تفسير القرآن العظيم - ج ٢

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٠

والعودة والكرة. قال السدي : لما شدّ المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم دخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها. فجعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو الناس «إليّ عباد الله ، إليّ عباد الله» فذكر الله صعودهم إلى الجبل ، ثم ذكر دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم ، فقال (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) وكذا قال ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد. وقال عبد الله بن الزبعرى : يذكر هزيمة المسلمين يوم أحد في قصيدته وهو مشرك بعد لم يسلم التي يقول في أولها : [الرمل]

يا (١) غراب البين أسمعت فقل

إنما تنطق شيئا قد فعل

إن للخير وللشرّ مدى

وكلا ذلك وجه وقبل (٢)

إلى أن قال :

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل (٣)

حين حكّت بقباء بركها

واستحرّ القتل في عبد الأشل (٤)

ثم خفّوا عند ذاكم رقّصا

رقص الحفّان يعلو في الجبل (٥)

فقتلنا الضّعف من أشرافهم

وعدلنا ميل بدر فاعتدل

الحفان : صغار النعم. وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أفرد في اثني عشر رجلا من أصحابه كما قال الإمام أحمد (٦) : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا زهير ، حدثنا أبو إسحاق عن البراء بن عازب رضي الله عنه ، قال : جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الرماة يوم أحد ـ وكانوا خمسين رجلا ـ عبد الله بن جبير قال : ووضعهم موضعا ، وقال «إن رأيتمونا تخطفنا الطير ، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم» ، قال فهزموهم قال : فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل وقد بدت أسوقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن ، فقال أصحاب عبد الله الغنيمة : أي قوم الغنيمة ، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ قال عبد الله بن جبير : أنسيتم ما قاله لكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقالوا : إنا والله لنأتين الناس ، فلنصيبن من الغنيمة. فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين ، فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم ، فلم يبق مع رسول الله إلا اثنا عشر رجلا ، فأصابوا منا سبعين ،

__________________

(١) رواها ابن هشام في السيرة (٢ / ١٣٦) في ١٦ بيتا. ثم روى بعدها ١٦ بيتا لحسان بن ثابت ردا على أبيات ابن الزبعري.

(٢) القبل (بفتحتين) : المواجهة والمقابلة. يريد أن كل ذلك ملاقيه الإنسان في مستقبل أيامه.

(٣) الأسل : الرماح.

(٤) البرك : الصدر. استحرّ القتل : اشتد. عبد الأشل : أي بنو عبد الأشهل ، فحذف الهاء.

(٥) الرقص (بالتحريك) : مشي سريع.

(٦) مسند أحمد ٤ / ٢٩٣)

١٢١

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين ، سبعين أسيرا وسبعين قتيلا. قال أبو سفيان : أفي القوم محمد ، أفي القوم محمد؟ ـ ثلاثا ـ قال : فنهاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجيبوه ، ثم قال : أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ ثم أقبل على أصحابه فقال : أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم ، فما ملك عمر نفسه أن قال : كذبت والله يا عدو الله ، إن الذين عددت لأحياء كلهم ، وقد بقي لك ما يسوؤك ، فقال : يوم بيوم بدر ، والحرب سجال. وإنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ، ولم تسؤني. ثم أخذ يرتجز يقول : اعل هبل اعل هبل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ألا تجيبوه؟» قالوا : يا رسول الله ، وما نقول؟ قال «قولوا الله أعلى وأجل» قال : لنا العزى ولا عزى لكم. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ألا تجيبوه؟» قالوا : يا رسول الله ، وما نقول؟ قال «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم» وقد رواه البخاري من حديث زهير بن معاوية مختصرا ، ورواه من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق بأبسط من هذا كما تقدم ، والله أعلم.

وروى البيهقي في دلائل النبوة من حديث عمارة بن غزية ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : انهزم الناس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ، وبقي معه أحد عشر رجلا من الأنصار ، وطلحة بن عبيد الله وهو يصعد الجبل ، فلقيهم المشركون ، فقال «ألا أحد لهؤلاء» فقال طلحة : أنا يا رسول الله ، فقال «كما أنت يا طلحة» فقال رجل من الأنصار : فأنا يا رسول الله ، فقاتل عنه ، وصعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن بقي معه ، ثم قتل الأنصاري فلحقوه ، فقال «ألا رجل لهؤلاء» فقال طلحة ، مثل قوله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل قوله ، فقال رجل من الأنصار : فأنا يا رسول الله ، فقاتل عنه وأصحابه يصعدون ، ثم قتل فلحقوه ، فلم يزل يقول مثل قوله الأول ، فيقول طلحة : فأنا يا رسول الله ، فيحبسه فيستأذنه رجل من الأنصار للقتال ، فيأذن له ، فيقاتل مثل من كان قبله ، حتى لم يبق معه إلا طلحة فغشوهما ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من لهؤلاء» فقال طلحة : أنا ، فقاتل مثل قتال جميع من كان قبله ، وأصيبت أنامله ، فقال حس (١) ، فقال رسول الله «لو قلت باسم الله وذكرت اسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جو السماء» ثم صعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أصحابه وهم مجتمعون.

وقد روى البخاري عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن وكيع ، عن إسماعيل ، عن قيس بن أبي حازم ، قال : رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعني يوم أحد ـ وفي الصحيحين من حديث معتمر بن سليمان عن أبيه ، عن أبي عثمان النهدي ، قال : لم يبق مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في بعض الأيام التي قاتل فيهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلا طلحة بن عبيد الله وسعد عن حديثهما (٢). وقال الحسن بن عرفة : حدثنا مروان بن معاوية ، عن هاشم بن هاشم الزهري ، قال : سمعت

__________________

(١) حسّ : لفظ يقوله الإنسان إذا أصابه شيء آذاه غفلة ، كالضربة وحرق الجمرة ونحو ذلك.

(٢) أي عن قرب منه.

١٢٢

سعيد بن المسيب يقول : سمعت سعد بن أبي وقاص يقول : نثل لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كنانته يوم أحد وقال «ارم فداك أبي وأمي» ، وأخرجه البخاري عن عبد الله بن محمد ، عن مروان بن معاوية.

