : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ). ثم قال تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) يعني أنهم يقولون القول ولا يعتقدون صحته ، ومنه قولهم هذا (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) فإنهم يتحققون أن جندا من المشركين قد جاءوا من بلاد بعيدة يتحرقون على المسلمين بسبب ما أصيب من سراتهم يوم بدر. وهم أضعاف المسلمين أنه كائن بينهم قتال لا محالة. ولهذا قال تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) ثم قال تعالى : (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا) أي لو سمعوا من مشورتنا عليهم في القعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل ، قال الله تعالى : (قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت ، فينبغي أنكم لا تموتون ، والموت لا بد آت إليكم ولو كنتم في بروج مشيدة ، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. قال مجاهد عن جابر بن عبد الله : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه.

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ(١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٧٥)

يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار ، فإن أرواحهم حية مرزوقة في دار القرار. قال محمد بن جرير (١) : حدثنا محمد بن مرزوق ، حدثنا عمرو بن يونس عن عكرمة ، حدثنا ابن إسحاق بن أبي طلحة ، حدثني أنس بن مالك في أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين أرسلهم نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أهل بئر معونة ، قال : لا أدري أربعين أو سبعين ، وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري ، فخرج أولئك النفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أتوا غارا مشرفا على الماء فقعدوا فيه ، ثم قال بعضهم لبعض : أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل هذا الماء؟ فقال ـ أراه ابن ملحان الأنصاري ـ : أنا أبلغ رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرج حتى أتى حيا منهم فاختبأ أمام البيوت ، ثم قال : يا أهل بئر معونة ، إني رسول رسول الله إليكم ، إني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، فآمنوا بالله ورسوله ، فخرج إليه رجل من

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٥١٥.

١٤١

كسر (١) البيت برمح ، فضربه في جنبه حتى خرج من الشق الآخر ، فقال : الله أكبر فزت ورب الكعبة ، فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه في الغار فقتلهم أجمعين عامر بن الطفيل ، قال : وقال إسحاق : حدثني أنس بن مالك أن الله أنزل فيهم قرآنا : «بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه» ، ثم نسخت فرفعت بعد ما قرأناها زمانا ، وأنزل الله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).

وقد قال مسلم (٢) في صحيحه : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، قال : سألنا عبد الله عن هذه الآية (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) فقال : أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «أرواحهم في جوف طير خضر ، لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال : هل تشتهون شيئا؟ فقالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات ، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا ، قالوا : يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى ، فلما رأى أن ليس لهم حاجة ، تركوا» وقد روي نحوه من حديث أنس وأبي سعيد.

حديث آخر : قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حماد ، حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرها أن ترجع إلى الدنيا إلا الشهيد ، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى لما يرى من فضل الشهادة» تفرد به مسلم من طريق حماد.

حديث آخر : قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا علي بن عبد الله المديني ، حدثنا سفيان عن محمد بن علي بن ربيعة السلمي ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر ، قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أعلمت أن الله أحيا أباك ، فقال له : تمن عليّ. فقال له : أرد إلى الدنيا فأقتل مرة أخرى. قال : إني قضيت الحكم أنهم إليها لا يرجعون». تفرد به أحمد من هذا الوجه.

وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما : أن أبا جابر وهو عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري رضي الله عنه ، قتل يوم أحد شهيدا. قال البخاري : وقال أبو الوليد عن شعبة عن ابن المنكدر :

سمعت جابرا قال لما قتل أبي : جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه ، فجعل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينهوني والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ينه ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تبكيه ـ أو ما تبكيه ـ ما زالت

__________________

(١) كسر البيت : جانبه.

(٢) صحيح مسلم (إمارة حديث ١٢١.

(٣) مسند أحمد ٣ / ١٢٦.

(٤) مسند أحمد ٣ / ٣٦١.

١٤٢

الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع» وقد أسنده هو ومسلم والنسائي من طريق آخر عن شعبة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر ، قال : لما قتل أبي يوم أحد ، جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي ، وذكر تمامه بنحوه.

حديث آخر : قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي عن ابن إسحاق ، حدثنا إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد عن أبي الزبير المكي ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم ، وحسن منقلبهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ، ولا ينكلوا عن الحرب ، فقال الله عزوجل : أنا أبلغهم عنكم ، فأنزل الله عزوجل هذه الآيات (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) وما بعدها» هكذا رواه أحمد ، وكذا رواه ابن جرير عن يونس ، عن ابن وهب ، عن إسماعيل بن عياش ، عن محمد بن إسحاق به. ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره ، وهذا أثبت. وكذا رواه سفيان الثوري عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ـ وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي إسحاق الفزاري ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ، وكذلك قال قتادة والربيع والضحاك : أنها نزلت في قتلى أحد.

