تفسير القرآن العظيم - ج ٢

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٢

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٠

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر «اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا» بعد ما يقول «سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد» ، فأنزل الله (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) الآية. وعن حنظلة بن أبي سفيان قال : سمعت سالم بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام ، فنزلت (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) هكذا ذكر هذه الزيادة البخاري معلقة مرسلة ، وقد تقدمت مسندة متصلة في مسند أحمد آنفا.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا هشيم ، حدثنا حميد عن أنس رضي الله عنه ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كسرت رباعيته (٢) يوم أحد ، وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه ، فقال «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم ، وهو يدعوهم إلى ربهم عزوجل؟» فأنزل الله (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) انفرد به مسلم ، فرواه عن القعنبي ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، فذكره.

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح : حدثنا الحسين بن واقد عن مطر ، عن قتادة ، قال : أصيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ، وكسرت رباعيته ، وفرق حاجبه ، فوقع وعليه درعان والدم يسيل ، فمر به سالم مولى أبي حذيفة فأجلسه ومسح عن وجهه ، فأفاق وهو يقول «كيف بقوم فعلوا هذا بنبيهم ، وهو يدعوهم إلى الله عزوجل؟» فأنزل الله (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) الآية ، وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة بنحوه ، ولم يقل : فأفاق.

ثم قال تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي الجميع ملك له ، وأهلها عبيد بين يديه (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أي هو المتصرف فلا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (١٣٦)

__________________

(١) مسند أحمد (٣ / ٩٩)

(٢) الرباعية : السن بين الثنية والناب.

(٣) تفسير الطبري ٣ / ٤٣٢.

١٠١

يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافا مضاعفة كما كانوا في الجاهلية يقولون : إذا حل أجل الدين ، إما أن تقضي وإما أن تربي ، فإن قضاه ، وإلا زاده في المدة ، وزاده الآخر في القدر ، وهكذا كل عام فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيرا مضاعفا ، وأمر تعالى عباده بالتقوى لعلهم يفلحون في الأولى والأخرى ، ثم توعدهم بالنار وحذرهم منها ، فقال تعالى : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ثم ندبهم إلى المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة إلى نيل القربات ، فقال تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) أي كما أعدت النار للكافرين ، وقد قيل إن معنى قوله (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) تنبيها على اتساع طولها ، كما قال في صفة فرش الجنة (بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) [الرحمن : ٥٤] أي فما ظنك بالظهائر؟ ، وقيل : بل عرضها كطولها لأنها قبة تحت العرش ، والشيء المقبب والمستدير عرضه كطوله ، وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح «إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة وسقفها عرش الرحمن» وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحديد (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الحديد : ٢١].

وقد روينا في مسند الإمام أحمد أن هرقل كتب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنك دعوتني إلى جنة عرضها السموات والأرض ، فأين النار؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار؟».

وقد رواه ابن جرير (١) فقال : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني مسلم بن خالد عن أبي خثيم ، عن سعيد بن أبي راشد ، عن يعلى بن مرة ، قال : لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحمص شيخا كبيرا قد فسد (٢) ، فقال : قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتاب هرقل فناول الصحيفة رجلا عن يساره ، قال : قلت : من صاحبكم الذي يقرأ؟ قالوا : معاوية ، فإذا كتاب صاحبي : إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين ، فأين النار؟ قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سبحان الله ، فأين الليل إذا جاء النهار؟».

وقال الأعمش وسفيان الثوري وشعبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب : إن ناسا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن جنة عرضها السموات والأرض ، فأين النار؟ فقال لهم عمر : أرأيتم إذا جاء النهار أين الليل؟ وإذا جاء الليل أين النهار؟ فقالوا : لقد نزعت مثلها من التوراة ، رواه ابن جرير (٣) من ثلاثة طرق ، ثم قال : حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا جعفر بن برقان ، أنبأنا يزيد بن الأصم : أن رجلا من أهل الكتاب قال : يقولون (جَنَّةٍ

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٤٣٦.

(٢) كذا. وفي الطبري «فنّد» بضم الفاء وتشديد النون المكسورة مبنيا للمجهول ، بمعنى قد نسب إلى الفند (بفتحتين) وهو العجز والخرف.

(٣) تفسير الطبري ٣ / ٤٣٦ ـ ٤٣٧.

١٠٢

عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) فأين النار؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه : أين يكون الليل إذا جاء النهار ، وأين يكون النهار إذا جاء الليل؟ (١)

وقد روي هذا مرفوعا ، فقال البزار : حدثنا محمد بن معمر ، حدثنا المغيرة بن سلمة أبو هشام ، حدثنا عبد الواحد بن زياد عن عبيد الله بن عبد الله بن الأصم ، عن عمه يزيد بن الأصم ، عن أبي هريرة ، قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : أرأيت قوله تعالى : (جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) فأين النار؟ قال : «أرأيت الليل إذا جاء لبس كل شيء ، فأين النهار؟» قال : حيث شاء الله ، قال «وكذلك النار تكون حيث شاء الله عزوجل».

وهذا يحتمل معنيين [أحدهما] أن يكون المعنى في ذلك أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار أن لا يكون في مكان ، وإن كنا لا نعلمه ، وكذلك النار تكون حيث يشاء الله عزوجل ، وهذا أظهر كما تقدم في حديث أبي هريرة عن البزار. [الثاني] أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب ، فإن الليل يكون من الجانب الآخر ، فكذلك الجنة في أعلى عليين فوق السموات تحت العرش وعرضها ، كما قال الله عزوجل (كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الحديد : ٢١] والنار في أسفل سافلين فلا تنافي بين كونها كعرض السموات والأرض وبين وجود النار ، والله أعلم.

ثم ذكر تعالى صفة أهل الجنة فقال (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) أي في الشدة والرخاء والمنشط (٢) والمكره والصحة والمرض وفي جميع الأحوال ، كما قال (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) [البقرة : ٢٧٤] والمعنى أنهم لا يشغلهم أمر عن طاعة الله تعالى والإنفاق في مراضيه. والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البر.