وقال محمد بن إسحاق (١) : حدثني صالح بن كيسان عن بعض آل سعد ، عن سعد بن أبي وقاص ، أنه رمى يوم أحد دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال سعد : فلقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يناولني النبل ويقول «ارم فداك أبي وأمي» حتى إنه ليناولني السهم ليس له نصل فأرمي به.

وثبت في الصحيحين من حديث إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن جده ، عن سعد بن أبي وقاص قال : رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده ، يعني جبريل وميكائيل عليهما‌السلام.

وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد وثابت عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ، واثنين من قريش ، فلما أرهقوه قال «من يردهم عنا وله الجنة ـ أو وهو رفيقي في الجنة» فتقدم رجل من الأنصار ، فقاتل حتى قتل ، ثم أرهقوه أيضا ، فقال «من يردهم عنا وله الجنة» فتقدم رجل من الأنصار ، فقاتل حتى قتل ، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لصاحبيه «ما أنصفنا أصحابنا» رواه مسلم (٢) عن هدبة بن خالد ، عن حماد بن سلمة به نحو.

وقال أبو الأسود عن عروة بن الزبير ، قال : كان أبي بن خلف أخو بني جمح قد حلف وهو بمكة ليقتلن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما بلغت رسول الله حلفته ، قال «بل أنا أقتله إن شاء الله» فلما كان يوم أحد ، أقبل أبي في الحديد مقنعا وهو يقول : لا نجوت إن نجا محمد ، فحمل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد قتله ، فاستقبله مصعب بن عمير ، أخو بني عبد الدار ، يقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفسه ، فقتل مصعب بن عمير ، وأبصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترقوة أبي بن خلف ، من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة وطعنه فيها بحربته ، فوقع إلى الأرض عن فرسه ، ولم يخرج من طعنته دم ، فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خوار الثور ، فقالوا له : ما أجزعك إنما هو خدش؟ فذكر لهم قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بل أنا أقتل أبيا» ثم قال : والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي ، بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين ، فمات إلى النار (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) وقد رواه موسى بن عقبة في مغازيه ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب بنحوه.

وذكر محمد بن إسحاق (٣) ، قال : لما أسند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الشعب ، أدركه أبي بن

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ / ٨٢.

(٢) صحيح مسلم (جهاد حديث ١٠٠)

(٣) سيرة ابن هشام ٢ / ٨٤.

١٢٣

خلف وهو يقول : لا نجوت إن نجوت ، فقال القوم : يا رسول الله يعطف عليه رجل منا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «دعوه» فلما دنا تناول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحربة من الحارث بن الصمة ، فقال بعض القوم فيما ذكر لي ـ فلما أخذها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشّعراء (١) عن ظهر البعير إذا انتفض ، ثم استقبله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ (٢) منها عن فرسه مرارا.

وذكر الواقدي عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمرو بن قتادة ، عن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أبيه ، نحو ذلك. قال الواقدي : وكان ابن عمر يقول : مات أبي بن خلف ببطن رابغ ، فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوي (٣) من الليل ، إذا أنا بنار تأجج فهبتها ، فإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يهيج به العطش ، وإذا رجل يقول : لا تسقه ، فإن هذا قتيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. هذا أبي بن خلف.

وثبت في الصحيحين من رواية عبد الرزاق عن معمر ، عن همام بن منبه عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اشتد غضب الله على قوم فعلوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو حينئذ يشير إلى رباعيته ـ واشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سبيل الله» وأخرجه البخاري أيضا من حديث ابن جريج عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : اشتد غضب الله على من قتله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده في سبيل الله ، واشتد غضب الله على قوم دمّوا وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤).

قال ابن إسحاق (٥) : أصيبت رباعية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشج في وجنته ، وكلمت شفته ، وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص ، فحدثني صالح بن كيسان ، عمن حدثه عن سعد بن أبي وقاص قال : ما حرصت على قتل أحد قط ما حرصت على قتل عتبة بن أبي وقاص إن كان ما علمت لسيء الخلق مبغضا في قومه ، ولقد كفاني فيه قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اشتد غضب الله على من دمّى وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن الزهري ، عن عثمان الجزري ، عن مقسم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا على عتبة بن أبي وقاص يوم أحد حين كسر رباعيته ودمّى وجهه ، فقال «اللهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافرا» فما حال عليه الحول حتى مات كافرا إلى النار ـ وذكر الواقدي عن ابن أبي سبرة ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة ، عن أبي الحويرث ،

__________________

(١) الشعراء : قال ابن هشام : الشعراء ذباب له لدغ.

(٢) تدأدأ : تقلّب عن فرسه فجعل يتدحرج.

(٣) الهويّ من الليل : الساعة من الليل.

(٤) صحيح البخاري (مغازي باب ٢٤) وصحيح مسلم (جهاد حديث ١٠٦)

(٥) سيرة ابن هشام ٢ / ٨٦.

١٢٤

عن نافع بن جبير ، قال : سمعت رجلا من المهاجرين يقول : شهدت أحدا فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسطها ، كل ذلك يصرف عنه ، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ ، دلوني على محمد لا نجوت إن نجا ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جنبه ليس معه أحد ، ثم جاوزه فعاتبه في ذلك صفوان ، فقال : والله ما رأيته أحلف بالله إنه منا ممنوع! خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إلى ذلك ، قال الواقدي : والذي ثبت عندنا ، أن الذي رمى في وجنتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن قميئة ، والذي دمّى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص.

وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا ابن المبارك عن إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله ، أخبرني عيسى بن طلحة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، قالت : كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد ، قال : ذاك يوم كله لطلحة ثم أنشأ يحدث ، قال : كنت أول من فاء يوم أحد ، فرأيت رجلا يقاتل مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دونه وأراه قال حمية ، فقال : فقلت : كان طلحة حيث فاتني ما فاتني ، فقلت : يكون رجلا من قومي أحب إلي وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه وأنا أقرب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه ، وهو يخطف المشي خطفا لا أحفظه ، فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح ، فانتهينا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد كسرت رباعيته وشج في وجهه ، وقد دخل في وجنته حلقتان من حلق المغفر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «عليكما صاحبكما» يريد طلحة وقد نزف فلم نلتفت إلى قوله ، قال : وذهبت لأن أنزع ذلك من وجهه ، فقال أبو عبيدة : أقسمت عليك بحقي لما تركتني فتركته ، فكره أن يتناولها بيده فيؤذي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأزمّ (١) عليه بفيه فاستخرج إحدى الحلقتين ، ووقعت ثنيّته مع الحلقة ، وذهبت لأصنع ما صنع ، فقال : أقسمت عليك بحقي لما تركتني ، قال : ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى ، فوقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة ، فكان أبو عبيدة أحسن الناس هتما ، فأصلحنا من شأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار (٢) ، فإذا به بضع وسبعون أو أقل أو أكثر من طعنة ورمية وضربة ، وإذا قد قطعت إصبعه ، فأصلحنا من شأنه.