حديث آخر : قال أبو بكر بن مردويه ، حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا هارون بن سليمان ، أنبأنا علي بن عبد الله المديني ، أنبأنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه الأنصاري ، سمعت طلحة بن خراش بن عبد الرحمن بن خراش بن الصّمة الأنصاري ، قال : سمعت جابر بن عبد الله قال : نظر إليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم فقال «يا جابر مالي أراك مهتما؟» قال قلت : يا رسول الله ، استشهد أبي وترك دينا وعيالا ، قال : فقال : «ألا أخبرك ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب ، وإنه كلم أباك كفاحا» ، قال علي : الكفاح المواجهة «قال : سلني أعطك. قال : أسألك أن أراد إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية ، فقال الرب عزوجل : إنه قد سبق مني القول : أنهم إليها لا يرجعون. قال : أي رب فأبلغ من ورائي ، فأنزل الله (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) الآية». ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن سليمان بن سليط الأنصاري ، عن أبيه عن جابر ، به نحوه. وكذا رواه البيهقي في دلائل النبوة من طريق علي بن

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

١٤٣

المديني به. وقد رواه البيهقي أيضا من حديث أبي عبادة الأنصاري وهو عيسى بن عبد الرحمن إن شاء الله عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجابر «يا جابر ألا أبشرك» قال : بلى ، بشرك الله بالخير ، قال «شعرت أن الله أحيا أباك ، فقال : تمن عليّ عبدي ما شئت أعطكه ، قال : يا رب ما عبدتك حق عبادتك ، أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فأقاتل مع نبيك وأقتل فيك مرة أخرى ، قال : إنه سلف مني إنه إليها لا يرجع».

حديث آخر : قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي عن ابن إسحاق ، حدثنا الحارث بن فضيل الأنصاري عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الشهداء على بارق نهر بباب الجنة ، في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا» تفرد به أحمد. وقد رواه ابن جرير (٢) عن أبي كريب : حدثنا عبد الرحمن بن سليمان وعبيدة عن محمد بن إسحاق به ، وهو إسناد جيد.

وكأن الشهداء أقسام : منهم من تسرح أرواحهم في الجنة ، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة ، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر ، فيجتمعون هنالك ، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح ، والله أعلم ـ وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضا فيها ، وتأكل من ثمارها ، وترى ما فيها من النضرة والسرور ، وتشاهد ما أعده الله لها من الكرامة ، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم ، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة ، فإن الإمام أحمد رحمه‌الله ، رواه عن محمد بن إدريس الشافعي رحمه‌الله ، عن مالك بن أنس الأصبحي رحمه‌الله ، عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن أبيه رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه» (٣) قوله «يعلق» أي يأكل ، وفي هذا الحديث «إن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة» وأما أرواح الشهداء فكما تقدم في حواصل طير خضر ، فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين ، فإنها تطير بأنفسها ، فنسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان.

وقوله تعالى : (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ) إلى آخر الآية ، أي الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند ربهم ، وهم فرحون بما هم فيه من النعمة والغبطة ، ومستبشرون بإخوانهم الذين يقتلون بعدهم في سبيل الله أنهم يقدمون عليهم ، وأنهم لا يخافون مما أمامهم ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم ، نسأل الله الجنة.

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٢٦٦.

(٢) تفسير الطبري ٣ / ٥١٣.

(٣) مسند أحمد ٣ / ٤٥٥.

١٤٤

قال محمد بن إسحاق (١) (وَيَسْتَبْشِرُونَ) أي ويسرون بلحوق من خلفهم (٢) من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم ، ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم. قال السدي : يؤتى الشهيد بكتاب فيه : يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا ، ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا ، فيسر بذلك كما يسر أهل الدنيا بغائبهم إذا قدم ، وقال سعيد بن جبير : لما دخلوا الجنة ورأوا ما فيها من الكرامة للشهداء ، قالوا : يا ليت إخواننا الذين في الدنيا يعلمون ما عرفناه من الكرامة ، فإذا شهدوا القتال باشروها بأنفسهم حتى يستشهدوا فيصيبوا ما أصبنا من الخير ، فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمرهم وما هم فيه من الكرامة ، وأخبرهم ، أي ربهم ، أني قد أنزلت على نبيكم وأخبرته بأمركم وما أنتم فيه ، فاستبشروا بذلك ، فذلك قوله : (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) الآية ، وقد ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه في قصة أصحاب بئر معونة السبعين من الأنصار الذين قتلوا في غداة واحدة ، وقنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو على الذين قتلوهم ويلعنهم ، قال أنس : ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع «أن بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا».

ثم قال تعالى : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) قال محمد بن إسحاق : استبشروا وسروا لما عاينوا من وفاء الموعود وجزيل الثواب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هذه الآية جمعت المؤمنين كلهم سواء الشهداء وغيرهم ، وقلما ذكر الله فضلا ذكر به الأنبياء وثوابا أعطاهم الله إياه ، إلا ذكر الله ما أعطى المؤمنين من بعدهم.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) هذا كان يوم حمراء الأسد ، وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين ، كروا راجعين إلى بلادهم ، فلما استمروا في سيرهم تندّموا لم لا تمموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة ، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم ليرعبهم ويريهم أن بهم قوة وجلدا ، ولم يأذن لأحد سوى من حضر الوقعة يوم أحد سوى جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، لما سنذكره ، فانتدب المسلمون على ما بهم من الجراح والإثخان طاعة لله عزوجل ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد ، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو ، عن عكرمة ، قال : لما رجع المشركون عن أحد ، قالوا : لا محمدا قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم ، بئس ما صنعتم ، ارجعوا ، فسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، فندب المسلمين ، فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد ـ أو بئر أبي عيينة ـ الشك من سفيان ـ فقال المشركون : نرجع من قابل ، فرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكانت تعد غزوة ، فأنزل الله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ / ١١٩.

(٢) في السيرة : «لحقهم».

١٤٥

وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) ورواه ابن مردويه من حديث محمد بن منصور عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس فذكره.