وقوله تعالى : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) أي إذا ثار بهم الغيظ كظموه بمعنى كتموه فلم يعملوه ، وعفوا مع ذلك عمن أساء إليهم. وقد ورد في بعض الآثار «يقول الله تعالى : يا ابن آدم اذكرني إذا غضبت ، أذكرك إذا غضبت فلا أهلكك فيمن أهلك» ، رواه ابن أبي حاتم.

وقد قال أبو يعلي في مسنده : حدثنا أبو موسى الزمن ، حدثنا عيسى بن شعيب الضرير أبو الفضل ، حدثني الربيع بن سليمان الجيزي عن أبي عمرو بن أنس بن مالك ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من كف غضبه ، كف الله عنه عذابه ، ومن خزن لسانه ، ستر الله عورته ، ومن اعتذر إلى الله ، قبل الله عذره» وهذا حديث غريب ، وفي إسناده نظر.

__________________

(١) قارن بتفسير الطبري ٣ / ٤٣٧ ، إذ ثمة اختلاف في صيغة العبارة.

(٢) أي الأمر الذي ترغب فيه فتنشط له.

١٠٣

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا مالك عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ليس الشديد بالصرعة (٢) ، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» وقد رواه الشيخان من حديث مالك.

وقال الإمام أحمد (٣) أيضا : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن إبراهيم التيمي ، عن الحارث بن سويد ، عن عبد الله وهو ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله» قال : قالوا : يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه ، قال «اعلموا أنه ليس منكم أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله ، مالك من مالك إلا ما قدمت ، وما لوارثك ما أخرت» قال : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما تعدون الصرعة فيكم؟» قلنا : الذي لا تصرعه الرجال. قال «لا ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب». قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما تعدون فيكم الرقوب؟» قلنا : الذي لا ولد له. قال «لا ، ولكن الرقوب الذي لم يقدم من ولده شيئا» أخرج البخاري الفصل الأول منه ، وأخرج مسلم أصل هذا الحديث ، من رواية الأعمش به.

حديث آخر : قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة سمعت عروة بن عبد الله الجعفي يحدث عن حصبة أو ابن أبي حصين ، عن رجل شهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب ، فقال «تدرون ما الرقوب؟» قلنا : الذي لا ولد له ، قال «الرقوب كل الرقوب الذي له ولد فمات ولم يقدم منهم شيئا» قال «تدرون ما الصعلوك؟» قالوا : الذي ليس له مال ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «الصعلوك كل الصعلوك الذي له مال فمات ولم يقدم منه شيئا» قال : ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما الصرعة؟» قالوا : الصريع قال : فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ويقشعر شعره فيصرع (٥) غضبه».

حديث آخر : ـ قال الإمام أحمد (٦) : حدثنا ابن نمير ، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه ، عن الأحنف بن قيس ، عن عم له يقال له جارية بن قدامة السعدي ، أنه سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، قل لي قولا ينفعني وأقلل عليّ لعلي أعيه ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تغضب» فأعاد عليه حتى أعاد عليه مرارا كل ذلك يقول «لا تغضب» ، وهكذا رواه عن أبي معاوية عن هشام به ، ورواه أيضا عن يحيى بن سعيد القطان عن هشام به ، أن رجلا قال : يا رسول الله ، قل

__________________

(١) مسند أحمد ٢ / ٢٣٦.

(٢) الصرعة (بوزن همزة لمزة) : القوي الذين لا يصرع.

(٣) مسند أحمد ١ / ٣٨٢.

(٤) مسند أحمد ٥ / ٣٦٧.

(٥) رواية المسند : «فيصرعه غضبه».

(٦) مسند أحمد ٥ / ٣٤.

١٠٤

لي قولا وأقلل عليّ لعلي أعقله ، فقال «لا تغضب» الحديث ، انفرد به أحمد.

حديث آخر : ـ قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قال رجل : يا رسول الله أوصني ، قال : «لا تغضب». قال الرجل : ففكرت حين قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قال ، فإذا الغضب يجمع الشر كله ، انفرد به أحمد.

حديث آخر : ـ قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا داود بن أبي هند ، عن ابن أبي حرب أبي الأسود ، عن أبي الأسود ، عن أبي ذر رضي الله عنه قال : كان يسقي على حوض له فجاء قوم فقالوا : أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه؟ فقال رجل : أنا ، فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فذقه ، وكان أبو ذر قائما فجلس ثم اضطجع فقيل له : يا أبا ذر لم جلست ثم اضطجعت ، فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لنا «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع» ، ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل بإسناده إلا أنه وقع في روايته عن أبي حرب عن أبي ذر ، والصحيح ابن أبي حرب عن أبيه عن أبي ذر ، كما رواه عبد الله بن أحمد عن أبيه.

حديث آخر : ـ قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا إبراهيم بن خالد ، حدثنا أبو وائل الصنعاني ، قال : كنا جلوسا عند عروة بن محمد إذ دخل عليه رجل فكلمه بكلام أغضبه ، فلما أن أغضبه قام ثم عاد إلينا وقد توضأ ، فقال : حدثني أبي عن جدي عطية هو ابن سعد السعدي ـ وقد كانت له صحبة ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الغضب من الشيطان ، وإن الشيطان خلق من النار ، وإنما تطفأ النار بالماء فإذا أغضب أحدكم فليتوضأ». وهكذا رواه أبو داود من حديث إبراهيم بن خالد الصنعاني عن أبي وائل القاص المرادي الصنعاني ، قال أبو داود : أراه عبد الله بن بحير.