ورواه الهيثم بن كليب والطبراني من حديث إسحاق بن يحيى به. وعند الهيثم فقال أبو عبيدة : أنشدك الله يا أبا بكر إلا تركتني؟ فأخذ أبو عبيدة السهم بفيه ، فجعل ينضنضه (٣) كراهية أن يؤذي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم استل السهم بفيه فبدرت ثنية أبي عبيدة ، وذكر تمامه ، واختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه ، وقد ضعّف علي بن المديني هذا الحديث من جهة إسحاق بن يحيى هذا فإنه تكلم فيه يحيى بن سعيد القطان وأحمد ويحيى بن معين والبخاري

__________________

(١) أزمّ : شدّ.

(٢) جمع جفرة ، وهي الحفرة.

(٣) ينضنضه : يحركه.

١٢٥

وأبو زرعة وأبو حاتم ومحمد بن سعد والنسائي وغيرهم.

وقال ابن وهب : أخبرني عمرو بن الحارث أن عمر بن السائب حدثه أنه بلغه أن مالكا أبا أبي سعيد الخدري لما جرح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد مص الجرح حتى أنقاه ولاح أبيض فقيل له : مجه ، فقال : لا والله لا أمجه أبدا ، ثم أدبر يقاتل ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا» فاستشهد.

وقد ثبت في الصحيحين من طريق عبد العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه ، عن سهل بن سعد ، أنه سئل عن جرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : جرح وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تغسل الدم وكان علي يسكب عليه الماء بالمجن ، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها حتى إذا صارت رمادا ألصقته بالجرح فاستمسك الدم.

وقوله تعالى : (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) أي فجزاكم غما على غم ، كما تقول العرب : نزلت ببني فلان ، ونزلت على بني فلان. وقال ابن جرير (١) : وكذا قوله (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١] أي على جذوع النخل ، قال ابن عباس : الغم الأول بسبب الهزيمة ، وحين قيل قتل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والثاني حين علاهم المشركون فوق الجبل ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم ليس لهم أن يعلونا» وعن عبد الرحمن بن عوف : الغم الأول بسبب الهزيمة ، والثاني حين قيل قتل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ذلك عندهم أشد وأعظم من الهزيمة ، رواهما ابن مردويه ، وروي عن عمر بن الخطاب نحو ذلك ، وذكر ابن أبي حاتم ، عن قتادة نحو ذلك أيضا وقال السدي : الغم الأول بسبب ما فاتهم من الغنيمة والفتح ، والثاني بإشراف العدو عليهم ، وقال محمد بن إسحاق (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) أي كربا بعد كرب قتل من قتل من إخوانكم ، وعلو عدوكم عليكم ، وما وقع في أنفسكم من قول من قال : قتل نبيكم ، فكان ذلك متتابعا عليكم غما بغم ، وقال مجاهد وقتادة : الغم الأول سماعهم قتل محمد ، والثاني ما أصابهم من القتل والجراح ، وعن قتادة والربيع بن أنس عكسه. وعن السدي : الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة ، والثاني إشراف العدو عليهم ، وقد تقدم هذا القول عن السدي.

قال ابن جرير (٢) : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) فأثابكم بغمكم أيها المؤمنون بحرمان الله إياكم غنيمة المشركين والظفر بهم والنصر عليهم ، وما أصابكم من القتل والجراح ، يومئذ بعد الذي كان قد أراكم في كل ذلك ما تحبون بمعصيتكم أمر ربكم ، وخلافكم أمر نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم غم ظنكم أن نبيكم قد قتل وميل العدو عليكم

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٤٧٨.

(٢) تفسير الطبري ٣ / ٣٨١.

١٢٦

بعد فلولكم منهم. وقوله تعالى : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) أي على ما فاتكم من الغنيمة والظفر بعدوكم (وَلا ما أَصابَكُمْ) من الجراح والقتل ، قاله ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف والحسن وقتادة والسدي ، (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) سبحانه وبحمده لا إله إلا هو جل وعلا.

(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (١٥٥)

يقول تعالى ممتنا على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة والأمنة وهو النعاس الذي غشيهم وهم مستلئمو السلاح في حال همهم وغمهم ، والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان ، كما قال تعالى في سورة الأنفال في قصة بدر (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) [الأنفال : ١١] ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو نعيم وكيع ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : النعاس في القتال من الله وفي الصلاة من الشيطان.

وقال البخاري : وقال لي خليفة : حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا سعيد عن قتادة ، عن أنس ، عن أبي طلحة ، قال : كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد ، حتى سقط سيفي من يدي مرارا ، يسقط وآخذه ، ويسقط وآخذه ، وهكذا رواه في المغازي معلقا ، ورواه في كتاب التفسير مسندا عن شيبان ، عن قتادة ، عن أنس ، عن أبي طلحة ، قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، قال : فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه.

وقد رواه الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، عن أبي طلحة ، قال ، رفعت رأسي يوم أحد وجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت حجفته من النعاس ، لفظ الترمذي وقال : حسن صحيح ، ورواه النسائي أيضا ، عن محمد بن المثنى ، عن خالد بن الحارث ، عن أبي قتيبة ، عن ابن أبي عدي ، كلاهما عن حميد ، عن أنس قال : قال أبو طلحة : كنت فيمن ألقي عليه النعاس ، الحديث ، وهكذا روي عن الزبير وعبد الرحمن بن عوف وقال البيهقي : حدثنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرني أبو الحسين محمد بن يعقوب ، حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي ، حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخزومي ، حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا شيبان عن قتادة ، حدثنا أنس بن مالك أن أبا طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط

١٢٧

وآخذه. قال : والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم أجبن قوم وأرعنه وأخذله للحق (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) أي إنما هم كذبة أهل شك وريب في الله عزوجل هكذا رواه بهذه الزيادة وكأنها من كلام قتادة رحمه‌الله وهو كما قال ، فإن الله عزوجل يقول : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) يعني أهل الإيمان واليقين والثبات والتوكل الصادق وهم الجازمون بأن الله عزوجل سينصر رسوله وينجز له مأموله ، ولهذا قال : (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) يعني لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) كما قال في الآية الأخرى (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) [الفتح : ١٢] إلى آخر الآية.

وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة وأن الإسلام قد باد وأهله ، وهذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة ، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم (يَقُولُونَ) في تلك الحال (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) فقال تعالى : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) ثم فسر ما أخفوه في أنفسهم بقوله (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) أي يسرون هذه المقالة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ابن إسحاق : فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير ، قال : قال الزبير : لقد رأيتني مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره ، قال : فو الله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم يقول : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا فحفظتها منه وفي ذلك أنزل الله (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) لقول معتب ، رواه ابن أبي حاتم.

قال الله تعالى : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) أي هذا قدر قدره الله عزوجل وحكم حتم لا محيد عنه ولا مناص منه ، وقوله تعالى : (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) أي يختبركم بما جرى عليكم ليميز الخبيث من الطيب ويظهر أمر المؤمن من المنافق للناس في الأقوال والأفعال (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما يختلج في الصدور من السرائر والضمائر ، ثم قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) أي ببعض ذنوبهم السابقة كما قال بعض السلف : إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وإن من جزاء السيئة السيئة بعدها ، ثم قال تعالى (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) أي عما كان منهم من الفرار (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) أي يغفر الذنب ويحلم عن خلقه ويتجاوز عنهم ، وقد تقدم حديث ابن عمر في شأن عثمان وتوليه يوم أحد وأن الله قد عفا عنه مع من عفا عنهم عند قوله (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) ومناسب ذكره هاهنا.

١٢٨

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا زائدة ، عن عاصم ، عن شقيق ، قال : لقي عبد الرحمن بن عوف الوليد بن عقبة فقال له الوليد : ما لي أراك جفوت أمير المؤمنين عثمان فقال له عبد الرحمن : أبلغه أني لم أفر يوم حنين ، قال عاصم : يقول يوم أحد : ولم أتخلف عن بدر ولم أترك سنة عمر ، قال : فانطلق فأخبر بذلك عثمان ، قال : فقال عثمان : أما قوله إني لم أفر يوم حنين ، فكيف يعيرني بذنب قد عفا الله عنه فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) وأما قوله إني تخلفت يوم بدر ، فإني كنت أمرض رقية بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ماتت وقد ضرب لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بسهم ، ومن ضرب له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسهم فقد شهد ، وأما قوله إني تركت سنة عمر فإني لا أطيقها ولا هو ، فأته فحدثه بذلك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) (١٥٨)

ينهى تعالى عباده المؤمنين عن مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد ، الدال عليه قولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار والحروب ، لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم ، فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) أي عن إخوانهم (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) أي سافروا للتجارة ونحوها (أَوْ كانُوا غُزًّى) أي كانوا في الغزو (لَوْ كانُوا عِنْدَنا) أي في البلد (ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) أي ما ماتوا في السفر ، وما قتلوا في الغزو وقوله تعالى : (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتهم وقتلهم ، ثم قال تعالى ردا عليهم (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي بيده الخلق وإليه يرجع الأمر ، ولا يحيا أحد ولا يموت أحد إلا بمشيئته وقدره ، ولا يزاد في عمر أحد ولا ينقص منه شيء إلا بقضائه وقدره (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي علمه وبصره نافذ في جميع خلقه ، لا يخفى عليه من أمورهم شيء ، وقوله تعالى : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) تضمن هذا أن القتل في سبيل الله والموت أيضا ، وسيلة إلى نيل رحمة الله وعفوه ورضوانه ، وذلك خير من البقاء في الدنيا جمع حطامها الفاني ، ثم أخبر تعالى بأن كل من مات أو قتل فمصيره ومرجعه إلى الله عزوجل ، فيجزيه بعمله إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، فقال تعالى : (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ).

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٦٨.

١٢٩

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١٦٤)

يقول تعالى مخاطبا رسوله ، ممتنا عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته المتبعين لأمره ، التاركين لزجره ، وأطاب لهم لفظه (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) أي : أي شيء جعلك لهم لينا ، لو لا رحمة الله بك وبهم ، وقال قتادة (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) يقول فبرحمة من الله لنت لهم ، وما صلة (١) ، والعرب تصلها بالمعرفة كقوله (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) [النساء : ١٥٥] وبالنكرة كقوله : (عَمَّا قَلِيلٍ) [المؤمنون : ٤٠] وهكذا هاهنا قال : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) أي برحمة من الله ، وقال الحسن البصري هذا خلق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثه الله به ، وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٢٨].

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا حيوة ، حدثنا بقية ، حدثنا محمد بن زياد ، حدثني أبو راشد الحبراني قال : أخذ بيدي أبو أمامة الباهلي وقال : أخذ بيدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «يا أبا أمامة إن من المؤمنين من يلين لي قلبه» تفرد به أحمد.

ثم قال تعالى : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران : ١٥٩] والفظ الغليظ ، والمراد به هاهنا غليظ الكلام لقوله بعد ذلك (غَلِيظَ الْقَلْبِ) أي لو كنت سيء الكلام ، قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك ، ولكن الله جمعهم عليك ، وألان جانبك لهم تأليفا لقلوبهم ، كما قال عبد الله بن عمرو : «إني أرى صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الكتب المتقدمة إنه ليس بفظ ، ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح».

وقال أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي : أنبأنا بشر بن عبيد الدارمي ، حدثنا عمار بن عبد الرحمن عن المسعودي عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض» حديث غريب.

__________________

(١) أي زائدة.

(٢) مسند أحمد ٥ / ٢٦٧.