وقال محمد بن إسحاق (١) : كان يوم أحد يوم السبت للنصف من شوال ، فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال ، أذّن مؤذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الناس بطلب العدو ، وأذّن مؤذنه أن لا يخرج معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس ، فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام ، فقال : يا رسول الله ، إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع ، وقال : يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفسي فتخلف على أخواتك ، فتخلفت عليهن ، فأذن له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرج معه ، وإنما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرهبا للعدو ، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوة ، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم. قال محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان : أن رجلا من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من بني عبد الأشهل ، كان قد شهد أحدا ، قال : شهدت أحدا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا وأخي فرجعنا جريحين ، فلما أذن مؤذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخروج في طلب العدو ، قلت لأخي ـ أو قال لي ـ : أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ والله ما لنا من دابة نركبها ، وما منا إلا جريح ثقيل فخرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكنت أيسر جراحا منه ، فكان إذا غلب حملته عقبة (٢) ومشى عقبة ، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون.

وقال البخاري (٣) : حدثنا محمد بن سلام ، حدثنا أبو معاوية عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) الآية ، قلت لعروة : يا ابن أختي كان أبواك منهم الزبير وأبو بكر رضي الله عنهما لما أصاب نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أصاب يوم أحد ، وانصرف عنه المشركون ، خاف أن يرجعوا ، فقال «من يرجع في أثرهم» فانتدب منهم سبعون رجلا فيهم أبو بكر والزبير رضي الله عنهما ، هكذا رواه البخاري منفردا به بهذا السياق.

وهكذا رواه الحاكم في مستدركه عن الأصم ، عن عباس الدوري ، عن أبي النضر ، عن أبي سعيد المؤدب ، عن هشام بن عروة به ، ثم قال : صحيح ، ولم يخرجاه ، كذا قال. ورواه ابن ماجة عن هشام بن عمار ، وهديّة بن عبد الوهاب عن سفيان بن عيينة. عن هشام بن عروة به ، وهكذا رواه سعيد بن منصور وأبو بكر الحميدي في مسنده عن سفيان به.

وقد رواه الحاكم أيضا من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن البهي ، عن عروة ، قال :

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ / ١٠٠.

(٢) العقبة : النوبة ، والبدل.

(٣) صحيح البخاري (مغازي باب ٢٧)

١٤٦

قالت لي عائشة : يا بنيّ إن أباك من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ، ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه.

وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر من أصل كتابه ، أنبأنا سمويه ، أنبأنا عبد الله بن الزبير ، أنبأنا سفيان ، أنبأنا هشام عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن كان أبواك لمن الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح أبو بكر والزبير رضي الله عنهما» ، ورفع هذا الحديث خطأ محض من جهة إسناده لمخالفته رواية الثقات من وقفه على عائشة رضي الله عنها كما قدمناه ، ومن جهة معناه فإن الزبير ليس هو من آباء عائشة ، وإنما قالت ذلك عائشة لعروة بن الزبير ، لأنه ابن أختها أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم.

وقال ابن جرير (١) : حدثني محمد بن سعد ، حدثني أبي ، حدثني عمي ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : إن الله قذف في قلب أبي سفيان الرعب يوم أحد بعد ما كان منه ما كان ، فرجع إلى مكة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفا ، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب» ، وكانت وقعة أحد في شوال ، وكان التجار يقدمون المدينة في ذي القعدة ، فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة ، وإنهم قدموا بعد وقعة أحد ، وكان أصاب المؤمنين القرح ، واشتكوا ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واشتد عليهم الذي أصابهم ، وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ندب الناس لينطلقوا معه ويتبعوا ما كانوا متبعين ، وقال «إنما يرتحلون الآن فيأتون الحج ، ولا يقدرون على مثلها حتى عام مقبل» فجاء الشيطان فخوّف أولياءه ، فقال : إن الناس قد جمعوا لكم ، فأبى عليه الناس أن يتبعوه ، فقال «إني ذاهب وإن لم يتبعني أحد لأحضض الناس» فانتدب معه أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي والزبير وسعد وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا ، فساروا في طلب أبي سفيان فطلبوه حتى بلغوا الصفراء ، فأنزل الله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) الآية.

ثم قال ابن إسحاق (٢) : فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد ، وهي من المدينة على ثمانية أميال ، قال ابن هشام : واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ، فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء ، ثم رجع إلى المدينة ، وقد مر به ـ كما حدثني عبد الله بن أبي بكر ـ معبد بن أبي معبد الخزاعي ، وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة (٣) نصح لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٥١٩.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ / ١٠١ ـ ١٠٢.

(٣) عيبة نصح لرسول الله : موضع سرّه.

١٤٧

بتهامة صفقتهم (١) معه لا يخفون عنه شيئا كان بها ، ومعبد يومئذ مشرك ، فقال : يا محمد ، أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ، ولوددنا أن الله عافاك فيهم ، ثم خرج ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحمراء الأسد حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء ، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وقالوا : أصبنا حدّ أصحابه وقادتهم وأشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم؟ لنكرّنّ على بقيتهم ثم فلنفرغن منهم ، فلما رأى أبو سفيان معبدا ، قال : ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد وأصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثلهم ، يتحرقون عليكم تحرقا ، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ما صنعوا ، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط ، قال : ويلك ما تقول؟ قال : والله ما أرى أن ترتحل حتى أرى نواصي الخيل. قال : فو الله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم ، قال : فإني أنهاك عن ذلك ، فو الله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتا من شعر ، قال : وما قلت؟ قال : قلت : [البسيط]

كادت تهدّ من الأصوات راحلتي

إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل (٢)