حديث آخر : ـ قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا نوح بن جعونة السلمي ، عن مقاتل بن حيان ، عن عطاء ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أنظر معسرا أو وضع له ، وقاه الله من فيح جهنم ، ألا إن عمل الجنة حزن بربوة ـ ثلاثا ـ ألا إن عمل النار سهل بسهوة (٥). والسعيد من وقي الفتن ، وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد ما كظمها عبد لله إلا ملأ جوفه إيمانا» ، انفرد به أحمد ،

__________________

(١) مسند أحمد ٥ / ٣٧٣.

(٢) مسند أحمد ٥ / ١٥٢.

(٣) مسند أحمد ٤ / ٢٢٦.

(٤) مسند أحمد ١ / ٣٢٧.

(٥) السهوة : الأرض اللينة التربة.

١٠٥

وإسناده حسن ليس فيه مجروح ، ومتنه حسن.

حديث آخر في معناه : ـ قال أبو داود (١) : حدثنا عقبة بن مكرم ، حدثنا عبد الرحمن يعني ابن مهدي عن بشر يعني ابن منصور ، عن محمد بن عجلان ، عن سويد بن وهب ، عن رجل من أبناء أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه ، ملأه الله أمنا وإيمانا ، ومن ترك لبس ثوب جمال وهو قادر عليه ـ قال بشر : أحسبه قال : تواضعا ـ كساه (٢) الله حلة الكرامة ومن توج لله كساه الله تاج الملك».

حديث آخر : ـ قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عبد الله بن يزيد قال : حدثنا سعيد ، حدثني أبو مرحوم عن سهل بن معاذ بن أنس ، عن أبيه أن رسول الله قال «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء» ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث سعيد بن أبي أيوب به ، وقال الترمذي : حسن غريب.

حديث آخر : ـ قال عبد الرزاق : أنبأنا داود بن قيس عن زيد بن أسلم ، عن رجل من أهل الشام يقال له عبد الجليل ، عن عم له ، عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله تعالى : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا» رواه ابن جرير (٤).

حديث آخر : ـ قال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن محمد بن زياد ، أنبأنا يحيى بن أبي طالب ، أنبأنا علي بن عاصم ، أخبرني يونس بن عبيد عن الحسن ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما تجرع عبد من جرعة أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله» وكذا رواه ابن ماجة عن بشر بن عمر ، عن حماد بن سلمة ، عن يونس بن عبيد به.

فقوله تعالى : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) أي لا يعملون غضبهم في الناس بل يكفون عنهم شرهم ، ويحتسبون ذلك عند الله عزوجل.

ثم قال تعالى : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) أي مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد ، وهذا أكمل الأحوال ، ولهذا قال (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فهذا من مقامات الإحسان ، وفي الحديث «ثلاث أقسم عليهن : ما نقص مال من صدقة ، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، ومن تواضع لله رفعه الله» ، وروى الحاكم في مستدركه من

__________________

(١) سنن أبي داود (أدب باب ٣)

(٢) مسند أحمد ٣ / ٤٤٠.

(٣) في سنن أبي داود أن أبا مرحوم هذا هو عبد الرحمن بن ميمون.

(٤) تفسير الطبري ٣ / ٤٣٨.

١٠٦

حديث موسى بن عقبة عن إسحاق بن يحيى بن طلحة القرشي ، عن عبادة بن الصامت ، عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات ، فليعف عمن ظلمه ، ويعظ من حرمه ، ويصل من قطعه» ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه وقد أورده ابن مردويه من حديث علي وكعب بن عجرة وأبي هريرة وأم سلمة رضي الله عنهم بنحو ذلك. وروي عن طريق الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا كان يوم القيامة نادى مناد يقول : أين العافون عن الناس؟ هلموا إلى ربكم وخذوا أجوركم ، وحق على كل امرئ مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة».

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) أي إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار. قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يزيد ، حدثنا همام بن يحيى عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن رجلا أذنب ذنبا فقال : رب إني أذنبت ذنبا فاغفره ، فقال الله عزوجل : عبدي عمل ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ، قد غفرت لعبدي ، ثم عمل ذنبا آخر فقال : رب إني عملت ذنبا فاغفره ، فقال تبارك وتعالى : علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ، قد غفرت لعبدي ، ثم عمل ذنبا آخر فقال : رب إني عملت ذنبا فاغفره لي ، فقال الله عزوجل : علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثم عمل ذنبا آخر فقال : رب ، إني عملت ذنبا فاغفره ، فقال عزوجل : عبدي علم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ، أشهدكم أني قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء». أخرجاه في الصحيحين من حديث إسحاق بن أبي طلحة بنحوه.

حديث آخر : ـ قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أبو النضر وأبو عامر ، قالا : حدثنا زهير ، حدثنا سعد الطائي ، حدثنا أبو المدله مولى أم المؤمنين ، سمع أبا هريرة ، قلنا : يا رسول الله ، إذا رأيناك رقت قلوبنا ، وكنا من أهل الآخرة ، وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا ، وشممنا النساء والأولاد ، فقال «لو أنكم تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم ، ولزارتكم في بيوتكم. ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم». قلنا : يا رسول الله ، حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال «لبنة ذهب ولبنة فضة ، وملاطها المسك الأذفر ، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت ، وترابها الزعفران ، من يدخلها ينعم ولا يبأس ، ويخلد ولا يموت لا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه ، ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل ، والصائم حتى يفطر ، ودعوة المظلوم تحمل على الغمام وتفتح لها أبواب السماء ، ويقول الرب : وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين» ، ورواه الترمذي وابن ماجة من وجه آخر من حديث سعد به.

__________________

(١) مسند أحمد ٢ / ٢٩٦.

(٢) مسند أحمد ٣٠٤.