١٣٠

ولهذا قال تعالى : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) ولذلك كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث تطييبا لقلوبهم ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه ، كما شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير ، فقالوا : يا رسول الله ، لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك ، ولو سرت بنا إلى برك الغماد (١) لسرنا معك ، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون : ولكن نقول اذهب ، فنحن معك ، وبين يديك ، وعن يمينك ، وعن شمالك مقاتلون. وشاورهم أيضا أين يكون المنزل ، حتى أشار المنذر بن عمرو المعنق ليموت (٢) ، بالتقدم إلى أمام القوم. وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو ، فأشار جمهورهم بالخروج إليهم ، فخرج إليهم وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ ، فأبى ذلك عليه السعدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، فترك ذلك ، وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين. فقال له الصديق : إنا لم نجيء لقتال أحد وإنما جئنا معتمرين ، فأجابه إلى ما قال ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قصة الإفك «أشيروا عليّ معشر المسلمين في قوم أبنوا (٣) أهلي ورموهم ، وايم الله ما علمت على أهلي من سوء وأبنوهم بمن؟ والله ما علمت عليه إلا خيرا» واستشار عليا وأسامة في فراق عائشة رضي الله عنها. فكانصلى‌الله‌عليه‌وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها وقد اختلف الفقهاء هل كان ذلك واجبا عليه أو من باب الندب تطييبا لقلوبهم؟ على قولين.

وقد قال الحاكم في مستدركه : أنبأنا أبو جعفر محمد بن محمد البغدادي ، حدثنا يحيى بن أيوب العلاف بمصر ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، أنبأنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) قال : أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ، وكذا رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : نزلت في أبي بكر وعمر ، وكانا حواريّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووزيريه ، وأبوي المسلمين ، وقد روى الإمام أحمد (٤) : حدثنا وكيع ، حدثنا عبد الحميد عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال لأبي بكر وعمر «لو اجتمعنا في مشورة ما خالفتكما» وروى ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن العزم؟ فقال «مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم» وقد قال ابن ماجة (٥) : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا

__________________

(١) برك الغماد : موضع باليمن.

(٢) المعنق ليموت : لقب أطلقه عليه رسول الله لما بلغه مقتله فقال : «أعنق ليموت» أي أنه تطلع إلى منيته وأسرع إليها ـ انظر سيرة ابن هشام ٢ / ١٨٣ حديث بئر معونة.

(٣) أي اتهموهم.

(٤) مسند أحمد ٤ / ٢٢٧.

(٥) سنن ابن ماجة (أدب باب ٣٧)

١٣١

يحيى بن بكير عن شيبان ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «المستشار مؤتمن» ورواه أبو داود (١) والترمذي ، وحسنه النسائي من حديث عبد الملك بن عمير بأبسط من هذا. ثم قال ابن ماجة : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أسود بن عامر عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبي عمرو الشيباني عن ابن مسعود قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «المستشار مؤتمن» تفرد به. وقال أيضا : حدثنا أبو بكر ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وعلي بن هاشم عن ابن أبي ليلى ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه» تفرد به أيضا.

وقوله تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي إذا شاورتهم في الأمر وعزمت عليه فتوكل على الله فيه (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) وقوله تعالى : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) وهذه الآية كما تقدم من قوله : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [آل عمران : ١٢٦] ثم أمرهم بالتوكل عليه ، فقال (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

وقوله تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) ، قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغير واحد :

ما ينبغي لنبي أن يخون. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا المسيب بن واضح ، حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن سفيان بن خصيف عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : فقدوا قطيفة يوم بدر فقالوا : لعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذها ، فأنزل الله (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) أي يخون. وقال ابن جرى (٢) : حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا خصيف ، حدثنا مقسم ، حدثني ابن عباس أن هذه الآية (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر ، فقال بعض الناس : لعل رسول الله أخذها ، فأكثروا في ذلك ، فأنزل الله (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وكذا رواه أبو داود والترمذي جميعا عن قتيبة ، عن عبد الواحد بن زياد به. وقال الترمذي : حسن غريب ، ورواه بعضهم ، عن خصيف ، عن مقسم يعني مرسلا.

وروى ابن مردويه من طريق أبي عمرو بن العلاء ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : اتهم المنافقون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشيء فقد ، فأنزل الله تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) وروي من غير وجه عن ابن عباس نحو ما تقدم ، وهذا تنزيه له صلوات الله وسلامه عليه من جميع وجوه الخيانة في أداء الأمانة وقسم الغنيمة وغير ذلك. وقال العوفي عن ابن عباس (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) أي بأن يقسم لبعض السرايا ويترك بعضا. وكذا قال الضحاك. وقال محمد بن إسحاق

__________________

(١) سنن أبي داود (أدب باب ١١٤) وسنن النسائي (زهد باب ٣٩)

(٢) تفسير الطبري ٣ / ٤٩٨.

١٣٢

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) بأن يترك بعض ما أنزل إليه فلا يبلغه أمته. وقرأ الحسن البصري وطاوس ومجاهد والضحاك (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) بضم الياء أي يخان وقال قتادة والربيع بن أنس : نزلت هذه الآية يوم بدر ، وقد غل بعض أصحابه. رواه ابن جرير (١) عنهما ، ثم حكى عن بعضهم أنه فسر هذه القراءة بمعنى يتهم بالخيانة.

ثم قال تعالى : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، وقد وردت السنة بالنهي عن ذلك أيضا في أحاديث متعددة.

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الملك ، حدثنا زهير يعني ابن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي مالك الأشجعي ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أعظم الغلول عند الله ذراع من الأرض ، تجدون الرجلين جارين في الأرض ـ أو في الدار ـ فيقطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعا ، فإذا اقتطعه طوقه من سبع أرضين إلى يوم القيامة».

حديث آخر : ـ قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لهيعة ، عن ابن هبيرة والحارث بن يزيد ، عن عبد الرحمن بن جبير قال : سمعت المستورد بن شداد يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «من ولي لنا عملا وليس له منزل فليتخذ منزلا أو ليست له زوجة فليتزوج ، أو ليس له خادم فليتخذ خادما ، أو ليست له دابة فليتخذ دابة ، ومن أصاب شيئا سوى ذلك فهو غال» هكذا رواه الإمام أحمد. وقد رواه أبو داود (٤) بسند آخر وسياق آخر ، فقال : حدثنا موسى بن مروان الرقي ، حدثنا المعاني ، حدثنا الأوزاعي عن الحارث بن يزيد ، عن جبير بن نفير ، عن المستورد بن شداد ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة ، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما ، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا» قال : قال أبو بكر : أخبرت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «من اتخذ غير ذلك فهو غال ـ أو سارق». قال شيخنا الحافظ المزي رحمه‌الله : رواه جعفر بن محمد الفريابي عن موسى بن مروان : فقال : عن عبد الرحمن بن جبير بدل جبير بن نفير ، وهو أشبه بالصواب.