تردي بأسد كرام لا تنابلة

عند اللقاء ولا ميل معازيل (٣)

فظلت أعدوا أظن الأرض مائلة

لما سموا برئيس غير مخذول

فقلت ويل ابن حرب من لقائكم

إذا تغطمطت البطحاء بالخيل (٤)

إني نذير لأهل السيل ضاحية

لكل ذي إربة منهم ومعقول (٥)

من جيش أحمد لا وخش تنابلة

وليس يوصف ما أنذرت بالقيل

قال : فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه ، ومر به ركب من بني عبد القيس فقال : أين تريدون؟ قالوا : نريد المدينة. قال : ولم؟ قالوا : نريد الميرة. قال : فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها إليه وأحمل لكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتمونا؟ قالوا : نعم. قال : فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم ، فمر الركب برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بحمراء الأسد ، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه ، فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل. وذكر ابن هشام عن أبي عبيدة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بلغه رجوعهم «والذي نفسي بيده لقد سومت (٦) لهم حجارة لو أصبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب».

__________________

(١) صفقتهم معه : اتفاقهم معه.

(٢) تهدّ : تسقط لهول ما رأت وسمعت. الجرو : الخيل العتاق. الأبابيل : الجماعات.

(٣) تردى تسرع. والتنابلة : القصار. الميل : جمع أميل ، وهو الذي لا رمح أو لا ترس معه. وقيل : هو الذي لا يثبت على السرج. والمعازيل : الذي لا سلاح معهم.

(٤) تغطمطت : اهتزت وارتجّت. والجيل : الصنف من الناس. ويروى : إذا تعظمت البطحاء بالخيل.

(٥) أهل البسل : قريش ، لأنهم أهل مكة ومكة حرام. والضاحية : البارزة للشمس. والإربة : العقل.

(٦) سومت : جعلت لها علامة يعرف بها أنها من عند الله.

١٤٨

وقال الحسن البصري في قوله (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) إن أبا سفيان وأصحابه أصابوا من المسلمين ما أصابوا ورجعوا ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أبا سفيان قد رجع وقد قذف الله في قلبه الرعب ، فمن ينتدب في طلبه؟ فقام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاتبعوهم ، فبلغ أبا سفيان أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطلبه ، فلقي عيرا من التجار فقال : ردوا محمدا ولكم من الجعل كذا وكذا ، وأخبروهم أني قد جمعت لهم جموعا وأني راجع إليهم ، فجاء التجار فأخبروا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «حسبنا الله ونعم الوكيل». فأنزل الله هذه الآية.

وهكذا قال عكرمة وقتادة وغير واحد : إن هذا السياق نزل في شأن حمراء الأسد ، وقيل :

نزلت في بدر الموعد ، والصحيح الأول.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً) الآية ، أي الذين توعدهم الناس بالجموع وخوفوهم بكثرة الأعداء ، فما اكترثوا لذلك بل توكلوا على الله واستعانوا به ، (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ). وقال البخاري : حدثنا أحمد بن يونس ، قال : أراه قال : حدثنا أبو بكر عن أبي حصين ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) قالها إبراهيم عليه‌السلام حين ألقي في النار ، وقالها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، فزادهم إيمانا ، وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل.

وقد رواه النسائي عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم وهارون بن عبد الله ، كلاهما عن يحيى بن أبي بكير ، عن أبي بكر وهو ابن عياش به ، والعجب أن الحاكم أبا عبد الله رواه من حديث أحمد بن يونس به ، ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه. ثم رواه البخاري عن أبي غسان مالك بن إسماعيل ، عن إسرائيل ، عن أبي حصين عن أبي الضحى ، عن ابن عباس ، قال : كان آخر قول إبراهيم عليه‌السلام حين ألقي في النار : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ). وقال عبد الرزاق : قال ابن عيينة : وأخبرني زكريا عن الشعبي ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : هي كلمة إبراهيم عليه‌السلام حين ألقي في النار ، رواه ابن جرير (١).

وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن معمر ، حدثنا إبراهيم بن موسى الثوري ، حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن زياد السكري ، أنبأنا أبو بكر بن عياش عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قيل له يوم أحد : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، فأنزل الله هذه الآية. وروى أيضا بسنده عن محمد بن عبيد الله الرافعي ، عن أبيه ، عن جده أبي رافع : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجه عليا في نفر معه في طلب أبي سفيان ، فلقيهم أعرابي من خزاعة

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٥٢٣.

١٤٩

فقال : إن القوم قد جمعوا لكم ، فقالوا : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) فنزلت فيهم هذه الآية. ثم قال ابن مردويه : حدثنا دعلج بن أحمد ، حدثنا الحسن بن سفيان ، أنبأنا أبو خيثمة مصعب بن سعيد ، أنبأنا موسى بن أعين ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) هذا حديث غريب من هذا الوجه.

وقد قال الإمام أحمد (١) : حدثنا حيوة بن شريح وإبراهيم بن أبي العباس ، قالا : حدثنا بقية ، حدثنا بحير بن سعد عن خالد بن معدان ، عن سيف ، عن عوف بن مالك أنه حدثهم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قضى بين رجلين ، فقال المقضي عليه لما أدبر : حسبي الله ونعم الوكيل ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «ردوا علي الرجل» فقال : «ما قلت؟» قال : قلت : حسبي الله ونعم الوكيل. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يلوم على العجز ، ولكن عليك بالكيس ، فإذا غلبك أمر فقل : حسبي الله ونعم الوكيل» وكذا رواه أبو داود (٢) والنسائي من حديث بقية عن بحير عن خالد ، عن سيف وهو الشامي ، ولم ينسب عن عوف بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا أسباط ، حدثنا مطرف عن عطية ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته يسمع متى يؤمر فينفخ؟» فقال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فما نقول؟ قال «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا» وقد روي هذا من غير وجه ، وهو حديث جيد.