١٠٧

ويتأكد الوضوء وصلاة ركعتين عند التوبة لما رواه الإمام أحمد (١) بن حنبل : حدثنا وكيع ، حدثنا مسعر وسفيان الثوري عن عثمان بن المغيرة الثقفي ، عن علي بن ربيعة ، عن أسماء بن الحكم الفزاري عن علي رضي الله عنه ، قال : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا ، نفعني الله بما شاء منه. وإذا حدثني عنه غيره استحلفته ، فإذا حلف لي صدقته ، وإن أبا بكر رضي الله عنه حدثني ـ وصدق أبو بكر ـ أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «ما من رجل يذنب ذنبا فيتوضأ فيحسن الوضوء ـ قال مسعر ـ فيصلي ـ وقال سفيان ـ ثم يصلي ركعتين ، فيستغفر الله عزوجل إلا غفر له» وهكذا رواه علي بن المديني والحميدي وأبو بكر بن أبي شيبة وأهل السنن وابن حبان في صحيحه والبزار والدار قطني من طرق عن عثمان بن المغيرة به ، وقال الترمذي : هو حديث حسن ، وقد ذكرنا طرقه ، والكلام عليه مستقصى في مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وبالجملة فهو حديث حسن ، وهو من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن خليفة النبي أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.

ومما يشهد بصحة هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ ـ أو فيسبغ ـ الوضوء ، ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية ، يدخل من أيها شاء».

وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه توضأ لهم وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه ، غفر له ما تقدم من ذنبه» (٢) فقد ثبت هذا الحديث من رواية الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين ، عن سيد الأولين والآخرين ، ورسول رب العالمين ، كما دل عليه الكتاب المبين ، من أن الاستغفار من الذنب ينفع العاصين.

وقد قال عبد الرزاق : أنبأنا جعفر بن سليمان عن ثابت ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) الآية ، بكى. وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محرز بن عون ، حدثنا عثمان بن مطر ، حدثنا عبد الغفور عن أبي نصيرة ، عن أبي رجاء ، عن أبي بكر رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «عليكم بلا إله إلا الله ، والاستغفار ، فأكثروا منهما ، فإن إبليس قال : أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار ، فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء ، فهم يحسبون أنهم مهتدون» عثمان بن مطر وشيخه ضعيفان.

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٢.

(٢) صحيح البخاري (وضوء باب ٢٤ و ٢٨) وصحيح مسلم (طهارة حديث ٤٢٣)

١٠٨

وروى الإمام أحمد (١) في مسنده من طريق عمرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العتواري عن أبي سعيد ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «قال إبليس : يا رب وعزتك لا أزال أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، فقال الله تعالى : وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني».

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عمر بن أبي خليفة ، سمعت أبا بدر يحدث عن ثابت ، عن أنس ، قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله ، أذنبت ذنبا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا أذنبت فاستغفر ربك. قال : فإني أستغفر ثم أعود فأذنب قال : فإذا أذنبت فعد فاستغفر ربك ، فقالها في الرابعة استغفر ربك حتى يكون الشيطان هو المحسور» وهذا حديث غريب من هذا الوجه.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) أي لا يغفرها أحد سواه ، كما قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن مصعب ، حدثنا سلام بن مسكين والمبارك عن الحسن عن الأسود بن سريع أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتي بأسير ، فقال : اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد ؛ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «عرف الحق لأهله».

وقوله (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي تابوا من ذنوبهم ورجعوا إلى الله عن قريب ، ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقلعين عنها ، ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه ، كما قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل وغيره ، قالوا : حدثنا أبو يحيى عبد الحميد الحماني عن عثمان بن واقد ، عن أبي نصيرة ، عن مولى لأبي بكر ، عن أبي بكر رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة» ورواه أبو داود والترمذي والبزار في مسنده من حديث عثمان بن واقد ـ وقد وثقه يحيى بن معين به ـ وشيخه أبو نصيرة الواسطي واسمه مسلم بن عبيد ، وثقه الإمام أحمد وابن حبان ، وقول علي بن المديني والترمذي : ليس إسناد هذا الحديث بذاك ، فالظاهر أنه لأجل جهالة مولى أبي بكر ، ولكن جهالة مثله لا تضر لأنه تابعي كبير ، ويكفيه نسبته إلى أبي بكر ، فهو حديث حسن ، والله أعلم.

وقوله (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) قال مجاهد وعبد الله بن عبيد بن عمير (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن من تاب تاب الله عليه ، وهذا كقوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) [التوبة : ١٠٤] وكقوله (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ١١٠] ونظائر هذا كثيرة جدا.

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ٢٩ ، ٤١ ، ٧٦.

(٢) مسند أحمد ٣ / ٣٤٥.

١٠٩

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا يزيد ، أنبأنا جرير ، حدثنا حبان هو ابن زيد الشرعبي عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال وهو على المنبر «ارحموا ترحموا ، واغفروا يغفر لكم ، ويل لأقماع القول ، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون» تفرد به أحمد.

ثم قال تعالى بعد وصفهم بما وصفهم به (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) أي جزاؤهم على هذه الصفات (مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من أنواع المشروبات (خالِدِينَ فِيها) أي ماكثين فيها (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) يمدح تعالى الجنة.

(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (١٤٣)

يقول تعالى مخاطبا عباده المؤمنين الذين أصيبوا يوم أحد وقتل منهم سبعون (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) أي قد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء ، ثم كانت العاقبة لهم ، والدائرة على الكافرين ، ولهذا قال تعالى : (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) ثم قال تعالى : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) يعني القرآن فيه بيان الأمور على جليتها وكيف كان الأمم الأقدمون مع أعدائهم (وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ) يعني القرآن فيه خبر ما قبلكم. و (هُدىً) لقلوبكم ، (وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) أي زاجر عن المحارم والمآثم. ثم قال تعالى مسليا للمؤمنين (وَلا تَهِنُوا) أي لا تضعفوا بسبب ما جرى (وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي العاقبة والنصرة لكم أيها المؤمنون (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) أي إن كنتم قد أصابتكم جراح وقتل منكم طائفة ، فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل وجراح (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) أي نديل عليكم الأعداء تارة ، وإن كانت لكم العاقبة لما لنا في ذلك من الحكمة ، ولهذا قال تعالى : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) قال ابن عباس : في مثل هذا لنرى من يصبر على مناجزة الأعداء (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) يعني يقتلون في سبيله ويبذلون مهجهم في مرضاته (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ* وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي يكفر عنهم من ذنوبهم إن كانت لهم ذنوب. وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به. وقوله (وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) أي فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم ، ثم قال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا

__________________

(١) مسند أحمد ٢ / ١٦٥.