حديث آخر : ـ قال ابن جرير (٥) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا حفص بن بشر ، حدثنا يعقوب القمي ، حدثنا حفص بن حميد عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ، فينادي : يا محمد يا محمد ، فأقول : لا أملك لك

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٥٠٠.

(٢) مسند أحمد ٤ / ١٤٠.

(٣) مسند أحمد ٤ / ٢٨٩.

(٤) سنن أبي داود (إمارة باب ١٠)

(٥) تفسير الطبري ٣ / ٥٠٢.

١٣٣

من الله شيئا قد بلغتك ، ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل جملا له رغاء ، فيقول : يا محمد يا محمد ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك ، ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسا له حمحمة ينادي : يا محمد ، يا محمد. فأقول : لا أملك لك من الله شيئا ، قد بلغتك. ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل قشعا (١) من أدم ينادي : يا محمد يا محمد ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك» لم يروه أحد من أهل الكتب الستة.

حديث آخر : ـ قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا سفيان عن الزهري سمع عروة يقول : حدثنا أبو حميد الساعدي : قال : استعمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة ، فجاء فقال : هذا لكم وهذا أهدي لي. فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر فقال «ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول : هذا لكم وهذا أهدي لي : أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحد منكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته ، إن كان بعيرا له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة تيعر» (٣) ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه : ثم قال «اللهم هل بلغت» ثلاثا ، وزاد هشام بن عروة فقال أبو حميد : بصرته بعيني وسمعته بأذني واسألوا زيد بن ثابت ، أخرجاه من حديث سفيان بن عيينة ، وعند البخاري : واسألوا زيد بن ثابت ، ومن غير وجه عن الزهري ، ومن طريق عن هشام بن عروة ، كلاهما عن عروة ، به.

حديث آخر : قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن عروة بن الزبير عن أبي حميد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «هدايا العمال غلول» وهذا الحديث من أفراد أحمد ، وهو ضعيف الإسناد ، وكأنه مختصر من الذي قبله ، والله أعلم.

حديث آخر : ـ قال أبو عيسى الترمذي (٥) في كتاب الأحكام : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو أسامة عن داود بن يزيد الأودي ، عن المغيرة بن شبل ، عن قيس بن أبي حازم ، عن معاذ بن جبل ، قال : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى اليمن ، فلما سرت أرسل في أثري فرددت ، فقال «أتدري لم بعثت إليك؟ لا تصيبن شيئا بغير إذني فإنه غلول (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) لهذا دعوتك فامض لعملك» هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وفي الباب عن عدي بن عميرة وبريدة والمستورد بن شداد وأبي حميد وابن عمر.

__________________

(١) القشع : الجلد اليابس.

(٢) مسند أحمد ٦ / ٣٩٢.

(٣) يعرث الشاة أو المعزى تيعر يعرا : صاحت.

(٤) مسند أحمد ٥ / ٤٢٤.

(٥) سنن الترمذي (أحكام باب ٨)

١٣٤

حديث آخر : ـ قال الإمام أحمد (١) : حدثنا إسماعيل بن علية ، حدثنا أبو حيان يحيى بن سعيد التيمي ، عن أبي زرعة بن عمر بن جرير ، عن أبي هريرة ، قال : قام فينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ، ثم قال : لألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك ، لألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك ، لألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع (٢) تخنق فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك ، لألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت (٣) ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك» أخرجاه من حديث أبي حيان به.

حديث آخر : ـ قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا يحيى بن سعيد عن إسماعيل بن أبي خالد ، حدثني قيس عن عدي بن عميرة الكندي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا أيها الناس من عمل لنا منكم عملا فكتمنا منه مخيطا فما فوقه ، فهو غل يأتي به يوم القيامة» قال : فقام رجل من الأنصار أسود ـ قال مجالد : هو سعيد بن عبادة كأني انظر إليه ـ فقال : يا رسول الله ، اقبل عني عملك. قال «وما ذاك؟» قال : سمعتك تقول : كذا وكذا ، قال «وأنا أقول ذاك الآن ، من استعملناه على عمل فليجئ بقليله وكثيره ، فما أوتي منه أخذه ، وما نهي عنه انتهى» وكذا رواه مسلم وأبو داود من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد به.

حديث آخر : ـ قال الإمام أحمد (٥) : حدثنا أبو معاوية عن أبي إسحاق الفزاري ، عن ابن جريج ، حدثني منبوذ رجل من آل أبي رافع عن الفضل بن عبيد الله بن أبي رافع ، عن أبي رافع ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صلى العصر ربما ذهب إلى بني عبد الأشهل فيتحدث معهم حتى ينحدر المغرب ، قال أبو رافع : فبينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسرعا إلى المغرب ، إذ مر بالبقيع ، فقال «أف لك ، أف لك» مرتين ، فكبر في ذرعي وتأخرت وظننت أنه يريدني ، فقال «مالك؟» امش قال : قلت : أحدثت حدثا يا رسول الله ، قال «وما ذاك»؟ قلت : أفّفت بي ، قال «لا ، ولكن هذا قبر فلان بعثته ساعيا على آل فلان فغل نمرة فدرع الآن مثلها من نار».

حديث آخر : ـ قال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن سالم الكوفي المفلوج ـ وكان بمكة ـ حدثنا عبيدة بن الأسود عن القاسم بن الوليد ، عن أبي صادق ، عن ربيعة بن

__________________

(١) مسند أحمد ٢ / ٤٢٦.

(٢) أي كتب فيها ما عليه من حقوق.

(٣) الصامت من المال : الذهب والفضة.

(٤) مسند أحمد ٣ / ١٩٢.

(٥) مسند أحمد ٦ / ٣٩٢.

١٣٥

ناجد ، عن عبادة بن الصامت ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأخذ الوبرة من جنب البعير من المغنم ثم يقول «مالي فيه إلا مثل ما لأحدكم ، إياكم والغلول فإن الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة ، أدوا الخيط والمخيط وما فوق ذلك ، وجاهدوا في سبيل الله القريب والبعيد ، في الحضر والسفر ، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة ، إنه لينجي الله به من الهم والغم ، وأقيموا حدود الله في القريب والبعيد ولا تأخذكم في الله لومة لائم» وقد روى ابن ماجة بعضه عن المفلوج به.