وروينا عن أم المؤمنين عائشة وزينب رضي الله عنهما ، أنهما تفاخرتا ، فقالت زينب : زوجني الله وزوجكن أهاليكن ، وقالت عائشة : نزلت براءتي من السماء في القرآن ، فسلمت لها زينب ، ثم قالت : كيف قلت حين ركبت راحلة صفوان بن المعطل؟ فقالت : قلت : حسبي الله ونعم الوكيل. قالت زينب : قلت كلمة المؤمنين.

ولهذا قال تعالى : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) أي لما توكلوا على الله كفاهم ما أهمهم وردّ عنهم بأس من أراد كيدهم فرجعوا إلى بلدهم (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) مما أضمر لهم عدوهم (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ).

وقال البيهقي : حدثنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو بكر بن داود الزاهد ، حدثنا محمد بن نعيم ، حدثنا بشر بن الحكم ، حدثنا مبشر بن عبد الله بن رزين ، حدثنا سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قول الله تعالى (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ)

__________________

(١) مسند أحمد ٢٤ ـ ٢٥.

(٢) سنن أبي داود (أقضية باب ٢٨)

(٣) مسند أحمد ١ / ٣٢٦.

١٥٠

قال : النعمة أنهم سلموا ، والفضل أن عيرا مرت وكان في أيام الموسم فاشتراها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فربح فيها مالا فقسمه بين أصحابه.

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) قال : هذا أبو سفيان ، قال لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا. فقال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم «عسى» ، فانطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لموعده حتى نزل بدرا ، فوافقوا السوق فيها ، فأشاعوا ، فذلك قول الله عزوجل : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) الآية ، قال : وهي غزوة بدر الصغرى ، رواه ابن جرير (١) ، وروى أيضا عن القاسم ، عن الحسين ، عن حجاج ، عن ابن جريج ، قال : لما عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لموعد أبي سفيان فجعلوا يلقون المشركين فيسألونهم عن قريش ، فيقولون : قد جمعوا لكم ، يكيدونهم بذلك ، يريدون أن يرعبوهم ، فيقول المؤمنون : حسبنا الله ونعم الوكيل ، حتى قدموا بدرا ، فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد ، قال : فقدم رجل من المشركين أخبر أهل مكة بخيل محمد ، وقال في ذلك : [الرجز]

نفرت قلوصي من خيول محمد

وعجوة منثورة كالعنجد

واتّخذت ماء قديد موعدي

قال ابن جرير : هكذا أنشدنا القاسم وهو خطأ ، وإنما هو :

قد نفرت من رفقتي محمد

وعجوة من يثرب كالعنجد

تهزي على دين أبيها الأتلد

قد جعلت ماء قديد موعد

وماء ضجنان لها ضحى الغد (٢)

ثم قال تعالى : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) أي يخوفكم أولياءه ، ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة ، قال الله تعالى : (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إذا سول لكم وأوهمكم فتوكلوا علي والجأوا إلي ، فإني كافيكم وناصركم عليهم ، كما قال تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) [الزمر : ٣٦] إلى قوله (قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) [الزمر : ٣٨] وقال تعالى : (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٥٢٢ ـ ٥٢٣.

(٢) الرجز لمعبد بن أبي معبد الخزاعي في سيرة ابن هشام ٢ / ٢١٠ وتاريخ الطبري ٣ / ٤١. وقوله : «رفقتي محمد» بالتثنية يعني المهاجرين والأنصار. والعجوة : ضرب من أجود التمر. والعنجد : الزبيب الأسود. وقوله : «تهوي على دين أبيها» أي تسرع على دأب أبيها وعادته. وقديد : موضع ماء بين مكة والمدينة. وضجنان : جبل على طريق المدينة قبل مكة.

١٥١

كانَ ضَعِيفاً) [النساء : ٧٦] وقال تعالى : (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) [المجادلة : ١٩] وقال تعالى (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة : ٢١] وقال (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) [الحج : ٤٠] وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) [محمد : ٧] ، وقال تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر : ٥١].

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨) ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١٨٠)

يقول تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) وذلك من شدة حرصه على الناس ، كان يحزنه مبادرة الكفار إلى المخالفة والعناد والشقاق ، فقال تعالى : لا يحزنك ذلك (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) أي حكمته فيهم أنه يريد بمشيئته وقدرته أن لا يجعل لهم نصيبا في الآخرة (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ، ثم قال تعالى مخبرا عن ذلك إخبارا مقررا : (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ) أي استبدلوا هذا بهذا (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) أي ولكن يضرون أنفسهم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ، ثم قال تعال ، (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ ، إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) كقوله (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون : ٥٥] وكقوله (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) [القلم : ٤٤] وكقوله (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) [التوبة : ٨٥] ثم قال تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) أي لا بد أن يعقد سببا من المحنة ، يظهر فيه وليه ويفضح به عدوه ، يعرف به المؤمن الصابر ، والمنافق الفاجر ، يعني بذلك يوم أحد الذي امتحن الله به المؤمنين ، فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وطاعتهم لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهتك به ستر المنافقين. فظهر مخالفتهم ونكولهم عن الجهاد وخيانتهم لله ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذا قال تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ

١٥٢

الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ).