١١٠

مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) أي أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولم تبتلوا بالقتال والشدائد ، كما قال تعالى في سورة البقرة (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا) [البقرة : ٢١٤]. وقال تعالى : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت : ٢] الآية ، ولهذا قال هاهنا (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) أي لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تبتلوا ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله ، والصابرين على مقاومة الأعداء.

وقوله (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أي قد كنتم أيها المؤمنون قبل هذا اليوم ، تتمنون لقاء العدو وتتحرّقون عليهم وتودون مناجزتهم ومصابرتهم ، فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه ، فدونكم فقاتلوا وصابروا ، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تتمنوا لقاء العدو ، وسلوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» (١) ولهذا قال تعالى : (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) يعني الموت شاهدتموه وقت لمعان السيوف وحد الأسنة واشتباك الرماح وصفوف الرجال للقتال والمتكلمون يعبرون عن هذا بالتخييل. وهو مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس كما تتخيل الشاة صداقة الكبش ، وعداوة الذئب.

(وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ(١٤٧) فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٤٨)

لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد وقتل من قتل منهم ، نادى الشيطان : ألا إن محمدا قد قتل ، ورجع ابن قميئة إلى المشركين ، فقال لهم : قتلت محمدا ، وإنما كان قد ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشجه في رأسه ، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس واعتقدوا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قتل ، وجوّزوا عليه ذلك ، كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم‌السلام ، فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال ، ففي ذلك أنزل الله تعالى على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) أي له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه.

__________________

(١) صحيح البخاري (جهاد باب ٢٢) وصحيح مسلم (جهاد حديث ٢٠) وسنن الترمذي (فضائل الجهاد باب ٢٣)

١١١

قال ابن أبي نجيح عن أبيه : أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال له : يا فلان أشعرت أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قتل ، فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل فقد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم ، فنزل (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة.

ثم قال تعالى منكرا على من حصل له ضعف (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) أي رجعتم القهقرى (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) أي الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه ، واتبعوا رسوله حيا وميتا. وكذلك ثبت في الصحاح والمساند والسنن وغيرها من كتب الإسلام من طرق متعددة تفيد القطع ، وقد ذكرت ذلك في مسندي الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن الصديق رضي الله عنه ، تلا هذه الآية لما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال البخاري (١) : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث عن عقيل ، عن ابن شهاب ، أخبرني أبو سلمة أن عائشة رضي الله عنها ، أخبرته أن أبا بكر رضي الله عنه ، أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد ، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة ، فتيمم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مغشى بثوب حبرة ، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه وقبله وبكى ، ثم قال : بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين ، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متّها.

وقال الزهري : حدثني أبو سلمة عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يحدّث الناس فقال: اجلس يا عمر فأبى عمر أن يجلس فأقبل الناس إليه وتركوا عمر ، فقال أبو بكر : أما بعد من كان يعبد محمدا ، فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. قال الله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ـ إلى قوله ـ وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) قال : فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر ، فتلقاها منه الناس كلهم فما سمعها بشر من الناس إلا تلاها ، وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت (٢) حتى ما تقلني رجلاي ، وحتى هويت إلى الأرض.

وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد ، حدثنا أسباط بن نصر عن سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن عليا كان يقول في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ، والله لئن مات أو قتل لأقتلن على ما قاتل عليه حتى أموت ، والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه ، فمن أحق به مني؟

__________________

(١) صحيح البخاري (جنائز باب ٣)

(٢) عقر الرجل : بقي مكانه لم يتقدم أو يتأخر لفزع أصابه.

١١٢

وقوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) أي لا يموت أحد إلا بقدر الله وحتى يستوفي المدة التي ضربها الله له ، ولهذا قال (كِتاباً مُؤَجَّلاً) كقوله (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) [فاطر : ١١] وكقوله (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) [الأنعام : ٢] وهذه الآية فيها تشجيع للجبناء وترغيب لهم في القتال ، فإن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه ، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا العباس بن يزيد العبدي قال : سمعت أبا معاوية عن الأعمش عن حبيب بن صهبان ، قال : قال رجل من المسلمين وهو حجر بن عدي : ما يمنعكم أن تعبروا إلى هؤلاء العدو هذه النطفة ـ يعني دجلة ـ (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) ثم أقحم فرسه دجلة ، فلما أقحم ، أقحم الناس ، فلما رآهم العدو قالوا : ديوان (١) فهربوا.

وقوله (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها ، وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) أي من كان عمله للدنيا فقط نال منها ما قدره الله له ، ولم يكن له في الآخرة نصيب ، ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه الله منها مع ما قسم له في الدنيا ، كما قال تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) [الشورى : ٢٠] وقال تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً* وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء : ١٨ ـ ١٩] ولهذا قال هاهنا (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) أي سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم.

ثم قال تعالى مسليا للمؤمنين عما كان وقع في نفوسهم يوم أحد (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) قيل : معناه كم من نبي قتل وقتل معه ربيون من أصحابه كثير. وهذا القول هو اختيار ابن جرير (٢) فإنه قال : وأما الذين قرءوا قتل معه ربيون كثير فإنهم قالوا : إنما عنى بالقتل النبي وبعض من معه من الربيين دون جميعهم ، وإنما نفى الوهن والضعف عمن بقي من الربيين ممن لم يقتل ، قال : ومن قرأ قاتل فإنه اختار ذلك ، لأنه قال : لو قتلوا لم يكن لقول الله (فَما وَهَنُوا) وجه معروف لأنه يستحيل أن يوصفوا بأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا بعد ما قتلوا ، ثم اختار قراءة من قرأ قتل معه ربيون كثير لأن الله عاتب بهذه الآيات والتي قبلها من انهزم يوم أحد وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمدا قد قتل ، فعذلهم الله على فرارهم وتركهم القتال ، فقال لهم (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ) أيها المؤمنون ارتددتم عن دينكم و (انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ).