حديث آخر : ـ عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ردوا الخياط والمخيط ، فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة».

حديث آخر : قال أبو داود (١) حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير عن مطرف ، عن أبي الجهم ، عن أبي مسعود الأنصاري ، قال : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساعيا ، ثم قال «انطلق أبا مسعود لا ألفينك يوم القيامة تجيء على ظهرك بعير من إبل الصدقة له رغاء ، قد غللته» قال: إذا لا أنطلق ، قال «إذا لا أكرهك» ، تفرد به أبو داود.

حديث آخر : ـ قال أبو بكر بن مردويه : أنبأنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، أنبأنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، أنبأنا عبد الحميد بن صالح ، أنبأنا أحمد بن أبان عن علقمة بن مرثد ، عن ابن بريدة عن أبيه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «إن الحجر ليرمى به في جهنم فيهوي سبعين خريفا ما يبلغ قعرها ، ويؤتى بالغلول فيقذف معه ثم يقال لمن غل ائت به ، فذلك قوله (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

حديث آخر : ـ قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا عكرمة بن عمار ، حدثني سماك الحنفي أبو زميل ، حدثني عبد الله بن عباس ، حدثني عمر بن الخطاب ، قال : لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : فلان شهيد وفلان شهيد ، حتى أتوا على رجل ، فقالوا : فلان شهيد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كلا إني رأيته في النار في بردة غلها ـ أو عباءة ـ» ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس : إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون». قال : فخرجت فناديت : ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون ، وكذا رواه مسلم والترمذي من حديث عكرمة بن عمار به. وقال الترمذي : حسن صحيح.

حديث آخر : ـ قال ابن جرير (٣) : حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث سعد بن عبادة مصدقا ، فقال : إياك

__________________

(١) سنن أبي داود (إمارة باب ١٢)

(٢) مسند أحمد ١ / ٣٠.

(٣) تفسير الطبري ٣ / ٥٠٣.

١٣٦

يا سعد أن تجيء يوم القيامة ببعير تحمله له رغاء». قال : لا آخذه ولا أجيء به ، فأعفاه ثم رواه من طريق عبيد الله عن نافع به نحوه.

حديث آخر : ـ قال أحمد (١) : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، حدثنا صالح بن محمد بن زائدة عن سالم بن عبد الله أنه كان مع مسلمة بن عبد الملك في أرض الروم ، فوجد في متاع رجل غلول ، قال : فسأل سالم بن عبد الله ، فقال : حدثني أبي عبد الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من وجدتم في متاعه غلولا فأحرقوه ـ قال : وأحسبه قال : واضربوه» قال : فأخرج متاعه في السوق فوجد فيه مصحفا ، فسأل سالما فقال : بعه وتصدق بثمنه ، وكذا رواه علي بن المديني وأبو داود والترمذي من حديث عبد العزيز بن محمد الأتدراوردي ، زاد أبو داود وأبو إسحاق الفزاري ، كلاهما عن أبي واقد الليثي الصغير صالح بن محمد بن زائدة به. وقد قال علي بن المديني والبخاري وغيرهما : هذا حديث منكر من رواية أبي واقد هذا ، وقال الدار قطني : الصحيح أنه من فتوى سالم فقط ، وقد ذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث الإمام أحمد بن حنبل رحمه‌الله ومن تابعه من أصحابه ، وقد رواه الأموي عن معاوية عن أبي إسحاق ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، قال : عقوبة الغال أن يخرج رحله فيحرق على ما فيه. ثم روى عن معاوية عن أبي إسحاق عن عثمان بن عطاء ، عن أبيه ، عن علي ، قال : الغال يجمع رحله فيحرق ويجلد دون حد ، وخالفه أبو حنيفة ومالك والشافعي والجمهور فقالوا : لا يحرق متاع الغال بل يعزر تعزير مثله ، وقال البخاري : وقد امتنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصلاة على الغال ، ولم يحرق متاعه ، والله أعلم.

حديث آخر عن عمر رضي الله عنه ـ قال ابن جرير (٢) : حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، حدثني عبد الله بن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث أن موسى بن جبير حدثه : أن عبد الله بن عبد الرحمن بن الحباب الأنصاري حدثه : أن عبد الله بن أنيس حدثه : أنه تذاكر هو وعمر بن الخطاب يوما الصدقة ، فقال : ألم تسمع قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين ذكر غلول الصدقة «من غل منها بعيرا أو شاة فإنه يحمله يوم القيامة»؟ قال عبد الله بن أنيس : بلى. ورواه ابن ماجة عن عمرو بن سوّاد عن عبد الله بن وهب به. ورواه الأموي عن معاوية ، عن أبي إسحاق ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن قال : عقوبة الغال أن يخرج رحله ويحرق على ما فيه. ثم روى عن معاوية ، عن أبي إسحاق ، عن عثمان بن عطاء ، عن أبيه ، عن علي قال : الغال يجمع رحله فيحرق ويجلد دون حد.

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٢٢.

(٢) تفسير الطبري ٣ / ٥٠٣.

١٣٧

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا أسود بن عامر ، أنبأنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن جبير بن مالك ، قال : أمر بالمصاحف أن تغير ، قال : فقال ابن مسعود : من استطاع منكم أن يغل مصحفا فليغله ، فإنه من غل شيئا جاء به يوم القيامة ، ثم قال : قرأت من فم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعين سورة ، أفأترك ما أخذت من في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وروى وكيع في تفسيره عن شريك ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن إبراهيم ، قال : لما أمر بتحريق المصاحف قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : يا أيها الناس غلوا المصاحف ، فإنه من غل يأت بما غل يوم القيامة ، ونعم الغل المصحف يأتي به أحدكم يوم القيامة ـ وقال أبو داود ، عن سمرة بن جندب ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا غنم غنيمة أمر بلالا فينادي في الناس ، فيجيئون بغنائمهم ، فيخمسه ويقسمه ، فجاء رجل يوما بعد النداء بزمام من شعر فقال : يا رسول الله ، هذا كان مما أصبنا من الغنيمة ، فقال «أسمعت بلالا ينادي» ثلاثا؟ قال : نعم. قال «نعم. قال «فما منعك أن تجيء»؟ فاعتذر إليه فقال «كلا أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك».