قال مجاهد : ميز بينهم يوم أحد ، وقال قتادة : ميز بينهم بالجهاد والهجرة ، وقال السدي: قالوا : إن كان محمد صادقا فليخبرنا عمن يؤمن به منا ومن يكفر ، فأنزل الله تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) أي حتى يخرج المؤمن من الكافر ، روى ذلك كله ابن جرير (١).

ثم قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) أي أنتم لا تعلمون غيب الله في خلقه حتى يميز لكم المؤمن من المنافق لولا ما يعقده من الأسباب الكاشفة عن ذلك. ثم قال تعالى: (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) كقوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) [الجن : ٢٦ ـ ٢٧] ثم قال تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي أطيعوا الله ورسوله واتبعوه فيما شرع لكم (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ). وقوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ. بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) أي لا يحسبن البخيل أن جمعه المال ينفعه بل هو مضرة عليه في دينه ، وربما كان في دنياه. ثم أخبر بمآل أمر ماله يوم القيامة ، فقال (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

قال البخاري (٢) : حدثنا عبد الله بن منير ، سمع أبا النضر ، حدثنا عبد الرحمن هو ابن عبد الله بن دينار عن أبيه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ، يأخذ بلهزمتيه ـ يعني بشدقيه ـ ثم يقول : أنا مالك ، أنا كنزك» ثم تلا هذه الآية (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) إلى آخر الآية ، تفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه ، وقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق الليث بن سعد عن محمد بن عجلان ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح به.

حديث آخر : قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا حجين بن المثنى ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثل الله له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان ، ثم يلزمه يطوقه يقول : أنا كنزك أنا كنزك» وهكذا رواه النسائي (٤) عن الفضل بن سهل عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة به. ثم قال النسائي : ورواية عبد العزيز عن عبد الله بن

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٥٢٨ ـ ٥٢٩.

(٢) صحيح البخاري (تفسير سورة آل عمران باب ١٤)

(٣) مسند أحمد ٢ / ٩٨.

(٤) سنن النسائي (زكاة باب ٢٠)

١٥٣

دينار عن ابن عمر أثبت من رواية عبد الرحمن عن أبيه عبد الله بن دينار ، عن أبي صالح عن أبي هريرة (قلت) ولا منافاة بين الروايتين ، فقد يكون عند عبد الله بن دينار من الوجهين ، والله أعلم ، وقد ساقه الحافظ أبو بكر بن مردويه من غير وجه عن أبي صالح ، عن أبي هريرة. ومن حديث محمد بن أبي حميد عن زياد الخطمي عن أبي هريرة به.

حديث آخر : قال الإمام أحمد (١) : حدثنا سفيان عن جامع ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ما من عبد لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه ، يفر منه وهو يتبعه ، فيقول : أنا كنزك» ثم قرأ عبد الله مصداقه من كتاب الله (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث سفيان بن عيينة عن جامع بن أبي راشد ، زاد الترمذي : وعبد الملك بن أعين ، كلاهما عن أبي وائل شقيق ابن سلمة عن عبد الله بن مسعود به ، وقال الترمذي : حسن صحيح. وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي بكر بن عياش وسفيان الثوري ، كلاهما عن أبي إسحاق السبيعي ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود به ، ورواه ابن جرير (٢) من غير وجه عن ابن مسعود موقوفا.

حديث آخر : قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أمية بن بسطام ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا سعيد عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة ، عن ثوبان عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من ترك بعده كنزا مثل له شجاعا أقرع يوم القيامة له زبيبتان يتبعه ، ويقول : من أنت؟ ويلك ، فيقول : أنا كنزك الذي خلفت بعدك ، فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ، ثم يتبع سائر جسده» إسناده جيد قوي ، ولم يخرجوه. وقد رواه الطبراني عن جرير بن عبد الله البجلي.

ورواه ابن جرير (٣) وابن مردويه من حديث بهز بن حكيم عن أبيه ، عن جده ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «لا يأتي الرجل مولاه فيسأله من فضل ماله عنده فيمنعه إياه إلا دعي له يوم القيامة شجاع يتلمظ فضله الذي منع» لفظ ابن جرير (٤) ، وقال ابن جرير حدثنا ابن المثنى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود عن أبي قزعة ، عن رجل ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل جعله الله عنده ، فيبخل به عليه ، إلا أخرج له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه» ثم رواه من طريق أخرى عن أبي قزعة واسمه حجير بن بيان ، عن أبي مالك العبدي موقوفا ، ورواه من وجه آخر عن أبي قزعة مرسلا.

وقال العوفي عن ابن عباس : نزلت في أهل الكتاب الذين بخلوا بما في أيديهم من الكتب المنزلة أن يبينوها ، رواه ابن جرير ، والصحيح الأول وإن دخل هذا في معناه ، وقد يقال : إن

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٣٧٧.

(٢) تفسير الطبري ٣ / ٥٣٣.

(٣) تفسير الطبري ٣ / ٥٣٣.

(٤) تفسير الطبري ٣ / ٥٣٢.

١٥٤

هذا أولى بالدخول ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، وقوله تعالى (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ف (أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد : ٧] فإن الأمور كلها مرجعها إلى الله عزوجل. فقدموا من أموالكم ما ينفعكم يوم معادكم (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي بنياتكم وضمائركم.

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) (١٨٤)

قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : لما نزل قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [البقرة : ٢٤٥] قالت اليهود : يا محمد ، افتقر ربك فسأل عباده القرض؟ فأنزل الله (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) الآية ، رواه ابن مردويه وابن أبي حاتم.