__________________

(١) أي شيطان. وهي كلمة أعجمية معربة.

(٢) تفسير الطبري ٣ / ٤٦٠.

١١٣

وقيل : وكم من نبي قتل بين يديه من أصحابه ربيون كثير ، وكلام ابن إسحاق في السيرة (١) يقتضي قولا آخر ، فإنه قال : وكأين من نبي أصابه القتل ومعه ربيون أي جماعات (٢) فما وهنوا بعد نبيهم ، وما ضعفوا عن عدوهم ، وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم ، وذلك الصبر (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ).

فجعل قوله (مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) حالا ، وقد نصر هذا القول السهيلي وبالغ فيه ، وله اتجاه لقوله (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ) الآية ، وكذا حكاه الأموي في مغازيه عن كتاب محمد بن إبراهيم ولم يحك غيره.

وقرأ بعضهم (٣) (قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) قال سفيان الثوري ، عن عاصم ، عن زر عن ابن مسعود (رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) أي ألوف ، وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وقتادة والسدي والربيع وعطاء الخراساني : الربيون الجموع الكثيرة وقال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن (رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) أي علماء كثير ، وعنه أيضا : علماء صبر أبرار وأتقياء. وحكى ابن جرير (٤) عن بعض نحاة البصرة أن الربيين هم الذين يعبدون الرب عزوجل ، قال : ورد بعضهم (٥) عليه فقال : لو كان كذلك لقيل : الربيون بفتح الراء ، وقال ابن زيد : الربيون الأتباع والرعية ، والربانيون الولاة.

(فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا) قال قتادة والربيع بن أنس (وَما ضَعُفُوا) بقتل نبيهم (وَمَا اسْتَكانُوا) يقول : فما ارتدوا عن بصيرتهم ولا عن دينهم أن قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله ، وقال ابن عباس (وَمَا اسْتَكانُوا) تخشعوا ، وقال السدي وابن زيد : وما ذلوا لعدوهم ، وقال محمد بن إسحاق والسدي وقتادة : أي ما أصابهم ذلك حين قتل نبيهم (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ* وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي لم يكن لهم هجّيرى (٦) إلا ذلك (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا) أي النصر والظفر والعاقبة (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) أي جمع لهم ذلك مع هذا (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ / ١١٢.

(٢) في السيرة : «أي جماعة ـ فما وهنوا لفقد نبيهم».

(٣) قال القرطبي في تفسيره (٤ / ٢٢٩) : «قاتل» هي قراءة الكوفيين وابن عامر وابن مسعود ، واختارها أبو عبيد وقال : إن الله إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلا فيه ، وإذا حمد من قتل لم يدخل فيه غيرهم ؛ فقاتل أتمّ وأمدح.

(٤) تفسير الطبري ٣ / ٤٦١.

(٥) هم بعض نحويي الكوفة ، كما في الطبري.

(٦) الهجيرى : الدأب والشأن.

١١٤

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٥٣)

يحذر تعالى عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين ، فإن طاعتهم تورث الردي في الدنيا والآخرة ، ولهذا قال تعالى : (إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) ثم أمرهم بطاعته وموالاته والاستعانة به والتوكل عليه ، فقال تعالى : (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) ثم بشرهم بأنه سيلقي في قلوب أعدائهم الخوف منهم والذلة لهم بسبب كفرهم وشركهم ، مع ما ادخره لهم في الدار الآخرة من العذاب والنكال ، فقال (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأحلت لي الغنائم ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» (١).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن أبي عدي عن سليمان التيمي عن سيار عن أبي أمامة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «فضلني ربي على الأنبياء ـ أو قال على الأمم ـ بأربع : قال : أرسلت إلى الناس كافة ، وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجدا وطهورا فأينما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره ، ونصرت بالرعب مسيرة شهر يقذفه في قلوب أعدائي ، وأحل لي الغنائم». ورواه الترمذي من حديث سليمان التيمي عن سيار القرشي الأموي مولاهم الدمشقي سكن البصرة ، عن أبي أمامة صدي بن عجلان رضي الله عنه به ، وقال : حسن صحيح.

__________________

(١) صحيح البخاري (جهاد باب ١٢٢) وصحيح مسلم (مساجد حديث ٣ و ٥)

(٢) مسند أحمد ٥ / ٢٤٨.

١١٥

وقال سعيد بن منصور : أنبأنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث أن أبا يونس حدثه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «نصرت بالرعب على العدو» ، ورواه مسلم من حديث ابن وهب.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق ، عن أبي بردة ، عن أبيه أبي موسى ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطيت خمسا : بعثت إلى الأحمر والأسود ، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي ، ونصرت بالرعب شهرا ، وأعطيت الشفاعة ، وليس من نبي إلا وقد سأل شفاعته وإني اختبأت شفاعتي ثم جعلتها لمن مات لا يشرك بالله شيئا» تفرد به أحمد.

وروى العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) قال : قذف الله في قلب أبي سفيان الرعب فرجع إلى مكة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفا ، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب» رواه ابن أبي حاتم.