وقوله تعالى : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي لا يستوي من اتبع رضوان الله فيما شرعه فاستحق رضوان الله وجزيل ثوابه ، وأجير من وبيل عقابه ، ومن استحق غضب الله وألزم به فلا محيد له عنه ، ومأواه يوم القيامة جهنم وبئس المصير ، وهذه الآية لها نظائر كثيرة في القرآن ، كقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) [الرعد : ١٩] ، وكقوله (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [القصص : ٦١]. ثم قال تعالى : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) ، قال الحسن البصري ومحمد بن إسحاق : يعني أهل الخير وأهل الشر درجات ، وقال أبو عبيدة والكسائي : منازل ، يعني متفاوتون في منازلهم ودرجاتهم في الجنة ودركاتهم في النار ، كقوله تعالى : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) [الأحقاف : ١٩] ، ولهذا قال تعالى : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي وسيوفيهم إياها ، لا يظلمهم خيرا ولا يزيدهم شرا ، بل يجازي كل عامل بعمله ، وقوله تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي من جنسهم ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع به ، كما قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) [الروم : ٢١] أي من جنسكم ، وقال تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [الكهف : ١١٠]. وقال تعالى: (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٢٠] وقال تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) [يوسف : ١٠٩] وقال تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأنعام : ١٣٠] فهذا أبلغ في الامتنان أن يكون الرسول إليهم منهم بحيث يمكنهم مخاطبته ومراجعته في فهم الكلام عنه ، ولهذا قال

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٤١٤.

١٣٨

تعالى : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) يعني القرآن (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر لتزكو نفوسهم وتطهر من الدنس والخبث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم وجاهليتهم ، (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) يعني القرآن والسنة ، (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هذا الرسول (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي لفي غيّ وجهل ظاهر جلي بيّن لكل أحد.

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ(١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٦٨)

يقول تعالى : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) وهي ما أصيب منهم يوم أحد من قتل السبعين منهم (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) يعني يوم بدر ، فإنهم قتلوا من المشركين سبعين قتيلا ، وأسروا سبعين أسيرا ، (قُلْتُمْ أَنَّى هذا) أي من أين جرى علينا هذا (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، أنبأنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا قراد بن نوح ، حدثنا عكرمة بن عمار ، حدثنا سماك الحنفي أبو زميل ، حدثني ابن عباس ، حدثني عمر بن الخطاب ، قال : لما كان يوم أحد من العام المقبل ، عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء ، فقتل منهم سبعون ، وفر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه ، وكسرت رباعيته ، وهشمت البيضة على رأسه ، وسال الدم على وجهه ، فأنزل الله (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) بأخذكم الفداء. وهكذا رواه الإمام أحمد (١) عن عبد الرحمن بن غزوان وهو قراد بن نوح بإسناده ولكن بأطول منه ، وهكذا قال الحسن البصري ، وقال ابن جرير(٢) : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا إسماعيل بن علية عن ابن عون ، ح (٣) ، قال سنيد وهو حسين : وحدثني حجاج عن جرير ، عن محمد عن عبيدة ، عن علي رضي الله عنه ، قال : جاء جبريل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد ، إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الأسارى ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين : إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم ، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم ، قال : فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس ، فذكر لهم ذلك فقالوا : يا رسول الله ، عشائرنا وإخواننا ألا نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا ، ويستشهد منا عدتهم ، فليس في ذلك ما نكره؟ قال : فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا ، عدة أسارى أهل بدر ، وهكذا رواه النسائي

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٣٠ ـ ٣١.

(٢) تفسير الطبري ٣ / ٥٠٩.

(٣) هذا الحرف يشير إلى إسناد آخر للحديث نفسه.

١٣٩

والترمذي من حديث أبي داود الحفري عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن سفيان بن سعيد ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين به ، ثم قال الترمذي : حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة ، وروى أبو أسامة عن هشام نحوه ، وروى عن ابن سيرين عن عبيدة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسلا.

وقال محمد بن إسحاق وابن جريج والربيع بن أنس والسدي (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أي بسبب عصيانكم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أمركم أن لا تبرحوا من مكانكم فعصيتم ، يعني بذلك الرماة (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه.

ثم قال تعالى : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ) أي فراركم بين يدي عدوكم وقتلهم لجماعة منكم وجراحتهم لآخرين ، كان بقضاء الله وقدره ، وله الحكمة في ذلك (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) أي الذين صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) يعني بذلك أصحاب عبد الله بن أبي ابن سلول الذين رجعوا معه في أثناء الطريق ، فاتبعهم رجال من المؤمنين يحرضونهم على الإياب والقتال والمساعدة ، ولهذا قال (أَوِ ادْفَعُوا) قال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وأبو صالح والحسن والسدي : يعني كثروا سواد المسلمين ، وقال الحسن بن صالح : ادفعوا بالدعاء ، وقال غيره : رابطوا ، فتعللوا قائلين (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) قال مجاهد : يعنون لو نعلم أنكم تلقون حربا لجئناكم ، ولكن لا تلقون قتالا.

قال محمد بن إسحاق (١) : حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ومحمد بن يحيى بن حبّان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، وغيرهم من علمائنا ، كلهم قد حدث (٢) ، قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعني حين خرج إلى أحد في ألف رجل من أصحابه ، حتى إذا كان بالشوط بين أحد والمدينة ، انحاز (٣) عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس ، وقال : أطاعهم فخرج وعصاني ، وو الله ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس؟ فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق وأهل الريب ، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول : يا قوم أذكركم الله أن لا تخذلوا نبيكم وقومكم عند ما حضر من عدوكم ، قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكن لا نرى أن يكون قتال ، فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم ، قال : أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم ، ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ / ٦٠ ـ ٦٤.

(٢) عبارة ابن إسحاق في السيرة : «كلهم قد حدّث بعض الحديث من يوم أحد ، وقد اجتمع حديثهم كله فيما سقت من هذا الحديث. قالوا ، أو من قال منهم ... إلخ».

(٣) في السيرة : «انخزل».

١٤٠