وقال محمد بن إسحاق (١) : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أنه حدثه عن ابن عباس رضي الله عنه ، قال : دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بيت المدارس (٢) فوجد من يهود ناسا كثيرة قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص ، وكان من علمائهم وأحبارهم ، ومعه حبر يقال له أشيع ، فقال له أبو بكر : ويحك يا فنحاص اتق الله وأسلم ، فو الله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله قد جاءكم بالحق من عنده ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل. فقال فنحاص : والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقر ، وإنه إلينا لفقير ، ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء ، ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم ، ينهاكم عن الربا ويعطيناه ، ولو كان غنيا ما أعطانا الربا ، فغضب أبو بكر رضي الله عنه فضرب وجه فنحاص ضربا شديدا ، وقال : والذي نفسي بيده لو لا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك يا عدو الله ، فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين. فذهب فنحاص إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا محمد أبصر ما صنع بي صاحبك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر : «ما حملك على ما صنعت؟» فقال : يا رسول الله ، إن عدو الله قد قال قولا عظيما ، زعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء ، فلما قال ذلك ، غضبت لله مما قال ، فضربت وجهه ، فجحد فنحاص ذلك ، وقال : ما قلت ذلك ، فأنزل الله فيما قال فنحاص ردا عليه وتصديقا لأبي بكر (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٥٥٨.

(٢) بيت المدارس : هو البيت الذي يتدارس فيه اليهود كتابهم.

١٥٥

قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) الآية ، رواه ابن أبي حاتم.

وقوله (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) تهديد ووعيد ، ولهذا قرنه تعالى بقوله : (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) أي هذا قولهم في الله وهذه معاملتهم لرسل الله وسيجزيهم الله على ذلك شر الجزاء ، ولهذا قال تعالى : (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا وتحقيرا وتصغيرا.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) يقول تعالى تكذيبا أيضا لهؤلاء الذين زعموا أن الله عهد إليهم في كتبهم ، أن لا يؤمنوا لرسول حتى يكون من معجزاته أن من تصدق بصدقة من أمته ، فتقبلت منه ، أن تنزل نار من السماء تأكلها ، قاله ابن عباس والحسن وغيرهما. قال الله عزوجل : (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج والبراهين ، (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) أي وبنار تأكل القرابين المتقبلة ، (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) أي فلم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنكم تتبعون الحق وتنقادون للرسل. ثم قال تعالى مسليا لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي لا يوهنك تكذيب هؤلاء لك ، فلك أسوة بمن قبلك من الرسل الذين كذبوا مع ما جاءوا به من البينات وهي الحجج والبراهين القاطعة ، (وَالزُّبُرِ) وهي الكتب المتلقاة من السماء كالصحف المنزلة على المرسلين ، (وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي البين الواضح الجلي.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (١٨٦)

يخبر تعالى إخبارا عاما يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت ، كقوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن : ٢٦] فهو تعالى وحده هو الحي الذي لا يموت ، والجن والإنس يموتون ، وكذلك الملائكة وحملة العرش ، وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء ، فيكون آخرا كما كان أولا ، وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس ، فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت ، فإذا انقضت المدة وفرغت النطفة التي قدر الله وجودها في صلب آدم وانتهت البرية ، أقام الله القيامة وجازى الخلائق بأعمالها جليلها وحقيرها ، كثيرها وقليلها ، كبيرها وصغيرها ، فلا يظلم أحدا مثقال ذرة ، ولهذا قال تعالى : (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ)

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز الأويسي ، حدثنا علي بن أبي علي اللهبي

١٥٦

عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : لما توفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجاءت التعزية ، جاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه ، فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ، وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) إن في الله عزاء من كل مصيبة ، وخلفا من كل هالك ، ودركا من كل فائت ، فبالله فثقوا ، وإياه فارجوا ، فإن المصاب من حرم الثواب ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. قال جعفر بن محمد : فأخبرني أبي أن علي بن أبي طالب قال : أتدرون من هذا؟ هذا الخضر عليه‌السلام.

وقوله : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) أي من جنب النار ونجا منها وأدخل الجنة فقد فاز كل الفوز. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، اقرءوا إن شئتم (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) هذا حديث ثابت في الصحيحين ، من غير هذا الوجه بدون هذه الزيادة ، وقد رواه بدون هذه الزيادة أبو حاتم ، وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه ، ومن حديث محمد بن عمرو هذا ورواه ابن مردويه من وجه آخر ، فقال : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن يحيى ، أنبأنا حميد بن مسعدة أنبأنا عمرو بن علي عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها» قال : ثم تلا هذه الآية (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) (١).

وتقدم عند قوله تعالى : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٢] ما رواه الإمام أحمد (٢) عن وكيع بن الجراح عن الأعمش ، عن زيد بن وهب. عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أحب أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه».

وقوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) تصغير لشأن الدنيا ، وتحقير لأمرها ، وأنها دنيئة فانية ، قليلة زائلة ، كما قال تعالى : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) [الأعلى : ١٧] وقال تعالى (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) [الشورى : ٣٦] وفي الحديث «والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم إصبعه في اليم ، فلينظر بم ترجع إليه» وقال قتادة في قوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) قال : هي متاع متروكة أوشكت ـ والله الذي لا إله إلا هو ـ أن تضمحل عن أهلها ، فخذوا من

__________________

(١) راجع تفسير الآية ١٠٢ من هذه السورة.

(٢) مسند أحمد ٢ / ١٩١.