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) قال ابن عباس : وعدهم الله النصر ، وقد يستدل بهذه الآية على أحد القولين المتقدمين في قوله تعالى : (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) [آل عمران : ١٢٥] أن ذلك كان يوم أحد ، لأن عدوهم كان ثلاثة آلاف مقاتل ، فلما واجهوهم كان الظفر والنصر أول النهار للإسلام ، فلما حصل ما حصل من عصيان الرماة وفشل بعض المقاتلة ، تأخر الوعد الذي كان مشروطا بالثبات والطاعة ، ولهذا قال (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) أي أول النهار (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ) أي تقتلونهم (بِإِذْنِهِ) أي بتسليطه إياكم عليهم (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) وقال ابن جريج : قال ابن عباس : الفشل الجبن (وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ) كما وقع للرماة (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) وهو الظفر منهم (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) وهم الذين رغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) ثم أدالهم عليكم ليختبركم ويمتحنكم (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) أي غفر لكم ذلك الصنيع ، وذلك ، والله أعلم ، لكثرة عدد العدو وعددهم وقلة عدد المسلمين وعددهم ، قال ابن جريج : قوله (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) قال : لم يستأصلكم ، وكذا قال محمد بن إسحاق : رواهما ابن جرير (٢) (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).

__________________

(١) مسند أحمد ٤ / ٤١٦.

(٢) تفسير الطبري ٣ / ٤٧٥ ـ ٤٧٦.

١١٦

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه ، عن عبيد الله عن ابن عباس أنه قال : ما نصر الله في موطن كما نصر يوم أحد ، قال : فأنكرنا ذلك ، فقال ابن عباس : بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله ، إن الله يقول في يوم أحد (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) يقول ابن عباس والحسن : القتل (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) الآية ، وإنما عنى بهذا الرماة ، وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقامهم في موضع ثم قال : «احموا ظهورنا ، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا ، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا» فلما غنم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأباحوا عسكر المشركين ، أكبّت الرماة جميعا دخلوا في العسكر ينهبون ، ولقد التقت صفوف أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهم هكذا ـ وشبك بين يديه ـ وانتشبوا ، فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها ، دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فضرب بعضهم بعضا ، والتبسوا وقتل من المسلمين ناس كثير ، وقد كان النصر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة ، وجال المسلمون جولة نحو الجبل ، ولم يبلغوا ـ حيث يقول الناس ـ الغار ، إنما كانوا تحت المهراس ، وصاح الشيطان : قتل محمد ، فلم يشكوا به أنه حق ، فلا زلنا كذلك ما نشك أنه حق حتى طلع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين السعدين نعرفه بتلفته إذا مشى ، قال : ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا ، قال : فرقى نحونا وهو يقول : «اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله» ويقول مرة أخرى : «اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا» حتى انتهى إلينا فمكث ساعة ، فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل اعل هبل ـ مرتين يعني إلهه ـ أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله ألا أجيبه؟ قال «بلى». فلما قال : اعل هبل. قال عمر : الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان : قد أنعمت عينها فعاد : عنها أو فعال. فقال أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر ، هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا أبو بكر ، وها أنا ذا عمر. قال : فقال أبو سفيان ، يوم بيوم بدر ، الأيام دول ، وإن الحرب سجال ، قال : فقال : عمر : لا سواء قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار. قال : إنكم تزعمون ذلك ، لقد خبنا وخسرنا إذن ، ثم قال أبو سفيان : إنكم تسجدون في قتلاكم مثلة ولم يكن ذلك عن رأي سراتنا. قال : ثم أدركته حمية الجاهلية ، فقال : أما إنه إن كان ذلك لم نكرهه. هذا حديث غريب وسياق عجيب ، وهو من مرسلات (٢) ابن عباس ، فإنه لم يشهد أحدا ولا أبوه ، وقد أخرجها الحاكم في مستدركه عن أبي النضر الفقيه ، عن عثمان بن سعيد ، عن سلمان بن

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٢٨٧ ـ ٢٨٨.

(٢) المرسل في مصطلح الحديث هو ما سقط من إسناده الصحابي ، كأن يقول التابعي : قال رسول الله ، ولا يذكر الصحابي الذي أخذه عنه.

١١٧

داود بن علي بن عبد الله بن عباس به ، وهكذا رواه ابن أبي حاتم والبيهقي في دلائل النبوة من حديث سليمان بن داود الهاشمي به. ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها.

فقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عفان ، حدثنا حماد عن عطاء بن السائب ، عن الشعبي ، عن ابن مسعود ، قال : إن النساء كن يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين ، فلو حلفت يومئذ رجوت أن أبر أنه ليس منا أحد يريد الدنيا ، حتى أنزل الله (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) فلما خالف أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعصوا ما أمروا به ، أفرد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تسعة : سبعة من الأنصار ، ورجلين من قريش ، وهو عاشرهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما رهقوه قال : «رحم الله رجلا ردهم عنا» قال : فقام رجل من الأنصار فقاتل ساعة حتى قتل ، فلما رهقوه أيضا قال : «رحم الله رجلا ردهم عنا» فلم يزل يقول ذلك حتى قتل السبعة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لصاحبيه : «ما أنصفنا أصحابنا» فجاء أبو سفيان فقال : اعل هبل : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قولوا : الله أعلى وأجل» ، فقالوا : الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان ، لنا العزى ولا عزى لكم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قولوا : الله مولانا والكافرون لا مولى لهم» فقال أبو سفيان : يوم بيوم بدر. فيوم علينا ويوم لنا ، يوم نساء ويوم نسر ، حنظلة بحنظلة وفلان بفلان وفلان بفلان. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا سواء : أما قتلانا فأحياء يرزقون ، وأما قتلاكم ففي النار يعذبون» فقال أبو سفيان ، لقد كان في القوم مثلة ، وإن كان لعن غير ملأ (٢) منا ، ما أمرت ولا نهيت ، ولا أحببت ولا كرهت ، ولا ساءني ولا سرني ، قال : فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه ، وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكلت شيئا»؟ قالوا : لا. قال : «ما كان الله ليدخل شيئا من حمزة في النار» قال : فوضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حمزة فصلى عليه ، وجيء برجل من الأنصار فوضع إلى جنبه فصلى عليه ، فرفع الأنصاري وترك حمزة حتى جيء بآخر فوضع إلى جنب حمزة فصلى عليه ، ثم رفع وترك حمزة ، حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة ، تفرد به أحمد أيضا.

وقال البخاري (٣) : حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : لقينا المشركين يومئذ وأجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جيشا من الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير ، وقال «لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا ، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا» فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل رفعن عن سوقهن ، قد بدت خلاخلهن ، فأخذوا يقولون الغنيمة الغنيمة. فقال عبد الله بن جبير : عهد إليّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا تبرحوا فأبوا ، فلما أبوا صرف وجوههم فأصيب سبعون قتيلا ، فأشرف أبو سفيان فقال : أفي

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٤٦٣.

(٢) أي عن غير مشاورة.

(٣) صحيح البخاري (مغازي باب ١٧)

١١٨

القوم محمد؟ فقال «لا تجيبوه». فقال : أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال «لا تجيبوه». فقال : أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال : إن هؤلاء قد قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر نفسه فقال له : كذبت يا عدو الله قد أبقى الله عليك ما يحزنك ، قال أبو سفيان : اعل هبل. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أجيبوه» قالوا : ما نقول قال : «قولوا : الله أعلى وأجل». قال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أجيبوه» قالوا : ما نقول؟ قال «قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم». قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر ، والحرب سجال ، وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني ، تفرد به البخاري من هذا الوجه ، ثم رواه عن عمرو بن خالد عن زهير بن معاوية ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بنحوه ، وسيأتي بأبسط من هذا.

وقال البخاري (١) أيضا : حدثنا عبيد الله بن سعيد ، حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما كان يوم أحد هزم المشركون ، فصرخ إبليس : أي عباد الله أخراكم ، فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم ، فبصر حذيفة ، فإذا هو بأبيه اليمان فقال : أي عباد الله أبي أبي. قال : قالت : فو الله ما احتجزوا حتى قتلوه ، فقال حذيفة : يغفر الله لكم. قال عروة : فو الله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله عزوجل.

وقال محمد بن إسحاق (٢) : حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده أن الزبير بن العوام قال : والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند وصواحباتها مشمرات هوارب ما دون أخذهن كثير ولا قليل ، ومالت (٣) الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب ، وخلوا ظهورنا للخيل ، فأتتنا من أدبارنا ، وصرخ صارخ : ألا إن محمدا قد قتل ، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد من القوم. قال محمد بن إسحاق : فلم يزل لواء المشركين صريعا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فدفعته لقريش فلاثوا به (٤).

وقال السدي ، عن عبد خير قال : قال عبد الله بن مسعود : ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا ما نزل يوم أحد (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وقد روي من غير وجه عن ابن مسعود ، وكذا روي عن عبد الرحمن بن عوف وأبي طلحة ، رواهن ابن مردويه في تفسيره.

وقوله تعالى : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) قال ابن إسحاق (٥) : حدثني القاسم بن

__________________

(١) صحيح البخاري (مغازي باب ١٨)

(٢) سيرة ابن هشام ٢ / ٧٧ ـ ٧٨.

(٣) في السيرة : «إذا مالت».

(٤) لاثوا به : اجتمعوا حوله والتفّوا.

(٥) سيرة ابن هشام ٢ / ٨٣.

١١٩

عبد الرحمن بن رافع أحد بني عدي بن النجار ، قال : انتهى أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا ما بأيديهم ، فقال : ما يخليكم؟ فقالوا : قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه ، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه.

وقال البخاري (١) : حدثنا حسان بن حسان ، حدثنا محمد بن طلحة ، حدثنا حميد عن أنس بن مالك أن عمه يعني أنس بن النضر ، غاب عن بدر فقال : غبت عن أول قتال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لئن أشهدني الله مع رسول الله مع رسول الله ليرين الله ما أجد ، فلقي يوم أحد فهزم الناس ، فقال : اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ـ يعني المسلمين ـ وأبرأ إليك مما جاء به المشركون ، فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ ، فقال : أين يا سعد إني أجد ريح الجنة دون أحد ، فمضى فقتل ، فما عرف حتى عرفته أخته ببنانه بشامة (٢) ، وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم ، هذا لفظ البخاري ، وأخرجه مسلم من حديث ثابت عن أنس بنحوه.

وقال البخاري (٣) أيضا : حدثنا عبدان ، حدثنا أبو حمزة عن عثمان بن موهب ، قال : جاء رجل حج البيت فرأى قوما جلوسا ، فقال : من هؤلاء القعود؟ قالوا : هؤلاء قريش. قال : من الشيخ؟ قالوا : ابن عمر ، فأتاه فقال : إني سائلك عن شيء فحدثني ، قال : سل ، قال : أنشدك بحرمة هذا البيت ، أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد؟ قال : نعم. قال : فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها؟ قال : نعم. قال : فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال : نعم. فكبر ، فقال ابن عمر : تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه ، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه ، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانت مريضة ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه» وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه فبعث عثمان ، فكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده اليمنى : «هذه يد عثمان» فضرب بها على يده فقال : «هذه يد عثمان اذهب بها الآن معك» ثم رواه البخاري من وجه آخر على أبي عوانة ، عن عثمان بن عبد الله بن موهب.

وقوله تعالى : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) أي صرفكم عنهم إذ تصعدون أي في الجبل هاربين من أعدائكم. وقرأ الحسن وقتادة (إِذْ تُصْعِدُونَ) أي في الجبل (وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) أي وأنتم لا تلوون على أحد من الدهش والخوف والرعب (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) أي وهو قد خلفتموه وراء ظهوركم يدعوكم إلى ترك الفرار من الأعداء ، وإلى الرجعة

__________________

(١) صحيح البخاري (مغازي باب ١٨)

(٢) في البخاري : «عرفته أخته بشامة أو ببنانه».

(٣) صحيح البخاري (مغازي باب ١٩)

١٢٠