١٥٧

هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله تعالى : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) كقوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ) [البقرة : ١٥٥] إلى آخر الآيتين ، أي لا بد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله ، ويبتلى المؤمن على قدر دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) يقول تعالى للمؤمنين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر مسليا لهم عما نالهم من الذي من أهل الكتاب والمشركين ، وآمرا لهم بالصفح والصبر والعفو حتى يفرج الله ، فقال تعالى : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن الزهري ، أخبرني عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره ، قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله تعالى : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) قال : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم ، هكذا ذكره مختصرا.

وقد ذكره البخاري (١) عند تفسير هذه الآية مطولا ، فقال : حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب عن الزهري ، أخبرني عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد ، حدثه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركب على حمار عليه قطيفة فدكية ، وأردف أسامة بن زيد وراءه ، يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر ، قال : حتى مر على مجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول ، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي ، وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان وأهل الكتاب اليهود والمسلمين ، وفي المجلس عبد الله بن رواحة ، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة ، خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال : لا تغبروا علينا ، فسلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم وقف ، فنزل ، ودعاهم إلى الله عزوجل وقرأ عليهم القرآن ، فقال عبد الله بن أبي : أيها المرء ، إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا. ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه ، فقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه : بلى يا رسول الله ، فاغشنا به في مجالسنا ، فإنا نحب ذلك ، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون ، فلم يزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخفضهم حتى سكتوا ، ثم ركب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب» يريد عبد الله بن أبي ، قال : كذا وكذا ، فقال سعد : يا رسول الله ، اعف عنه واصفح ، فو الله الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة (٢) على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة ، فلما

__________________

(١) صحيح البخاري (تفسير صورة آل عمران باب ١٥)

(٢) يريد المدينة النبوية.

١٥٨

أبي الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله ، شرق بذلك ، فذلك الذي فعل به ما رأيت ، فعفا عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله تعالى : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) الآية وقال تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً ، حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) [البقرة : ١٠٩] الآية ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به حتى أذن له فيهم ، فلما غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدرا ، فقتل الله به صناديد كفار قريش قال عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان : هذا أمر قد توجه فبايعوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإسلام وأسلموا.

فكل من قام بحق أو أمر بمعروف ، أو نهى عن منكر فلا بد أن يؤذى فما له دواء إلا الصبر في الله ، والاستعانة بالله والرجوع إلى الله عزوجل.

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٨٩)

هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن ينوهوا بذكره في الناس ، ليكونوا على أهبة من أمره ، فإذا أرسله الله تابعوه ، فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف ، والحظ الدنيوي السخيف ، فبئست الصفقة صفقتهم ، وبئست البيعة بيعتهم ، وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم ، ويسلك بهم مسالكهم ، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع ، الدال على العمل الصالح ، ولا يكتموا منه شيئا ، فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار».

وقوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) ، يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يعطوا ، كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من ادعى دعوة كاذبة ليتكثر بها ، لم يزده الله إلا قلة» (١). وفي الصحيح أيضا «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور» (٢).

__________________

(١) صحيح مسلم (إيمان حديث ١٧٣)

(٢) صحيح البخاري (نكاح باب ١٠٦) وصحيح مسلم (لباس حديث ١٢٦)

١٥٩

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا حجاج عن ابن جريج ، أخبرني ابن أبي مليكة أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أن مروان قال : اذهب يا رافع لبوابه إلى ابن عباس فقل : لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعين ، فقال ابن عباس : وما لكم وهذه ، إنما نزلت هذه في أهل الكتاب ، ثم تلا ابن عباس (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) الآية. وقال ابن عباس : سألهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه ، واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه.

وهكذا رواه البخاري في التفسير ، ومسلم والترمذي والنسائي في تفسيريهما ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، والحاكم في مستدركه وابن مردويه كلهم من حديث عبد الملك بن جريج بنحوه ، ورواه البخاري أيضا من حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن علقمة بن وقاص ، أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس ، فذكره.

وقال البخاري (٢) : حدثنا سعيد بن أبي مريم ، أنبأنا محمد بن جعفر حدثني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان إذا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه ، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فنزلت (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) الآية ، وكذا رواه مسلم من حديث ابن أبي مريم بنحوه.

وقد رواه ابن مردويه في تفسيره من حديث الليث بن سعد عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم ، قال : كان أبو سعيد ورافع بن خديج وزيد بن ثابت عند مروان فقال : يا أبا سعيد رأيت قوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) ، ونحن نفرح بما أتينا ونحب أن نحمد بما لم نفعل؟ فقال أبو سعيد : إن هذا ليس من ذاك ، إنما ذاك أن ناسا من المنافقين كانوا يتخلفون إذا بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثا ، فإن كان فيهم نكبة فرحوا بتخلفهم ، وإن كان لهم نصر من الله وفتح حلفوا لهم ليرضوهم ويحمدوهم على سرورهم بالنصر والفتح ، فقال مروان : أين هذا من هذا؟ فقال أبو سعيد : وهذا يعلم هذا؟ فقال مروان : أكذلك يا زيد؟ قال : نعم صدق أبو سعيد ، ثم قال أبو سعيد : وهذا يعلم ذاك ـ يعني رافع بن خديج ، ولكنه يخشى إن أخبرك أن تنزع قلائصه في الصدقة ، فلما خرجوا قال زيد

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٢٩٨.

(٢) صحيح البخاري (تفسير سورة آل عمران باب ١٦)

١٦٠